الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤
ويكره الالتفات يمينا وشمالا ، والتثاؤب ، والتمطي ، والعبث ، والتنخم ، والبصاق ، والفرقعة ،
______________________________________________________
عليه لأنّه تحية ، كما في قراءته وأذكاره وعقوده؟ فيه تردّد يلتفت إلى هذا ، وإلى أنّ الإشارة لا تعد كلاما ، وإلحاقها به في مواضع لدليل لا يقتضي الإلحاق مطلقا.
قوله : ( ويكره الالتفات يمينا وشمالا ).
لرواية عبد الملك ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، وسأله عن الالتفات في الصّلاة أيقطعها؟ فقال : « لا ، وما أحب أن يفعل » (١). والمراد : الالتفات بالوجه خاصة ، وقد سبق تحقيقه.
قوله : ( والتثاؤب ، والتمطي ، والعبث ، والتنخم ، والبصاق ، والفرقعة ).
في حسنة الحلبي ، عن أبي عبد الله عليهالسلام : أنّه سأله عن الرّجل يتثاءب في الصّلاة ، ويتمطى قال : « هو من الشّيطان ، ولن يملكه » (٢) ، وفيه دلالة على رجحان التّرك مع الإمكان. وروي : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رأى رجلا يعبث في الصّلاة فقال : « لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه » (٣). وروى أبو بصير ، قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : « إذا قمت إلى الصّلاة فاعلم أنّك بين يدي الله ، فان كنت لا تراه فاعلم أنّه يراك ، فأقبل قبل صلاتك ، ولا تمتخط ، ولا تبصق ، ولا تنقض أصابعك ، ولا تورك ، فان قوما عذبوا بنقض الأصابع » (٤). في القاموس : نقض المحامل ، والأصابع ، والأضلاع ، والمفاصل : أصواتها. ثم قال : وأنقض أصابعه : ضربها لتصوت (٥). والتورك : الاعتماد باليدين على الوركين ، وهو التّخصر. ويشترط في التنخم والبصاق أن لا ينطق بحرفين ، فان
__________________
(١) التهذيب ٢ : ٢٠٠ حديث ٧٨٤ ، الاستبصار ١ : ٤٠٥ حديث ١٥٤٦.
(٢) التهذيب ٢ : ٣٢٤ حديث ١٣٢٨.
(٣) الجعفريات : ٢١٤.
(٤) التهذيب ٢ : ٣٢٥ حديث ١٣٣٢.
(٥) القاموس المحيط ( نقض ) ٢ : ٣٤٧.
والتأوه بحرف ، والأنين به ، ومدافعة الأخبثين أو الريح ،
______________________________________________________
كان بحيث ينطق بهما حرم. وقد روي : أنّ النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يأخذ النخامة بثوبه (١).
قوله : ( والتأوه بحرف ، والأنين به ).
أصل التأوه : قول كلمة أوه ، كجير وحيث ، وهي كلمة تقال عند الشكاية والتوجّع ، والمراد هنا : النطق بهذا الصوت على وجه لا يظهر منه حرفان ، والأنين على ما فسره أهل اللغة : التأوه ، وإنما كره كل منهما إذا كان بحيث لا يظهر منه حرفان لقربه من الكلام ، أما مع ظهور حرفين فلا إشكال في البطلان.
قوله : ( ومدافعة الأخبثين أو الريح ).
لما يلزم من سلب الخشوع ، ولقول النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا صلاة لحاقن » (٢). ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا تصلّ وأنت تجد شيئا من الأخبثين » (٣).
وكذا مدافعة النّوم لمثل ما قلناه ، ولأنّ في بعض التفاسير أنه المراد بقوله تعالى ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) (٤). هذا إذا كانت المدافعة قبل الصّلاة ، ولم يكن في الوقت ضيق. أمّا لو عرضت في أثنائها فلا كراهة في الإتمام ، بل يجب الصّبر لتحريم قطع الصّلاة ، وكذا مع ضيق الوقت.
ولو عجز عن المدافعة أو خشي ضررا ، جاز القطع لمفهوم قول أبي الحسن عليهالسلام عن الرّجل يصيبه الغمز في البطن ، وهو يستطيع الصّبر عليه أيصلي على تلك الحالة أو لا؟ : « إن احتمل الصّبر ولم يخف إعجالا عن الصّلاة فليصل وليصبر » (٥).
__________________
(١) سنن ابن ماجة ١ : ٣٢٦ حديث ١٠٢٢.
(٢) المحاسن : ٨٣ حديث ١٥ ، التهذيب ٢ : ٣٣٣ حديث ١٣٧٢ ، وفيهما : عن الصادق (ع).
(٣) التهذيب ٢ : ٣٢٦ حديث ١٣٣٣.
(٤) النساء : ٤٣.
(٥) الكافي ٣ : ٣٦٤ حديث ٣ ، الفقيه ١ : ٢٤٠ حديث ١٠٦١ ، التهذيب ٢ : ٣٢٤ حديث ١٣٢٦.
ونفخ موضع السجود.
فائدة :
المرأة كالرجل في الصلاة ، إلاّ أنها حال القيام تجمع بين قدميها ، وتضم ثدييها إلى صدرها ، وإذا ركعت وضعت يديها فوق ركبتيها على فخذيها ، لئلا تتطأطأ كثيرا ، فإذا جلست فعلى أليتيها لا كالرّجل ، فإذا سقطت للسجود بدأت بالقعود ثم تسجد لاطئة بالأرض ، فإذا جلست في تشهدها ضمّت فخذيها ورفعت ركبتيها من الأرض وإذا نهضت انسلت انسلالا.
______________________________________________________
قوله : ( ونفخ موضع السّجود ).
هذا إذا لم ينطق بحرفين ، كما سبق في التّأوه.
قوله : ( فائدة : المرأة كالرّجل في الصّلاة ، إلاّ أنّها في حال القيام تجمع بين قدميها ـ الى قوله ـ فإذا نهضت انسلت انسلالا ).
المرأة كالرّجل في الصّلاة ، إلا في مواضع سبق استثناء بعضها ، مثل وجوب ستر جميع بدنها وشعرها ، وأن لا جهر عليها ، ولا أذان ولا إقامة. فإن فعلتهما وجب أن لا يسمعها أجنبيّ ، وقد تضمن خبر زرارة أكثرها ، وقد رواه في الذّكرى (١) ، عن الكليني ، بسنده إلى زرارة ، قال : « إذا قامت المرأة في الصّلاة جمعت بين قدميها ، ولا تفرج بينهما ، وتضم يديها إلى صدرها لمكان ثدييها ، فإذا ركعت وضعت يديها فوق ركبتيها على فخذيها ، لئلاّ تتطأطأ كثيرا فترتفع عجيزتها ، فإذا جلست فعلى أليتيها ، ليس كما يقعد الرّجل. وإذا سقطت للسّجود بدأت بالقعود بالركبتين قبل اليدين ، ثم تسجد لاطئة بالأرض. فإذا كانت في جلوسها ضمت فخذيها ، ورفعت ركبتيها من الأرض. فإذا نهضت انسلت انسلالا ، لا ترفع عجيزتها أولا » (٢) وإذا تقرّر ذلك فهنا مباحث :
__________________
(١) الذكرى : ٢١٠.
(٢) الكافي ٣ : ٣٣٥ حديث ٢.
______________________________________________________
الأوّل : هذه الرّواية وإن كانت موقوفة على زرارة ، لكنّ عمل الأصحاب عليها فانجبر ضعفها.
الثّاني : أوردها الشّيخ في التهذيب هكذا : « فإذا جلست فعلى أليتيها كما يقعد الرّجل » (١) بحذف لفظة « ليس » ، وهو سهو نقلا ومعنى ، أمّا النقل فقد قال في الذّكرى : إن الرّواية بعينها موجودة في الكافي للكليني ، وفيها لفظة « ليس » (٢).
وأمّا المعنى فظاهر ، لأنّ جلوس المرأة هذا ليس كجلوس الرّجل ، لأنّها تضم فخذيها وترفع ركبتيها من الأرض ، بخلاف الرّجل فإنّه يتورك. وأوّل العبارة يشعر به في قوله : ( إلاّ أنّها ).
الثالث : قوله فيها : « فإذا ركعت وضعت يديها فوق ركبتيها على فخذيها » ، يشعر بأن ركوعها أقل انحناء من ركوع الرّجال ، فربما استفيد منه عدم اشتراط بلوغ يديها ركبتيها في الرّكوع ، فلا يكون ما سبق اعتباره في الرّكوع جاريا على إطلاقه.
ويمكن أن يقال : استحباب وضع اليدين فوق الرّكبتين لا ينافي كون الانحناء بحيث تبلغهما اليدان ، والأمر بوضعهما كذلك للتنبيه على أنّ زيادة الانحناء المطلوب في الرّجل غير مطلوب هنا ، فيبقى إطلاق الأخبار. وكلام الأصحاب جاريا على ظاهره ، وهو جمع حسن.
الرّابع : روى الشّيخ ، عن عبد الرّحمن بن أبي عبد الله ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن جلوس المرأة في الصّلاة قال : « تضم فخذيها » (٣). وعن ابن بكير ، عن بعض أصحابنا ، قال : « المرأة إذا سجدت تضمّمت ، والرّجل إذا سجد تفتّح » (٤). وفي الموثق عن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله عليهالسلام
__________________
(١) الكافي ٣ : ٣٣٥ حديث ٢ ، التهذيب ٢ : ٩٤ حديث ٣٥٠.
(٢) الذكرى : ٢١٠.
(٣) الكافي ٣ : ٣٣٦ حديث ٧ ، التهذيب ٢ : ٩٥ حديث ٣٥٢.
(٤) الكافي ٣ : ٣٣٦ حديث ٨ ، التهذيب ٢ : ٩٥ حديث ٣٥٣.
المقصد الثالث : في باقي الصلوات ، وفيه فصول :
الأول : في الجمعة ، وفيه مطالب :
الأول : الشرائط ، وهي ستة زائدة على شرائط اليومية :
الأول : الوقت وأوله زوال الشمس ، وآخره إذا صار ظلّ كلّ شيء مثله فحينئذ يجب الظهر ....
______________________________________________________
قال : « إذا سجدت المرأة بسطت ذراعيها » (١). قال في المنتهى : وهو حسن ، لما فيه من الاستتار (٢) ، وروى العامة ، عن علي عليهالسلام : « إذا صلّت المرأة فلتحتفز ، ولتضم فخذيها » (٣). وتحتفز بالفاء والزاء معناه : تتضمم ولا تخوّي كالرّجل ذكر نحوه في الصّحاح (٤).
وهذه كلّها مؤيّدات لرواية زرارة ، لكن قال في المنتهى في سياق استحباب التضمّم لها : ولأنّه مسنون للرّجل ، فيسن لها كغيره من المندوبات (٥). ومعلوم فساده ، لأنّ الرّجل لا يستحبّ له ذلك ، وأوّل كلامه يدلّ على ما قلناه. وظاهر قوله هنا في عبارة الكتاب : ( المرأة كالرّجل في الصّلاة إلاّ أنّها ... ) ، يقتضي أنّ الافتراق بينهما فيما ذكره خاصّة ، وليس كذلك ، وكأنّه أراد سوى ما سبق استثناؤه.
قوله : ( المقصد الثالث : في باقي الصّلوات : وفيه فصول : الأول : في الجمعة : وفيه مطالب ، الأوّل : الشرائط : وهي ستّة زائدة على شرائط اليوميّة.
الأوّل : الوقت : وأوّله زوال الشّمس ، وآخره إذا صار ظل كلّ شيء مثله فحينئذ يجب الظّهر ).
__________________
(١) الكافي ٣ : ٣٣٦ حديث ٤ ، التهذيب ٢ : ٩٤ حديث ٣٥١.
(٢) المنتهى ١ : ٣١٦.
(٣) البحر الزخار ٢ : ٢٦٧ نقلا عن الشفاء والمجموع.
(٤) الصحاح ( حفز ) ٣ : ٨٧٤.
(٥) المنتهى ١ : ٣١٦.
______________________________________________________
كون أوّل وقت الجمعة هو زوال الشّمس ، هو مذهب أكثر علمائنا ، بل أكثر العلماء. وجوز المرتضى فعلها عند قيامها (١) ، والنّص والإجماع حجّة عليه ، لندور المخالف وانقراض القائل بقوله.
وأمّا أنّ آخره ( إذا صار ظلّ كلّ شيء مثله ) ، فهو قول الشّيخ (٢) وجمع من المتأخّرين (٣). قال في الذّكرى : ولم نقف لهم على حجّة (٤) ، إلاّ أنّ النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يصلّي دائما في هذا الوقت (٥). قال في التذكرة : فلو جاز التّأخير عما حدّدناه لأخّرها في بعض الأوقات (٦).
وهذا إن تم لا يدلّ على أنّ آخر الوقت ما ذكروه ، إذ من المعلوم أنّه عليهالسلام ما كان يبلغ بصلاته إلى ما حدّدوه. وقال أبو الصّلاح بخروج وقتها بمضي ما يسع الأذان والخطبتين والصّلاة ، فيصلّي الظّهر حينئذ (٧). ورده في التّذكرة بقول الباقر عليهالسلام : « وقت الجمعة إذا زالت الشّمس وبعده بساعة » (٨) (٩).
ووجه المنافاة له غير ظاهر ، ويأول قول الباقر عليهالسلام : « إن من الأمور ، أمورا مضيّقة ، وأمورا موسّعة ، فإن صلاة الجمعة من الأمر المضيق ، إنّما لها وقت واحد
__________________
(١) حكاه عنه الشيخ في الخلاف ١ : ١٤٢ مسألة ٣٦ صلاة الجمعة ، وقال ابن إدريس في السرائر : ٦٤ : لم أجد للسيد المرتضى تصنيفا ولا مسطورا بما حكاه شيخنا عنه. ولعل شيخنا أبا جعفر سمعه من المرتضى في الدرس وعرفه منه مشافهة دون المسطور ، وهذا هو العذر البيّن ، فان الشيخ ما يحكي ـ بحمد الله تعالى ـ الا الحق اليقين ، فإنه أجل قدرا وأكثر ديانة من أن يحكي عنه ما لم يسمعه ويحققه منه.
(٢) قال السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٣ : ٥١ : ولم أجد للشيخ فيما يحضرني من كتبه عبارة ظاهرة في ذلك سوى عبارة المبسوط ( ١ : ١٤٧ ) وهي : إن بقي من وقت الظهر ما يأتي بخطبتين خفيفتين.
(٣) منهم : الشهيد في الألفية : ٧٦.
(٤) الذكرى : ٢٣٥.
(٥) التهذيب ٣ : ١٢ حديث ٤٢.
(٦) التذكرة ١ : ١٤٣.
(٧) الكافي في الفقه : ١٥٣.
(٨) التذكرة ١ : ١٤٣.
(٩) الفقيه ١ : ٢٦٧ حديث ١٢٢٣.
ولو خرج الوقت متلبسا بها ولو بالتكبير أتمّها جمعة ، إماما كان أو مأموما ،
______________________________________________________
حين تزول الشّمس ، ووقت العصر يوم الجمعة وقت الظّهر في سائر الأيّام » (١) ، بالمبالغة في استحباب التّقديم.
وقال ابن إدريس : يمتد وقتها بامتداد وقت الظّهر (٢) ، التفاتا الى مقتضى البدلية وأصالة البقاء.
وتحمل الرّوايات على الأفضلية ، وما عليه أكثر الأصحاب أولى.
إذا تقرّر ذلك فالمماثلة بين الفيء الزائد والشّخص وهو ـ وقت الفضيلة للظّهر ـ على ما سبق تحقيقه ، وعلى ما اختاره الشّيخ (٣). ويظهر من المصنّف ترجيحه فيما تقدّم ، فالمماثلة بينه وبين الظلّ الأوّل ، فيكون الضّمير في قوله : ( مثله ) عائدا إلى الظل ، وعلى هذا ، فحين صيرورته كذلك يتعيّن فعل الظّهر بخروج وقت الجمعة.
قوله : ( ولو خرج الوقت متلبسا بها ولو بالتكبير أتمها جمعة ، إماما كان أو مأموما ).
اجتزأ المصنّف بإدراك التّكبير في إدراك الجمعة في هذا الكتاب وغيره (٤) ، لأنّه دخل فيها في وقتها فوجب إتمامها ، للنّهي عن إبطال العمل.
والمناسب بأصول مذهبنا اعتبار إدراك ركعة ، إذ لا يكفي إدراك التّكبير في غير هذه الصّلاة باتفاقنا ، وإنّما ذلك مذهب العامة ، وهو الأصحّ ، لأنّ الوقت شرط قطعا خرج عنه ما إذا أدرك ركعة لعموم : « من أدرك من الوقت ركعة » (٥)
__________________
(١) التهذيب ٣ : ١٣ حديث ٤٦.
(٢) السرائر : ٦٥.
(٣) المبسوط ١ : ٧٢ ، النهاية : ٥٨ ، التهذيب ٢ : ٤١.
(٤) نهاية الأحكام ٢ : ١١.
(٥) صحيح البخاري ١ : ١٥١ ، جامع الأصول ٥ : ٢٥١ حديث ٣٣٢٥ ، وفيهما : من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة.
ولا تقضى مع الفوات ، ولا تسقط عمن صلى الظهر ، فإن أدركها وجبت ، وإلاّ أعاد ظهره.
______________________________________________________
الحديث ، فيبقى الباقي على أصله. وبعضهم أبطلها مطلقا ، حكاه في الذّكرى (١) لأنّ الوقت شرط ، وجوابه القول بالموجب ، و « من أدرك ركعة أدرك الوقت كلّه ».
قوله : ( ولا تقضى مع الفوات ).
إجماعا ، وإنّما يصلّي الظّهر ، وما يوجد في بعض العبارات ، من أنّها تقضى ظهرا يراد به المجاز ، لأنّها لما أجزأت عنها بعد خروج وقتها أشبهت القضاء.
وليس المراد به : القضاء لغة ـ أعني الإتيان بالفعل ، كما ذكره في الذّكرى ـ (٢) ، لأنّ المأتي به بعد خروج الوقت غير الجمعة ، فكيف يكون إتيانا بها.
وقوله : إنّ وظيفة الوقت ـ أعني الجمعة ـ تصير بعد خروجه ظهرا (٣) ، حق.
إلا أن إحدى الوظيفتين غير الأخرى ، فالاتي بإحداهما لا يكون آتيان بالأخرى.
قوله : ( ولا تسقط عمّن صلّى الظّهر فإن أدركها وجبت وإلاّ أعاد ظهرا ). المراد : من صلّى الظّهر حال وجوب الجمعة عليه ، فإنّه حينئذ آت بغير الواجب ، فلا يخرج من العهدة ، لعدم الامتثال. فيجب حينئذ فعلها إن كان بحيث يدركها ، وإلا أعاد الظّهر ، لأنّ الأولى لم تكن صحيحة إذ لم يكن مخاطبا بها ، وهو مذهب جميع علمائنا. بخلاف ما لو لم يكن مخاطبا بالجمعة ، فصلاّها في وقت الجمعة ، فإنّها صحيحة إذ ليس هو من أهل فرض الجمعة.
ولو حضر موضع إقامتها بعد الصّلاة ، لم يجب فعلها لتحقق الامتثال ، وبراءة الذّمة. لكن يستحبّ طلبا لفضيلة الجماعة ، وهو فتوى التّذكرة (٤).
ولو كان من أهل فرض الجمعة ، فظن إدراكها وصلّى الظّهر ، ثم تبين أنّه في وقت فعل الظّهر لم يكن بحيث يدرك الجمعة ، وجب إعادة الظّهر أيضا ، لكونه حينئذ متعبّدا بظنّه ، فكان المتعيّن عليه فعل الجمعة على حسب ظنّه.
__________________
(١) الذكرى : ٢٣٥.
(٢) الذكرى : ٢٣٥.
(٣) الذكرى : ٢٣٥.
(٤) التذكرة ١ : ١٤٤.
ولو علم اتساع الوقت لها وللخطبتين مخففة وجبت ، وإلاّ سقطت ووجبت الظهر.
______________________________________________________
ولو ظنّ عدم الإدراك ، ففي جواز المبادرة إلى الظّهر بمجرّد الظّن تردد ، ينشأ : من التعبّد بالظّن ، وأصالة البقاء.
ولو صلّى الظّهر ، ثم شكّ هل صلاّها قبل فوات الجمعة أو بعده أعادها ، لأصالة البقاء ، وعدم تحقق الامتثال.
واعلم أنّ فوات الجمعة يتحقق بخروج وقتها وحكمه ، وبرفع الإمام رأسه من ركوع الثّانية.
فرع : لو لم تكن شرائط الجمعة مجتمعة في أوّل وقتها ، لكن يرجو اجتماعها قبل خروجه ، فهل له تعجيل الظّهر؟ أم يجب الصّبر إلى أن يحصل الياس منها؟ كلّ محتمل.
قوله : ( ولو علم اتساع الوقت لها ، وللخطبتين مخففة وجبت ، وإلا سقطت ووجبت الظّهر ).
( مخففة ) : حال من ضمير الجمعة والخطبتين جميعا ، والمراد بكونها مخففة : الإتيان بأقل الواجب أخف ما يمكن. والمراد بالعلم في قوله : ( ولو علم ) : ما يشمل الظّن الغالب. والمراد بقوله : ( وإلا سقطت ) أنّه إذا لم يعلم إدراك جميع الصّلاة مع الخطبتين مخففة تسقط الجمعة ، على معنى أنّه يمتنع فعلها ويتعيّن فعل الظّهر.
وهو يصدق بصورتين : إحداهما : ما إذا علم عدم الإدراك ، والثّانية : ما إذا شك في الإدراك وعدمه. وينبغي في هذه أن يجب عليه فعل الجمعة ، لأصالة بقاء وقتها ، واستصحاب وجوب فعلها السّابق. وأمّا الأولى فتحقيقها يبتني على مقدّمتين :
الاولى : إنّ التّكليف بفعل يستدعي زمانا يسعه ، لامتناع التّكليف بالمحال : فان عيّن الشّارع الزّمان ، اشترط فيه ما قلناه ، وحينئذ فلا يشرع فعله في خارجه ، إلاّ أن يثبت من الشّارع شرعية قضائه ، وإن لم يعين زمانه استدعى زمانا بحيث يسعه.
والفرق بينهما : إنّ زمان الفعل في الأوّل بتعيين الشّارع ، بخلاف الثّاني فإنّه
______________________________________________________
بطريق اللّزوم.
فان قلت : لو ضاق الوقت في اليوميّة ، إلاّ عن مقدار ركعة بالشّروط يثبت التكليف بها ، فلم تستمرّ هذه القاعدة؟ قلت : أصل شرعيّة اليوميّة ووجوبها تحقق شرطه ، وهو كون زمانها المضروب لها بأصل الشّرع يسعها ويزيد عليها ، فالمصحّح لأصل التّكليف بالفعل قد حصل. وأمّا في المفروض زمان ما بقي من الصّلاة أجراه الشّارع مجرى الوقت الحقيقي ، حيث حصل إدراك ركعة من الوقت الحقيقي فصار بمنزلته.
هذا إن حكمنا بكونه أداء عملا بظاهر الحديث ، ولو قلنا : إنّ الجميع قضاء ، أو بالتوزيع فلا بحث ، فان القضاء مشروع في اليوميّة ، وعلى كلّ تقدير فلم تحصل مخالفة القاعدة المذكورة.
الثّانية : إنّ الجمعة لا يشرع فيها القضاء ، وهو بالإجماع ، فعلى هذا لا يشرع فعل شيء منها خارج وقتها ، لعدم صلاحية ما عداه لشيء منها ، فلا بدّ من ظن ادراك جميعها وحكمه ليشرع الدّخول فيها.
فان قلت : إنّما لا يشرع فعل شيء منها خارج الوقت على تقدير كونه قضاء ، أما على تقدير الأداء فلا مانع ، وقد سبق أنّ الجميع أداء عملا بعموم الحديث.
قلت : لا شبهة في أنّه لا يعد أداء حقيقيا ، إذ ليس في الوقت الحقيقي ، وإنّما ألحق بالأداء ، واجرى مجراه ، فلا بدّ من صلاحية خارج الوقت للفعل ، ليمكن وقوع شيء منه فيه على وجه الشّرعية أولا ، ليمكن الحكم بالقضاء أو بالإلحاق بالأداء ثانيا.
فان قلت : قد سبق أنّه إذا خرج الوقت ، وقد تلبّس من الصّلاة بركعة أو بالتكبير ، يجب إتمامها جمعة وتجزئ ، فكيف جاز الشّروع فيها مع ضيق الوقت؟
قلت : قد نبهنا على أنّه إنّما يشرع فيها إذا ظنّ إدراك جميعها بشروطها ، فإذا شرع بهذا الظّن ثم تبين الضّيق إلاّ عن ركعة ، أتمّها حينئذ لا مطلقا.
فان قلت : لم جاز الإتمام حينئذ خارج الوقت ، وقد قررتم أنّ شيئا من
الثاني : السلطان العادل أو من يأمره : ويشترط في النائب : البلوغ ، والعقل ، والإيمان ، والعدالة ، وطهارة المولد ، والذكورة.
______________________________________________________
الجمعة لا يقع خارج وقتها ، لعدم شرعيّة القضاء فيها؟
قلت : كان حقه أن لا يقع أيضا ، لكن لمّا كان قطع العبادة منهيّا عنه محرما ، وقد دخل فيها بأمر الشّارع ، ونصّ معظم الأصحاب على صحّة الجمعة في هذه الحالة ، لم يكن بدّ من القول به.
فان قلت : قوله عليهالسلام : « من أدرك من الوقت ركعة » (١) الحديث ، يعم الجميع فلا فرق.
قلت : الظّاهر أنّه مقيد بقيد مستفاد بدليل من خارج يقتضي تخصيصه ، وهو كون الوقت صالحا للفعل ، للقطع بأنّ ما لا يصلح للفعل يمتنع وقوعه فيه ، وللإجماع. هذا أقصى ما يمكن في تحقيق هذا الموضع.
قوله : ( الثّاني : السّلطان العادل أو من يأمره ).
يشترط لوجوب الجمعة السّلطان العادل ، وهو الإمام المعصوم أو نائبه عموما أو في صلاة الجمعة بإجماعنا ، ولأن النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يعين لإمامة الجمعة ـ وكذا الخلفاء بعده ـ كما يعين للقضاء.
وكما لا يصحّ أن ينصب الإنسان نفسه قاضيا من دون إذن الإمام ، كذا إمامة الجمعة ، ولأنّ اجتماع النّاس مظنة التنازع ، والحكمة تقتضي نفيه ، ولا يحصل إلا بالسلطان. ومع فسقه لا يزول ، لأنّه تابع في أفعاله لهواه لا لمقتضى الشّرع ، ومواقع المصلحة ، وليس محلا للإمامة.
قوله : ( ويشترط في النائب : البلوغ ، والعقل ، والإيمان ، والعدالة ، وطهارة المولد ، والذكورة ).
أمّا البلوغ : فلأنّ الصّبي غير مكلّف والعدالة فرع التّكليف ، وهي شرط ،
__________________
(١) صحيح البخاري ١ : ١٥١ ، جامع الأصول ٥ : ٢٥١ حديث ٣٣٢٥ ، وفيهما : « من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ».
______________________________________________________
ولأنّه إن كان مميزا لم يؤمن ترك واجب أو فعل محرم منه ، وإلاّ فلا اعتداد بفعله.
وأما العقل : فلأنّ أفعال المجنون لا اعتداد بها ، ولو كان جنونه أدوارا.
فالظاهر جواز نيابته حال الإفاقة ، لتحقق الأهليّة حينئذ ، وإن كره.
ومنع نيابته المصنّف في التّذكرة (١) لإمكان عروضه حينئذ ، ولأنّه لا يؤمن احتلامه في نوبته وهو لا يعلم ، ولنقصه عن المراتب الجليلة.
وجوابه : إن إمكان العروض لا يرفع الأهلية ، وإلا لانتفت مطلقا ، لأن إمكان عروض الإغماء والموت والحدث ثابت مطلقا ، وعروض الاحتلام منفي بالأصل ، وحينئذ فنقصه غير واضح.
وأما الإيمان : وهو التّصديق بالقلب والإقرار باللّسان بالأصول الخمسة على وجه يعد إماميّا ، فلأنّ غير المؤمن فاسق ضالّ لمخالفة طريق الحقّ ـ الّذي هو طريق أهل البيت عليهمالسلام ـ ، فإنّها لا تكون إلاّ عن تقصير في النّظر.
وأمّا العدالة : وهي لغة : الاستقامة ، وشرعا : كيفية راسخة في النّفس ، تبعث على ملازمة التّقوى والمروءة ، وتتحقّق التّقوى : بمجانبة الكبائر ، وعدم الإصرار على الصّغائر ، والمروءة : بمجانبة ما يؤذن بخسّة النّفس ، ودناءة الهمة من المباحات والصّغائر ، كالأكل في الأسواق ، والبول في الشّوارع في وقت سلوك النّاس ممن يوجب انحطاط مرتبته عادة ، وكسرقة لقمة ، والتطفيف بحبة. ويختلف ذلك باختلاف أحوال النّاس ، وتفاوت مراتبهم. وسيأتي في الجماعة ما يدل على اشتراط العدالة إن شاء الله تعالى.
وأما طهارة المولد ، والمراد بها : أن لا يعلم كونه ولد زنا ـ فللإجماع على أن إمامة ولد الزّنا لا تجوز.
ولا منع فيمن تناله الألسن ، ولا ولد الشّبهة ، ولا من جهل أبوه ، لكنّه يكره ، كما
__________________
(١) التذكرة ١ : ١٤٤.
ولا تشترط الحرية على رأي ، وفي الأبرص والأجذم والأعمى قولان.
______________________________________________________
اختاره في الذّكرى (١) ، لنفرة النّفس منهم الموجبة لعدم كمال الإقبال على العبادة.
وأمّا الذّكورة فظاهر ، لأنّ المرأة والخنثى لا تؤمان الرّجال ولا الخناثى ، ولعدم وقوع الجمعة منهما كما يأتي.
قوله : ( ولا تشترط الحريّة على رأي ، وفي الأبرص والأجذم والأعمى قولان ).
للشّيخ قولان في اشتراط الحرية في النائب : أحدهما : نعم (٢) ، لأنّ الجمعة لا تجب عليه فلا يكون إماما فيها ، ولنقصه عن المراتب الجليلة ، ولرواية السّكوني عن عليّ عليهالسلام أنّه قال : « لا يؤم العبد إلاّ أهله » (٣).
وأصحّهما ـ : وهو اختيار متأخري الأصحاب ـ (٤) لا (٥) ، لصحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليهالسلام في العبد يؤم القوم إذا رضوا به ، وكان أكثرهم قراءة : « لا بأس » (٦). والظاهر أنّ الجواز إنّما هو مع إذن المولى.
واما القولان في إمامة الأجذم والأبرص ، فأحدهما قول السيّد المرتضى (٧) ، وجماعة (٨) : لا يجوز لصحيحة أبي بصير ، عن الصّادق عليهالسلام : « خمسة لا يؤمون النّاس على كلّ حال : المجذوم ، والأبرص ، والمجنون وولد الزّنا ، والأعرابي » (٩).
والثّاني : أنّه مكروه ، وبه قال السيّد أيضا (١٠) لقول الصّادق عليهالسلام وقد سئل
__________________
(١) الذكرى : ٢٣٠ ـ ٢٣١.
(٢) النهاية : ١٠٥.
(٣) التهذيب ٣ : ٢٩ حديث ١٠٢ ، الاستبصار ١ : ٤٢٣ حديث ١٦٣١.
(٤) منهم : الشهيد في الدروس : ٤٢.
(٥) المبسوط ١ : ١٤٩ ، الخلاف ١ : ١٤٤ مسألة ٤٤ صلاة الجمعة.
(٦) التهذيب ٣ : ٢٩ حديث ١٠٠ ، الاستبصار ١ : ٤٢٣ حديث ١٦٢٩.
(٧) جمل العلم والعمل : ٦٨.
(٨) منهم : الشيخ في الجمل والعقود ( الرسائل العشرة ) : ١٩١ ، وابن البراج في شرح جمل العلم والعمل : ١١٧
(٩) الكافي ٣ : ٣٧٥ حديث ١ ، التهذيب ٣ : ٢٦ حديث ٩٢ ، الاستبصار ١ : ٤٢٢ حديث ١٦٢٦.
(١٠) الانتصار : ٥٠.
وهل تجوز في حال الغيبة ـ والتمكن من الاجتماع بالشرائط ـ الجمعة؟ قولان.
______________________________________________________
عن المجذوم والأبرص هل يؤمان المسلم قال : « نعم » (١).
والجمع بالحمل على الكراهة ، الا أنّه يلزم استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه ، لأنّ النّهي في المجنون وولد الزّنا للتّحريم ، والكراهة أقوى ، لأنّ المرض لا يرفع الأهلية ، كالأعرابي مع أهليّته.
ويمكن الحمل على من فقد فيه بعض الشروط ، نظرا إلى الغالب أو مع التشاح.
وأما الأعمى فالأكثر على جواز إمامته ، نص عليه في المنتهى (٢) للأصل ، ولعدم مانع غير العمى ، وهو غير صالح للمانعية ، لعدم المنافاة. وقيل بالمنع لنقصه ، ولعدم تمكنه من الاحتراز عن النجاسات ، وهو ضعيف ، نعم يكره.
قوله : ( وهل تجوز في حال الغيبة ـ والتمكن من الاجتماع بالشرائط ـ الجمعة؟ قولان ).
أحدهما : المنع ، وهو قول الشّيخ في الخلاف (٣) ، والمرتضى (٤) ، وسلاّر (٥) ، وابن إدريس (٦) ، واختاره المصنّف في المنتهى (٧) ، لأنّ من شرط انعقاد الجمعة الإمام ، أو من نصبه الإمام للصّلاة ، وهو منتف ، فتنتفي الصّلاة ، ولأنّ الظهر أربع ركعات ثابتة في الذمة بيقين فلا يبرأ المكلف إلا بفعلها.
وأخبار الآحاد لا يجوز التمسّك بها ، ولأنّ الجمعة لو شرعت في حال الغيبة
__________________
(١) التهذيب ٣ : ٢٧ حديث ٩٣ ، الاستبصار ١ : ٤٢٢ حديث ١٦٢٧.
(٢) المنتهى ١ : ٣٢٤.
(٣) الخلاف ١ : ١٤٤ مسألة ٢٣ صلاة الجمعة.
(٤) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٧٢.
(٥) المراسم : ٢٦١.
(٦) لسرائر : ٦٦.
(٧) المنتهى ١ : ٣٣٦.
______________________________________________________
لوجبت عينا ، فلا يجوز فعل الظّهر ، والتالي باطل إجماعا. بيان الملازمة : إن الدلائل الدالة على الجواز دالة على الوجوب ، فإذا اعتبرت دلالتها لزم القول به.
والجواب عن الأوّل : ببطلان انتفاء الشّرط ، فان الفقيه المأمون الجامع لشرائط الفتوى منصوب من قبل الإمام ، ولهذا تمضي أحكامه.
وتجب مساعدته على إقامة الحدود ، والقضاء بين النّاس.
لا يقال : الفقيه منصوب للحكم والإفتاء ، والصّلاة أمر خارج عنهما.
لأنّا نقول : هذا في غاية السّقوط ، لأنّ الفقيه منصوب من قبلهم عليهمالسلام حاكما كما نطقت به الأخبار (١) ، وقريبا من هذا أجاب المصنّف وغيره.
وعن الثّاني : بمنع تيقن وجوب الظّهر في صورة النّزاع ، وكيف وهو المتنازع؟ ولو سلم ، فما سيأتي من الدلائل طريق البراءة.
وعن الثّالث : بأنّ الدلائل الدالة على الجواز ، وإن دلت على الوجوب كما ذكر ، إلاّ أنّ الوجوب أعم من الحتمي والتخييري ، ولما انتفى الحتمي في حال الغيبة بالإجماع تعين التخييري.
فإن قيل : المتبادر هو المعنى الأوّل ، قلنا : الحقيقة هو الأعم ، وكثرة الاستعمال في بعض أفراده لا تقتضي الحمل عليه لأنّ الواجب هو الحمل على الحقيقة.
فإن قيل : لو وجب الحمل على الأعمّ من كلّ منهما. لم يلزم من الأمر بشيء تحتمه. قلنا : هو كذلك بالنّسبة إلى مجرّد الأمر.
نعم يستفاد أحد الأمرين بأمر خارجي ، فإنّه إذا ثبت البدل تحقق الوجوب التخييري ، وإلا انتفى لانتفاء مقتضيه.
فان قيل : يمكن إرادته وإن لم يتحقق البدل. قلنا : فيلزم تأخير البيان عن
__________________
(١) الكافي ٧ : ٤١٢ حديث ٥ ، الفقيه ٣ : ٥ حديث ١٨ ، التهذيب ٦ : ٣٠١ حديث ٨٤٥.
______________________________________________________
وقت الحاجة وهو محذور. وفي محلّ النزاع ثبت بدلية الظهر في حال الغيبة خاصة ، كما يثبت في حقّ الهم ، والأعمى ، والأعرج ، والمسافر ، ومن أشبههم.
والقول الثّاني : الجواز (١) ، وهو المشهور بين الأصحاب ، خصوصا المتأخّرين. ويظهر من كلام الذّكرى اضطرابه في الفتوى ، فإنّه اختار الجواز أولا ، ثم قال : إن المنع متوجّه ، وإلاّ لزم القول بالوجوب العيني ، أي : الحتمي. والمجوّزون لا يقولون به (٢).
والفتوى على الجواز لوجوه :
الأوّل : قوله تعالى ( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ، وَذَرُوا الْبَيْعَ ) (٣) ، وجه الدلالة : أنّه علّق الأمر بالسعي إلى الذكر المخصوص ـ وهو الجمعة والخطبة اتفاقا ـ بالنداء للصّلاة ، وهو الأذان لها ، وليس النّداء شرطا اتفاقا والأمر للوجوب ، ووجوبه يقتضي وجوبها.
ولا ريب أنّ الأمر بالسّعي إنّما هو حال اجتماع الشّرائط ، من العدد والخطبتين وغيرهما.
الثّاني : صحيحة زرارة ، قال : حثّنا أبو عبد الله عليهالسلام على صلاة الجمعة ، حتّى ظننت أنّه يريد أن نأتيه ، فقلت : نغدو عليك؟ فقال : « لا إنّما عنيت عندكم » (٤).
وموثقة زرارة ، عن عبد الملك ، عن الباقر عليهالسلام قال : « مثلك يهلك ، ولم يصل فريضة فرضها الله » قال : قلت : كيف أصنع؟ قال : قال : « صلّوا جماعة » يعني صلاة الجمعة (٥).
__________________
(١) قاله فخر المحققين في إيضاح الفوائد ١ : ١١٩ ، والشهيد في اللمعة : ٣٧.
(٢) الذكرى : ٢٣١.
(٣) الجمعة : ٩.
(٤) التهذيب ٣ : ٢٣٩ حديث ٦٣٥ ، الاستبصار ١ : ٤٢٠ حديث ١٦١٥.
(٥) التهذيب ٣ : ٢٣٩ حديث ٦٣٨ ، الاستبصار ١ : ٤٢٠ حديث ١٦١٦.
______________________________________________________
وصحيحة عمر بن يزيد ، عن الصّادق عليهالسلام قال : « إذا كانوا سبعة يوم الجمعة ، فليصلّوا في جماعة » (١).
وصحيحة منصور ، عن الصّادق عليهالسلام قال : « يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فما زاد ، فان كانوا أقلّ من خمسة فلا جمعة لهم. والجمعة واجبة على كلّ أحد لا يعذر النّاس فيها إلاّ خمسة » (٢) الحديث.
فان قيل : الجواز في الحديثين الأولين مستند إلى إذن الإمام ، وهو يستلزم نصب نائب من باب المقدّمة ، كما نبّه عليه المصنّف في النّهاية بقوله : لمّا أذنا لزرارة وعبد الملك جاز (٣) ، لوجود المقتضي ، وهو إذن الإمام ، والحديثان الآخران مطلقان ، والمطلق يحمل على المقيّد.
قلنا : تجويز فعل أو إيجابه من الإمام لأهل عصره لا يكون مقصورا عليهم ، لأنّ حكمهم على الواحد حكم على الجماعة. ولا ضرورة إلى كونه مستلزما نصب نائب من باب المقدّمة ، لأنّه حينئذ لا يكون خاصا ، والعام غير متوقّف على نصب المكلّفين ، لأنّهم عليهمالسلام قد نصبوا نائبا على وجه العموم ، لقول الصّادق عليهالسلام في مقبول عمر بن حنظلة : « فإنّي قد جعلته عليكم حاكما » (٤).
ويظهر من قول زرارة : حثّنا أبو عبد الله عليهالسلام ، ومن قول الباقر عليهالسلام ، لعبد الملك : « مثلك يهلك ، ولم يصل فريضة فرضها الله » ، أنّ ذلك ليس على طريق الوجوب الحتمي. وإن كان قوله عليهالسلام : « فريضة فرضها الله » يدلّ على الوجوب في الجملة ، وذلك لأنّ زمانه عليهالسلام وزمان الغيبة لا يختلفان ، لاشتراكهما في المنع من التصرف ، ونفوذ الأحكام الّذي هو المطلوب الأقصى من الإمام.
__________________
(١) التهذيب ٣ : ٢٤٥ حديث ٦٦٤ ، الاستبصار ١ : ٤١٨ حديث ١٦٠٧.
(٢) التهذيب ٣ : ٢٣٩ حديث ٦٣٦ ، الاستبصار ١ : ٤١٩ حديث ١٦١٠.
(٣) نهاية الأحكام ٢ : ١٤.
(٤) الكافي ٧ : ٤١٢ حديث ٥ ، التهذيب ٦ : ٢١٨ حديث ٥١٤.
______________________________________________________
وأمّا الحديثان الآخران فانّ تقييدهما لا يضرّنا ، لأنّهما يقيدان بوجود الإمام أو من يقوم مقامه ، فيدلان على وجوب الجمعة مع الشرائط ، وإن تحتمت مع ظهوره للإجماع على انتفاء الوجوب الحتمي في الغيبة.
الثّالث : استصحاب الحال ، فإنّ الإجماع من جميع أهل الإسلام على وجوب الجمعة في الجملة حال ظهور الامام عليهالسلام بالشّرائط ، فيستصحب الى زمان الغيبة.
فإن قيل : شرطه ظهور الإمام فينتفي. قلنا : ممنوع ، ولم لا يجوز أن يكون شرطا لتحتم الوجوب ، فيختصّ بالانتفاء بانتفائه.
فإن قيل : يلزم بحكم الاستصحاب الوجوب حتما. قلنا : هناك أمران : أحدهما : أصل الوجوب في الجملة ، والآخر : تحتمه وتعين الفعل. والّذي يلزم استصحابه هو الأوّل دون الثّاني ، لما عرف من أنّ تحتم الوجوب مشروط بظهوره عليهالسلام بإجماعنا. إذا تقرّر ذلك فهنا مباحث :
الأوّل : اختلفت عبارات القائلين بالجمعة في الغيبة ، فبعضهم عبّر بالجواز كما في عبارة الكتاب (١) ، وبعضهم بالاستحباب (٢).
وليس المراد بالجواز معناه الأخص ـ وهو ما استوى طرفا فعل متعلّقه وتركه ، بالنسبة إلى استحقاق الثّواب والعقاب قطعا ـ لأنّ الجمعة عبادة ، ولا بد في العبادة من رجحان ، ليتصور كونها قربة.
وإنّما المراد به : المعنى الأعمّ ، وهو مطلق الإذن في الفعل الّذي هو جنس للوجوب وإخوته الثلاثة.
وكذا ليس المراد بالاستحباب : إيقاعها مندوبة ، لأنّها تجزئ عن الظهر الواجبة ، للإجماع على عدم شرعيّة الظّهر مع صحّة الجمعة ، ولا شيء من المندوب
__________________
(١) الشيخ في النهاية : ٣٠٢ ، وأبو الصلاح في الكافي في الفقه : ١٥١ ، والشهيد في الذكرى : ٢٣١.
(٢) منهم : الشيخ في الخلاف ١ : ١٤٤ مسألة ٤٣ صلاة الجمعة ، والمحقق في المعتبر ٢ : ٢٩٧ ، والعلامة في التذكرة ١ : ١٤٥.
______________________________________________________
بمجز عن الواجب ، بل المراد : أنّها أفضل الأمرين الواجبين تخييرا ، ولا منافاة بين الاستحباب عينا ، والوجوب تخييرا كما نبّهنا عليه غير مرّة.
فإن قيل : أيّ عبارة أولى في هذا المقام؟ قلنا : الأولى التعبير بالجواز ، لأنّ النّزاع إنّما وقع في المنع من الجمعة في الغيبة وشرعيتها ، لا في الاستحباب والوجوب تخييرا.
الثّاني : لا نعلم خلافا بين أصحابنا في أنّ اشتراط الجمعة بالإمام أو نائبه ، لا يختلف فيه الحال بظهور الامام وغيبته ، وعبارات الأصحاب ناطقة بذلك.
قال في التّذكرة : يشترط في وجوب الجمعة السّلطان ، أو نائبه عند علمائنا أجمع (١).
وقال في الذّكرى في سياق الشّروط : الأوّل : السّلطان العادل ، وهو الإمام أو نائبه إجماعا منّا (٢).
وغير ذلك من كلامهم ، فلا نطوّل بحكايته. فلا يشرع فعل الجمعة في الغائبة بدون حضور الفقيه الجامع للشّرائط.
وقد نبه المصنّف على ذلك في المختلف (٣) ، وشيخنا الشّهيد في شرح الإرشاد. وما يوجد من إطلاق بعض العبارات فعل الجمعة من غير تقييد ، كما في عبارة هذا الكتاب ، فللاعتماد فيه على ما تقرر في المذهب وصار معلوما ، بحيث صار التقييد به في كلّ عبارة مما يكاد يعد تسامحا.
فان قيل : ظاهر الدلائل الوجوب مطلقا ، فالتقييد يحتاج إلى دليل.
قلنا : قد وقع الإجماع على الاشتراط بالإمام أو نائبه ، وغير ذلك من الشّروط فلا يجري على ظاهرها.
الثّالث : ربّما بني القولان في هذه المسألة ـ في عبارات الأصحاب ـ على أنّ
__________________
(١) التذكرة ١ : ١٤٤.
(٢) الذكرى : ٢٣٠.
(٣) المختلف : ١٠٨.
ولو مات الإمام بعد الدخول لم تبطل صلاة المتلبّس ، ويقدم من يتم الجمعة ، وكذا لو أحدث أو أغمي عليه ،
______________________________________________________
الاذن من الإمام عليهالسلام شرط الصحّة أو شرط الوجوب ، فعلى الأوّل لا يشرع في الغيبة لفقد الشّرط ، وعلى الثّاني يشرع.
وينبغي أن يراد بالإذن : الإذن الخاصّ لشخص معين ، لا مطلق الإذن ، لاشتراط الفقيه حال الغيبة ، ويراد بالوجوب : الحتمي ، ليبقي بعد انتفائه أصل الوجوب ، ويراد بقوله : وعلى الثّاني يشرع عدم امتناع الشّرعية إذا دلّ الدّليل ، لعدم المنافي. وقد أفردنا لتحقيق هذه المسألة رسالة منقحة ، من أراد كمال تحقيقها فليطلبها.
قوله : ( ولو مات الإمام بعد الدّخول لم تبطل صلاة المتلبّس ، ويقدّم من يتمّ الجمعة. وكذا لو أحدث أو أغمي عليه ).
أي : بعد الدّخول في الصّلاة ، والمراد بـ ( المتلبس ) : من دخل في الصّلاة ويحرم بها مجازا ، ويندرج فيه من ركع مع الإمام ، ومن أتى بتكبيرة الإحرام خاصّة.
( ويقدم ) بفتح عين الفعل على البناء للمفعول ، يتناول تقديم المأمومين في المسألة الاولى ، وتقديمه في الثّانية إن اختار التّقديم.
وتحقيق المبحث : أنّ موت الإمام في أثناء الصّلاة لا يبطلها ، ـ وكذا حدثه ـ بإجماعنا ، لما روي عن علي عليهالسلام أنّه قال : « من وجد أذى فليأخذ بيد رجل فليقدمّه » (١) يريد إذا كان إماما. ولأنّ صلاة المأموم لا تبطل ببطلان صلاة الإمام ، فإذا قدّم من يصلح للإمامة كان كما لو أتمّها. فيقدّم المأمومون في الاولى من يتمّ بهم ، كما لو أغمي عليه ، ويقدّم هو في الثّانية من يختاره ، فإن لم يقدم أحدا قدموا لأنفسهم ، ولو تقدم واحد منهم جاز.
__________________
(١) الكافي ٣ : ٣٦٦ حديث ١١ ، التهذيب ٢ : ٣٢٥ حديث ١٣٣١ ، الاستبصار ١ : ٤٠٤ حديث ١٩٤٠.