الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤
______________________________________________________
واستشكل الحكم في التذكرة (١) ، نظرا إلى أنّ الجمعة مشروطة بالإمام أو نائبه.
واحتمال كون الاشتراط مختصّا بابتداء الجمعة ، فلا يثبت بعد انعقادها كالجماعة ، لعموم ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (٢).
ولا يخفى اشتراط صفات الإمام في المستخلف ، فلو لم يتفق من هو بالصفات أتمّوها فرادى.
وفي إتمامها جمعة أو ظهرا ، تردد يعرف ممّا سبق.
ومع وجود من هو بالصّفات يجب الاقتداء به ـ وإن كان الاستخلاف في الركعة الثّانية ـ محافظة على الجماعة مهما أمكن ، وبه صرح في الذّكرى (٣).
وهل يشترط استئناف نية القدوة؟ يحتمل ذلك ، لانقطاع القدوة بخروج لإمام من الصّلاة ، والعدم لتنزيل الخليفة منزلة الأوّل في إدامة الجماعة ، واختاره في التّذكرة (٤). وفي الأوّل قوة ، إذ المنوي هو الاقتداء بالأوّل ، لأنّ تعيين الإمام شرط.
فرعان :
أ : لا فرق في الاستخلاف بين فعل الإمام المنافي عمدا وسهوا ، لأن بطلان صلاته لا يقتضي بطلان صلاة المأموم.
وكذا لا فرق بين ما إذا كان بعد الخطبتين قبل التحريمة وبعدها ، ولا بين كون المستخلف قد سمع الخطبتين وعدمه ، لرواية معاوية بن عمّار عن الصّادق عليهالسلام في المسبوق بركعة أو أكثر فيعتل الإمام فيأخذ بيده فيقدمه قال : « يتم صلاة القوم ، ثم يجلس حتّى إذا فرغوا من التشهّد أومأ إليهم فيسلّمون ويتم هو ما كان فاته إن بقي عليه » (٥) وهو شامل للمدّعي.
__________________
(١) التذكرة ١ : ١٤٦.
(٢) محمد (ص) : ٣٣.
(٣) الذكرى : ٢٣٤.
(٤) التذكرة ١ : ١٤٦.
(٥) الكافي ٣ : ٣٨٢ حديث ٧ ، الفقيه ١ : ٢٥٨ حديث ١١٧١ ، التهذيب ٣ : ٤١ حديث ١٤٤.
أما غيره فيصلي الظهر ، ويحتمل الدخول معهم لأنها جمعة مشروعة.
______________________________________________________
ب : لو تعدد الاستخلاف لم يقدح في الصحّة ، فول أحدث في الأولى ، فاستخلف من قد أحرم معه ، فصلّى بهم الثّانية وأحدث ، واستخلف من أدرك الركعة الثّانية صحّ ويتم صلاته جمعة ، لأنّه أدرك ركعة من جمعة صحيحة.
ولو لم يكن أدرك ركعة ، كما لو أدرك الرّكوع فأحدث الامام واستخلفه ، فقد صرّح المصنّف في التّذكرة انّه يتمّها جمعة ، لأنّه يدرك الجمعة بإدراكه راكعا (١) ، وفيه احتمال إذ لا بدّ من ركعة. ولو لم يكن قد دخل معه لم يجز استخلافه ، وفاقا للتّذكرة : لأنّه يكون مبتدئا للجمعة ، ولا تجوز جمعة بعد جمعة ، بخلاف المسبوق ، لأنّه متّبع لا مبتدئ.
وهل تجوز استنابة من فرضه الظهر؟ فيه نظر ، وجوزه المصنّف في التّحرير (٢).
قوله : ( أمّا غيره فيصلّي الظّهر ، ويحتمل الدّخول معهم لأنّها جمعة مشروعة ).
أي : أمّا غير المتلبس ، وهو الّذي خرج الإمام من الصّلاة قبل دخوله فيها وتحرّمه. ووجه الأوّل : فوات بعض الشّروط وصحّتها من المتلبّس ، لأنّه يغتفر في الاستدامة ما لا يغتفر في الابتداء ، كما لو انفض العدد ، ولعموم قوله تعالى ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (٣).
ووجه الثّاني : حصول الشّرط في الجملة ، وإلاّ لم يصحّ أصلا.
والتّحقيق : أنّه لو استناب إمام الأصل صحّ إنشاء الجمعة حينئذ وتعينت ، إذ لو استناب ابتداء جاز ، ففي الأثناء أولى. وإن استناب غيره تعين فعل الظّهر ، لانتفاء الشّرط بالنّسبة إليه ، وحصوله في الجمعة بالإضافة إلى غيره لا يقتضي حصوله له.
__________________
(١) التذكرة ١ : ١٤٦.
(٢) تحرير الأحكام ١ : ٤٥.
(٣) محمد (ص) : ٣٣.
الثالث : العدد : وهو خمسة نفر على رأي أحدهم الإمام ، فلا تنعقد بأقل ،
______________________________________________________
قوله : ( الثّالث : العدد : وهو خمسة نفر على رأي ، أحدهم الإمام ، فلا تنعقد بأقل ).
لا خلاف في اشتراط العدد في صحة الجمعة ، إنّما الخلاف في أقله. وللأصحاب قولان : أحدهما ـ وبه قال الشّيخ (١) ، وجماعة ـ : أنّه سبعة (٢) ، فلا تنعقد بدونه ، لرواية محمّد بن مسلم ، عن الباقر عليهالسلام قال : « تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين ، ولا تجب على أقل منهم » (٣) وأصحّهما ـ وهو اختيار الأكثر ـ : الاكتفاء بخمسة اقتصارا في تقييد إطلاق الآية (٤) على موضع الوفاق ، ولصحيحة منصور عن أبي عبد الله عليهالسلام أنّه قال : « يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فما زاد ، فان كانوا أقل من خمسة فلا جمعة لهم » (٥).
وجمع الشّيخ بينهما بالحمل على الوجوب العيني في السّبعة ، والتخييري في الخمسة (٦). قال في الذّكرى : وهو حمل حسن (٧). ويكون معنى قوله عليهالسلام : « ولا تجب على أقل منهم » (٨) نفي الوجوب الخاص أي : العيني لا مطلق الوجوب.
وفيه نظر : للمنع من صحة سند رواية السّبعة (٩) ، ومخالفتها المشهور ، فلا تنهض حجّة لتقييد الآية. ولا تنعقد بأقل من الخمسة قولا واحدا ، ولا يخفى أنّ
__________________
(١) النهاية : ١٠٣.
(٢) منهم : الصدوق في الفقيه ١ : ٢٦٧ حديث ١٢٢٢ ، وابن حمزة في الوسيلة : ١٠٤ ، وابن البراج في المهذب ١ : ١٠٠.
(٣) الفقيه ١ : ٢٦٧ حديث ١٢٢٢ ، التهذيب ٣ : ٢٠ حديث ٧٥ ، الاستبصار ١ : ٤١٨ حديث ١٦٠٨.
(٤) الجمعة : ٩.
(٥) التهذيب ٣ : ٢٣٩ حديث ٦٣٦ ، الاستبصار ١ : ٤١٩ حديث ١٦١٠.
(٦) المبسوط ١ : ١٤٣ ، النهاية : ١٠٣.
(٧) الذكرى : ٢٣١.
(٨) الفقيه ١ : ٢٦٧ حديث ١٢٢٢ ، التهذيب ٣ : ٢٠ حديث ٧٥ ، الاستبصار ١ : ٤١٨ حديث ١٦٠٨.
(٩) المصدر السابق.
وهو شرط الابتداء لا الدوام.
ولا تنعقد بالمرأة ، ولا بالمجنون ، ولا بالطفل ، ولا بالكافر
______________________________________________________
الإمام أحد الخمسة للإجماع ، ولظاهر النّصوص (١).
قوله : ( وهو شرط الابتداء ، لا الدوام ).
صرح أكثر الأصحاب بأنّ العدد المعتبر في الجمعة إنّما هو شرط في ابتدائها ، فلا ينعقد من دونه ، فإذا استكمل وانعقدت به ثم انفضوا لم تبطل الصّلاة ، وإن بقي الإمام وحده ، وهو ظاهر عبارة الكتاب هنا ، وسيأتي تصريحه به في اشتراط الجماعة.
قال الشّيخ : ولا نصّ لأصحابنا فيه ، لكنه قضية المذهب (٢).
ويمكن الاحتجاج بقوله تعالى ( وَتَرَكُوكَ قائِماً ) (٣) على قول بعض المفسّرين : إن المراد قائما في الصّلاة (٤) واعتبر بعض العامة بقاء واحد معه ، نظرا إلى حصول مسمى الجماعة حينئذ (٥) ، ولا دليل عليه. وبعضهم اعتبر إدراك ركعة ، واختاره المصنّف في التّذكرة (٦) لقوله عليهالسلام : « من أدرك ركعة من الجمعة ، فليضف إليها أخرى » (٧). ولا دلالة فيه على أنّ من لم يدرك ركعة قبل انفضاض العدد لا جمعة له ، ولا أثر لانفضاض من زاد على العدد قطعا وإن حضروا بعد تحريم الإمام ويحرّموا قبل انفضاض الأولين ، لتحقق الانعقاد.
ولو انفض الأوّلون مع الامام ، فقدم الآخرون من يتمّ بهم ، لم يبعد القول بالصّحّة ، كما لو انصرف الامام وحده ، وقد نبّهنا عليه في المسألة السّابقة.
قوله : ( ولا تنعقد بالمرأة ، ولا بالمجنون ، ولا بالطفل ، ولا بالكافر
__________________
(١) التهذيب ٣ : ٢٤٠ حديث ٦٤٠ ، الاستبصار ١ : ٤١٩ حديث ١٦١٢.
(٢) المبسوط ١ : ١٤٤.
(٣) الجمعة : ١١.
(٤) مجمع البيان ١٠ : ٢٨٩.
(٥) بداية المجتهد ١ : ١٥٨ ، فتح العزيز ٤ : ٥٣١ ، المجموع ٤ : ٥٠٦.
(٦) التذكرة ١ : ١٤٧.
(٧) التهذيب ٣ : ١٦٠ حديث ٣٤٤ ، الاستبصار ١ : ٤٢٢ حديث ١٦٢٥.
وإن وجبت عليه.
______________________________________________________
وإن وجبت عليه ).
المراد بعدم انعقادها بمن ذكر : عدم احتسابه من العدد. ولا خلاف في عدم الاعتداد بالكافر ، لأنّ وقوع الصّلاة منه حال كفره ممتنع ، لأنّ شرط صحّتها الإسلام ، ومع انتفاء صحة صلاته لا يعقل الاحتساب به في عدد الجمعة ، لكنها تجب عليه كغيرها من الواجبات. وأمّا الطّفل ـ والمراد به هنا : الصّبي ، وإن كان مميزا أو مراهقا ـ ، والمجنون ، فلأنّ فعلهما غير موصوف بالصّحّة ، لأنّه غير شرعيّ ، فلا تعد صلاة شرعا ، وإن كان فعل المميز يقع تمرينا.
وأمّا المرأة ، فللأخبار الدالة على عدم الاعتداد بها ، مثل حسنة زرارة ، عن أبي جعفر عليهالسلام : « لا تكون الخطبة والجمعة وصلاة ركعتين على أقل من خمسة رهط » (١). قال في الصّحاح : الرّهط ما دون العشرة من الرّجال لا يكون فيهم امرأة (٢) ، وصحيحة منصور السّابقة المتضمّنة اعتبار كون القوم خمسة لا أقل (٣).
والقوم هم الرّجال دون النّساء ، نصّ عليه في الصّحاح (٤) ، وهو ظاهر من مقابلتهم بالنّساء في قوله تعالى ( لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ) (٥) ، الآية ، وغير ذلك من الرّوايات (٦).
وهل تصح منها وتجب عليها إذا حضرت موضع إقامتها ، واجتمع العدد من الرّجال؟ فيه قولان : أشهرهما العدم ، وسيأتي الكلام عليهما إن شاء الله تعالى.
وكما لا تنعقد بالمرأة ، لا تنعقد بالخنثى قطعا ، للشّك في ذكوريّته وهي شرط. وأمّا وجوبها عليه فنذكره في بحث الوجوب على المرأة.
__________________
(١) التهذيب ٣ : ٢٤٠ حديث ٦٤٠ ، الاستبصار ١ : ٤١٩ حديث ١٦١٢.
(٢) الصحاح ( رهط ) ٣ : ١١٢٨.
(٣) التهذيب ٣ : ٢٣٩ حديث ٦٣٦ ، الاستبصار ١ : ٤١٩ حديث ١٦١٠.
(٤) الصحاح ( قوم ) ٥ : ٢٠١٦.
(٥) الحجرات : ١١.
(٦) التهذيب ٣ : ٢٣٩ حديث ٦٣٧ ، الاستبصار ١ : ٤١٩ حديث ١٦١١.
وتنعقد بالمسافر ، والأعمى ، والمريض ، والأعرج ، والهمّ ، ومن هو على رأس أزيد من فرسخين ، وإن لم يجب عليهم السعي ،
______________________________________________________
قوله : ( وتنعقد بالمسافر ، والأعمى ، والمريض ، والأعرج ، والهمّ ، ومن هو على رأس أزيد من فرسخين وإن لم يجب عليهم السّعي ).
الهمّ : بكسر الهاء الشّيخ الفاني ، وهنا مبحثان :
الأوّل : كون الجمعة لا تجب على أحد ممن ذكرهم ، أمّا المسافر فبإجماعنا ، ولصحيحة زرارة ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : « فرض الله على النّاس من الجمعة إلى الجمعة خمسا وثلاثين صلاة ، منها صلاة واحدة فرضها الله تعالى في جماعة ، ووضعها عن تسعة : عن الصّغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة » (١) الحديث.
والمراد بالمسافر : من يلزمه القصر في سفره. أما من يلزمه الإتمام بشيء من الأسباب ككونه كثيرا السّفر ، أو عاصيا في سفره ، ونحو ذلك ، فتجب عليه الجمعة قطعا.
وكذا لا تجب على الأعمى بإجماعنا ـ سواء وجد قائدا أم لا ـ ولرواية زرارة السّالفة. وكذا المريض إجماعا منا ، ولتضمّن الرّواية السّالفة عدم الوجوب عليه. ولا فرق بين أنواع المرض ، ولا بين زيادته بالحضور وعدمه ، نعم لا بدّ من كون المرض ممّا يشق معه الحضور.
وكذا الأعرج الّذي عرجه بالغ حد الإقعاد ، بحيث يشق معه الحضور بإجماعنا ، ولسقوطها عن المريض ، والمشقة هنا أعظم من مشقته ، ولو لم يبلغ حدّ الإقعاد ، وانتفت المشقّة أو كانت قليلة وجب الحضور قطعا ، ولا يجب معها إذا بلغت حدا لا يتحمل مثله في العادة غالبا ، صرّح بذلك في الذّكرى (٢) ، وأطلق المصنّف المشقة في التّذكرة (٣).
__________________
(١) الكافي ٣ : ٤١٩ حديث ٦ ، الفقيه ١ : ٢٦٦ حديث ١٢١٧ ، التهذيب ٣ : ٢١ حديث ٧٧.
(٢) الذكرى : ٢٣٤.
(٣) التذكرة ١ : ١٥٣.
______________________________________________________
وكذا القول في الهمّ ، فإذا بلغت شيخوخته حد العجز أو المشقة الشّديدة ، سقط الوجوب معها لا مطلقا ، وعليه تحمل الرّواية السّالفة.
وأما من بعد عن موضع إقامة الجمعة ، فلأصحاب في تحديد البعد المقتضي لسقوط الوجوب اختلاف ، فقيل : حده أن يكون أزيد من فرسخين ، وهو المشهور ، لقول الصّادق عليهالسلام : « تجب على من كان منها على رأس فرسخين ، فان زاد فليس عليه شيء » (١) ، رواه محمّد بن مسلم في الصّحيح ، وقريب منه رواية زرارة ومحمّد بن مسلم (٢).
وقيل : فرسخان (٣) ، فتجب على من نقص عنهما ، دون من بعد عنهما ، لأن في صحيحة زرارة السّالفة ، عن أبي جعفر عليهالسلام : « ووضعها عن تسعة » (٤) وعدّ منهم من كان على رأس فرسخين ، وإليه ذهب الصّدوق (٥) وابن حمزة (٦).
وهي معارضة بما سبق روايته عن زرارة ، فتتساقطان ، ويبقى الباقي بغير معارض ، أو يحمل على زيادة يسيرة على الفرسخين مجازا ، ويؤيّده أنّ الحصول على رأس الفرسخين فقط مستبعد.
وقيل : تجب على من إذا غدا من أهله بعد الغداة أدركها ، دون من لم يكن كذلك (٧).
وقيل : تجب على من إذا راح منها ، وصل الى منزله قبل خروج يومه (٨).
__________________
(١) الكافي ٣ : ٤١٩ حديث ٣ ، التهذيب ٣ : ٢٤٠ حديث ٦٤١ ، الاستبصار ١ : ٤٢١ حديث ١٦١٩.
(٢) الكافي ٣ : ٤١٩ حديث ٢ ، التهذيب ٣ : ٢٤٠ حديث ٦٤٣ ، الاستبصار ١ : ٤٢١ حديث ١٦٢٠.
(٣) قال به ابن بابويه في الفقيه ١ : ٢٦٦ ، والهداية : ٣٤ ، وابن حمزة في الوسيلة : ١٠٤ ، والشهيد في الذكرى : ٢٣٤.
(٤) الفقيه ١ : ٢٦٦ حديث ١٢١٧ ، التهذيب ٣ : ٢١ حديث ٧٧.
(٥) الهداية : ٣٤.
(٦) الوسيلة : ١٠٤.
(٧) قاله ابن عقيل ونقله عنه في المختلف : ١٠٦.
(٨) قاله ابن الجنيد ونقله عنه في المختلف : ١٠٦.
______________________________________________________
ويشهد لهما معا صحيح زرارة عن الباقر عليهالسلام (١) ، وهو محمول على شدّة الاستحباب دفعا للتنافي.
الثّاني : لو حضر أحد هؤلاء المذكورين موضع إقامة الجمعة وجبت عليه ، وانعقدت به ، بحيث يعتبر في العدد ، بغير خلاف بين أصحابنا في غير المسافر ، لأنّ المانع في حقّهم مانع الوجوب لمشقة الحضور ، وقد زالت بحصوله.
وينبغي أن يستثني المريض ، إذا شق عليه الانتظار مشقة شديدة عادة ، ولو لزم زيادة المرض فبطريق أولى ، وكذا الهمّ.
أمّا المسافر ، ففي انعقادها به قولان :
أحدهما ، وبه قال الشّيخ في المبسوط (٢) ، واختاره المصنّف في المختلف (٣) : لا ، للأصل ، ولأنّه ليس من أهل فرض الجمعة ، فلا تنعقد به كالصّبي ، وللزوم انعقادها بجماعة المسافرين.
وأصحّهما ، واختاره في الخلاف (٤) والمصنّف هنا وفي المنتهى : نعم (٥) ، لأن ما دلّ على اعتبار العدد عام فيتناوله ، وعدم الوجوب لا يقتضي عدم الانعقاد.
والفرق بينه وبين الصّبي ظاهر ، لأنّ المانع في حقّه مانع الصّحة ، كالمجنون والكافر ، وإذا انعقدت به فلا مانع من انعقادها بجماعة المسافرين.
إذا تقرر هذا ، فصريح عبارة الخلاف أنّ الجمعة وإن انعقدت بالمسافر لا تجب عليه بغير خلاف ، وهو ظاهر استدلال المصنّف في المختلف ، وفي الذّكرى : أنّ المسافر إذا حضر موضع إقامتها وجبت عليه ، وانعقدت به على أحد القولين (٦).
__________________
(١) التهذيب ٣ : ٢٤٠ حديث ٦٤٢ ، الاستبصار ١ : ٤٢١ حديث ١٦٢١.
(٢) المبسوط ١ : ١٤٣.
(٣) المختلف : ١٠٧.
(٤) الخلاف ١ : ١٣٩ مسألة ٢١ صلاة الجمعة.
(٥) المنتهى ١ : ٣٣٢.
(٦) الذكرى : ٢٣٣.
وفي انعقادها بالعبد إشكال.
______________________________________________________
وفي مرسلة حفص بن غياث الضّعيفة ، عن بعض مواليهم ، عن الصّادق عليهالسلام : « انّ الله فرض الجمعة على المؤمنين والمؤمنات ، ورخص للمرأة والمسافر والعبد أن لا يأتوها ، فإذا حضورها سقطت الرّخصة ، ولزمهم الفرض الأوّل » (١). وهي صريحة في الوجوب ، لكنّها ضعيفة.
فالمتجه عدم الوجوب ، وكيف قلنا فلا شك في إجزائها عن الظّهر إذا أتى بها ، وبقي هنا أسباب أخر لم يتعرض إليها المصنّف ، مثل : وجود المطر المانع عادة ، لقول الصّادق عليهالسلام : « لا بأس أن تدع الجمعة في المطر » (٢) ومثله الوحل ، والحر والبرد الشّديدان بحيث يتضرّر بهما ، والثلج كالمطر وزيادة.
وكذا المشغول بتمريض مريض ، والخائف فوات أمر مهم بحضور الجمعة ، وخائف ظالم على نفسه ـ ولو حبسا بباطل ، أو بحق هو عاجز عنه ـ أو ماله ، ونحو ذلك ، والمشغول بتجهيز ميّت ، لا المحبوس بحق يقدر عليه ، فيجب تأديته والخروج إليها ، ولا خائف الحدّ أو التّعزير بحق ، أما خائف القصاص بحق إذا رجا الصّلح على مال باختفائه ففي جوازه نظر ، وجوزه المصنّف في التّذكرة (٣).
قوله : ( وفي انعقادها بالعبد إشكال ).
ينشأ من أنّ اختلاف الأصحاب ، وتعارض الأدلة ، فذهب في المبسوط الى عدم انعقادها به (٤) ، واختاره ابن حمزة (٥) والمصنّف في المختلف (٦) ، للأصل ، ولأنّها لو انعقدت به لم يخل التّكليف عن وجه قبح ، لأنّه لا يجب عليه الحضور إجماعا.
__________________
(١) التهذيب ٣ : ٢١ حديث ٧٨.
(٢) الفقيه ١ : ٢٦٧ حديث ١٢٢١ ، التهذيب ٣ : ٤٢١ حديث ٦٤٥.
(٣) التذكرة ١ : ١٥٣.
(٤) المبسوط ١ : ١٤٣.
(٥) الوسيلة : ١٠٣ ـ ١٠٤.
(٦) المختلف : ١٠٧.
______________________________________________________
ولا يجوز له إلاّ بإذن المولى ، لأنّه تصرف في نفسه ، وهو ممنوع منه ، والإذن غير معلوم ، وعصمة مال الغير واجبة ، فيكون حضوره ممنوعا منه ، فكيف يعتدّ به؟ كذا احتجّ في المختلف ولأنّه يلزم الاعتداد بجماعتهم منفردين كالأحرار.
وكلّ ذلك ضعيف ، فإنّ الأصل معارض بعموم الدّلائل الشّاملة له ، والاعتداد بفعل العبد مشروط باذن المولى ، فينتفي القبح الّذي ذكره ، ولا مانع من الاعتداد بجماعتهم مع الإذن لصحتها من العبد واجزائها عن الظّهر قطعا ، فتظهر من ذلك قوّة القول بالانعقاد ، وهو مختار الخلاف (١) واختاره المصنّف في المنتهى (٢) وقواه شيخنا في الذّكرى (٣).
ولو ألزمه المولى بالحضور ، ففي تحتمها عليه نظر ، يلتفت إلى أنّ المانع هو محض حق المولى ، وقد زال ، أو فيه شائبة منع الشّرع لقصور العبد عن تحتم وجوبها.
وربّما استدلّ على التحتم بأنّ السيّد يملك إلزامه بالمباحات ، فبالعبادات أولى. والأولوية ممنوعة ، والفرق ظاهر ، فإنّ له إلزامه بالأمور المتعلّقة به ، أمّا التّكليفات فإنّما يملكها الشّارع ، وإلاّ لأمكن إيجاب النوافل عليه بأمر السّيّد ، وهو معلوم البطلان.
واعلم أن المصنّف في المختلف قال : إنّ انعقاد الجمعة بالمسافر مع عدم انعقادها بالعبد مما لا يجتمعان ، واعترف بالإجماع من الأصحاب على عدم الفرق بينهما في الوجوب وعدمه (٤) ، فيكون الفرق خرقا للإجماع المركب. وهنا قد حكم بانعقادها بالمسافر وتردّد في العبد ، فبمقتضى اعترافه بعدم الفرق يلزمه القول بانعقادها به أيضا بغير تردّد ، فيكون الإشكال فيه على خلاف ما ينبغي.
__________________
(١) الخلاف ١ : ١٣٩ مسألة ٢١ صلاة الجمعة.
(٢) المنتهى ١ : ٣٢٢.
(٣) الذكرى : ٢٣٣.
(٤) المختلف : ١٠٧.
ولو انفض العدد قبل التلبّس ـ ولو بعد الخطبتين ـ سقطت ، لا بعده ولو بالتكبير ، وإن بقي واحد.
ولو انفضوا في خلال الخطبة أعادها بعد عودهم إن لم يسمعوا أولا الواجب منها.
______________________________________________________
قوله : ( ولو انفض العدد قبل التلبس ولو بعد الخطبتين سقطت ، لا بعده ولو بالتّكبير وإن بقي واحد ).
المراد بانفضاض العدد : تفرّقهم بأجمعهم أو بعضهم ، والمراد بسقوطها : سقوطها عن الباقين.
أمّا المتفرّقون إذا كانوا ممّن تجب عليهم فالوجوب بحاله ، ولو تلبسوا بها ثم انفضوا لم يقدح في الصّحّة ، وإن لم يصلوا ركعة ، بل لو كان ذلك بعد تكبيرة الإحرام ، لما سبق من أنّ العدد شرط الابتداء لا الاستدامة.
وقوله : ( وإن بقي واحد ) يمكن أن يريد به بقاء واحد مع الإمام ، فيكون ذهبا إلى اعتبار بقاء واحد مع الإمام ، لأنّ العطف بـ ( أن ) الوصلية إنّما يكون لأخفى الأفراد ليحصل به مسمّى الجماعة. وهو ضعيف لفقد الدّليل الدال عليه ، فيحمل على أنّ المراد : وإن بقي واحد من العدد فقط ، بحيث لا يكون معه غيره ، وحينئذ فيكون صادقا ببقاء الإمام وحده ، وببقاء واحد من المأمومين بغير إمام ، وقد سبق تحقيق ذلك كله.
قوله : ( ولو انفضوا في خلال الخطبة أعادها بعد عودهم ، إن لم يسمعوا أولا الواجب منها ).
الضّمير في ( انفضوا ) يعود إلى العدد الّذي به انعقاد الجمعة ، فلو انفض بعض العدد ، وبقي من يتم به لم تجب الإعادة.
والمراد بقوله : ( أعادها بعد عودهم ) : إعادة الواجب خاصّة ، كما يفهم من آخر العبارة.
ويظهر من قوله : ( أعادها بعد عودهم ) وجوب إعادة جميع الخطبة ، إن لم
الرابع : الخطبتان : ووقتهما زوال الشمس لا قبله على رأي ،
______________________________________________________
يسمعوا أوّلا الواجب منها ، وصرّح في التّذكرة بإتمامها بعد عودهم ، فيبني على ما سبق منها ، سواء طال الفصل أم لا ، محتجّا بحصول مسمّى الخطبة بذلك ، إذ ليس لها حرمة الصّلاة ، ولأنّه لا يؤمن الانفضاض بعد الإعادة ، وبمنع اشتراط الموالاة فيها (١).
ويظهر من الذّكرى اختياره وإن كان آخر كلامه يشعر بتردّد ما (٢) ، وما في التّذكرة قوي (٣) ، إذ لولاه لأفضى إلى تعذر الجمعة بانفضاضهم ثانية وثالثة مع احتمال وجوب الإعادة إذا طال الفصل ، ومع تكرره وضيق الوقت يصلّون الظّهر ، لأنّ النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم خطب مواليا ، والتّأسي به واجب ، ونمنع صدق الاسم مع الفصل المذكور.
قوله : ( الرّابع : الخطبتان : ووقتهما زوال الشّمس لا قبله على رأي ).
هذا قول السيّد المرتضى (٤) وأبي الصّلاح (٥) وجمع من الأصحاب (٦) وهو الأصح ، لحسنة محمّد بن مسلم قال : سألته عن الجمعة ، فقال : « أذان وإقامة ، يخرج الامام بعد الأذان ، فيصعد المنبر ، فيخطب » (٧) الحديث ، ولقوله تعالى ( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا ) (٨) أمر بالسّعي بعد النّداء الّذي هو الأذان ، فتكون الخطبة بعده ، ولما روي : من أنّ الأذان كان يفعل بين يدي النّبي صلّى الله
__________________
(١) التذكرة ١ : ١٥١.
(٢) الذكرى : ٢٣٢.
(٣) التذكرة ١ : ١٥١.
(٤) قاله في المصباح ونقله عنه في المختلف : ١٠٤.
(٥) الكافي في الفقه : ١٥١.
(٦) منهم : ابن الجنيد وابن أبي عقيل نقله عنهما في المختلف : ١٠٥ ، وابن إدريس في السرائر : ٦٥ ، والعلامة في المختلف : ١٠٤ ، وابن إدريس في السرائر : ٦٥ ، والعلامة في المختلف : ١٠٤ ، والشهيد في الذكرى : ٢٣٧.
(٧) الكافي ٢ : ٤٢٤ حديث ٧ ، التهذيب ٣ : ٢٤١ حديث ٦٤٨.
(٨) الجمعة : ٩.
______________________________________________________
عليه وآله قبل الخطبة (١) وقال الشّيخ (٢) وجماعة بجواز فعلهما قبل الزّوال بمقدار ما إذا فرغ منهما زالت الشّمس (٣) ، وله قول آخر في الخلاف بجوازهما عند وقوف الشّمس ، فإذا زالت صلّى الفرض (٤).
والمستند صحيحة عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : « كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يصلي الجمعة حين تزول الشّمس قدر شراك ويخطب في الظلّ الأوّل فيقول جبرئيل : يا محمّد قد زالت ، فانزل فصل » (٥). ونزلها المصنّف في المختلف على أنّ المراد بالظّل الأوّل : هو الفيء الزائد على ظل المقياس ، بحيث يصير مثله (٦) ، ولا بعد في صدق الزّوال حينئذ من حيث أنّ الشّمس قد زالت عن الظّل الأوّل ، ولا بأس بهذا التّنزيل ، على أنّها لا دلالة فيها صريحة على مذهب الشّيخ ، لأنّه ليس للظل الأوّل معنى معيّن يصار إليه عند الإطلاق ، فإنّ الأولية أمر إضافي يختلف باختلاف المضاف إليه ، وإنّما يشعر به قوله : « قد زالت » ، ولأنّه لا بدّ من تقدير شيء مع الظل الأوّل ، وليس تقدير انتهائه مثلا بأولى من تقدير انقضائه ، مع تقدير شيء مع أنّ أول الحديث يشعر بخلاف مراده ، لأنّ فعلها حين الزّوال قدر شراك ربّما يقتضي مضيّ زمان يسع الخطبة وزيادة ، لأنّ مقدار الشراك غير معلوم إذ يمكن أن يراد طولا وعرضا ، وأن يراد موضع الشراك من القدم.
ثم إنّ القدر المعيّن غير معلوم كونه من ظلّ القامة أو غيرها ، وما هذا شأنه كيف ينهض معارضا لظاهر القرآن؟ ولعلّ المراد : فعلهما في أوّل الزّوال الّذي لا يعلمه كلّ أحد ، وفعل الصّلاة عند تحقق ذلك وظهوره.
__________________
(١) التهذيب ٣ : ٢٤٤ حديث ٦٦٣.
(٢) النهاية : ١٠٥.
(٣) منهم : ابن حمزة في الوسيلة : ١٠٥ ، والمحقق في المعتبر ٢ : ٢٨٤ ، ٢٨٧.
(٤) الخلاف ١ : ١٤٢ مسألة ٣٦ صلاة الجمعة.
(٥) التهذيب ٣ : ١٢ حديث ٤٢.
(٦) المختلف : ١٠٤.
ويجب تقديمهما على الصلاة ، فلو عكس بطلت.
واشتمال كل واحدة على الحمد لله ـ وتتعين هذه اللفظة ـ وعلى الصلاة على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليهمالسلام ، ـ ويتعين لفظ الصلاة ـ وعلى الوعظ ولا يتعين لفظه ، وقراءة سورة خفيفة.
وقيل تجزئ الآية التامة الفائدة.
______________________________________________________
قوله : ( ويجب تقديمها على الصّلاة فلو عكس بطلت ).
لا خلاف عندنا في كون الخطبتين شرطا في الجمعة ، يدلّ عليه قول الصّادق عليهالسلام : « لا جمعة إلا بخطبة » (١) وقول أحدهما عليهماالسلام : « يصلون أربعا إذا لم يكن من يخطب » (٢) وصحيحة عبد الله بن سنان ، عن الصّادق عليهالسلام : « إنّما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين » (٣) ويجب تقديمهما تأسيا بالنّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة عليهمالسلام ، وقضاء لحق الشرطية ، ولا تجزئ الواحدة باتفاقنا ، وللأخبار الدّالة على الخطبتين (٤) ، فلو عكس التّرتيب أو اقتصر على الواحدة لم تصحّ الجمعة لفوات الشرط ، ولا فرق في ذلك بين العامد والنّاسي لما قلناه.
قوله : ( واشتمال كلّ واحدة على الحمد لله ، وتتعيّن هذه اللفظة ، وعلى الصّلاة على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليهمالسلام ، ويتعيّن لفظ الصّلاة ، وعلى الوعظ ، ولا يتعين لفظه ، وقراءة سورة خفيفة ، وقيل : تجزئ الآية التامة الفائدة ).
يجب في كلّ من الخطبتين أربعة أشياء لا بدّ منها ـ فلو أخلّ بشيء منها لم يجزئه ـ : حمد الله ، وتتعيّن فيه لفظة الحمد لله ، لأنّه عليهالسلام داوم عليها ، والتّأسي
__________________
(١) وردت الرواية في المعتبر ٢ : ٢٨٢.
(٢) التهذيب ٣ : ٢٣٨ حديث ٦٣٣ ، الاستبصار ١ : ٤١٩ حديث ١٦١٣.
(٣) التهذيب ٣ : ١٢ حديث ٤٢.
(٤) الكافي ٣ : ٤٢١ ، ٤٢٤ حديث ٢ ، ٧ ، الفقيه ١ : ٢٦٧ ، ٢٦٩ حديث ١٢١٩ ، ١٢٢٨ ، التهذيب ٣ : ٤٣ حديث ٦٥٥.
______________________________________________________
به واجب ، وكذا القول في الصّلاة على النّبي وآله صلىاللهعليهوآلهوسلم وفي تعيين لفظ الصّلاة ، والوعظ الّذي هو عبارة عن الوصيّة بالتّقوى ، والحثّ على الطاعات ، والتحذير من المعاصي ، والاغترار بالدّنيا وزخارفها ، ونحو ذلك.
ولا يتعين لفظه على الأقرب ، لحصول الغرض بأي لفظ أدى المراد ، ولأنّ النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يقتصر في خطبه على لفظ معيّن من الوعظ بخلاف الحمد والصّلاة ، نعم لا يكفي في الوعظ التحذير من الاغترار بالدّنيا ، لأنّه قد يتواصى به المنكرون للمعاد ، ولا يجب فيه كلام طويل ، بل لو قال : أطيعوا الله كفاه ، نبه على ذلك كلّه المصنّف في النّهاية (١).
والقراءة. ولم يتعرض لوجوبها أبو الصّلاح ، ويجب كونها في كلّ منهما ، لأنّه عليهالسلام كان يقرأ فيهما ، ولأنّهما صلاة أو بدل منها ، ولأنّ يقين البراءة يتوقف على ذلك فانّ العبادات إنّما تعلم بالتّوقيف.
وفي وجوب سورة خفيفة ، أي قصيرة ، والاجتزاء بالآية التامة الفائدة قولان : أحدهما ـ وبه قال في المبسوط (٢) واختاره ابن حمزة (٣) وابن إدريس (٤) وجماعة ـ : الوجوب (٥).
وأصحّهما ـ واختاره في الخلاف (٦) وأكثر المتأخّرين ـ : الاجتزاء بالآية (٧) ، لرواية صفوان بن يعلى ، عن أبيه ، قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقرأ
__________________
(١) نهاية الأحكام ٢ : ٣٣.
(٢) المبسوط ١ : ١٤٧.
(٣) الوسيلة : ١٠٤.
(٤) السرائر : ٦٢.
(٥) منهم : المحقق في الشرائع ١ : ٩٥ ، وسلار في المراسم : ٧٧.
(٦) الخلاف ١ : ١٤١ مسألة ٣٠ صلاة الجمعة.
(٧) منهم : الشهيد في البيان : ١٠٣.
______________________________________________________
على المنبر( وَنادَوْا يا مالِكُ ) (١) (٢) ، والظّاهر أنّه في خطبة الجمعة.
وروى سماعة في الموثق ، قال : قال : أبو عبد الله عليهالسلام : « ينبغي للإمام الّذي يخطب بالنّاس يوم الجمعة أن يلبس عمامة في الشّتاء والصّيف ، ويرتدي ببرد يمنية أو عدنية ، ويخطب وهو قائم ، يحمد الله ويثني عليه ، ثم يوصي بتوقي الله ، ثم يقرأ سورة من القرآن قصيرة ، ثم يجلس ، ثم يقوم ، فيحمد الله ، ويثني عليه ، ويصلّي على محمّد وآله وعلى أئمة المسلمين ، ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات ، فإذا فرغ من هذا قام المؤذن » (٣).
وسماعة ضعيف ، ومع ذلك ف « ينبغي » لا يدلّ على الوجوب ، مع أنّ مقتضى الرّواية اختصاص القراءة والوعظ بالأولى ، والصّلاة على النّبي وآله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالثّانية ، وبمضمونها أفتى في النافع (٤) والمعتبر (٥) وهو منقول عن السيّد المرتضى (٦) ، ويظهر من عبارة الشّيخ في النّهاية (٧) والاقتصاد (٨) أنّ القراءة بين الخطبتين والعمل على المشهور أولى.
إذا عرفت ذلك فالمراد بالآية التامة الفائدة : ما يستقلّ بإفادة معنى يعتد به بالنّسبة إلى مقصود الخطبة ، سواء تضمنت وعدا أو وعيدا أو حكما أو قصصا ، فلا يجزئ نحو قوله تعالى ( مُدْهامَّتانِ ) (٩) ، ولا نحو ( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ) (١٠).
واعلم أنّه يعتبر في الخطبتين أمور أخر :
__________________
(١) الزخرف : ٧٧.
(٢) أورد الرواية ابن الأثير في أسد الغابة ٥ : ١٢٩.
(٣) الكافي ٣ : ٤٢١ حديث ١ ، التهذيب ٣ : ٢٤٣ حديث ٦٥٥.
(٤) المختصر النافع : ٣٥.
(٥) المعتبر ٢ : ٢٨٤.
(٦) قاله في المصباح ونقله عنه في المعتبر ٢ : ٢٨٤.
(٧) النهاية : ١٠٥.
(٨) الاقتصاد : ٢٦٧.
(٩) الرحمن : ٦٤.
(١٠) الأعراف : ١٢٠.
ويجب قيام الخطيب فيهما ، والفصل بينهما بجلسة خفيفة ، ورفع الصوت بحيث يسمعه العدد فصاعدا ..
______________________________________________________
الأوّل : كونهما بالعربيّة ، فلا يجزئ غيرها اختيارا للتّأسي ، ولو لم يفهم العدد العربيّة ، فالأقرب وجوب العجمية ، لأنّ مقصود الخطبة لا يتم إلاّ بفهم معانيها.
والظّاهر وجوب تعلم ما لا بدّ منه فيهما بالعربيّة على الخطيب والسّامع ، لأنّه مقدّمة لفعلهما بالعربيّة ، وهو واجب.
الثّاني : التّرتيب بين أجزاء الخطبة الواجبة ، للتّأسي ، فلو قدم الصّلاة أو غيرها على الحمد أو الوعظ أو القراءة على الصّلاة ، استأنف ما يسمى خطبة ، صرّح به المصنّف في التّذكرة (١).
الثّالث : تضمنت رواية سماعة الدّعاء لأئمة المسلمين ، والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات ، وبه أفتى صاحب المعتبر (٢) والسيّد (٣) ، وأوجب الشّهادة بالرّسالة في الاولى ، وكلام الأكثر يقتضي خلافه (٤).
الرّابع : لا يجزئ الاقتصار في الخطبة على آيات تشتمل على أركانها ، لعدم تسميتها خطبة ، وبه صرّح المصنّف في النّهاية (٥).
الخامس : نية الخطبة على وجهها ، لأنّها عبادة ، فلا بدّ فيها من النيّة كالصّلاة ، نبه عليه المصنّف في النّهاية (٦).
قوله : ( ويجب قيام الخطيب فيهما ، والفصل بينهما بجلسة خفيفة ، ورفع الصوت بحيث يسمعه العدد فصاعدا ).
__________________
(١) التذكرة ١ : ١٥٢.
(٢) المعتبر ٢ : ٢٨٤.
(٣) قاله في المصباح ونقله عنه في المعتبر ٢ : ٢٨٤.
(٤) منهم : الشيخ في المبسوط ١ : ١٤٧ ، وأبو الصلاح في الكافي في الفقه : ١٥١.
(٥) نهاية الأحكام ٢ : ٣٥.
(٦) نهاية الأحكام ٢ : ٣٧.
______________________________________________________
يجب في الخطبتين أمور أخر أيضا :
أ : قيام الخطيب فيهما بإجماعنا ، لأنّ النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم خطب قائما ، والتّأسي به واجب ، ولقول الصّادق عليهالسلام : « أول من خطب وهو جالس معاوية لعنه الله ، استأذن النّاس في ذلك من وجع كان بركبته ـ ثم قال عليهالسلام ـ : الخطبة وهو قائم خطبتان ، يجلس بينهما جلسة لا يتكلّم فيها قدر ما يكون فصلا بين الخطبتين » (١) ولو منعه مانع من القيام جاز الجلوس.
وهل تجب الاستنابة مع الإمكان؟ فيه تردّد ، ينشأ من الشكّ في أنّ الشرط هو قيام من تصدّى للخطبة مع إمكانه أو القيام مطلقا؟ ولا ريب أنّ الاستنابة أحوط. ولو عجز عن الجلوس اضطجع ، وفي الاستنابة ما سبق.
ولو خطب جالسا أو مضطجعا مع القدرة بطلت صلاته وصلاة من علم حاله من المأمومين دون من لم يعلم ، وإن رأوه جالسا في الخطبة ، بناء على الظّاهر من أنّ قعوده للعجز ، وإن تجدد العلم بعد الصّلاة ، كما لو بان أنّ الامام محدث.
ب : يجب في القيام الطمأنينة ، صرّح به المصنّف في التّذكرة (٢) وشيخنا الشّهيد ، لأنّه عليهالسلام هكذا خطب ، ولعدم تحقّق البراءة من دونه ، ولأنّهما بدل من ركعتين.
ج : الفصل بينهما بجلسة خفيفة ، وهو شرط في الخطبتين ، قاله الشّيخ رحمهالله (٣) ، للتّأسي ، ولقول الصّادق عليهالسلام : « يجلس بينهما جلسة لا يتكلم فيها » (٤).
وتجب الطمأنينة فيها ، صرح به في التّذكرة ، للتّأسي (٥) ، وهل يجب
__________________
(١) التهذيب ٣ : ٢٠ حديث ٧٤.
(٢) التذكرة ١ : ١٥١.
(٣) المبسوط ١ : ١٤٧ ، النهاية : ١٠٥.
(٤) التهذيب ٣ : ٢٠ حديث ٧٤.
(٥) التذكرة ١ : ١٥١.
والأقرب عدم اشتراط الطهارة ، وعدم وجوب الإصغاء إليه ، وانتفاء تحريم الكلام ، وليس مبطلا لو فعله.
______________________________________________________
السّكوت؟ ظاهر الخبر ذلك ، ويمكن أن يراد به : لا يتكلم فيها بشيء من الخطبة ، واعتبر المصنّف كون الجلسة خفيفة ، فلو أطالها لم يقدح في الخطبة ، ولو أخل بالموالاة ففيه نظر ، وقد سبق حكاية عدم إيجابها في الخطبة عن المصنّف ، ولو عجز عن القيام في الخطبتين فصل بينهما بسكتة ، واحتمل المصنّف في التّذكرة الفصل بالاضطجاع (١).
د : رفع الصّوت بها بحيث يسمعه العدد فصاعدا ، لأنّ المقصود من الخطبتين لا يحصل من دونه ، ولأنّ النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان إذا خطب رفع صوته ، كأنّه منذر جيش.
ولو رفع الصّوت بقدر ما يسمع ، ولكن منع مانع من صمم أو صوت ريح أو ماء ونحو ذلك فالظاهر الإجزاء ، ولا يجب أن يجهد نفسه في الأسماع.
وهل يجب تحري مكان لا مانع فيه من السّماع؟ الظّاهر نعم إذا لم يكن فيه مشقة ، وإذا تعذّر الإسماع لم تسقط الجمعة ولا الخطبة لعموم الأمر بها.
قوله : ( والأقرب عدم اشتراط الطّهارة ، وعدم وجوب الإصغاء إليه ، وانتفاء تحريم الكلام ، وليس مبطلا لو فعله ).
البحث هنا يقع في مسألتين :
الأولى : هل يشترط في الخطبتين كون الخطيب متطهّرا؟ للأصحاب فيه قولان :
أحدهما ، وبه قال الشّيخ في الخلاف (٢) والمبسوط : نعم (٣) ، تأسيا بالنّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة عليهمالسلام بعده ، ولتوقّف يقين البراءة عليه ،
__________________
(١) التذكرة ١ : ١٥١.
(٢) الخلاف ١ : ١٤٢ مسألة ٣٢ صلاة الجمعة.
(٣) المبسوط ١ : ١٤٧.
______________________________________________________
ولصحيحة عبد الله بن سنان ، عن الصّادق عليهالسلام : « وإنّما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين ، فهي صلاة حتّى ينزل الامام » (١) والحقيقة غير مرادة قطعا ، فيصار إلى أقرب المجازات ، وهو مساواتها للصّلاة في جميع الأحكام الممكنة شرعا.
اعترض بأنّ فعله عليهالسلام لا يقتضي الوجوب ، ما لم يعلم أنّه فعله على قصد الوجوب ، وبمنع توقف يقين البراءة عليه قبل ثبوت وجوبه.
واعترض المصنّف في المختلف (٢). على الرّواية بوجوه :
أحدها : إنّ قوله ( فهي ) كما يحتمل عوده الى الخطبتين لقربه ، يحتمل عوده إلى الجمعة لوحدة الضّمير.
وفائدة التقييد بنزول الامام أنّ الجمعة إنّما تكون صلاة بالخطبة ، وإنّما تحصل بنزول الامام ، ويضعف بأنّه لا معنى لـ ( حتى ) حينئذ إلا بارتكاب تقدير ما لا يدلّ عليه دليل ، ولا ريب أنّ أمر التّذكير والتّأنيث أسهل من هذا التعسّف.
الثّاني : حيث أنّ الخطبة لا تعد صلاة حقيقة اتفاقا ، فالمراد : أنّها كالصّلاة ، وحينئذ فلا دلالة له على تعيين الطّهارة ، لاحتمال المشابهة بوجه آخر ، ويضعف بأنّ الحمل على أقرب المجازات أرجح ، فلا يرد ما ذكره.
الثّالث : إذا دار اللّفظ بين حمله على الحقيقة اللغوية والمجاز الشّرعي ، فاللغوية أولى إجماعا ، فيكون المراد بالصّلاة في كون الخطبة : صلاة الدّعاء ، لاشتمالها عليه ، وليس من شرطه الطّهارة.
ويرد عليه : أنّ الخطبة ليست دعاء ، بل مشتملة عليه كما اعترف به ، فإطلاق الصّلاة عليها بهذا الاعتبار مجاز لغوي لا حقيقة ، والمجاز الشّرعي أولى منه.
__________________
(١) التهذيب ٣ : ١٢ : ٤٢.
(٢) المختلف : ١٠٣.