جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٢

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

______________________________________________________

والثّاني ، وبه قال ابن إدريس (١) وصاحب المعتبر (٢) والمصنّف هنا وفي المختلف : لا (٣) ، للأصل ، وضعف دلائل الوجوب.

ولا يخفى أنّ الأول قويّ ، والاحتياط يقتضيه ، فالمصير إليه أولى.

الثّانية : هل يجب على المأمومين الإصغاء إلى الخطبة ـ والمراد به : ميلهم بإسماعهم نحوها ليستمعوها وهو الاستماع ـ فيحرم الكلام؟ فيه قولان أيضا :

أحدهما : نعم ، واختاره الأكثر ، لأنّ فائدة الخطبة إنّما تتحقّق بذلك ، ولصحيحة ابن سنان السّالفة. قال المصنّف في المختلف : وجه الاستدلال بها أنّه عليه‌السلام جعل الخطبتين صلاة ، وكل صلاة يحرم فيها الكلام. ثم اعترض بأنّ موضوع الكبرى إن أخذ بالمعنى الشّرعي منعت الصغرى ، أو بالمعنى اللغوي منعت الكبرى ، أو أخذ اللّغوي في الصّغرى والشّرعي في الكبرى اختلف الوسط ، فلا ينتج. وأجاب بالحمل على المجاز الشّرعي المقتضي للمساواة في جميع الأحكام ، مع أنّه أوجب في المسألة السّابقة الحمل على الحقيقة اللغوية (٤).

والثّاني : العدم ، اختاره الشّيخ في أحد قوليه (٥) وصاحب المعتبر (٦) والمصنّف هنا ، للأصل ، ولظاهر صحيحة محمّد بن مسلم ، عن الصّادق عليه‌السلام قال : « إذا خطب الإمام يوم الجمعة ، فلا ينبغي لأحد أن يتكلّم حتّى يفرغ الامام من خطبته » (٧) فان لفظة « لا ينبغي » تدل على الكراهة ، ولأنّه عليه‌السلام لم ينكر على من سأله في حال الخطبة عن الساعة ، إلى أن سأل ثلاثا فأجابه عليه‌السلام ، ولو حرم الكلام لأنكر عليه.

__________________

(١) السرائر : ٦٣.

(٢) المعتبر ٢ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٣) المختلف : ١٠٣.

(٤) المختلف : ١٠٤.

(٥) المبسوط ١ : ١٤٨ ، قال : يستحب الإنصات.

(٦) المعتبر ٢ : ٢٩٤.

(٧) الكافي ٣ : ٤٢١ حديث ٢ ، التهذيب ٣ : ٢٠ حديث ٧١.

٤٠١

______________________________________________________

وفي الأوّل قوة ، نظرا إلى أنّ مقصود الخطبة لا يكاد يحصل بدونه ، ولفظة ( لا ينبغي ) كما تصلح للمكروه تصلح للحرام أيضا ، وإن كان استعمالها في المكروه أكثر ، ولعلّه عليه‌السلام علم ضرورة السّائل إلى ما سأل وعند الضّرورة يباح الكلام قطعا.

فان قيل : وجوب الإصغاء وتحريم الكلام ، إمّا بالنسبة إلى جميع المصلّين ولا وجه له ، لأنّ استماع الخطبة يكفي فيه العدد ، ولهذا لو انفردوا أجزأ ، أو إلى البعض ، وهو باطل إذ لا ترجيح.

قلنا : الوجوب على الجميع لعدم الأولويّة ، ويكفي العدد في الصحّة ، فلا محذور.

واعلم أنّ تحريم الكلام مطرد في حق الخطيب في الأثناء ، لظاهر الرّواية السّالفة وفاقا للشّيخ (١).

وقيل : لا يحرم ، وعبارة الكتاب تشمله ، وبه صرّح في التّذكرة (٢) للأصل ، ولأنّه عليه‌السلام تكلم في أثناء الخطبة فلا يكون حراما ، وإذا تكلم أحدهم لم تبطل الخطبة اتفاقا وإن قلنا بالتّحريم ، والنّزاع إنّما هو في غير محل الضّرورة.

أما معها كتحذير الأعمى من الوقوع في بئر ، والإيذان بنحو عقرب ، وانهدام جدار ، ونحو ذلك فلا تحريم ، ونقل فيه المصنّف الإجماع في التّذكرة (٣).

ولو كان المصلّي بعيدا لا يسمع أو أصم لم يحرم عليه الكلام ، لعدم إمكان السماع بالإصغاء.

ولا يحرم غير الكلام من الأفعال المحرّمة في الصّلاة ، خلافا للمرتضى (٤) ،

__________________

(١) قال السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٣ : ١٢٤ : وفي نهاية الأحكام. وللشيخ قول بالتحريم.

وظاهره ان للشيخ قولا بالتحريم على الخطيب كما صرح بذلك في غاية المراد ، ولم نجده ، ولعلهما فهماه من عموم عبارة الإصباح.

(٢) التذكرة ١ : ١٥٢.

(٣) المصدر السابق.

(٤) نقله عنه في المعتبر ٢ : ٢٩٥.

٤٠٢

ويستحب بلاغة الخطيب ، ومواظبته على الفرائض ، حافظا لمواقيتها ، والتعمم شتاء وصيفا ، والارتداء ببرد يمنية ، والاعتماد ، والتسليم أولا ، والجلوس قبل الخطبة.

______________________________________________________

للأصل ، وعدم وجود معارض يعتد به في ذلك.

قوله : ( ويستحبّ بلاغة الخطيب ومواظبته على الفرائض حافظا لمواقيتها والتعمم شتاء وصيفا ، والارتداء ببرد يمنية والاعتماد والتّسليم أولا ، والجلوس قبل الخطبة ).

يستحب في الخطب أمور :

منها : بلاغته بمعنى : أن يكون قادرا على تأليف الكلام المطابق لمقتضى الحال من التخويف والإنذار وغيرهما ، بحيث يبلغ به كنه المطلوب من غير إملال ولا إخلال ، مع فصاحته الّتي هي عبارة عن خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد وكونها غريبة وحشيّة ، لأنّ لذلك أثرا بينا في القلوب.

ومنها : مواظبته على الفرائض ، ومحافظته عليها في أوّل أوقاتها ، واتصافه بما يأمر به ، ومجانبته ما ينهى عنه ، ليكون لوعظه موقع. ويستحبّ أن يكون صادق اللهجة ، وأن لا يلحن في خطبته.

ومنها : التعمم شتاء وصيفا ، والارتداء ببرد يمنيّة أو عدني ، وقد سبق في رواية سماعة عن الصّادق عليه‌السلام (١) ، وللتأسي ، ولأنّه أنسب بالوقار.

واعلم أنّ ( يمنيّة ) في العبارة صفة للبرد ، نسبة إلى اليمن ، يقال : يمنية بالتّشديد ، ويمانية بالتخفيف مع الألف ، والّذي في الرّواية : برد يمنيّة ، وهي بالضّم : البردة من برود اليمن.

ومنها : الاعتماد على شي‌ء حال الخطبة من سيف أو عكاز أو قوس أو‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٢١ حديث ١ ، التهذيب ٣ : ٢٤٣ حديث ٦٥٥.

٤٠٣

ويكره الكلام في أثنائها‌ بغيرها.

______________________________________________________

قضيب ، تأسيا بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه كان يعتمد على عنزته (١) اعتمادا (٢) ، ولقول الصّادق عليه‌السلام : « ويتوكأ على قوس أو عصا » (٣).

ومنها : التّسليم على النّاس أوّل ما يصعد المنبر ، اختاره المرتضى (٤) وجمع من الأصحاب (٥) ، لرواية عمرو بن جميع ، رفعه عن علي عليه‌السلام ، قال : « من السّنة إذا صعد الإمام المنبر أن يسلّم إذا استقبل النّاس » (٦). ونفى الشّيخ في الخلاف استحبابه (٧) ، ولعلّه استضعافا للرّواية. وإذا سلم عليهم وجب الردّ عليه كفاية ، لعموم الأمر برد التحيّة.

ومنها : جلوسه بعد السلام ، حتى يفرغ المؤذن ، فيستريح عن تعب الصّعود ، وقد روي أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كان يخطب خطبتين ، ويجلس جلستين (٨) ، وعن الباقر عليه‌السلام : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا خرج الى الجمعة ، قعد على المنبر حتّى يفرغ المؤذنون » (٩).

ويستحب أن يقف على مرتفع ، ليكون أبلغ في الإسماع ، ولفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك (١٠).

قوله : ( ويكره له الكلام في أثنائها بغيرها ).

__________________

(١) قال الطريحي في مجمع البحرين ( عنز ) ٤ : ٢٨ : العنزة ـ بالتحريك ـ أطول من العصا وأقصر من الرمح ، والجمع عنز وعنزات.

(٢) الجامع الصغير ٢ : ٣٢٩ حديث ٦٦٥٨.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٤٥ حديث ٦٦٤.

(٤) نقل قوله ابن إدريس في السرائر : ٦٤.

(٥) منهم : المحقق في الشرائع ١ : ٩٩ ، والشهيد في الذكرى : ٢٣٦.

(٦) التهذيب ٣ : ٢٤٤ حديث ٦٦٢.

(٧) الخلاف ١ : ١٤٤ مسألة ٤٠ صلاة الجمعة.

(٨) سنن أبي داود ١ : ٢٨٦ حديث ١٠٩٢.

(٩) التهذيب ٣ : ٢٤٤ حديث ٦٦٣.

(١٠) صحيح البخاري ٢ : ١١ ، سنن ابن ماجة ١ : ٣٥١ حديث ١١٠٤ ، سنن أبي داود ١ : ٢٨٦ حديث ١٠٩٢ ، المجموع ٤ : ٥٢٧.

٤٠٤

الخامس : الجماعة : فلا تقع فرادى ، وهي شرط الابتداء لا الانتهاء.

______________________________________________________

لأنّ لتواليها تأثير في النّفوس ، ولما سبق من الدلائل ، فإنّها على أن لا تنهض بالتّحريم فلا أقل من الكراهة ولا يحرم عند المصنّف ، لما سبق من الدلائل على ذلك.

فان قيل : قد أغنى قول المصنّف فيما مضى : ( وانتفاء تحريم الكلام ) عما ذكره هنا ، فيكون تكرارا بغير فائدة.

قلنا : الّذي سبق انتفاء تحريم الكلام ، وهو لا يقتضي كراهة ولا ضدها ، والمذكور هنا الكراهة ، فلا يلزم التّكرار.

فان قيل : لم خصّ الكراهة بالخطيب مع أنّ المأمومين يكره لهم ذلك عنده لدلالة النّصّ على ذلك؟

قلنا : لما ذكر ما يستحبّ في الخطيب من الصّفات والأفعال ، أورد معها كراهة الكلام في الأثناء المقتضي لاستحباب الكف عنه ، وحكم المأمومين قد يستفاد من قوله : ( والأقرب ... ) ولم يذكر شيئا يتعلّق بهم بعد يناسب ذكر ذلك.

قوله : ( الخامس : الجماعة : فلا تصح فرادى ، وهي شرط الابتداء لا الانتهاء ).

لمّا كان حضور العدد غير مستلزم للجماعة ما لم تجمعهم رابطة القدوة بإمام ، اعتبرت الجماعة شرطا بالاستقلال ، للإجماع على عدم صحة الجمعة بدونها ، ولأنّه عليه‌السلام كذا فعلها ، ودوام عليها ، ولما رواه عن زرارة ، قال : « فرض الله من الجمعة إلى الجمعة خمسا وثلاثين صلاة ، واحدة فرضها الله تعالى في جماعة ، وهي الجمعة » (١) وتتحقق الجماعة بنية المأمومين الاقتداء بالإمام ، فلو أخلّوا أو أحدهم بذلك لم تصح.

وهل تشترط نية الإمام للإمامة هنا؟ فيه نظر ، ينشأ من ظاهر قوله‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤١٩ حديث ٦ ، الفقيه ١ : ٢٦٦ حديث ١٢١٧ ، التهذيب ٣ : ٢١ حديث ٧٧.

٤٠٥

ويجب تقديم الإمام العادل ، فإن عجز استناب.

______________________________________________________

عليه‌السلام : « وإنّما لكلّ امرئ ما نوى » (١) ومن حصول الإمامة باقتدائهم به.

والتحقيق أن يقال : إن اعتبرت الجماعة من جانبه كما تعتبر من جانبهم ، فلا بدّ من النية منه ، وإن اكتفى بالجماعة في الجملة لم تلزم ، والظاهر الأوّل ، لاعتبار الجماعة في صلاته قطعا ، ولا تتحقق من قبله إلا بنيتها ، لعدم وقوع عمل بغير نية ، ومن ثم لا ينال فضل الجماعة في غير الجمعة إلاّ بها.

إذا عرفت هذا ، فالجماعة إنّما هي شرط في الابتداء خاصّة ، لا في مجموع الصّلاة ، وهو المراد بقول المصنّف : ( لا الانتهاء ) أي : لا في باقي الصّلاة الّذي به يكون انتهاؤها ، فلو قطعوا القدوة ، ولم يبق سوى الإمام بعد التّحريم ، لم يقدح في صحة الصّلاة بالنسبة إليه.

ومن هذه العبارة يعلم أنّه لا يشترط بقاء واحد مع الإمام ، لأنّ الجماعة تبقى ما بقي واحد معه ، فيحمل قوله فيما سبق : ( وإن بقي واحد ) على أنّ المراد : بقاء مصل واحد من مجموع العدد.

وظاهر العبارة : أنّه لا فرق في الصحّة إذ انقطعت القدوة وزال وصف الجماعة ، بين أنّ يبقى الإمام وحده أو ينصرف الإمام ولا يبقى إلاّ أحد المأمومين ، وقد سبق تحقيق ذلك كلّه ، فلا حاجة إلى إعادته.

قوله : ( ويجب تقديم الإمام العادل ، فان عجز استناب ).

المراد به : إمام الأصل ، لأنّ الإمامة متوقفة على اذنه ، فليس لغيره التّقدم عليه ، وكذا نائبه.

ويمكن أن يراد بالإمام العادل : إمام الأصل ونائبه معا ، ويفهم من قوله : ( فان عجز استناب ) أنّه لا يستنيب مع القدرة ، وهو ظاهر في النّائب ، إذ ليس له أن يستنيب إلا مع الاذن.

وأمّا الامام فظاهر كلامهم : أنّه لا يجوز له الائتمام بغيره ، لأنّه إذا قدر على‌

__________________

(١) سنن أبي داود ٢ : ٢٦٢ حديث ٢٢٠١.

٤٠٦

______________________________________________________

الإمامة وجب عليه الحضور قطعا ، فإذا منع من الاستنابة حينئذ اقتضى عدم جواز اقتدائه بغيره ، لعدم تصوّر مانع آخر.

ويمكن أن يحتج له بفعل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه لم يحضر موضعا إلا أم بالنّاس ، وكذا الأئمة عليهم‌السلام حيث لم تكن تقية ، وبظاهر قول الباقر عليه‌السلام : « قال علي عليه‌السلام : إذا قدم الخليفة مصرا من الأمصار جمع بالنّاس ، ليس ذلك لأحد غيره » (١).

ويستفاد من قوله : ( فإن عجز استناب ) أنّه مع العجز لا يجوز لأحد التقدّم إلاّ باذنه ، وهو ظاهر ، لأنّ ذلك حقّه عليه‌السلام ، فلا يثبت لغيره إلا باستنابته.

فرعان :

أ : لو كان المتصدّي لإمامة الجمعة قد صلّى الظّهر في موضع يقع منه ، فهل يجوز الاقتداء به في الجمعة؟ فيه تردّد من جواز اقتداء المفترض بالمنتقل في المعادة (٢) ، ومن عدم مشروعية الجمعة والظّهر معا.

والتّحقيق : أنه من صلّى الظّهر لعذر ، ثم حضر موضع الجمعة ، هل يستحب له الجمعة أم لا؟ فان قلنا بالأوّل فلا مانع من الاقتداء حينئذ ، واختار المصنّف في التّذكرة الاستحباب (٣) طلبا لفضيلة الجماعة ، لأنّها تنوب مناب الظّهر ، فأشبهت المنوب.

وعلى هذا فهل يشترط كمال العدد بغيره؟ الظّاهر نعم ، لعدم تعلق التّكليف بالجمعة به ، ولا يجب على أقل من العدد.

ولو كان يصلّي فرضا آخر من اليوميّة ففي جواز الاقتداء به في الجمعة حيث تصح وجهان.

ب : في جواز مغايرة الإمام الخطيب نظر ، من أنّه خلاف المنقول عن النّبي‌

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٣ حديث ٨١.

(٢) في « ن » و « ح » : العادة.

(٣) التذكرة ١ : ١٤٤.

٤٠٧

وإذا انعقدت ودخل المسبوق لحق الركعة إن كان الإمام راكعا.

______________________________________________________

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام ، ولأنّ الخطبة والصّلاة معا قائمتان مقام الظّهر ، ومن انفصال كلّ عن الأخرى ، وقيامهما مقام الظّهر لا يقتضي كونهما عبادة واحدة.

وفي الجواز قوة ، وإن كان الأحوط الاقتصار على موضع الضّرورة.

قوله : ( وإذا انعقدت ودخل المسبوق لحق الركعة إن كان الإمام راكعا ).

لا خلاف في أنّه يدرك الرّكعة ، إذا أدرك الإمام قبل الرّكوع فكبّر وركع معه ، أمّا لو أدركه راكعا فدخل معه ، ففي إدراك الرّكعة قولان : أشهرهما أنّه يدرك ، لقول الصّادق عليه‌السلام : « إذا أدركت الإمام وقد ركع ، فكبّرت وركعت قبل أن يرفع رأسه فقد أدركت الرّكعة ، وإن رفع الإمام رأسه قبل أن تركع فقد فاتتك » (١) وقال الشّيخ في النّهاية ، لا بدّ من إدراك تكبيرة الرّكوع (٢) ، لقول الباقر عليه‌السلام لمحمّد بن مسلم : « ان لم تدرك القوم قبل أن يكبّر الإمام للركعة ، فلا تدخل معهم في تلك الرّكعة » (٣) والرّواية الأولى أشهر ، فتحمل هذه إمّا على الأفضلية أو على ظن فوت الرّكوع ، فإنّ الغالب أنّ من دخل المسجد ولم يدرك تكبيرة الرّكوع لا يدركه نظرا إلى قطع المسافة بينه وبين المصلّين مع النية وتكبيرة الإحرام.

وقال المصنّف في التّذكرة : قول الشّيخ ليس بعيدا من الصّواب ، لفوات واجب الرّكوع ، فيكون الباقي مستحبّا ، فلا تحصل الرّكعة بالمتابعة (٤). وليس بواضح ، إذ ليس المراد إدراك الركعة بجميع أجزائها قطعا ، وإنّما المراد إدراك ما يحسب له‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٨٢ حديث ٥ ، الفقيه ١ : ٢٥٤ حديث ١١٤٩ ، التهذيب ٣ : ٤٣ حديث ١٥٣ ، الاستبصار ١ : ٤٣٥ حديث ١٦٨٠.

(٢) النهاية : ١١٤.

(٣) التهذيب ٣ : ٤٣ حديث ١٤٩ ، الاستبصار ١ : ٤٣٤ حديث ١٦٧٦.

(٤) التذكرة ١ : ١٤٨.

٤٠٨

ويدرك الجمعة لو أدركه راكعا في الثانية ، ثم يتم بعد فراغ الإمام.

ولو شك هل كان رافعا أو راكعا؟ رجحنا الاحتياط على‌ الاستصحاب.

______________________________________________________

ركعة مع الإمام ، ومع إدراكه في الرّكوع قبل رفعه يدرك معظم الرّكعة ، وليس بظاهر أنّ الباقي مستحب ، لأنّ آخر الرّكوع الواجب هو الرّفع منه ، وقد دلّت الرّواية الأولى على الاعتداد بذلك ، فلا سبيل إلى المنع.

ولا فرق بين الإتيان بالذكر الواجب وعدمه ، ولا بين ذكر المأموم والإمام راكع وعدمه ، وفي التّذكرة إنّه لو رفع الإمام بعد ركوعه قبل الذّكر ، فقد فاتته تلك الرّكعة (١) ، وهو غير واضح ، إلاّ بناء على تصويب مذهب الشّيخ (٢) عملا بإطلاقها.

بقي شي‌ء ، وهو أنّه لو ركع الإمام الرّكوع المستحبّ ، بحيث انحنى زيادة على الواجب ، فأدركه المأموم ، وقد أخذ في الرّفع قبل أن يخرج عن حدّ الراكع ، فهل يعد مدركا أم لا؟ يلوح من قوله عليه‌السلام في الرّواية : « قبل أن يرفع رأسه » الثّاني ، إذ قد رفع رأسه ، ويمكن استفادة الأوّل منه ، نظرا الى أنّ رفع الرأس يتبادر منه كمال رفعه.

ويشكل مع ما عليه من المنع بإدراك الرّكعة بإدراكه قبل أن يستكمل الرفع وإن خرج عن حد الرّاكع ، إلاّ أن يقال : خرج هذا بالإجماع.

قوله : ( ويدرك الجمعة لو أدركه راكعا في الثانية ، ثم يتم بعد فراغ الإمام ).

لقوله عليه‌السلام : « من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى » (٣) وإنّما يتحقق ذلك ، إذا تابعه في باقي أفعال الرّكعة.

قوله : ( ولو شك هل كان راكعا أو رافعا؟ رجحنا الاحتياط على الاستصحاب ).

__________________

(١) التذكرة ١ : ١٤٨.

(٢) النهاية : ١١٤.

(٣) التهذيب ٣ : ١٦٠ حديث ٣٤٤ ، الاستبصار ١ : ٤٢٢ حديث ١٦٢٥.

٤٠٩

ويجوز استخلاف المسبوق وإن لم يحضر الخطبة.

السادس : الوحدة : فلو كان هناك اخرى ـ بينهما أقل من فرسخ ـ بطلتا إن اقترنتا أو اشتبه.

وتصح السابقة خاصة ولو بتكبيرة الإحرام فتصلّي الثانية الظهر.

ولا اعتبار بتقديم السلام ، ولا الخطبة ، ولا كونها جمعة السلطان ، بل بتقديم التحريم ومع الاقتران يعيدون جمعة.

ومع اشتباه السابق ـ بعد تعيينه أولا بعده ـ أو اشتباه السبق ،

______________________________________________________

المراد بالاحتياط هنا : الطّريق الّذي تتوقف براءة الذّمة عليه ، لا ما يقطع معه بالبراءة مع حصولها بغيره.

وتحقيقه : أنّ استصحاب الحال في بقاء ركوع الإمام مستمرا إلى ركوع المأموم يقتضي إدراكه في الرّكوع ، وتعارضه أصالة عدم إدراكه راكعا ، ولم ينتقل عن هذا الأصل إلى مقابله بعلم ولا ظنّ ، ومع تكافؤ هذين الأصلين وتعارضهما لا ترجيح لأحدهما على الآخر ، فلا يتحقق بذلك الخروج عن عهدة التّكليف بالصّلاة ، لأنّ الشك في الإتيان بالواجب يستلزم البقاء في عهدة التّكليف ، فلا جرم ترجّح أصالة عدم الإدراك في الرّكوع بأصالة البقاء في عهدة التّكليف ، على الاستصحاب ، فوجب الاستئناف.

قوله : ( ويجوز استخلاف المسبوق وإن لم يحضر الخطبة ).

لرواية معاوية بن عمّار عن الصّادق عليه‌السلام (١) ، وقد ذكرناها سابقا.

قوله : ( السّادس : الوحدة فلو كان هناك اخرى ، بينهما أقل من فرسخ ، بطلتا إن اقترنتا أو اشتبه ، وتصحّ السّابقة خاصة ولو بتكبيرة الإحرام ، فتصلّي الثّانية الظهر ، ولا اعتبار بتقديم السّلام ولا الخطبة ولا كونها جمعة السّلطان ، بل بتقدم التّحريم ، ومع الاقتران يعيدون جمعة ، ومع اشتباه السّابق بعد تعيينه أولا بعده أو اشتباه السّبق ،

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٨٢ حديث ٧ ، التهذيب ٣ : ٤١ حديث ١٤٤ ، الاستبصار ١ : ٤٣٣ حديث ١٦٧٢.

٤١٠

الأجود إعادة جمعة وظهر في الأخير ، وظهر في الأولين.

______________________________________________________

الأجود إعادة جمعة وظهر في الأخير وظهر في الأولين ).

لا خلاف بين الأصحاب في عدم جواز إقامة جمعتين بينهما أقل من فرسخ ، سواء كانتا في مصر واحد أو مصرين ، وسواء فصل بينهما نهر عظيم كدجلة أم لا ، لقول الباقر عليه‌السلام : « لا يكون بين الجمعتين أقل من ثلاثة أميال » (١).

ويعتبر الفرسخ من المسجد إن صليت في مسجد ، وإلاّ فمن نهاية المصلّين ، فلو خرج بعض المصلّين عن المسجد ، أو كان بعضهم في الصحراء ، بحيث لا يبلغ بعده عن موضع الأخرى النصاب دون من سواه ولا يتم به العدد ، فيحتمل صحة جمعة إمامه ، لانعقادها بشرائطها من العدد والوحدة ، بالإضافة إلى ما هو معتبر في صحّتها.

ويجي‌ء في جمعته مع الجمعة الأخرى اعتبار السّبق وعدمه.

ويحتمل اعتبار ذلك في الجمعتين ، لانتفاء البعد المعتبر بينهما ، ولا أعرف في ذلك كلّه تصريحا للأصحاب ، وللنظر فيه مجال.

فإن أقيم جمعتان بينهما أقلّ من فرسخ ، ويتصوّر ذلك باجتماع نائبين للإمام في بلد واحد أو بلدين ، بل باجتماع الإمام ونائبه كذلك ، فلا محذور في ذلك ، لإمكان عدم علم أحدهما بصاحبه ، أو اعتقادهما بلوغ المسافة الحد المعتبر ، ثم يظهر خلافه.

ولو علم النّائبان عدم البلوغ ، ثم أقدما على الصّلاة كذلك لم يقدح في عدالتهما بوجه ، ما لم يظهر إقدامهما على معصية تخل بها ، فالأحوال خمسة :

الأوّل : أن يعلم اقترانهما فتبطلان قطعا ، لامتناع الحكم بصحتهما معا أو بصحة واحدة ، لامتناع الترجيح.

ويتحقق الاقتران بالتكبير دون غيره ، لأنّ به يحصل التّحريم والدّخول في الصّلاة ، وعلى هذا فيحتمل اعتبار أوله لأنّه أوّل الصّلاة ، وآخره إذ لا يتحقق الدّخول بدونه ، واعتبارهما معا ، لأنّ أبعاض التكبير لا حكم لها بانفرادها ، والتّحريم‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٧٤ حديث ١٢٥٧ ، التهذيب ٣ : ٢٣ حديث ٨٠ ، وفيهما : ( جماعتين ).

٤١١

______________________________________________________

بالصّلاة إنّما هو بمجموعه كما دلّ عليه الحديث.

ويضعف الأوّل ، بأنه لو عرض المنافي قبل تمام التكبير لم يعتد به ، كالمتيمم يقدر على المائية في أثنائه.

ويقوّي الثّاني : أنّ الدّخول في الصّلاة إنّما يحصل حين إكماله ، وبه صرّح المصنّف في النّهاية (١) فأيهما سبق به انعقدت صلاته ، لعدم المانع ، فتكون مانعة من انعقاد الأخرى.

وحيث حكم بالبطلان ، وجب إعادتهما الجمعة ، بأن يجتمعوا جميعا أو يتباعدوا بالنصاب فصاعدا.

ويقبل في الاقتران وعدمه شهادة عدلين ، ويتصوّر ذلك بكونهما في مكان يسمعان تكبير كلّ من الفريقين ، وبتعيين زمانه إن أمكن ضبطه.

الثّاني : أن تسبق واحدة وتعلم فتختصّ بالصحّة ، ويصلّي الآخرون الظّهر إن لم يدركوا الجمعة مع السّابق ، وإلاّ تعينت.

فان قيل : كيف يحكم بصحّة صلاة السّابق ، مع أنّ كلّ واحد من الفريقين منهي عن الانفراد بالصّلاة عن الفريق الآخر ، والنّهي يدلّ على الفساد؟

قلنا : لا إشكال مع جهل كلّ منهما بالآخر ، أما مع العلم فيمكن أن يقال : النّهي عن أمر خارج عن الصّلاة ، لا عن نفسها ، ولا عن جزئها ، والوحدة وإن كانت شرطا ، إلاّ أنه مع تحقق السّبق يتحقق الشّرط.

ويشكل بأنّ المقارنة مبطلة قطعا ، فإذا شرع في الصّلاة معرضا لها للإبطال كانت باطلة ، إما للنّهي عنها حينئذ ، أو لعدم الجزم بنيتها ، فعلى هذا لو شرع في وقت يقطع بالسّبق فلا إشكال.

الثّالث : أن يعلم السّابق بعينه ، ثم ينسى.

الرّابع : أن يعلم السّبق في الجملة ، ولا يتعين السّابق.

__________________

(١) نهاية الأحكام ٢ : ٣١.

٤١٢

______________________________________________________

وحكم هاتين الصّورتين واحد ، وهو وجوب إعادة الظّهر على كلّ منهما ، وإلى ذلك أشار المصنّف بقوله : ( وظهر في الأولين ).

[ أي : الأجود إعادة الجميع للظهر ] (١) في هاتين الصّورتين ووجه القطع بصحة إحدى الجمعتين ، فلا تشرع جمعة اخرى عقيبها ، ولما لم تكن متعينة وجبت الظّهر عليهما معا ، لعدم حصول البراءة بدون ذلك.

وقال الشّيخ : يصلّون جمعة مع اتّساع الوقت (٢) ، لأنّ الحكم بوجوب الإعادة عليهما يقتضي كون الواقعة غير معتبرة في نظر الشّرع ، فكأن المصلّي لم يصل فيه جمعة.

وجوابه : إنّ الإعادة ليس لكونها غير معتبرة ، بل لعدم العلم بمن وقعت منه عينا ، ليحكم بسقوط التّكليف عنه.

وذلك لا ينافي صحّتها واعتبارها ، وعلى هذا فيحتمل عدم جواز اقتدائهم بإمام منهم ، لجواز كونه ممن صحت جمعته ، فلا يشرع منه الظّهر ، فلا تكون قدوة الآخرين به صحيحة ، ويحتمل الجواز ، لوجوب فعلها ظاهرا على كلّ منهم ، فلا تقصر عن المعادة.

فرع :

لو تباعد الفريقان بالنصاب ، ثم أعادوا جميعا الجمعة لم تصحّ ، لإمكان كون من تأخرت جمعتهم هم المختلفون في المصر ، فلا تشرع فيه جمعة اخرى.

أمّا لو خرجوا جميعا منه إلى مصر آخر وتباعدوا بالنصاب ، ففي إعادة الجمعة والحكم بصحّتها حينئذ تردّد ، من تكليفهم جميعا بالظّهر ، ومن أنّ ذلك إنّما كان لتحقق فعل الجمعة في المصر ـ فلا تثنى ـ وقد انتفى ، ومثله ما لو سبقت واحدة بعينها ، فتباعدت الأخرى.

الخامس : أن يشتبه السّبق والاقتران ، فقد حكم المصنّف في أوّل البحث‌

__________________

(١) ورد بدل المعقوفتين في « ع » : الجميع للظهر ، أي : الأحوط الإعادة.

(٢) المبسوط ١ : ١٤٩.

٤١٣

______________________________________________________

ببطلانهما ، ووجهه احتمال السّبق في كلّ منهما على حدّ سواء ، ولا ترجيح ، والأصل عدمه بالنسبة إلى كلّ منهما ، والجمعة في الذمّة بيقين ، فلا تبرأ إلاّ بيقين مثله ، وإنّما يمنع من فعلها ثانية مع يقين الجزم بصحّة واحدة ، ولو في الجملة ولم يحصل ، فعلى هذا يعيدون الجمعة خاصّة ، وهو قول الشّيخ (١).

ويشكل بأنّه وإن لم يمنع من إعادة الجمعة ، إلاّ أنّه لا يحصل بفعلها يقين البراءة كما سنبينه.

وقال المصنّف في آخر البحث : إنّهم في هذا الفرض يصلون الجمعة والظّهر معا ، وهو الّذي عبّر عنه بالأخير ، يعني : اشتباه السّبق ، فإنّه يقتضي اشتباه الاقتران أيضا ، لأنّ وقوع الاشتباه في أحدهما يستلزم الاشتباه في الآخر ، فيكون آخر كلامه مخالفا لأوله.

ووجهه أنّ يقين البراءة موقوف عليه ، لأنّ الواقع في نفس الأمر إن كان هو السّبق فالفرض هو الظّهر ، وإن كان الاقتران فالفرض هو الجمعة ، فلو أتوا بأحدهما دون الأخرى لم تتحقق البراءة بذلك ، وهذا هو الأصحّ.

ويجي‌ء في الظّهر لو صلّوها جماعة احتمال اعتبار كون إمامها ليس منهم ، كما سبق.

واعلم أنّ قول المصنّف : ( وتصحّ السّابقة خاصّة ولو بتكبيرة الإحرام ) وكذا قوله بعد : ( بل بتقديم التّحريم ) يقتضي اعتبار السّبق بمجموع التّكبير ، إذ لا يقال لمن سبق ببعض التكبير : انّه سبق بالتّكبير ، ويمكن أن يقال : إنّ من سبق بآخر التكبير يصدق عليه سبق تكبيره على تكبير الآخرين ، وإن تأخر أوله عن أول تكبيرهم ، فيكون كقول النّهاية (٢).

والظّاهر أنّ المعتبر سبق تكبيرة الإمام خاصّة ، ويحتمل اعتبار سبق تكبير‌

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٤٩.

(٢) نهاية الأحكام ٢ : ٣١.

٤١٤

المطلب الثاني : في المكلف :

ويشترط فيه : البلوغ ، والعقل ، والذكورة ، والحرية ، والإسلام ، والحضر ، وانتفاء العمى والمرض والعرج ، والشيخوخة البالغة حدّ العجز ، والزيادة على فرسخين بينها وبين موطنه.

______________________________________________________

العدد معه ، لأنّ الجمعة حينئذ يتحقق يتقق انعقادها ، إذ لو انفضوا قبل التّحريم ، تبيّنا بطلان صلاة الإمام أيضا ، ولم أقف للأصحاب في ذلك على شي‌ء.

ولو قيل : إنّ تحرّم العدد بعد كاشف عن انعقاد جمعة الإمام السّابق بالتكبير كان وجها ، ولا عبرة بتقدم السّلام ولا الخطبة ، خلافا لبعض الشّافعية (١) ، وكذا لا عبرة بكون إحداهما جمعة السّلطان ، إذا كان إمام الأخرى نائبا له.

قوله : ( المطلب الثّاني : في المكلّف : ويشترط فيه : البلوغ ، والعقل ، والذكورة ، والحريّة ، والحضر ، وانتفاء العمى ، والمرض ، والعرج ، والشيخوخة البالغة حد العجز ، والزّيادة على فرسخين بينها وبين موطنه ).

قد سبق التّنبيه في كلام المصنّف استطرادا على عدم وجوب الجمعة على من فقد فيه واحدة من هذه الصّفات ، وبيان من تنعقد به ومن لا تنعقد.

ولمّا كان موضع بيان هذه الأحكام هذا البحث ، أعادها هنا مع زيادة أحكام أخر مرتبطة بذلك ، وأراد المصنّف بقوله : ( في المكلّف ) : المكلّف بها.

فان قيل : إما أن يراد المصنّف بها : المكلّف على كلّ حال ، فلا يكاد يتحقق ، أو على بعض الأحوال ، فلا تكون الأمور المذكورة شروطا لتحقّق التّكليف على بعض الأحوال بدونها.

قلنا : يمكن أن يراد المكلّف على حالة معيّنة ، وهي حالته الّتي هو عليها ، ولا يتحقق تكليفه حينئذ إلاّ بهذه الشّروط.

إذا تقرر ذلك ، فقد ذكرنا فيما سبق ما يصلح أن يكون دليلا لاشتراط كل من هذه الأمور في التّكليف بالجمعة وانتفائه بدونها ، فلا حاجة إلى إعادته.

__________________

(١) مغني المحتاج ١ : ٢٨٢.

٤١٥

وبعض هذه شروط في الصحة ، وبعضها في الوجوب.

والكافر تجب عليه ولا تصح منه.

وكلّهم لو حضروا وجبت عليهم وانعقدت بهم ، إلاّ غير المكلف والمرأة والعبد على رأي.

______________________________________________________

قوله : ( وبعض هذه شروط في الصحّة وبعضها في الوجوب ).

اعلم أنّ شرائط صلاة الجمعة ـ بالنّسبة إلى صحّتها ووجوبها ـ على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : ما هو شرط الصحّة دون الوجوب كالإسلام ، فإنّها تجب على الكافر ، لأنّه مكلّف بالفروع ، ولا تصحّ منه إلاّ بالإسلام ، كغيرها من العبادات.

الثّاني : ما هو شرط الصحّة والوجوب معا ، وهو البلوغ ، فلا توصف جمعة الصّبي بالشرعية وإن كان مميزا ، إلاّ عند من يرى أنّ أفعال المميّز شرعية.

والعقل ، فجمعة المجنون حال جنونه لا اعتداد بها أصلا.

والذكورة إلاّ عند من يرى صحّتها من المرأة.

والوقت ، والعدد ، والخطبتان ، إلى آخر الشّروط السّابقة.

الثّالث : ما هو شرط الوجوب خاصّة ، وهو الحرية ، والحضر ، وانتفاء العمى والعرج البالغ حدّ الإقعاد ، والمرض الّذي يشق معه الحضور أو الانتظار ، والشيخوخة البالغة حدّ العجز ، إلى آخر الشّروط المذكورة سابقا ، وقول المصنّف : ( وبعض هذه ) إشارة إلى الشّروط الّتي عدّدها سابقا.

قوله : ( والكافر تجب عليه ولا تصحّ منه ).

نبه بذلك على أنّ الإسلام شرط الصحّة لا الوجوب ، كالبلوغ والعقل ، وقد نبّهنا عليه.

قوله : ( وكلّهم لو حضروا وجبت عليهم وانعقدت بهم ، إلاّ غير المكلّف والمرأة والعبد على رأي ).

الضّمير في ( كلّهم ) مدلول عليه بالكلام السّابق ، أي : كل من انتفت عنهم‌

٤١٦

______________________________________________________

الشّروط المذكورة ، ويتحقق انتفاؤها بانتفاء بعضها ، لو حضر موضع إقامة الجمعة وجبت عليه وانعقدت به حتّى المسافر ، إلاّ غير المكلّف وهو الصّبي والمجنون ، والاّ المرأة ، وإلاّ العبد على رأي.

والرأي إشارة إلى الخلاف الواقع في انعقادها بالعبد ، ويحتمل كونه إشارة إلى الخلاف في المرأة أيضا ، بل وفي المسافر ، وإن كان المتبادر هو الأوّل ، ويليه الثّاني للتّصريح بالمرأة والعبد ، والشّارح الفاضل حمل العبارة على الثّالث (١) ، وكأنّه حاول بذلك تعدد الفائدة بإعادة هذه الأحكام ، إذ قد تقدّم ذكرها قبل ذلك.

ويمكن الخروج عن التّكرار في العبد أيضا من وجهين :

الأوّل : إنّ الإشكال المذكور هناك أعمّ من وجود الرّأي في المسألة ، والعام لا يدلّ على الخاص ، فلا تكرار.

الثّاني : إنّ الإشكال هناك في مجرد الانعقاد ، والرأي هنا في الانعقاد والوجوب.

إذا تقرّر ذلك ، فالخلاف في العبد والمسافر قد سبق بيانه وتحقيق دليله ، أمّا المرأة ، فقال الشّيخ في النّهاية : إنّها إذا حضرت موضع الجمعة وجبت عليها (٢) واختاره ابن إدريس (٣) ، لرواية حفص بن غياث ، عن بعض مواليهم ، عن الصّادق عليه‌السلام : « إن الله فرض الجمعة على المؤمنين والمؤمنات ، ورخص للمرأة والمسافر والعبد أن لا يأتوها ، فإذا حضروها سقطت الرّخصة ، ولزمهم الفرض الأوّل » (٤).

والرّواية ضعيفة ، فان حفص بن غياث ضعيف ، ومع ذلك فهي مرسلة.

وقال الشّيخ في المبسوط بعدم الوجوب عليها (٥) ، وتبعه المصنّف ، وتردّد في‌

__________________

(١) إيضاح الفوائد ١ : ١٢٤.

(٢) النهاية : ١٠٣.

(٣) السرائر : ٦٣.

(٤) التهذيب ٣ : ٢١ حديث ٧٨.

(٥) المبسوط ١ : ١٤٣.

٤١٧

______________________________________________________

المعتبر (١) ، للأصل ، ولصحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام المتضمنة : أنّ الله وضع الجمعة عن تسعة ، وعدّ منهم الصّبي والمجنون والمرأة (٢) ، فالوجوب عليها عند الحضور يحتاج إلى دليل ، ولأنّها ليست أهلا للحضور في مجامع الرّجال ، فلا يناسب تكليفها بها ، وهذا هو الأصحّ. ولا فرق بين العجائز وغيرهنّ.

بقي شي‌ء ، وهو انّها إذا حضرت الجمعة ، هل تشرع منها وتجزئها عن الظّهر؟ ظاهر عباراتهم ينفي الوجوب ، وكراهية الحضور يشعر بذلك ، وبه صرّح المصنّف في النّهاية (٣) ويلوح ذلك من رواية أبي همام ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « إذا صلّت المرأة في المسجد يوم الجمعة ركعتين فقد نقصت صلاتها ، وإن صلت في المسجد أربعا نقصت لتصلّ في بيتها أربعا أفضل » (٤) ولا بعد فيه.

ولعل مراد الشّيخ في النّهاية بوجوبها عليها عند الحضور : أنّها تفعلها بنية الوجوب (٥) ، لأنّها إنّما تجزئ عن الظّهر إذا أوقعتها كذلك ، إذ لا قاطع في عبارته على إرادة الوجوب الحتمي ، وعلى هذه تنزّل رواية حفص بن غياث وإن ضعفت ، فلا يبقى بين الإخبار اختلاف.

واعلم أنّ شيخنا في الذّكرى صرّح بأنّ الخنثى المرأة في ذلك ، معلّلا بالشك في السّبب (٦) ، وكذا المصنّف في النّهاية (٧).

ويرد عليه ، أنّ تكليف الخنثى لمّا كان في باب العبادات دائرا مع أحوط الطّرفين ، وهو ما يحصل به يقين البراءة ، للقطع بثبوته وتوقف الجزم البراءة على ذلك ، كان المناسب في هذا الباب إيجاب الجمعة عليها ، وعدم انعقادها بها.

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٢٩٣.

(٢) الكافي ٣ : ٤١٩ حديث ٦ ، الفقيه ١ : ٢٦٦ حديث ١٢١٧ ، التهذيب ٣ : ٢١ حديث ٧٧.

(٣) نهاية الأحكام ٢ : ٤٢.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٤١ حديث ٦٤٤ ، وفيه اختلاف يسير.

(٥) النهاية : ١٠٣.

(٦) الذكرى : ٢٣٢.

(٧) نهاية الأحكام ٢ : ٤٥.

٤١٨

وتجب على أهل السواد ، وسكان الخيم مع الاستيطان ،

______________________________________________________

إلا أن يقال : إنّ جواز كونها امرأة منع من ذلك هنا ، لأنّ حضورها في مجامع الرّجال أمر مرغوب عنه عند الشّارع ، لما يترتب عليه من خوف الفتنة والفساد ، فألحقت بالمرأة حسما للمادة ، فعلى هذا لو تمكنت من فعلها في موضع لا تجتمع مع الرّجال ، فهل تجب أم لا؟ فيه تردّد.

قوله : ( وتجب على أهل السّواد وسكان الخيم مع الاستيطان ).

السواد : القرى ، قال في الصّحاح : سواد الكوفة والبصرة : قرأهما (١) ، والخيم جمع خيمة : وهي بيت تنبيه العرب من عيدان الشّجر قاله في الصّحاح (٢). والظاهر أنّ المراد هنا أعمّ من ذلك.

وفقه المسألة : أنّ وجوب الجمعة على أهل القرى كوجوبها على أهل المصر عند علمائنا أجمع.

ويدلّ عليه عموم الأوامر بالجمعة من غير تخصيص ، وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته عن أناس في قربة ، هل يصلّون الجمعة جماعة؟ قال : « نعم يصلون أربعا إذا لم يكن من يخطب » (٣). وخالف في ذلك أبو حنيفة (٤).

وكذا وجوبها على أهل الخيام وبيوت الشعر وأمثالهم ، إذا لم يكونوا ظاعنين ، بحيث يلزمهم القصر ، وتردّد فيه الشّيخ في المبسوط ثم قوّى الوجوب (٥) ، وهو المذهب ، والتقريب ما سبق.

__________________

(١) الصحاح ( سود ) ٢ : ٤٩٢.

(٢) الصحاح ( خيم ) ٥ : ١٩١٦.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٣٨ حديث ٦٣٣ ، الاستبصار ١ : ٤١٩ حديث ١٦١٣.

(٤) انظر : اللباب في شرح الكتاب ١ : ١١٠.

(٥) المبسوط ١ : ١٤٤.

٤١٩

ومن بعد بفرسخين فما دون يجب عليه الحضور ، أو صلاتها في موطنه إذا بعد بفرسخ ، ولو نقص عن فرسخ وجوب الحضور.

ولو زاد على الفرسخين وحصلت الشرائط صلاّها في موطنه أو حضر ، ولو فقد أحدهما سقطت.

والمسافر إن وجب عليه التمام وجبت عليه ، وإلاّ فلا.

______________________________________________________

قوله : ( ومن بعض بفرسخين فما دون يجب عليه الحضور أو صلاتها في موطنه إذا بعد بفرسخ ، ولو نقص عن فرسخ وجب الحضور ).

لما سبق من أنّ الحضور إنّما يسقط مع الزّيادة على فرسخين على الأصحّ ، فإذا اجتمعت شرائط الجمعة عنده وجب إمّا الحضور أو فعلها في موضعه تخييرا ، وإن اختل بعضها ، كما لو نقص البعد بينهما عن فرسخ تعين الحضور ، لفوات شرط الوحدة ، وكذا لو فقد غيره من الشّروط ، وإن تحقق هو ، لأنّه معدود من حاضريها.

قوله : ( ولو زاد على الفرسخين ، وحصلت الشّرائط صلاها في موطنه أو حضر ، ولو فقد أحدها سقطت ).

البعد بما زاد على فرسخين إنّما تسقط معه الجمعة إذا لم تجتمع شرائطها ثمة لانتفاء المقتضي حينئذ ، فلو اجتمعت تحتم فعلها قطعا لتحقق الموجب ، لكن لا يتحتم عليه فعلها في موطنه ، لأنّ الواجب هو الجمعة لا فعلها في موضع مخصوص ، فله أن يحضر إلى الموضع البعيد الّذي تقام فيه الجمعة بشرط أن يعلم أو يغلب على ظنّه إدراكها ، وإلاّ لم يجز تركها في موطنه ، لما فيه من التّغرير بالفريضة والتضييع لها.

قوله : ( والمسافر إن وجب عليه التمام وجبت عليه ، وإلاّ فلا ).

لأنّ المراد بالسّفر المانع من وجوبها : هو المعتبر شرعا ، فلو انتفى حكم اعتباره لم يؤثر ، وذلك فيما إذا نوى إقامة عشرة أيّام ، أو مضى عليه ثلاثون يوما على التّردد. في مصر ، وكذا لو صار كثير السّفر ، أو كان سفره معصية ، وبه صرّح المصنّف في‌

٤٢٠