جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ١

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ١

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

« إبطال الاستحسان » وردّ عمل المالكيّة بعمل أهل المدينة ، وأبطل العمل بالمصالح المرسلة ، وأنكر الأخذ بقول الصحابي لأنّه يحتمل أن يكون عن اجتهاد أخطأ فيه ، ورفض الحديث المرسل ، إلاّ مراسيل ابن المسيّب لأنّه يرى أنّ القوم متّفقون على صحّتها (١).

و « إنّ الذي أملاه الإمام الشافعي على تلاميذه بمسجد عمرو بن العاص بالفسطاط بمصر وقدم له برسالة في أصول الفقه ، وقد عرف هذا الكتاب باسم « الام » وكانت الرسالة هي أول ما كتب ودوّن في علم الأصول كما يروي ذلك ابن خلدون وغيره ، وكما ينبئ عنه الواقع ، وأنّه كان ابن النديم في الفهرست يقول : إنّ أبا يوسف الفقيه الحنفي سبق الشافعي في هذا ، والشيعة الإمامية يقولون أيضا أنّهم أول من كتب فيه » (٢).

ويحكى عن الغزالي في إحياء العلوم ، وعن أبي طالب المكي في كتاب قوت القلوب أنّ كتاب الام لم يصنّفه الشافعي وإنّما صنّفه تلميذه أبو يعقوب البويطي ، ثمّ زاد عليه الربيع بن سليمان وتصرّف فيه وأظهره بهذه المظهر (٣).

وله في الفقه مذهبان قديم وهي آراؤه المذكورة في كتبه نحو : الأمالي ، ومجمع الكافي ، وعيون المسائل ، والبحر المحيط وجديد ، وهي : الأم ، والمختصرات والرسالة ، والجامع الكبير ، والإملاء ، فالقديم ما عليه أهل مصر ، والجديد ما عليه أهل العراق ، وقيل : له مذهب ثالث بين المذاهب كما هو الظاهر من كتاب المجموع للنووي في نقله للأقوال في موارد متعددة.

المذهب الحنبلي : ينتسب إلى أحمد بن حنبل الشيباني المروزي المولود ببغداد سنة ١٦٤ ه‍ والمتوفّى بها سنة ٢٤١ ه‍.

درس الحديث على هيثم بن بشير وعلى الشافعي.

وصنّف المسند الذي يحتوي على نيف وأربعين ألف حديث ، رتّبه حسب‌

__________________

(١) أدوار علم الفقه : ١٥٨.

(٢) مناهج الاجتهاد : ٣٧.

(٣) أدوار علم الفقه : ١٥٩.

١

السند لا حسب أبواب الفقه فجمع لكلّ صحابي أحاديثه ، وقد توفّي قبل أن ينقّحه ويهذّبه ، وقد رواه عنه ابنه عبد الله بعد أن نقّحه وهذّبه ، واتّهم بأنّه أضاف للمسند بعض الأخبار الموضوعة.

ولم يكتب في الفقه إلاّ ما أجاب به عن بعض المسائل ، والمنقول عنه أنّه حرم على تلاميذه كتابة الفقه إلا أنّهم كتبوا الفقه ، وممّن كتب من تلاميذه عبد الملك بن مهران وجمع هو وغيره فتاويه وأقواله الفقهية وجعلوها أساسا لمذهبه الذي نسبوه إليه.

ومن أشهر أصحاب أحمد وتلاميذه أحمد بن هاني الأثرم الذي روى عنه الفقه والحديث ، وعبد الملك الذي كتب الفقه عنه ، وولداه صالح الذي ورث الفقه عن أبيه وولي القضاء على خلاف سنة أبيه ، وعبد الله الذي ورث الحديث عن أبيه وأشهر ما رواه المسند.

وطريقة أحمد في الاستنباط الفقهي أن يأخذ بالنص كتابا أو سنّة حتى المرسل والضعيف منها ، وكان يقدّم الكتاب على السنّة ، عند التعارض في الظاهر ، وكان إذا أعوزه النص أخذ بفتاوى الصحابة التي لم يختلفوا فيها. وعند الاختلاف بين الصحابة يرجّح قول من كان أقرب للكتاب أو السنّة ، فان لم يظهر له ما هو أقرب حكى الخلاف.

وكان أحمد ـ كما نقل عنه ـ يقدّم الحديث المرسل على القياس والرأي إذا لم يكن ما يعارضه من الكتاب أو السنّة أو قول الصحابي أو اتفاق على خلافه ، وإلاّ استعمل القياس والاستصحاب والذرائع ، والمصالح لمرسلة.

وكانت القاعدة عنده في العقود والشرائط هي قاعدة الإباحة إلاّ إذا قام الدليل على المنع (١).

ويحكى أنّ محمدا بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ ألّف كتابا ذكر فيه اختلاف الفقهاء ولم يذكر أحمد بن حنبل فقيل له في ذلك فقال : لم يكن فقيها وإنّما كان محدثا (٢).

__________________

(١) انظر أدوار علم الفقه : ١٦٤.

(٢) انظر أدوار علم الفقه : ١٦٥.

٢

وقد ظهر كما قلنا أكثر من خمسين مذهبا كلّ له إمامه المجتهد الخاص به ، ثمّ عملت السلطة على حصر المذاهب في أربعة مختارة هي : الحنفي والشافعي والمالكي ، والحنبلي ، وبدأ بذلك طور التقليد.

طور التقليد :

يتحدّد هذا الطور بأوائل القرن الرابع الهجري حيث انسدّ باب الاجتهاد عند أهل السنة ، ولم ير مجتهد بعد محمد بن جرير الطبري المتوفّى سنة ٣١٠ ه‍ ، وقد اختفى في هذا الطور ـ تقريبا ـ ظهور أئمّة مجتهدين مستقلّين معترف لهم بذلك من الرأي العام الفقهي.

على أنّه لم يخل ممّن ادّعى الاجتهاد المطلق ، فهذا عبد الوهاب السبكي صاحب الجوامع والطبقات يكتب في ورقة لنائب الشام :

« أنا اليوم مجتهد الدنيا على الإطلاق ، ولا يقدر أحد يرد عليّ هذه الكلمة » (١).

وكثر في هذا الطور المجتهدون المنتسبون ، وهم الذين اجتهدوا في حدود المذهب الذي يتبعونه.

ومن هؤلاء عند الحنفيّة : أبو جعفر الطحاوي المتوفّى ٣٢١ ه‍ ، والجصاص المتوفّى ٣٧٠ ه‍ ، وشمس الأئمة السرخسي المتوفى ٤٨٣ ه‍.

ومنهم عند الشافعيّة : القفال الكبير الشاشي المتوفّى ٥٠٧ ه‍ ، وإمام الحرمين المتوفى ٤٧٨ ه‍ ، والرافعي المتوفى ٦٢٣ ه‍ ، والغزالي المتوفّى ٥٠٥ ه‍ ، والنووي المتوفى ٦٧٦ ه‍.

ومنهم عند المالكية : ابن أبي زيد القيرواني المتوفى ٣٨٦ ه‍ ، وابن رشد المتوفى ٥٢٠ ه‍ ، واللخمي المتوفى ٤٧٨ ه‍.

ومنهم عند الحنابلة : أبو بكر الخلال المتوفّى ٣١١ ه‍ ، وموفق الدين بن قدامة المتوفّى ٦٢٠ ه‍ ، وابن القيم المتوفّى ٧٥١ ه‍.

__________________

(١) موسوعة جمال ١ : ٣٧.

٣

وتلاحظ كثرة المجتهدين المنتسبين عند الشافعية ، فهذا السيوطي في القرن العاشر الهجري يدّعي الاجتهاد المطلق.

« وبعد أوائل القرن العاشر الهجري لم يبق سلطان غير سلطان التقليد ، وجاء زمان لم يبق من الاجتهاد إلا اسمه ، وأصبح دعواه بل دعوى إمكان وجوده ذنبا لا يغتفر ، واقتصرت وظيفة العلماء في اختصار الكتب وشرحها والتعليق عليها.

نعم ظهر علماء أمثال : الإمام الشوكاني و. ادّعوا الاجتهاد المطلق ، أو قيل : انّهم مجتهدون ، لكن ظهور هؤلاء يشبه ظهور بعض النجوم في ليل مظلم ، انقشع عنها السحاب لمحة وأخفاها عن الأنظار ساعات طوالا ».

وقد شكا بعض العلماء من زوال سلطان العلم وسيطرة الجهل على العقول (١).

الوثوق بالمؤلّفات :

كان الوثوق بالمؤلّفات يعتمد أسسا معينة ، فالرواية المشهورة أقوى من الرواية النادرة أو الرواية غير المقول بها.

ولذا ترى الحنفيّة يقدّمون ما في كتب ظاهر الرواية ـ كتب محمد الستّة ـ على ما يخالفه ممّا جاء في كتب النوادر ، لأنّ الرواية الأولى مشتهرة دون الثانية.

والشافعيّة يقدمون ما رواه الربيع المؤذن في ( الأم ) على ما رواه الزعفراني عن الشافعي للسبب نفسه.

والمالكيّة يقدمون ما في مدّونة سحنون على ما روي في غيرها.

وقد عنى الفقهاء بالقواعد الفقهيّة وكان أكثر من عنى بالقواعد فقهاء الحنفيّة فقد كانوا أسبق من غيرهم في وضع القواعد والاحتجاج بها ، وذلك لأنّ طبيعة فقههم واتجاهم نحو الرأي ووجود الفقه الافتراضي بينهم وتوسعهم في‌

__________________

(١) انظر : فلسفة التشريع الإسلامي للأستاذ صبحي محمصاني : ١٨٣ ، والفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي للحجوي ٤ : ٢٦٩ ، والرسالة الحميديّة للشيخ حسين بن محمد الطرابلسي : ٢٤٥ ، وأعلام الموقعين لابن القيم ٢ : ٣٥٦ ، والاجتهاد : ٩١.

٤

الفروع بناء على ذلك جعلهم يعملون على إيجاد قواعد كليّة تحكم هذه الفروع المتنافرة.

وقد جمع أبو طاهر الدباس فقيه الرأي بالعراق أهمّ قواعد المذهب في سبع عشرة قاعدة كليّة ، ثمّ أضاف إليها الفقيه الكرخي المتوفّى سنة ٣٤٠ ه‍ والمعاصر للدباس بعض ما يمكن اعتباره قواعد حتى أوصلها إلى سبع وثلاثين ، ثمّ جاء الدبوسي الحنفي المتوفى سنة ٤٣٠ ه‍ فألّف كتاب « تأسيس النظر » وجعله مشتملا على ست وثمانين قاعدة.

ثمّ وضع العز بن عبد السلام الفقيه الشافعي المتوفّى سنة ٦٦٠ ه‍ كتابه « قواعد الأحكام في مصالح الأنام » كما وضع القرافي المالكي المتوفّى سنة ٦٨٤ ه‍ كتاب « الفروق » ، ثمّ جاء السبكي المتوفّى سنة ٧٥٦ فوضع كتابه « التاج » ، ثمّ ابن رجب الفقيه الحنبلي المتوفّى سنة ٧٩٥ فوضع كتابه « القواعد الفقهية » ثمّ جاء السيوطي الفقيه الشافعي المتوفى سنة ٩١١ ه‍ من بعد هؤلاء فوضع كتابه « الأشباه والنظائر » ثمّ جاء ابن نجيم المصري الفقيه الحنفي المتوفّى سنة ٩٧٠ فوضع كتابا أيضا أسماه « الأشباه والنظائر » ، ثمّ جاء أبو سعيد الخادمي المتوفّى حوالي ١١٥٤ ه‍ فسرد في خاتمة كتابه « مجامع الحقائق » مجموعة كبيرة من القواعد الفقهية مرتّبة ترتيبا أبجديا » (١).

وبمرور الزمن وقلّة النوابغ من الفقهاء وقلّة المتجرّدين منهم فقد سار أكثرهم ـ بعد حصر المذاهب ـ في ركاب السلطة ، وتحوّلت الدراسة والاعتماد العملي ، إلى المختصرات والمتون ، وانصرفت الهمم إلى شرحها والتعليق عليها.

فاشتهرت عند الحنفية مختصرات الطحاوي والكرخي والقدوري وغيرها.

واشتهر عند الشافعية مختصر المزني والمهذّب والتنبيه للشيرازي والوجيز للغزالي وغيرها.

واشتهر عند المالكية مختصر ابن أبي زيد وتهذيب البرادعي ومختصر ابن الحاجب.

__________________

(١) مناهج الاجتهاد في الإسلام : ٣٨ ـ ٣٩.

٥

وكان هذا التهاون في دراسة الفقه والترك لمنابعه الأصيلة ، واعتماد كتب انقطعت سلسلة الرواية لها ، من عوامل تأخّر علم الفقه.

لقد فتح هذا التهاون بابا واسعا من الشرّ ، حتى حمل التلمساني والمقري من فقهاء المالكية على القول بأنّ كثرة التأليف قد أفسدت الفقه ، لأنّ الرواية قد تركت وانقطعت سلسلة الاتّصال ، فكثر التصحيف ، ونقلت الأحكام من كتب لا يدرى ما زيد فيها وما نقص ، وقد كان أهل المائة السادسة وصدر من السابعة لا يجوّزون الفتيا من كتاب « التبصرة » للّخمي ، لأنّها لم تصحح على مؤلّفها ولم تؤخذ عنه ، وأكثر الناس اليوم لا يسيرون على هذا النمط ، ولهذا كان التأليف سببا لفساد الفقه (١).

المدارس وأثرها :

كانت الدراسة الدينيّة عموما من مهام المساجد وبيوت العلماء ، وقد استمرت على ذلك عدّة قرون.

وكان هذا من الأمور التي تفسح بعض الحرّية أمام الأساتذة والطلاب في البحث والنقد والتحليل.

ثمّ كانت أوّل مدرسة هي المدرسة النظاميّة التي أنشأها الوزير نظام الملك بنيسابور ، ثم توالى إنشاء المدارس النظاميّة في بغداد ودمشق وغيرهما من البلاد.

وكثر إنشاء المدارس في عهد الأيوبيين والمماليك في بلاد مصر والشام وما والاها ، كما كثرت في عهد الأتراك العثمانيين ، وكان من أشهرها مدارس الأستانة الثمان (٢).

وكانت المدارس تقبل من يخضع لقوانينها ، وتترك الفضلاء الذين همّهم حرّية الدرس والبحث (٣).

__________________

(١) موسوعة جمال ١ : ٥١.

(٢) انظر موسوعة جمال : ٤٠.

(٣) يلاحظ أن المدارس الشيعية لم تخضع لنظام الحاكم يوما ما على طول تاريخها من صدر الإسلام إلى الآن ، فكانت حرّة في البحث والدرس واستمر الاجتهاد إلى يوم الناس هذا.

٦

وقد كان بناء أتباع السلطان للمدارس ووقفهم لها الأوقاف التي تديمها سببا لتدخل الحكومات في شأن هذا العلم الجليل ، ثمّ في الإشراف عليها ، ثم تولّي أمرها جملة وتفصيلا كما هو الحال في مصر وفي أكثر البلاد.

وبذلك انقضى عهد التعليم والتعلّم الفقهي الحر ، اللهم إلاّ في اليسير من الأماكن.

وقد حمل التلمساني والمقري من فقهاء المالكيّة في القرن الثامن الهجري على أن قالا : إن المدارس كانت سببا في ضياع الفقه (١).

الفقه الشيعي

ـ أسسه وأدواره ـ

إنّ القرآن الكريم هو رسالة الله إلى الناس عموما ، وهو الكتاب الخالد الذي ينطق بالحق ، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، الكتاب الذي تكفّل الله تعالى بحفظه فقال( إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (٢).

القرآن الكريم هو المصدر الأوّل للشيعة في كلّ ما يهمّهم من أمور دينهم ودنياهم ، لا يقدّمون عليه شيئا مهما كان.

ونحن نعلم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انشغل في مكّة المكرّمة ، بتثبيت أصول العقيدة الإسلامية في النفوس ، وكان القرآن الكريم واكب هذه البداية الرائعة للدين الإسلامي ، فكانت الآيات القرآنية النازلة في مكّة المكرمة تعالج ـ في الأعم الأغلب ـ هذه الناحية المهمّة.

فالآيات القرانية المكّية والتي تمثّل ثلثي القرآن. تعنى بالجانب العقائدي والدعوة لله وللرسول وللآخرة ، وذكر بعض الحوادث الهامة ، كمعركة بدر والأحزاب وما شاكلها.

الدور الأول ( دور التشريع )

ثمّ هاجر صلوات الله عليه وآله إلى المدينة ، فأسّس الدولة الإسلامية‌

__________________

(١) انظر موسوعة جمال : ٤٠.

(٢) الحجر ١٥ : ٩.

٧

الأولى ، والدولة ـ كما نعلم ـ تحتاج إلى قوانين لتنظيم أمور المجتمع الاقتصادية والسياسية ... فكان القرآن الكريم ينزل مبيّنا الطريق الصحيح للإنسان في هذه الحياة.

وأمّا الآيات القرآنية النازلة على الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة المنورة فهي ثلث القرآن تقريبا تبيّن الأحكام والقوانين الشرعيّة ، كمسائل البيع والرهن والإجارة والحقوق والحدود ، إضافة للأحكام العباديّة كالحجّ والزكاة والجهاد وغيرها.

هذه الآيات الكريمة التي نزلت في المدينة المنورة هي التي أصبحت ـ فيما بعد ـ المصدر الأساس لفقهاء المسلمين في استنباط الأحكام التي يحتاجها المجتمع الإسلامي ، والتي تنظّم حياة المسلمين ، وتضمن لهم سعادة الدارين.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن للنّاس هذه الأحكام.

واستمر بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأئمّة المعصومون من آله يقومون مقامه في تبيين الأحكام الشرعيّة.

وقد دوّن أمير المؤمنين عليه‌السلام كتاب « الجامعة » وهي من إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطّ عليّ عليه‌السلام وهي في جلد أدم طولها سبعون ذراعا ، وقد تواتر نقل مضمونها في أحاديث الأئمة عليهم‌السلام.

وكان لسلمان رضي‌الله‌عنه مدونة من حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذا الدور هو دور التشريع ، وهو أول أدوار الفقه الشيعي ، وقد استمر إلى سنة ٢٦٠ ه‍.

ويخطئ من يظن أنّه لم يكن في هذا الدور فقهاء وعلماء في الشريعة فقد كان النبي والأئمة عليهم‌السلام يؤكدون لإعلام شيعتهم على الإكثار من البحث في أمّهات المسائل العلميّة ، وما إرسال الإمام الصادق عليه‌السلام لهشام إلاّ إحدى تلك الصور ، فكانوا يهيّؤنهم لمراحل أقوى وأكثر.

٨

وكان الإمام عليه‌السلام يقول : « علينا إلقاء الأصول وعليكم بالتفريع » (١).

فعيّن الإمام الأصول والقواعد الكليّة ، وما على العلماء من الأتباع إلاّ الاستنتاج والتفريع والاستنباط (٢).

ومن أهمّ فقهاء هذا العصر هم الأئمة عليهم الصلاة والسلام ، وكان جمع كثير من شيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام من أتباع هذه المدرسة ، منهم : أبو رافع إبراهيم مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان من خيار الشيعة ، ولأبي رافع كتاب « السنن والأحكام والقضاء » (٣).

قال الذهبي في ميزان الاعتدال : فهذا ـ أي التشيع ـ كثر في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق ، فلو ردّ حديث هؤلاء ـ أي الشيعة ـ لذهب جملة الآثار النبوية (٤).

في كتاب الكافي عن إسحاق بن جرير ، قال : قال أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : « كان سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر وأبو خالد الكابلي من ثقات علي بن الحسين عليه‌السلام » (٥).

وقال ابن حجر عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته في جميع البلدان ، وروى عنه الأئمّة الأكابر كيحيى بن سعيد وابن جريج ومالك والسفيانيين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السختياني » (٦).

فكانت المدينة في عهد الإمام الباقر والصادق عليهما‌السلام مدرسة كبرى للفقه الشيعي ، ومركزا عظيما من مراكز الإشعاع الفكري.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٤١.

(٢) انظر الكافي ٣ : ٣٣ ، ٨٣ ، ٨٨ ، التهذيب ١ : ٣٦٣ ، الاستبصار ١ : ٧٧ ، ٧٨ ، الوسائل ١ : ٣٢٧ ، جامع أحاديث الشيعة ١ : ١١٦ ، ١١٨.

(٣) أعيان الشيعة ١ : ١٢٣.

(٤) ميزان الاعتدال ١ : ٥.

(٥) الكافي ١ : ٣٩٣ ١.

(٦) الصواعق المحرقة : ١٩٩.

٩

وكان من جراء ذلك أن شدّد الجهاز الحاكم على الإمام الصادق عليه‌السلام ، وراقبه مراقبة شديدة ، للحدّ من نشاطه وإيقاف المدّ الساري نحوه من قبل الفقهاء والعلماء والناس عامّة للانتهال من نمير علمه الفيّاض ، ولكن التيّار أخذ طريقه ، واكترع العلماء من ذلك المنهل الصافي رغم تشديد السلطة.

وكان طلاّب العلم يتحيّنون الفرص للوصول إلى الامام عليه‌السلام ، وخوفا من عيون الخلفاء كانوا يقصدونه ليلا ، ومع كلّ ذلك سار الفقه الشيعي شوطا واسعا ، وترك لنا التاريخ تراثا عظيما من ذلك الفكر الثابت.

وقد ضبط الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي في آخر الفائدة الرابعة من الوسائل (١) من الكتب المصنّفة خلال حياة الأئمّة الاثني عشر عليهم‌السلام ( ستة آلاف وستمائة كتاب ).

كما ويجب أن لا ننسى أنّ دور الفقهاء أنفسهم بإعطاء الزخم المعنوي والفكر الثقافي ، وإمدادهم بما يجود به فكرهم الصائب من إرشادات قيّمة كان عاملا حساسا وهاما في تقدم تلك المدرسة.

ولأصحاب الأئمة آراء كثيرة تعارض أقوال الأصحاب الآخرين ، ومع ذلك فلم يطعن عليهم أيّ أحد. واعتمد الشيعة في اجتهادهم على الاستدلال المنطقيّ والتحليل العقليّ في اطار القرآن والسنة.

وقد اعتمد الكثير من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام على الاستدلال العقلي ، واتهموا بذلك انّهم يعملون بالقياس ، منهم : الفضل بن شاذان النيشابوري القمي المتوفّى سنة ٢٦٠ ه‍ ، المتكلم الشيعي المعروف ومؤلّف كتاب الإيضاح وآراؤه معتبرة ومورد بحث في الطلاق والإرث ومسائل متفرقة أخرى (٢).

ومنهم : يونس بن عبد الرحمن الذي تعدّ نظراته في مباحث خلل الصلاة والزكاة والنكاح والإرث مورد الاعتماد (٣).

وزرارة بن أعين وجميل بن دراج من أخصّ صحابة الإمام الصادق‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٩.

(٢) الكافي ٦ : ٩٣ ، و ٧ : ٨٨ ، ٩٠ ، ٩٥ ، ١١٦.

(٣) الكافي ٧ : ٨٣ ، ٨٤ ، ١١٥ ، ١٢١ ، ١٢٥.

١٠

عليه‌السلام ، وعبد الله بن بكير من فقهاء الشيعة وفتاواهم كثيرة (١) وكان علماء الشيعة في تلك العصور من أعظم العلماء على الإطلاق ، فلم يعد هناك متكلّم يمكنه الوقوف أمام هشام بن الحكم.

علما انّ التعصب المذهبي بلغ بهم إلى أن يقول أبو الحسين الكرمي رئيس الفقه الحنفي في العراق ، المتوفّى سنة ٣٤٩ ه‍ : « إنّ كلّ آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤوّل أو منسوخ ».

فكان لعلماء الشيعة الفضل في إرجاع العلماء إلى التأليف على ضوء الكتاب والسنّة.

وقد كانت لهم اليد الطولى في إخراج فقهاء السنّة من التقليد ، لكثرة احتجاجهم عليهم ، ومباحثتهم معهم فيه ، ففي بغداد عاصمة الدولة الإسلامية تجد فقهاء الشيعة قد ناقشوا أرباب المذاهب السنيّة بصورة حادّة في النوادي والمجالس العامّة.

وكان الفقهاء أحرارا في انتخاب الآراء حسب الاستنباطات التي يتوصّل إليها عقلهم ، حتّى وصل الحد إلى أنّ فقهاء الشيعة يعارض بعضهم بعضا في ذلك الوقت ، وفي حضور الإمام ولم يردّهم عليه‌السلام عن ذلك ، ومن تلك المناظرات ما كتبه هشام في رد مؤمن الطاق (٢).

وكانت المدوّنات الحديثية في تلك الفترة ناقصة وغير كاملة إلاّ مدوّنة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كما ولم تكن في تلك الفترة كتب فقهيّة تعنى بنقل الفتاوى ، بل إنّ الموجود هو تلك الموسوعات الحديثية ، كما هو الحال في صياغة المقاييس الخاصة بالاجتهاد ومعالجة الأحاديث المتعارضة ، فكانوا يرجعون إلى الإمام عليه‌السلام مباشرة لوجوده بين ظهرانيهم يستمدون منه القول الفصل.

فتتحدّد معالم هذه المدرسة في عدّة نقاط هامّة من أنّ الاجتهاد لا زال بدائيّا في محتواه ، لوجود الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الميامين‌

__________________

(١) راجع كشف القناع : ٨٢ ، ٨٣ ، ١٩٨ ، ٢٤٤.

(٢) رجال النجاشي : ٤٣٣.

١١

عليهم‌السلام ، ولعدم حصول البون الشاسع بظهور المسائل الخلافيّة بين المذاهب الإسلاميّة ، أو بالأحرى عدم وجود مثل تلك المدارس.

الدور الثاني ( دور التدوين )

يبدأ هذا الدور من بداية الغيبة الصغرى سنة ٢٦٠ ه‍ الى انتقال الشيخ الطوسي رحمه‌الله الى النجف الأشرف سنة ٤٤٨.

وهذا الدور يتّصل بالدور السابق عن طريق كتب الحديث التي جمعت أصولها في المرحلة السابقة ، وكانت الستة آلاف كتاب والأربعمائة الأصول.

وقد كان فقهاء هذا الدور ينقسمون الى فئات ثلاث :

١ ـ علماء الفقه الذين يعتمدون الحديث ، ويتأثّرون خطى أهل البيت عليهم‌السلام وقد أثّر مسلكهم هذا في كتبهم ، فهي كتب فقهيّة لا تتجاوز ألفاظ الأحاديث الشريفة.

ومن هؤلاء الفقهاء :

أ ـ عليّ بن بابويه ـ والد الشيخ الصدوق ـ ومن كتبه الفقهيّة كتاب الشرائع وهو رسالته الى ولده.

ب ـ ولده الشيخ الصدوق ، وله كتاب المقنع ، وكتاب الهداية.

ج ـ ثقة الإسلام الكليني ، وله الكتاب المعروف بالكافي وقد استغرقت الأحاديث الفقهية خمسة أجزاء من أجزائه الثمانية.

وقد كان المحدّثون الأوائل كالصدوق والكليني وغيرهم ، وخصوصا خريجو مدرسة قم ينظرون الى الاستدلالات العقليّة بأنّها نوع من القياس الذي نهى عنه الامام ، ولكن البعض رأوا ذلك مشروعا وعملوا على ضوئه. وانّ أصحاب الحديث كانوا يرون أنّ النهي الوارد من الأئمة عن العمل بالقياس في الروايات شامل لتلك الاستدلالات.

وقد كتب الكثير من علماء الشيعة في رد الاجتهاد كالنوبختيين وأبو القاسم علي بن أحمد الكوفي (١).

__________________

(١) رجال النجاشي : ٢٦٥.

١٢

٢ ـ علماء يعتمدون على مبانيهم الأصولية العقلية ، ولهم طريقتهم الخاصّة بهم في الاستدلال الفقهي ، وكانوا يستدلون بالعقل على كثير من الأمور منهم :

أ ـ أبو محمد الحسن بن علي بن أبي عقيل العماني الحذاء ( ابن أبي عقيل ) شيخ فقهاء الشيعة ، والظاهر أنّ الزعامة الدينيّة الشيعيّة كانت له بعد الغيبة الصغرى ، انتقلت إليه بعد آخر السفراء الأربعة.

وهو أول من أدخل الاجتهاد بشكله المعروف إلى الأبحاث العلمية ، وصنف ( المستمسك بحبل آل الرسول ) الكتاب الذي كان في القرنين الرابع والخامس من أهم المراجع الفقهية عند الشيعة ، وهو أول من حرّر المسائل الفقهيّة ، وذكر لها الأدلّة ، وفرّع عليها الفروع في ابتداء الغيبة الكبرى.

وقد أثنى الشيخ المفيد على كتابه ( المستمسك ).

وكان ابن أبي عقيل أوّل من طرح مسألة ( عدم انفعال الماء القليل ) وتبعه على ذلك آخرون ، وللسيد صاحب الرياض رسالة في ذلك.

وقد أدرك زمان السمري آخر السفراء الأربعة ، وعاصر الكليني والصدوق علي بن بابويه ، وقد استجازه جعفر بن قولويه صاحب « كامل الزيارة » المتوفّى ٣٦٨ ه‍ ، وقام بشيخوخة مذهب آل البيت عليهم‌السلام بعده ابن الجنيد.

ب ـ أبو عليّ محمد بن أحمد بن الجنيد الكاتب الإسكافي المتوفّى عام ٣٨١ ه‍ ، من أعلام القرن الرابع الهجري ، ومؤلّف كتاب « تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة » و « الأحمدي في الفقه المحمدي » ، والأخير من الكتب التي كانت موجودة حتّى عصر العلاّمة الحلي ، ولكنّها تلفت بعد ذلك ، ولم يعد لها أيّ خبر يذكر.

وقد أطلق اصطلاح القديمين على هذين العلمين وهو من إبداع ابن فهد الحلي العالم الشيعي في القرن التاسع الهجري.

ولكن الطائفة لم تأخذ بأقوال ابن الجنيد وابن أبي عقيل لأنّهما كانا يعملان بالقياس والرأي ، وكانا يعتبرانه حجّة ، ولذا لم يعتمد على أقوالهم.

١٣

وكان ابن أبي عقيل لا يرى حجّية خبر الواحد ، وكانت فتاواه تعتمد على الأمور المسلّمة في القرآن والحديث ، ولم يعتمد إلاّ على الأحاديث التي لا شكّ ولا شبهة فيها ، والتي هي قويّة محكمة ، وكانت آراء ابن أبي عقيل مورد تقدير واحترام العلماء الأعلام.

واما ابن الجنيد فقد كان يرى حجّية الأحاديث المذهبيّة ، الغير القطعيّة.

ولأجل الدفاع عن نفسه أمام هجمات علماء زمانه ألّف كتبا عديدة منها « كشف التمويه والإلباس على أغمار الشيعة في أمر القياس » و « إظهار ما سرّه أهل العناد من الرواية عن أئمّة العترة في أمر الاجتهاد » وهو أثر بين في كيفية استدلاله في الفقه ، وكتابه « المسائل المصرية » أثر بين في طريقته الفقهيّة.

وقد ظهر نتيجة لاختلاف مسلك المحدّثين ، ومسلك القديمين في الفقه ، مسلك ضعيف لم يستمر طويلا ، وهو مسلك يعتمد الظاهر في الأحكام الفقهيّة ، ومن أهمّ القائمين به أبو الحسين الناشي علي بن عبد الله بن وصيف ، المتوفّى ٣٦٦ ه‍ ، وقد انقرض ولم يبق منه أثر في الفقه الشيعي.

٣ ـ علماء جمعوا بين المباني العقليّة والحديث في استنباط الأحكام الشرعية ، ومن إعلامهم :

أ ـ الشيخ المفيد المتوفى سنة ٤١٣.

كان مجددا في الفقه والكلام بلا شكّ وقد استطاع أن يفرض وجود مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام على الأجواء العلمية المتحكّمة آنذاك في بغداد.

قال اليافعي في مرآة الجنان : عالم الشيعة ، وإمام الرافضة ، صاحب التصانيف الكثيرة ، المعروف بالمفيد ، وبابن المعلم أيضا ، البارع في الكلام والجدل والفقه ، وكان ينازع كلّ عقيدة بالجلالة والعظمة ، ومقدّما في الدولة البويهية ، وكان كثير الصدقات عظيم الخشوع وكثير الصلاة والصوم حسن اللباس (١).

وقد تمكّن المفيد من أن يكهرب الجو بنداوته العلميّة ، ويوجه إليه الأنظار وتطلع إليه الأفئدة تروم الارتشاف من ينابيع علمه ، وتجتذب نحوه القلوب‌

__________________

(١) مرآة الجنان ٣ : ٢٨.

١٤

للاستزادة من منهلة ، وكاد أن يستحوذ على لبّ أصحاب المذاهب الأخرى ، وكانت ندوته عامرة بالنقد والإبرام والنقاش الحر ، وقصده القاصدون من أقطار نائية للاغتراف من معينة ، ومنهم الشيخ أبو جعفر الطوسي.

وهو من أجلّة تلاميذ ابن الجنيد وقد استفاد منه كثيرا (١).

وكان يؤكّد على مدى استعداده وعظمة فكره ، ولكنّه عارضه وحارب طريقته في الاستدلال وخطّأه في موارد عديدة ، وألّف كتبا عديدة في ردّه ، منها : المسائل الصاغانية ، والمسائل السروية ، ورسالتان الاولى في ردّ المسائل المصرية باسم نقض رسالة الجنيدي إلى أهل مصر ، والأخرى باسم النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي.

تتلمذ المفيد على جعفر بن محمد بن قولويه ، ولكنّه تأثر بأفكار وأراء ابن أبي عقيل.

وقد اعتمد تلاميذ المفيد على آراء استاذهم في ردّ ابن الجنيد.

علما بأنّ الشيخ المفيد كان صريحا ، وشديد اللهجة في ردّ تلك الأفكار التي نشأت عن طريقة أهل الأخبار ، حتّى ظنّ البعض أنّ ذلك منه ـ رحمه‌الله ـ ليس لصراحة لهجته ، ولكنّه كان يرى أن لا طريق إلى إصلاح العلم ودوام الدين إلاّ بالشدّة معهم ، وإلاّ لا ندثرت معالم الدين.

وقد ألّف « مقابس الأنوار في الرد على أهل الاخبار » في هذا الباب.

وأهمّ كتبه الفقهية كتاب « المقنعة » وهو المتن الذي شرحه الشيخ الطوسي في كتابه الكبير « تهذيب الأحكام ».

ب ـ الشريف المرتضى علم الهدى المتوفى ٤٣٦ ه‍.

وقد اتبع أستاذه في ردّ المحدّثين ، وألّف عدّة مسائل في ذلك ، من أهمّها : جوابات المسائل الموصلية الثالثة ، ورسالة في الردّ على أصحاب العدد ، ورسالة في إبطال العمل بأخبار الآحاد.

ومن أهمّ كتبه الفقهية : كتاب الانتصار ، والناصريات ، وعشرات‌

__________________

(١) فهرست الشيخ : ١٣٤.

١٥

الرسائل الفقهية. وهو من كبار علماء هذا الدور بل علماء الشيعة على الإطلاق.

وكان من نتيجة حملات المفيد والمرتضى أن اندثر مكتب القمّيّين وأهل الحديث.

ج ـ سلاّر بن عبد العزيز ، المتوفّى ٤٦٣ ه‍ ـ ومن أهمّ كتبه الفقهيّة كتاب المراسم.

الدور الثالث : ( دور التطوّر ) :

وفارس هذا الدور الخطير من أدوار الفقه الشيعي هو شيخ الطائفة محمد ابن الحسن الطوسي المولود سنة ٣٨٥ ه‍ والمتوفّى سنة ٤٦٠ ه‍.

قصد الشيخ بغداد للاستفادة من علوم المفيد والمرتضى ، فكان له ما كان ولازمهم ملازمة الظلّ ، وعني به المفيد والمرتضى معا ، وعيّن له المرتضى في كلّ شهر اثني عشر دينارا ، ولازمه ثلاثا وعشرين سنة حتّى استقلّ شيخ الطائفة بالزعامة والإمامة للطائفة ، فأصبح علم الشيعة ومنارها ، يقصده الوفّاد لحلّ مشاكلهم ، وإيضاح مسائلهم والتلمذ على يده.

كانت مدرسة بغداد تمهيدا لبلورة الأفكار ولجعلها ممتازة في كيفيّة الاستنباط ، وفتحا جديدا في عالم الفقه الشيعي ، والخروج عن حدود استعراض السنّة ونقل الحديث.

لقد كان لتمركز الفقه الشيعي في بغداد وفي تلك الظروف الغامضة المشحونة بالفتن والاضطرابات أثر بالغ في بلورته حيث تمكّن من فرض وجوده على تلك الأجواء العلميّة ، فألّف الشيخ الطوسي كتابه « الخلاف » ليكون في مقابلهم ، وتفرّغ بعد ذلك فقهاء الشيعة في كتابة الكتب عن الخلاف والفقه المقارن وبشكل موضوعي ومسهب كالغنية والتذكرة وما شاكلها.

وبعد أحداث بغداد المؤلمة هاجر الشيخ الطوسي إلى النجف ليؤسّس مدرستها العلمية ويبدأ بتربية جيل جديد ، مع تطوير في منهجيّة الحوزة العلمية وممارسة زعامة الطائفة.

وكانت مدرسة الشيخ تقوم على أساس مدرسة المتكلّمين ومدرسة أهل‌

١٦

الحديث ، وقد تمكّن باستدلالاته العلمية القويّة ، وتفريعاته على أمّهات المسائل الفقهيّة من تأليف كتاب « المبسوط » وكتاب « الخلاف » ، والكتابان ذوا محتوى علمي جبار ، يعكس مدى مستوي الفكر الشيعي آنذاك.

وكان الشيخ الطوسي أوّل من عالج الفقه الاستدلالي مشروحا مبسّطا في كتابه « المبسوط » وقد كتب في مقدمة كتابه أنّ الإمامية لم يكونوا يفرعون الفروع إلى زمانه ، وكانوا يقفون عند النصوص التي وصلت إليهم من المتقدّمين من المحدّثين.

ولقد اعتمد الشيخ على الإجماعات كثيرا ، وذلك عند إعواز النصوص وعدم وجود دليل ، معتقدا أنّ إجماع الطائفة يوحى بوجود قول في الأمر ، فخطا الفقه والبحث المنهجي خطوات نحو الإمام في هذه المرحلة الجديدة ، فدخل دورا آخر بعد أن ترك أدوارا خاض غمارها في ثلاثة قرون.

وقد أوجب الشيخ الطوسي في كتاب « العدّة » العمل بالخبر من طريق المخالفين إذا لم يكن للشيعة في حكمه خبر مخالف ، ولا يعرف لهم فيه قول كيف وقد عملت الشيعة بما رواه حفص بن غياث العامي الكوفي القاضي وغيره من غير الشيعة.

وانّهم يأخذون بالإجماع إذا كان كاشفا كشفا قطعيا عن سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ملئت كتبهم الفقهية من الاستدلال به ، ككتب الشيخ والسيد المرتضى والعلاّمة وغيرهم ، حتّى أنّ بعض علماء الشيعة يعمل بالإجماع الذي ينقله مالك عن أهل المدينة في موطّئه ، لكشفه عن رأي المعصوم عنده ، ويعمل الشيعة بالرأي إن كشف عن الحكم الشرعي كشفا قطعيا لا ظنيا لعدم حجية الظن (١).

وألّف الشيخ كتاب « النهاية » الذي كان محور الدراسات الحوزويّة لعدّة قرون.

وكان فقه شيخ الطائفة ـ بما فيه من تطوّر ملحوظ ودقّة متناهية وتطوّرا في‌

__________________

(١) أدوار علم الفقه : ٦٢.

١٧

أساليب الاستنباط ـ حاكما على الأوساط العلميّة الشيعيّة لقرون متمادية ومسيطرا على الفكر الإمامي قاطبة.

وبقي علماء الشيعة مدّة طويلة لا يتعدّون في أفكارهم نقل أقوال الشيخ وشرحها ، فلذلك سمّوا بالمقلّدة ، لأنهم كانوا لا يتعدّون تقليد الشيخ.

الدور الرابع : ( دور الجمود والتقليد )

وقد أثّرت شخصيّة الشيخ الطوسي العلميّة العظيمة فيمن جاء بعده من فقهاء الشيعة. فكانوا لا يخرجون عن نتائج استنباطه ، فلم يبرز في هذا الدور فقيه مستقلّ غير تابع لمدرسة الشيخ الطوسي

وكانوا مهتمين بنقل آراء الشيخ أو شرحها وإيضاحها ، فسمّوا بالمقلّدة.

استمرّ هذا الدور حدود قرن من الزمان أي منذ وفاة الشيخ رحمه‌الله إلى ظهور ابن إدريس في منتصف القرن السادس الهجري.

يقول سديد الدين الحمصي العالم الشيعي المشهور في نهاية القرن السادس : إنّ الشيعة بعد الشيخ الطوسي لم يكن لهم فقيه وصاحب نظر ، بل كان كلّ الفقهاء يعبّرون عن آراء الشيخ وينقلون أفكاره فقط.

ومن أشهر فقهاء هذا الدور نجله أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي المتوفى حدود سنة ٥١٥ ه‍.

ونظام الدين سليمان بن حسن الصهرشتي مؤلّف كتاب « إصباح الشيعة بمصباح الشريعة ».

وعلاء الدّين علي بن الحسن الحلبي مؤلّف كتاب « إشارة السبق إلى معرفة الحق ».

وأبو علي الفضل بن الحسن أمين الإسلام الطبرسي ( ٥٤٨ ه‍ ) مؤلّف كتاب « المنتخب من مسائل الخلاف ».

وعماد الدين محمد بن علي بن حمزة الطوسي المتوفّى بعد ( ٥٦٦ ) مؤلّف كتاب « الوسيلة إلى نيل الفضيلة ».

١٨

وقطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي ( ٥٧٣ ه‍ ) مؤلّف « فقه القرآن » وعدّة شروح على النهاية.

وقطب الدين محمد بن الحسن الكيدري البيهقي ( كان حيا إلى ٥٧٦ ) مؤلّف « الإصباح ».

ورشيد الدين محمد بن علي بن شهرآشوب السروي المازندراني المتوفّى عام ( ٥٨٨ ه‍ ) مؤلّف « متشابه القرآن ومختلفه ».

الدور الخامس ( دور النهوض ) :

كان الدور الرابع هو دور التقليد للشيخ الطوسي والجمود على آرائه التي استنبطها. ولم يكن يجرأ أحد من علماء الشيعة على نقدها أو مخالفتها.

ولكن العلم لمّا كان لا يعرف الحدود والقيود ، فقد ظهر في علماء الشيعة من تجاوز بفكره واجتهاده الصائب كثيرا من آراء الشيخ الطوسي.

فلاحت في أفق الفقه الشيعي تباشير نهضة علميّة تتقدّم أشواطا بعيدة إلى الامام ، وكانت بداية هذه النهضة قائمة على نقد بعض آراء الشيخ الطوسي ومخالفتها.

وقد كان حامل لواء هذه النهضة الشيخ محمد بن إدريس الحلي مؤلّف « السرائر » المتوفّى عام ٥٩٨ ه‍ وكان أشدهم جرأة ، وأكثرهم نقدا لطريقة الشيخ الطوسي ، حتّى لامه الكثيرون على هذه الطريقة ، ولولاه لم يكن ليجرأ أحد على معارضة أفكار الشيخ الطوسي ، بل رأى البعض أنّ ابن إدريس قد تجاوز الحد في معارضة للشيخ.

ولم يلق ابن إدريس أي ترحيب أو استقبال بل جوبه بمعارضة شديدة ، ولكنّه كان الفاتح لنقد الشيخ الطوسي والمحطم للفكر التقليدي الجاف الجامد ، وقد أسدى بذلك خدمة كبرى للطائفة في انفتاح باب الاجتهاد والاعتماد على الفكر الحرّ المشوب بالصدق والصفاء.

ومن أهمّ الذين انتقدوا الطوسي أيضا : سديد الدين محمود بن علي الحمصي الرازي ( ٥٨٣ ) وأبو المكارم عزّ الدين حمزة بن علي بن زهرة الحلبي ( ٥٨٥ )

١٩

مؤلّف « غنية النزوع ».

ومعين الدين سالم بن بدران المصري ( ٦٢٩ ) ، ونجيب الدين محمد بن جعفر بن هبة الله بن نما ( ٦٤٥ ) ، والعلامة الحلي سديد الدين يوسف بن مطهر الحلي ( ٦٦٥ ) ، وأحمد بن موسى بن طاوس الحلي ( ٦٧٣ ) ، ويحيى بن سعيد الحلي ( ٦٨٩ ) ، وعماد الدين الحسن بن علي الطبرسي ( ٦٩٨ ).

الدور السادس : ( دور الرشد والنمو )

أهمّ أعلام هذا الدور المحقّق الحلّي أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي المتوفى عام ٦٧٦ هجرية.

ومن آثاره كتاب شرائع الإسلام (١) ، والمعتبر ، والمختصر النافع ، ونكت النهاية.

وقد هذّب المحقّق آراء الشيخ الطوسي وبلورها ودون أصولها ، واستفاد كثيرا من اعتراضات وانتقادات ابن إدريس ، وقابل تلك الانتقادات بالدفاع عن مدرسة الشيخ.

وبعده العلاّمة الحلّي الحسن بن يوسف بن المطهر ، المتوفّى عام ٧٢٦ هجرية ، وله من الكتب الفقهيّة تذكرة الفقهاء ، وقواعد الأحكام ، ومنتهى المطلب ، ونهاية الأحكام ، وغيرها.

وقد تطوّر في أيّامه الفقه الاستدلالي المقارن ، وكان جلّ من سبقه يعتمدون على كتاب الخلاف للشيخ الطوسي ، ولكن بعد العلاّمة رفعت اليد عن آراء علماء السنّة ـ نوعا ما ـ وانصبّ البحث على آراء علماء الشيعة بتأثير كتب العلاّمة وأهمّها في هذا المجال كتاب « منتهى المطلب » وجاء من بعده المحقّق الآبي ، وفخر المحققين ـ ولد العلامة ـ فنقلوا الفقه المقارن نقلة متميّزة ، فقارنوا بين آراء علماء الشيعة وأعملوا فيها النقد والإبرام مكان آراء علماء السنة.

__________________

(١) وهو من المتون الفقهية التي حظيت باهتمام العلماء الكبار شرحا وتدريسا ، وقد كتبت عليه عشرات الشروح والحواشي ، وهو من أهمّ الكتب الدراسيّة من أيام مؤلّفه ولحد الآن ، ويمتاز بجمعه للفروع الفقهية بعبارة سهلة موجزة وبيان بليغ.

٢٠