جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٢

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

ويستحب للجلوس للقضاء ، وللدعاء.

ولا تجوّز الفريضة على الراحلة اختيارا ، وإن تمكن من استيفاء الأفعال على إشكال ،

______________________________________________________

وسيجي‌ء التّنبيه على ذلك في كلام المصنّف.

قوله : ( ويستحبّ للجلوس للقضاء ).

ظاهره أنّ الاستحباب للقاضي إذا جلس للقضاء ، وقيل : يستحب له الاستدبار ليكون وجه الخصوم إلى القبلة (١) وهو الأشهر ، واختاره في كتاب القضاء.

قوله : ( وللدّعاء ).

أي : ويستحب للدّعاء جالسا وقائما لأنّه أقرب إلى الإجابة ، ولقولهم عليهم‌السلام : « خير المجالس ما استقبل به القبلة » (٢) ، وبه احتجّ في الذّكرى (٣) ، على استحباب الاستقبال للجلوس مطلقا.

واحتمل فيها في باب الوضوء استحبابه فيه ، بعد أن قال : إنّه لم يقف للأصحاب فيه على نصّ (٤) ، ولم يذكره في باب الاستقبال ، ويمكن استفادته من استحبابه للدّعاء لأنّ الوضوء لا يخلو من الدّعاء ، وكأنّه أراد خصوص الوضوء.

ويحرم في الخلاء ـ وقد سبق ـ ، ويكره في حال الجماع ، قال في الذّكرى : ولا تكاد الإباحة بالمعنى الأخص تتحقّق هنا (٥).

قوله : ( ولا تجوز الفريضة على الرّاحلة اختيارا ، وإن تمكن من استيفاء الأفعال على إشكال ).

ينشأ من ظاهر قول أبي عبد الله عليه‌السلام في صحيحة عبد الرّحمن : « لا يصلّي على الدّابة الفريضة ، إلاّ مريض يستقبل به القبلة » (٦) ، والاستثناء يفيد‌

__________________

(١) القائل هو المفيد في المقنعة : ١١١ ، والشيخ في النهاية : ٣٣٨.

(٢) رواه المحقق في الشرائع ٤ : ٧٣.

(٣) الذكرى : ١٦٧.

(٤) الذكرى : ٩٦.

(٥) الذكرى : ١٦٧.

(٦) التهذيب ٣ : ٣٠٨ حديث ٩٥٢.

٦١

ولا صلاة جنازة ، لأن الركن الأظهر فيها القيام.

______________________________________________________

العموم ، وفي معناها رواية عبد الله بن سنان ، عنه عليه‌السلام ، وقد سأله أيصلّي الرّجل شيئا من المفروض راكبا؟ فقال : « لا ، إلاّ من ضرورة » (١).

ومن أنّ المأمور به ـ وهو الإتيان بالأفعال حال الاستقرار ـ حاصل فيكون مجزئا ، وفيه نظر لمنع الإتيان بها على الوجه المأمور به ، لثبوت النّهي عن فعلها على الرّاحلة على وجه العموم ، والمنهي عنه غير المأمور به ، ولأنها غير المعهود من مكان الصلاة ، ولظاهر قوله عليه‌السلام : « صلوا كما رأيتموني أصلي » (٢) ولأن من على الراحلة بمعرض السّقوط ، والدابة بمعرض النفار والانحراف عن القبلة ، فتكون الصّلاة عليها معرضة للبطلان ، وذلك غير جائز ، والأصحّ عدم الجواز مطلقا.

قوله : ( ولا صلاة جنازة ، لأنّ الرّكن الأظهر فيها القيام ).

إنّما كان الرّكن الأظهر فيها القيام لأنّ الظهور إن أريد به الحسي فواضح ، لأن باقي أركانها ليست كذلك ، لأنّ النية خفية والتكبير يمكن إخفاؤه ، وإن أريد به المعنوي فكذلك ، لأنّ النيّة شرط أو تشبه الشرط والتّكبير مشروط بالقيام ، وإنّما قال : ( فيها ) لأنّ في غيرها من الصّلوات الرّكوع والسّجود أظهر في الحس من القيام.

ووجه الاستدلال بما ذكره : أنّ القيام أظهر أركان صلاة الجنازة ، وفعلها على الرّاحلة معرّض لفواته إمّا بسقوط المصلّي ، أو بنفار الدابة ، فيكون فعلها على هذه الحالة منهيا عنه. وأيضا فإن الاستقبال شرط فيها ، وهو على تلك الحالة معرّض للفوات ، ولإطلاق النّهي عن فعل شي‌ء من الفرائض على الرّاحلة في الخبرين السالفين.

واعلم أنّ ذكر هاتين المسألتين وما بعدهما في باب الاستقبال من حيث أنّ اعتبار الاستقبال في الفرائض على وجه لا يكون مأمون الزّوال عادة يمنع صحتها ، ولو لا هذه المناسبة لكان ذكرها في باب المكان أليق ، لكن قول المصنّف : ( لأن الرّكن الأظهر فيها القيام ) يناسب باب القيام ، والأمر سهل.

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٣٠٨ حديث ٩٥٤.

(٢) صحيح البخاري ١ : ١٦٢.

٦٢

وفي صحة الفريضة على بعير معقول ، أو أرجوحة متعلقة بالحبال نظر ، وتجوز في السفينة السائرة والواقفة ،

______________________________________________________

قوله : ( وفي صحة الفريضة على بعير معقول ، أو أرجوحة معلقة بالحبال نظر ).

ينشأ من أصالة الجواز وعدم المانع فإنّ الصّلاة عليهما كالصّلاة في الغرفة ، وعلى السّرائر خصوصا إذا كانت في محمل يؤدي فيه أفعالها ، والبعير المعقول أبعد من الاضطراب والحركة.

ومن أنّ المعتبر في مكان الصّلاة هو المعهود ، مع أنّ البعير وإن كان معقولا بمعرض النفار والانحراف عن القبلة والأرجوحة بمعرض الاضطراب بل إذا نفر يكون اضطرابه أفحش ، ولعموم الخبرين السالفين (١).

وذكر البعير خرج مخرج المثال ، فان الفيل وغيره كذلك أيضا ، وكذا القول في العقال ، فانّ يديه ورجليه لو ربطت جميعا إلى خشبة أو وتد فالحال كما مرّ.

والأرجوحة والمرجوحة : ما يجعل بين حبلين يعلقان بشجرة ونحوها ، ولا كذلك الرفّ بين نخلتين أو حائطين ، والسّرير ، فإن الصّلاة عليهما تجوز إذا كانا مثبتين لا يتحركان كثيرا بحيث يضطربان.

قوله : ( وتجوز في السّفينة السّائرة والوافقة ).

المراد : اختيارا بشرط عدم الانحراف عن القبلة ، وعدم الحركة المخلة بالطمأنينة ، وهذا أصحّ القولين (٢) ، لقول الصّادق عليه‌السلام ، وقد قال له جميل بن درّاج : تكون السّفينة قريبة من الجدد (٣) ، فأخرج فأصلّي ، فقال : « صلّ فيها ، أما ترضى بصلاة نوح عليه‌السلام » (٤) ، وغيرها (٥) ، ولأنّ المصلّي مطمئن في نفسه ـ لأنّه المفروض ـ متمكّن في مكانه ، وإن كان منتقلا تبعا لانتقال مكانه ، ولأنّ المعتبر في‌

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٣٠٨ حديث ٩٥٢ ، ٩٥٤.

(٢) ذهب إليه العلامة في النهاية ١ : ٤٠٦.

(٣) الجدد : الأرض الصلبة مجمع البحرين ( جدو ) ٣ : ٢١.

(٤) الفقيه ١ : ٢٩١ حديث ١٣٢٣.

(٥) الفقيه ١ : ٢٩١ حديث ١٣٢٤.

٦٣

وتجوز النوافل سفرا وحضرا على الراحلة وإن انحرفت الدابة ،

______________________________________________________

الصّلاة ـ وهو الطمأنينة ـ حاصل ، فأشبه الصّلاة على السّرير.

ومنع شيخنا من الصّلاة في السّائرة اختيارا (١) ، معلّلا بحصول الحركات الكثيرة الخارجة من الصّلاة ، ولقول الصّادق عليه‌السلام : « إن استطعتم أن تخرجوا إلى الجدد فاخرجوا » (٢) ، والأمر للوجوب. وجوابه : إن المفروض في محلّ النّزاع عدم الحركات الكثيرة ، ويحمل الأمر هنا على الاستحباب جمعا بين هذه الرّواية وغيرها.

أمّا السّفينة الواقفة فيجوز اتفاقا مع عدم الحركات الفاحشة ، ومعها لا يجوز مطلقا إلا عند الضّرورة ، لوجود المنافي ، وإطلاق العبارة بالجواز محمول على عدم المنافي من حركات فاحشة واستدبار.

قوله : ( وتجوز النّوافل سفرا وحضرا على الرّاحلة وإن انحرفت الدابة ).

المراد بالحضر : ما يعم التردّد في المهمّات في الأمصار ، والمراد بقوله : ( وإن انحرفت ) انحرافها عن القبلة. يدلّ على الجواز ما رواه الحلبي في الصّحيح ، انّه سأل الصّادق عليه‌السلام عن صلاة النّافلة على البعير والدّابة ، فقال : « نعم حيث كان متوجها ، وكذلك فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٣). وما رواه حماد بن عثمان ، عن الكاظم عليه‌السلام قال : في الرّجل يصلّي النّافلة وهو على دابّته في الأمصار ، قال : « لا بأس » (٤) ، ولم يستفصل عليه‌السلام عن انحراف الدّابّة وعدمه ، فيكون الحكم للعموم.

وكذا يجوز فعلها للماشي ولو في الحضر إلى غير القبلة ، لما رواه الحسين بن المختار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرّجل يصلّي وهو يمشي تطوعا ، قال : « نعم » (٥) ، وتقريبه ما سبق.

__________________

(١) الذكرى : ١٦٧.

(٢) الكافي ٣ : ٤٤١ حديث ١ ، التهذيب ٣ : ١٧٠ حديث ٣٧٤ ، قرب الاسناد : ١١.

(٣) الكافي ٣ : ٤٤٠ حديث ٥ ، التهذيب ٣ : ٢٢٨ حديث ٥٨١.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٢٩ حديث ٥٨٩.

(٥) المعتبر ٢ : ٧٧.

٦٤

ولا فرق بين راكب التعاسيف وغيره.

ولو اضطر في الفريضة والدابة إلى القبلة فحرفها عمدا لا لحاجة بطلت صلاته ،

______________________________________________________

قوله : ( ولا فرق بين راكب التعاسيف وغيره ).

المراد براكب التعاسيف : الهائم الّذي لا مقصد له ، بل يستقبل تارة ويستدبر أخرى ، كذا فسره في التّذكرة (١) وأصل العسف خبط الطريق على غير هداية ، ومعناه : إن صلاة النّافلة على الرّاحلة للراكب الّذي لا قصد له جائزة ولو إلى غير القبلة كغيره ، خلافا لبعض العامّة للعموم (٢) ، ولا فرق بين بلد إقامته وغيره.

ولا يشترط الاستقبال بتكبيرة الإحرام ، صرّح به في التّذكرة (٣) ولو حرف الدّابّة عمدا فكما لو انحرفت ، ومستند ذلك كلّه العموم. ولو كان طريقه إلى غير القبلة فركب مقلوبا ليستقبل صحّ بطريق أولى ، وخلاف الشّافعي (٤) لا يلتفت اليه.

فرع :

المتنفل ماشيا كالراكب في الاستقبال ، لظاهر قوله تعالى ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) (٥) ، فقد روي أنّها نزّلت في التطوّع (٦) ، وفي صحيحة معاوية بن عمّار ، عن الصّادق عليه‌السلام : « إنّه يتوجّه إلى القبلة ، ثم يمشي ويقرأ فإذا أراد أن يركع حوّل وجهه إلى القبلة ، وركع وسجد ، ثم مشى » (٧) ، فيمكن حمله على الأفضليّة.

قوله : ( ولو اضطر في الفريضة والدّابة إلى القبلة فحرفها عمدا لا لحاجة بطلت صلاته ).

أي : ولو اضطر إلى الصّلاة على الرّاحلة في الفريضة ، ووجه البطلان أنّ جوازها‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ١٠٢.

(٢) فتح العزيز ( مطبوع مع المجموع ) ٣ : ٢١٥ ، الوجيز ١ : ٣٧.

(٣) التذكرة ١ : ١٠٢.

(٤) الأم ١ : ٩٨ ، الوجيز ١ : ٣٧.

(٥) البقرة : ١١٥.

(٦) النهاية : ٦٤ ، مجمع البيان ١ : ١٩١.

(٧) التهذيب ٣ : ٢٢٩ حديث ٥٨٥.

٦٥

وإن كان لجماح الدابة لم تبطل وإن طال الانحراف ، إذا لم يتمكن من الاستقبال ، ويستقبل بتكبيرة الافتتاح وجوبا مع المكنة.

وكذا لا تبطل لو كان مطلبه يقتضي الاستدبار ويومئ بالركوع والسجود ، ويجعل السجود أخفض ،

______________________________________________________

الى غير القبلة للضّرورة ، وهي منتفية في الفرض المذكور.

قوله : ( وإن كان لجماح الدّابة لم تبطل وإن طال الانحراف ، إذا لم يتمكّن من الاستقبال ).

في الجمهرة : جمح الدّابة جمحا وجماحا إذا اعتزّ فارسه على رأسه حتى يغلبه (١) ، وإنّما لم تبطل للضّرورة ، فإنّ الفرض عدم التمكّن من الاستقبال في هذه الحالة ، ولا فرق بين طول الانحراف وعدمه خلافا للشّافعي (٢).

قوله : ( ويستقبل بتكبيرة الافتتاح وجوبا مع المكنة ).

لأن الصّلاة على ما افتتحت عليه ومع عدم المكنة يسقط للضّرورة ، ولو تمكن من الاستقبال في غير التّكبير وجب ، وإن عجز عن الاستقبال فيه إذ لا يسقط الميسور بالمعسور.

قوله : ( وكذا لا تبطل لو كان مطلبه يقتضي الاستدبار ).

المشار اليه : ( ذا ) ، والمشبه به في عدم البطلان الاستدبار لجماح الدّابة ، أي : كالاستدبار لجماح الدّابة الاستدبار لو كان مطلبه الى آخره ، في أنّ الصّلاة لا تبطل للضّرورة أيضا.

قوله : ( ويومئ بالرّكوع والسّجود ويجعل السّجود أخفض ).

أي : يومئ المضطرّ إلى فعل الفريضة على الرّاحلة بالرّكوع والسّجود إذا عجز عن فعلهما للضّرورة ، كما في جميع أوقات الضّرورة ، وإن كانت العبارة مطلقة فإنّه معلوم.

__________________

(١) الجمهرة ٢ : ٥٩.

(٢) الوجيز ١ : ٣٧.

٦٦

والماشي كالراكب.

ويسقط الاستقبال مع التعذر كالمطارد ، والدابة الصائلة ، والمتردية.

______________________________________________________

ويجعل السّجود أخفض ، محافظة على الفرق بينه وبين الرّكوع ، إذ لا يسقط الميسور بالمعسور ، ولقول الصّادق عليه‌السلام في صحيحة يعقوب بن شعيب ، وقد سأله عن الصّلاة في السّفر ماشيا أو إيماء؟ : « واجعل السّجود أخفض من الرّكوع » (١).

قوله : ( والماشي كالرّاكب ).

أي : في أنّه يجوز له الصّلاة ماشيا عند الضّرورة ويستقبل ما أمكن ، ولا يجوز له الانحراف ، ومع العجز يستقبل بتكبيرة الإحرام ويومئ الى آخره. ويمكن عود الضّمير في قوله : ( ويومئ ) إلى من يصلّي النّافلة والفريضة ، ويكون الإطلاق على ظاهره في النّافلة ، والتقييد في الفريضة بالضّرورة مستفاد من خارج ، ويكون قوله : ( والماشي كالرّاكب ) متعلقا بهما ، فيكون معناه : إن الماشي في النّافلة كالرّاكب في النّافلة ، وفي الفريضة كالرّاكب في الفريضة.

قوله : ( ويسقط الاستقبال مع التعذّر كالمطاردة ، والدّابة الصائلة ، والمتردّية ).

أي : ويسقط الاستقبال في الفريضة مع التعذّر مطلقا ، كصلاة المطاردة راكبا وماشيا ، وحكى في التّذكرة عن أبي حنيفة جواز ترك الاستقبال للراكب حالة القتال دون الرّاجل (٢) ، وهو معلوم البطلان.

وقد يقال : في العبارة تكرار ، لأنّ سقوط الاستقبال عن الرّاكب والماشي عند الضّرورة قد استفيد من عبارته سابقا كما هو واضح. ويمكن أن تحمل العبارة ، على أنّ المراد سقوط الاستقبال مع التعذر في كل موضع يجب سواء الصّلاة وغيرها ، فإنه أبعد عن التّكرار وإن تضمنه.

ومن غير الصّلاة الذّبح ، فإذا تعذّر الاستقبال في الدّابة الصّائلة ـ والمراد بها : المستعصية ، وإن كان حقيقة في الفحل ، والإنسان ، والسّبع يريد مقاتلة غيره ـ كفى‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٤٠ حديث ٧.

(٢) التذكرة ١ : ١٠١.

٦٧

المطلب الثالث : المستقبل.

ويجب الاستقبال مع العلم بالجهة ، فإن جهلها عوّل على ما وضعه الشرع أمارة.

______________________________________________________

ذبحها إلى غير القبلة ، بل وعقرها كيف أمكن ، وكذا القول في المتردّية : وهي الواقعة في البئر ونحوه ، وسيأتي ذلك في الذّبائح ان شاء الله تعالى.

وفي حواشي شيخنا الشّهيد إنّ في العبارة دقيقة هي : أن الاستقبال إنّما هو بالمذبوح لا بالذّابح. وفي استفادة ذلك منها نظر ، لأن دلالتها على سقوط الاستقبال الواجب ، لا على أن الاستقبال بها ، أو به.

فان قيل : يفهم من تعليق سقوط الاستقبال على استعصائها وترديها أن الاستقبال متعلق بها. قلت : لا دلالة على ذلك ، لأنّه ربّما كان السّقوط لأنّ الاستعصاء مفض الى تعذّر استقباله ، فلا تكون فيها دلالة على أحد الأمرين.

قوله : ( المطلب الثّالث : المستقبل.

ويجب الاستقبال مع العلم بالجهة ، فإن جهلها عوّل على ما وضعه الشرع أمارة ).

هذا خاص بالبعيد ، أمّا القريب الّذي يمكنه المشاهدة فإنّه تتعيّن عليه المشاهدة لتحقق المحاذاة ، ومتى تحققها كفاه ذلك وإن صلّى من وراء حائل كالجدران والجبل ، ولا يكفيه ظنّها إذا أمكنه العلم بصعوده نحو الجبل مثلا ، ما لم يلزم منه مشقة كثيرة في العادة ، أو تضيّق الوقت.

والحجر من البيت فيكفي استقباله.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ البعيد إن علم الجهة قطعا ، أو تمكّن منه تعيّن عليه استقبالها ، ولا يجوز الاجتهاد حينئذ ، كما أنّ القادر على العمل بالنّصّ في الأحكام لا يجوز له الاجتهاد لإمكان الخطإ ، فعلى هذا لو تمكّن من القطع بنفس الجهة بمحراب المعصوم ، لا يجوز له الاكتفاء بقبلة المسلمين الحاصلة بمحاريبهم وقبورهم لإمكان الخطأ في اليمنة واليسرة.

٦٨

والقادر على العلم لا يكفيه الاجتهاد المفيد للظن ، والقادر على الاجتهاد لا يكفيه التقليد.

ولو تعارض الاجتهاد وإخبار العارف رجع إلى الاجتهاد.

______________________________________________________

والأمارة هي ما يفيد الظّن ، وأكثر ما سبق من العلامات يفيد القطع بالجهة في الجملة ، فلا يقصر عن محاريب المسلمين المنصوبة في مساجدهم وطرقهم كالجدي ونحوه ، فكان حقّ العبارة أن يقول : فإن جهلها عوّل على ما يفيد القطع من العلامات ، ثم على ما يفيد الظّن.

ويمكن أن يقال : العلامات المذكورة وإن أفاد بعضها القطع بالجهة في الجملة ، فإنّها بالإضافة إلى نفس الجهة إنّما تفيد الظّن ، لأنّ محاذاة الكواكب المخصوصة على الوجه المعيّن مع شدّة البعد إنّما يحصل به الظّن ، فيندرج الجميع فيما وضعه الشرع أمارة.

وينقّح ذلك بقوله : ( والقادر على العلم لا يكفيه الاجتهاد المفيد للظّن ) فيستفاد منه : أنّ القادر على القبلة بالجدي حال استقامته مثلا لا يكفيه التعويل على كون القمر ليلة السّابع من الشّهر في وقت المغرب محاذيا لقبلة المصلّي ، وليلة الرّابع عشر منه نصف اللّيل ، وليلة الحادي والعشرين منه عند الفجر ، فإنّه ينتقل في المنازل فيغرب في ليلة كونه هلالا على نصف سبع اللّيل ، لأنّ ذلك تقريبي يزيد وينقص.

قوله : ( والقادر على الاجتهاد لا يكفيه التّقليد ).

لأنّ في مضمر سماعة : « اجتهد رأيك وتعمّد القبلة جهدك » (١) ، ولوجوب الأخذ بأقوى الطّريقين ، ولا فرق في ذلك بين العارف بأدلة القبلة ، والمتمكّن من معرفتها لعدم المشقة في ذلك ، بخلاف العامي بالنّسبة إلى دلائل الفقه لما فيه من المشقّة المفضية إلى اختلال أمور معاشه.

واعلم أنّ التّقليد هو قبول قول الغير المستند إلى الاجتهاد ، أمّا المخبر عن يقين بأحد طرق اليقين فهو شاهد ، وليس قبول خبره من التّقليد في شي‌ء.

قوله : ( ولو تعارض الاجتهاد وإخبار العارف رجع إلى الاجتهاد ).

لأنّه ليس من أهل التّقليد ، وفي الذكرى : أن رجوعه إلى أقوى الظّنين قريب‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٨٤ حديث ١ ، التهذيب ٢ : ٤٦ حديث ١٤٧ ، الاستبصار ١ : ٢٩٥ حديث ١٠٨٨.

٦٩

والأعمى يقلّد المسلم العارف بأدلة القبلة.

______________________________________________________

لأنّه راجح (١) ، والأصحّ المنع إلا أن تنضمّ الى الأخبار مرجحات أخر ، فيكون التّعويل على الاجتهاد لا على الأخبار. ولا فرق في ذلك بين كون المخبر قاطعا بالقبلة أو مجتهدا ، سواء العدل وغيره. والوقت كالقبلة في ذلك.

وقيل بالاكتفاء بشهادة العدل المخبر عن يقين فيهما ، وهو ضعيف لأنّه مخاطب بالاجتهاد ، ولم يثبت الاكتفاء بذلك.

أمّا الشّاهدان ـ وهما المخبران عن يقين ـ فيلوح من عبارة شيخنا الشّهيد في قواعده عدم الخلاف في الرّجوع إليهما ، وفيه قوّة لأنّهما حجّة شرعيّة.

قوله : ( والأعمى يقلّد المسلم العارف بأدلة القبلة ).

إن أمكن للأعمى معرفة القبلة باليقين بلمس المحراب والقبر ، وتحصيل القطع بالمشرق والمغرب ومحلّ القطب مثلا ، تعين عليه مع انتفاء المشقة ، ولم يجز التقليد حينئذ. وكذا لو أمكن معرفة القبلة بشهادة العدول ، ولا تكفي شهادة العدل الواحد مع إمكان الشاهدين.

فان تعذّر ذلك كلّه قلد العدل العارف بأدلّة القبلة ، المخبر عن يقين أو اجتهاد ، وإن كان الرّجوع إلى الأوّل لا يسمى تقليدا إلا مجازا ، سواء كان رجلا أو امرأة ، حرّا أو عبدا.

وظاهر إطلاق عبارة المصنّف عدم اشتراط العدالة ، والصّحيح اشتراطها لوجوب التّثبت عند خبر الفاسق ، ولا يكفي الرّجوع إلى الصّبي لفقد العدالة ، خلافا للشّيخ في المبسوط (٢).

فان تعذّر العدل ففي جواز الرّجوع إلى الفاسق ، بل وإلى الكافر عند تعذّر المسلم وجهان : أصحّهما العدم ، فيصلّي إلى أربع جهات لوجوب التثبّت عند خبر الفاسق ، وظاهر الخلاف منعه من التّقليد مطلقا ، ووجوب الصّلاة إلى أربع (٣) ، والأصحّ الأوّل لما في تكرار الصّلاة دائما من لزوم الحرج العظيم.

__________________

(١) الذكرى : ١٦٤.

(٢) المبسوط ١ : ٨٠.

(٣) الخلاف ١ : ٥٧ مسألة ٤٩ من كتاب الصلاة.

٧٠

ولو فقد البصير العلم والظن قلّد كالأعمى ، مع احتمال تعدد الصلاة.

______________________________________________________

قوله : ( ولو فقد البصير العلم والظّن قلّد كالأعمى ، مع احتمال تعدد الصّلاة ).

المراد بفقده الأمرين : جهله بعلامات القبلة ، وعدم إمكان التّعلم إمّا لضيق الوقت أو لكونه إذا عرّف لا يعرف ، وفيه للأصحاب قولان مرتبان على القولين في الأعمى.

فإن أوجبنا الأربع هناك فهنا أولى لوجود حسّ البصر ، وإن جوّزنا التّقليد أمكن هنا وجوب الأربع للفرق بوجود البصر والاكتفاء ، لأن وجود البصر مع فقد البصيرة كلام وجوده إذ لا ينتفع به حينئذ ، فهو كالأعمى بل أسوأ ، لقوله تعالى : ( فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (١).

والتحقيق : إنّه إن تعذّر على العامي التّعلم ـ لكونه لا يعرف إذا عرّف ، كما فرضه المصنّف في التذكرة ـ (٢) فهو كالأعمى بل أسوأ ، وإن كان تعذّر تعلمه لضرورة ضيق الوقت ، أو فقد المعلّم الآن ، ونحو ذلك فهو أشبه شي‌ء بالعارف إذا فقد العلامات لغيم وشبهه ، خصوصا بوجوب تعلم العلامات عينا ، فان لم يلزم من هذا التّفصيل إحداث قول ثالث صلى إلى أربع ، وإلا اكتفى بالتّقليد تمسكا بأصالة البراءة.

أمّا العارف بالعلامات إذا غمّت عليه ، فظاهر الأصحاب صلاته إلى أربع لندور ذلك ، ولأن الاستقبال واجب وقد أمكن بالأربع ، والتّقليد ممنوع منه بثبوت وصف الاجتهاد ، ولقول الصّادق عليه‌السلام في مرسلة خداش وقد قال له : إن هؤلاء المخالفين يقولون : إذا أطبقت علينا وأظلمت ، ولم نعرف السماء كنّا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : « ليس كما يقولون ، إذا كان كذلك فليصل لأربع وجوه » (٣).

وما في المختلف إلى جواز التّقليد لأنّه يفيد الظّن ، والعمل به واجب في‌

__________________

(١) الحج : ٤٦.

(٢) التذكرة ١ : ١٠٢.

(٣) التهذيب ٢ : ٤٥ حديث ١٤٤ ، الاستبصار ١ : ٢٩٥ حديث ١٠٨٥.

٧١

ويعوّل على قبلة البلد مع انتفاء علم الغلط.

ولو فقد المقلّد ، فإن اتسع الوقت صلّى كل صلاة أربع مرات إلى أربع جهات ، فإن ضاق الوقت صلّى المحتمل ،

______________________________________________________

الشّرعيات (١) ، وهو ضعيف ، وفي كبرى القياس منع.

ولو رجا حصول العلم بانكشاف الغيم مثلا ، وفي الوقت سعة ففي وجوب التّأخير تردّد.

قوله : ( ويعوّل على قبلة البلد مع انتفاء علم الغلط ).

أي : بلد المسلمين ، وكذا قبورهم ومحاريبهم المنصوبة في جوادّ الطرق الّتي يكثر مرور المسلمين فيها ، إذا لم يعلم وضعها على الغلط ، ولا يجب الاجتهاد ، بل لا يجوز في الجهة قطعا ، وإن جاز في اليمنة واليسرة لإمكان الغلط اليسير عليهم.

ولو علم الغلط في محراب مخصوص أو في الجملة ، إمّا في البلد أو القطر كما في خراسان ، فلا بدّ من الاجتهاد ، وكذا في قبلة الطّريق الّذي يندر مرور المسلمين به ، ونحو القبر الواحد ، والقبرين في الموضع المنقطع.

قوله : ( ولو فقد المقلّد ، فان اتسع الوقت صلّى كلّ صلاة أربع مرّات إلى أربع جهات ).

أي : لو فقد من فرضه التقليد المقلّد ـ بفتح اللام ـ : وهو الّذي يسوغ تقليده ـ فلا بدّ من الصّلاة إلى أربع جهات مع سعة الوقت لأن الاستقبال شرط ، ولا يحصل في هذه الحالة بدون ذلك.

وقول المصنّف : ( أربع مرّات ) مستدرك لا فائدة فيه أصلا ، بل ربّما أوهم فعل الصّلاة أربع مرّات كل مرّة إلى أربع جهات ، لأنّ إطلاق اللّفظ لا يأبى ذلك قبل تدبّر المعنى.

قوله : ( فان ضاق الوقت صلّى المحتمل ).

بفتح التاء والميم ـ ، أي : ما يحتمله الوقت من ثلاث ، أو اثنتين ، أو واحدة لامتناع التّكليف بما لا يتسّع له الوقت.

__________________

(١) المختلف : ٧٨.

٧٢

ويتخير في الساقطة والمأتي بها.

فروع :

أ : لو رجع الأعمى إلى رأيه مع وجود المبصر لأمارة حصلت له صحت صلاته ، وإلاّ أعاد وإن أصاب.

ب : لو صلى بالظن أو بضيق الوقت ثم تبين الخطأ أجزأ إن كان الانحراف يسيرا

______________________________________________________

قوله : ( ويتخير في السّاقطة أو المأتي بها ).

أي : ويتخيّر في السّاقطة لو أمكنه الصّلاة إلى ثلاث جهات فقط ، فأي الجهات من الأربع تخير سقوط الصّلاة إليها كان له ذلك ، لكن إذا استوت عنده لفقده المرجّح حينئذ ، وإلاّ وجب المصير إليه وإن كان ضعيفا ، وكذا يتخير في المأتي بها لو أمكنه الصّلاة إلى جهة واحدة ـ كما سبق.

ولو أمكنه الصّلاة إلى جهتين فكذلك ، وهو ظاهر وإن لم يكن مندرجا في العبارة ، لأن ( أو ) يأباه ، ولو حذف الألف وحملت السّاقطة والمأتي بها على معنى الجنس يشمل الجميع ، وهو أوفق لعبارة التذكرة.

قوله : ( فروع : أ : لو رجع الأعمى إلى رأيه مع وجود المبصر لامارة حصلت له صحّت صلاته ).

إذا كانت الامارة مما يعول عليها شرعا في إفادة الظّن لموافقته حينئذ ، سواء انكشف فساد الظنّ أم لا ، إلا أن يكون الانحراف عن القبلة فاحشا كما سيأتي.

قوله : ( وإلاّ أعاد وإن أصاب ).

أي : وإن لم يكن رجوعه إلى رأيه لأمارة أعاد الصّلاة ، وإن صادفت القبلة ، لعدم إتيانه بالمأمور به على الوجه المأمور به.

قوله : ( ب : لو صلّى بالظّن أو لضيق الوقت ثم تبيّن الخطأ ، أجزأ إن كان الانحراف يسيرا ).

يندرج في صلاته بالظنّ ما لو عوّل على أمارة ونحوها ، وما إذا قلّد حيث يجوز التّقليد ، والمراد بالانحراف اليسير : ما إذا كان بين القبلة وبين المشرق والمغرب ، ووجه‌

٧٣

وإلاّ أعاد في الوقت ، ولو بان الاستدبار أعاد مطلقا.

______________________________________________________

الاجزاء قول الصّادق عليه‌السلام : « ما بين المشرق والمغرب قبلة » (١) ، ولو بان له الانحراف اليسير في أثناء الصّلاة استقام.

قوله : ( وإلا أعاد في الوقت ).

أي : وإن لم يكن الانحراف يسيرا ، بل كان كثيرا إلى محض اليمين أو اليسار ـ لا مستدبرا لأنّه سيذكر ـ أعاد مع بقاء الوقت لا مع خروجه ، لقول الصّادق عليه‌السلام : « إذا استبان أنّك صلّيت وأنت على غير القبلة وأنت في وقت فأعد ، وإن فاتك الوقت فلا تعد » (٢) وغير ذلك من الأخبار (٣) ، وهي محمولة على من لم يكن مستدبرا ، جمعا بينها وبين ما سيأتي.

فرع : لو أدرك من الوقت ركعة ثمّ علم بالانحراف عن القبلة يمينا أو يسارا ، فالظاهر عدم الإعادة لعدم وجوب القضاء.

قوله : ( ولو بان الاستدبار أعاد مطلقا ).

أي : في الوقت وخارجه ، وهو أصحّ القولين للأصحاب (٤) ، لما روي عن الصّادق عليه‌السلام فيمن صلّى على غير القبلة ، ثم تبيّن له القبلة وقد دخل وقت صلاة أخرى ، قال : « يصلّيها قبل أن يصلّي هذه الّتي دخل وقتها ، إلا أن يخاف فوت الّتي دخل وقتها » (٥). وفي الطريق ضعف ، وحملت على من صلّى بغير اجتهاد ولا تقليد ، وهو خلاف الظاهر من قوله : صلّى على غير القبلة ، وضعف الطّريق لا يضر مع عمل كثير من الأصحاب بها.

وقال المرتضى : لا يعيد بعد خروج الوقت كمن صلّى إلى محض اليمين أو اليسار (٦) ، تمسكا بإطلاق الأخبار (٧) الصحيحة بعدم إعادة من صلّى الى غير القبلة‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٧٩ حديث ٨٤٦ ، التهذيب ٢ : ٤٨ حديث ١٥٧ ، الاستبصار ١ : ٢٩٧ حديث ١٠٩٥.

(٢) الكافي ٣ : ٢٨٤ حديث ٣ ، ١ التهذيب ٢ : ٤٧ حديث ١٥٤ ، الاستبصار ١ : ٢٩٦ حديث ١٠٩٠.

(٣) التهذيب ٢ : ١٤١ حديث ٥٥٢ و ٥٥٣ ، الاستبصار ١ : ٢٩٦ حديث ١٠٩١ و ١٠٩٣.

(٤) منهم : المفيد في المقنعة : ٣٦ ، والشيخ في المبسوط ١ : ٨٠ والتهذيب ٢ : ٤٧.

(٥) التهذيب ٢ : ٤٦ حديث ١٥٠ ، الاستبصار ١ : ٢٩٧ حديث ١٠٩٨.

(٦) الناصريات ( الجوامع الفقهية ) : ٢٣٠.

(٧) التهذيب ٢ : ٤٨ حديث ١٥٤ ، ١٥٥ ، ١٦٠.

٧٤

ج : لا يتكرر الاجتهاد بتعدد الصلاة إلاّ مع تجدد شك.

د : لو ظهر خطأ الاجتهاد بالاجتهاد ففي القضاء إشكال.

هـ : لو تضاد اجتهاد الاثنين لم يأتم أحدهما بالآخر ،

______________________________________________________

بعد الوقت ، وفيه قوة ، والعمل على الأوّل.

قوله : ( ج : لا يتكرر الاجتهاد بتعدد الصّلاة ، إلاّ مع تجدد شك ).

لبقاء حكم الظّن السّابق حيث لم يتجدد شك تمسّكا بالاستصحاب ، وقال الشّيخ : يجب ما لم يعلم بقاء الأمارات تحريا لاصابة الحق (١) ، وهو ضعيف. أما لو تجدد شكّ فان الاجتهاد الأوّل بطل حكمه.

قوله : ( د : لو ظهر خطأ الاجتهاد بالاجتهاد ، ففي وجوب القضاء إشكال ).

يجب حمل العبارة على ما إذا كان مثل الخطأ المعلوم بالاجتهاد يوجب القضاء لو تحقّق ، ولو كان مثله يوجب الإعادة في الوقت والوقت باق ففي الإعادة إشكال ، فلا وجه للتّخصيص ، ويمكن حمله على مطلق الإعادة مجازا.

ومنشأ الإشكال من ظهور الخطأ الموجب للإعادة فيجب ، ومن تحقق الامتثال بفعل المأمور به على الوجه المعتبر ، فيخرج من العهدة والإعادة على خلاف الأصل.

ولا يخفى ضعف الوجه الأوّل ، فإنّ الخطأ ـ وهو عدم مطابقة الواقع ـ لم يظهر بمخالفة الاجتهاد الثّاني للأوّل ، لإمكان كون الخطأ هو الثّاني ، ووجوب العمل به ظاهرا لتغيّر الأمارة لا يقتضي صحّته في نفس الأمر ، ووجوب الإعادة في النّصوص (٢) منوط بانكشاف الحال وتبين الواقع ، وإنّما الّذي يقتضيه الاجتهاد الثّاني عدم جواز التّعويل على الأوّل بعد ذلك ، والأصحّ عدم القضاء.

قوله : ( ه‍ : لو تضاد اجتهاد اثنين لم يأتم أحدهما بالآخر ).

المراد بتضاد اجتهادهما : اختلافهما في الجهة ، لأن اليسير لا يقدح ، وإنّما لم يأتم‌

__________________

(١) المبسوط ١ : ٨١.

(٢) التهذيب ٢ : ٤٧ ، ٤٨ حديث ١٥٠ ، ١٥٢ ، ١٥٥.

٧٥

بل تحلّ له ذبيحته ، ويجتزئ بصلاته على الميت ، ولا يكمل عدده به في الجمعة ، ويصليان جمعتين بخطبة واحدة ، اتّفقا أو سبق أحدهما ، ويقلّد العاميّ والأعمى الأعلم منهما.

______________________________________________________

أحدهما بالآخر لأن المأموم يزعم أن إمامه إلى غير القبلة ، ولأن صلاته فاسدة على كلّ تقدير ، لأنّه إمّا مصلّ إلى غير القبلة ، أو مقتد بمن هو كذلك.

ويحتمل الصّحّة ، كالمصلّين في حال شدّة الخوف والمستدبرين حول الكعبة.

والفرق ظاهر فان وجوب الاستقبال في الأوّل ساقط ، وفي الثّاني كل جزء من الكعبة قبلة.

قوله : ( بل تحل له ذبيحته ويجتزئ بصلاته على الميّت ).

لأنّ شرط حل الذّبيحة وقوع الذّبح على وفق الأمر ، وإن كان إلى غير القبلة وهو حاصل في ذبيحة كلّ منهما ، والفرض الكفائي يسقط بفعل البعض على وجه يحكم بصحّته ظاهرا ، لكن لو تبيّن الانحراف كثيرا في صلاة الميّت احتمل وجوب الإعادة مطلقا ، وقصر الحكم على ما قبل الدّفن من غير فرق بين التيامن والاستدبار.

قوله : ( ولا يكمل عدده به في الجمعة ).

أي : لا يكمل عدد أحدهما بالآخر في الجمعة ، وكذا العيد الواجبة ، لأنّ صلاة أحدهما إلى غير القبلة قطعا.

قوله : ( ويصلّيان جمعتين بخطبة واحدة ، اتفقا أو سبق أحدهما ).

لأن الجمعة وإن تعددت في الصورة ، لكنها متّحدة في الواقع.

قوله : ( ويقلد العامي والأعمى الأعلم منهما ).

أي : من المجتهدين ، والمراد بالأعلم هاهنا : الأعلم بأدلة القبلة ، ولا يعتبر حينئذ تفاوتهما في الورع ، أمّا لو استويا في العلم فإنّه يتعين تقليد الأورع لأنّه أوثق ، والظّن بقوله أرجح ، ولو استويا تخير.

٧٦

الفصل الرابع : في اللباس : وفيه مطلبان :

الأول : في جنسه : إنّما تجوز الصلاة في الثياب المتخذة من النبات ، أو جلد ما يؤكل لحمه مع التذكية ، أو صوفه ، أو شعره ، أو وبره ، أو ريشه ،

______________________________________________________

قوله : ( الفصل الرّابع في اللّباس :

وفيه مطلبان :

الأوّل : في جنسه :

إنّما تجوز الصّلاة في الثّياب المتّخذة من النبات ، أو جلد ما يؤكل لحمه مع التّذكية ).

المراد باللّباس ـ الّذي هو مقصود الفصل ـ : لباس المصلّي ، ومقتضى الحصر المستفاد من ( إنّما ) عدم جواز الصّلاة فيما لا يعد ثوبا وإن كان من النبات ، فلو تستّر بورق الأشجار على وجه يحصل به مقصود الستر كالثّوب ، فمقتضى العبارة عدم الصّحة ، وليس بواضح.

ومثله الحشيش والمنسوج منه ، ومن نحو خوص النّخل ، وقد تقدم نقل في التّذكرة (١) الإجماع على ذلك ، وفي رواية علي بن جعفر ، عن أخيه عليه‌السلام : « إن أصاب حشيشا ستر منه عورته أتم صلاته بالرّكوع والسّجود » (٢).

وكذا القول في جلد ما يؤكل لحمه إذا ذكي ، بشرط أن تكون له نفس سائلة ، أما ما لا نفس له فقد نقل في المعتبر الإجماع على جواز الصّلاة فيه وإن كان ميتة ، معلّلا بأنّه كان طاهرا في حال الحياة ولم ينجس بالموت (٣) ، فعلى هذا إطلاق عبارة المصنّف يحتاج الى التقييد.

قوله : ( أو صوفه ، أو شعره ، أو وبره ، أو ريشه ).

سواء أخذ من مذكى ، أو حيّ ، أو ميّت إجماعا منّا.

__________________

(١) التذكرة ١ : ٩٤.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٦٥ حديث ١٥١٥ وفيه : ( يستر به عورته ).

(٣) المعتبر ٢ : ٨٤.

٧٧

أو الخز الخالص ، أو الممتزج بالإبريسم ، لا وبر الأرانب والثعالب ،

______________________________________________________

قوله : ( أو الخزّ الخالص ، أو الممتزج بالإبريسم ، لا وبر الأرانب والثّعالب ).

الخز : دابة ذات أربع تصاد من الماء فإذا فقدته ماتت ، وليس بمأكول اللّحم عندنا إذ لا يحل عندنا من حيوان البحر إلاّ ماله فلس من السمك ، وإن تضمّن بعض الأخبار ما يؤذن بحل لحمه (١).

وقد أجمع الأصحاب ، وتكاثرت الأخبار بجواز الصّلاة في وبره إذا لم يكن مشوبا بوبر ما لا يؤكل لحمه ، كالأرانب والثّعالب (٢) ، وهو الّذي إرادة المصنّف بقوله : ( الخالص ) ، حيث ساوى بينه وبين الممتزج بالإبريسم ، دون الممتزج بوبر الأرانب والثّعالب.

ويرد على مفهوم هذا القيد عدم جواز الصّلاة في جلده ، لأن الخالص إنّما يتصف به الوبر دون الجلد ، والأصحّ : جواز الصّلاة فيه ، لقول الرّضا عليه‌السلام في خبر سعد بن سعد : « إذا حل وبره حل جلده » (٣) ، وخلاف ابن إدريس ضعيف (٤) للرّواية ، ولأنّ الأوبار والجلود لا تفترق في جواز الصّلاة وعدمه.

وظاهر كلام المعتبر أنّه لا نفس له سائلة فلا تشترط ذكاته ، قال فيه : حدّثني جماعة من التّجّار أنّه القندس (٥) ولم أتحققه (٦).

وقال في الذّكرى ـ في سياق الكلام على وبره ـ قلت : لعلّه ما يسمّى في زماننا بمصر وبر السّمك ، وهو مشهور هناك. ثم حكى أن من النّاس من زعم أنّه كلب الماء فتشكل ذكاته بدون الذّبح ، لأن الظّاهر أنّه ذو نفس (٧) ، والّذي في رواية ابن أبي‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩٩ حديث ١١ ، التهذيب ٢ : ٢١١ حديث ٨٢٨.

(٢) الكافي ٣ : ٣٩٩ حديث ١١ ، العلل : ٣٥٧ باب ٧١ حديث ١ ، ٢ ، التهذيب ٢ : ٢١١ ، ٢١٢ حديث ٨٢٨ ، ٨٣٢ ، الاستبصار ١ : ٣٨٧ باب ٢٢٦ حديث ١٤٦٩ ، ١٤٧٠.

(٣) الكافي ٦ : ٤٥٢ حديث ٧.

(٤) السرائر : ٥٦.

(٥) في حياة الحيوان الكبرى ٢ : ٢٦٤ انه عبارة عن كلب الماء ، وهو من ذوات الشعر كالمعز.

(٦) المعتبر ٢ : ٨٤.

(٧) الذكرى : ١٤٤.

٧٨

وفي السنجاب قولان.

______________________________________________________

يعفور ، عن الصّادق عليه‌السلام مقتضاه أنّه لا نفس له (١) ، ولا يضر ضعف إسنادها ، لأنّ مضمونها مشهور بين الأصحاب ، ولا تضمنها حله لأنّه أعمّ من حل الأكل.

قوله : ( وفي السّنجاب قولان :).

أحدهما : الجواز ، وهو قول الشّيخ في المبسوط (٢) وجماعة (٣) ، لرواية مقاتل ، عن أبي الحسن عليه‌السلام في الصّلاة في السمور ، والسنجاب والثّعالب : « لا خير في ذلك كلّه ما خلا السّنجاب ، فإنّه دابة لا تأكل اللّحم » (٤) ، وصحيحة علي بن راشد عن أبي جعفر عليه‌السلام : « صلّ في الفنك والسّنجاب ، فأما السّمور فلا تصل فيه » (٥) ، وقد احتج أصحاب هذا القول بهذه الرّواية مع أنّها أقوى حججهم ، وقد تضمنت حلّ الصّلاة في الفنك ، ولا يقولون به.

والثّاني : المنع ، وهو قوله في الخلاف (٦) ، وظاهر قول الأكثر (٧) ، وتشهد له رواية زرارة عن الصّادق عليه‌السلام وقد سئل عن الصّلاة في أشياء منها السّنجاب ، فأجاب : « بأنّ كل شي‌ء حرام أكله فالصلاة ، في وبره ، وشعره ، وجلده ، وبوله ، وروثه ، وكلّ شي‌ء منه فاسد لا تقبل تلك الصّلاة » (٨) وفي إسنادها ابن بكير وهو فاسد العقيدة ، وحديث مقاتل وإن ضعف به ـ لأنّه واقفي ـ وبالإرسال ، إلا أن صحيحة ابن راشد وعمل جمع من كبراء الأصحاب يعضده ، فالقول بالجواز أقوى وإن كره.

ولا يخفى أنّ تذكيته شرط للحل لأنّه ذو نفس ، قال في الذّكرى : وقد اشتهر‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩٩ حديث ١١ ، التهذيب ٢ : ٢١١ حديث ٨٢٨.

(٢) المبسوط ١ : ٨٢.

(٣) منهم : المحقق في المعتبر ٢ : ٨٦ ، والشرائع ١ : ٦٩ ، والشهيد في الذكرى : ١٤٤ ، والدروس : ٢٦ ، والبيان : ٥٧.

(٤) الكافي ٣ : ٤٠١ حديث ١٦ ، التهذيب ٢ : ٢١٠ حديث ٨٢١ ، الاستبصار ١ : ٣٨٤ حديث ١٤٥٦.

(٥) الكافي ٣ : ٤٠٠ حديث ١٤ ، التهذيب ٢ : ٢١٠ حديث ٨٢٢ ، الاستبصار ١ : ٣٨٤ حديث ١٤٥٧.

(٦) الخلاف ١ : ٣ مسألة ١١ من كتاب الطهارة.

(٧) منهم : والد الصدوق في الفقيه ١ : ١٧٠ ، والصدوق في الفقيه ١ : ١٧١ ، والعلامة في المختلف : ٧٩.

(٨) الكافي ٣ : ٣٩٧ حديث ١ ، التهذيب ٢ : ٢٠٩ حديث ٨١٨ ، الاستبصار ١ : ٣٨٣ حديث ١٤٥٤.

٧٩

وتصح الصلاة في صوف ما يؤكل لحمه ، وشعره ، ووبره ، وريشه وإن كان ميتة ، مع الجز أو غسل موضع الاتصال.

ولا تجوز الصلاة في جلد الميتة ، وإن كان من مأكول اللحم ، دبغ أولا ،

______________________________________________________

بين التّجار والمسافرين أنّه غير مذكّى ، ولا عبرة بذلك حملا لتصرف المسلمين على ما هو الأغلب (١) قلت : إذا أخذ من يد مسلم غير مستحلّ للميتة بالدّباغ ونحوه فلا عبرة بهذه الشّهرة ، على أن متعلق الشّهادة إذا كان غير محصور لا تسمع.

قوله : ( وتصحّ الصّلاة في صوف ما يؤكل لحمه ، وشعره ، ووبره ، وريشه ).

وكذا عظمه ، ونحوه بالإجماع.

قوله : ( وإن كان ميتة مع الجزّ ، أو غسل موضع الاتصال ).

أي : وإن كان ميتة مع الجزّة ،. وغسل موضع الاتصال ).

أي : وإن كان ما يؤكل لحمه الّذي يؤخذ منه الصوف ، وما في حكمه ميتة بشرط الجزّ ، لعدم المقتضي للتنجيس حينئذ ، أو غسل موضع الاتّصال إذا قلع ، بشرط أن لا ينفصل معه من الميتة شي‌ء ، ولو قلع ثم قطع موضع الاتّصال أغنى عن الغسل (٢). أمّا العظم فلا بدّ من غسله لملاقاة الميتة ، الا أن يذهب اللّحم عنه قبل الموت.

واعلم أنّ المصنّف لو زاد عند قوله : ( أو الخز الخالص ) وإن أخذ من ميتة الى آخره ، لأغنى عن هذا الكلام الطويل ، مع أنّ تقييد الجلد بالتذكية ، وإطلاق ما بعده يفهم منه اختصاص التقييد بالجلد.

قوله : ( ولا تجوز الصّلاة في جلد الميتة وإن كان من مأكول اللحم دبغ أو لا ).

هذا تصريح بما دلّ عليه التقييد بالتذكية سابقا ، ولا فرق في منع الصّلاة في الميتة بين كون الحيوان من جنس ما يؤكل لحمه أو لا ، ولا بين أن يدبغ وعدمه بإجماعنا ، والأخبار عن أهل البيت عليهم‌السلام بذلك متواترة ، مثل خبر محمّد بن‌

__________________

(١) الذكرى : ١٤٤.

(٢) في نسخة « ح » : عن الغسل والجز ، وفي نسخة (ع) : عن الجز.

٨٠