جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ١

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ١

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

الأول : في ماهيّته : الحيض دم يقذفه الرحم إذا بلغت المرأة ، ثم يعتادها في أوقات معلومة غالبا لحكمة تربية الولد ، فإذا حملت صرف الله تعالى ذلك الدم الى تغذيته ، فإذا وضعت الحمل خلع الله تعالى عنه صورة الدم وكساه صورة اللبن لاغتذاء الطفل ، فإذا خلت المرأة من حمل ورضاع بقي ذلك الدم لا مصرف له فيستقر في مكان ، ثم يخرج في الغالب في كل شهر ستة أيام أو سبعة أو أقل أو أكثر بحسب قرب المزاج من الحرارة وبعده عنها.

______________________________________________________

الدّماء الثّلاثة ، فلذلك عنون الأبواب الثّلاثة بها.

قوله : ( الأول في ماهيّته : الحيض دم يقذفه الرحم إذا بلغت المرأة ، ثم يعتادها في أوقات معلومة غالبا ).

الحيض لغة : السيل بقوّة ، يقال : حاض الوادي إذا سال بقوة (١).

وشرعا : دم يقذفه الرّحم إلى آخره ، والتقييد بقوله : ( غالبا ) لئلا يخرج من التّعريف بعض أفراد الحيض ، وهو ما كان على خلاف الغالب ، والإجماع على أنّه لا يكون قبل البلوغ ، ومثله دم النّفاس لكنه يخرج بالقيد الأخير.

قوله : ( لحكمة تربية الولد ).

قد يسأل عن متعلق الجار ، فيجاب بأنه محذوف ، يدلّ عليه سوق الكلام ، أي خلق لحكمة تربية الولد ، وقوله : ( فإذا حملت ... ) بيان لذلك ، و « الفاء » فيه عاطفة.

قوله : ( فإذا حملت ... ).

من ثمّ قلما تحيض الحامل والمرضع.

قوله : ( ثمّ يخرج في الغالب في كلّ شهر ستة أيّام ).

المراد به : الشّهر الهلالي ، كما دلّت عليه الأخبار (٢) والعادات ، وقوله : ( أو أقل أو أكثر ) ، المراد به أقل من الستة والسّبعة أو أكثر منهما في كل شهر ليكون في جملة الغالب ، ولو أريد أقل من الشّهر وأكثر منه لم يستقم ، لأنه خلاف الغالب ، بل يكون‌

__________________

(١) انظر : لسان العرب ٧ : ١٤٢ مادة حيض.

(٢) الكافي ٣ : ٩١ باب معرفة الحيض ، التهذيب ١ : ١٥١ حديث ٣ وهي مطلقة وليس فيها ما يدل على الهلالي.

٢٨١

وهو في الأغلب أسود يخرج بحرقة وحرارة ، فإن اشتبه بالعذرة حكم لها بالتطوق وللقرح ان خرج من الأيمن.

______________________________________________________

مدلولا عليه بمفهوم الغالب ، والجارّ في ( بحسب ) يتعلق بقوله : ( يخرج ) وهو ـ بفتح السّين ـ المقدار ، أي يخرج بمقدار قرب المزاج.

قوله : ( يخرج بحرقة وحرارة ).

قد يسأل عن الفرق بين اللفظين ، فيجاب بأن الحرقة هي ما تجده المرأة من اللذع بحرارة الدّم ، وقد كان الأنسب تأخيرها عن الحرارة ، كما في لفظ الحديث عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « دم الحيض حار ، تجد له حرقة » (١) وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام : « دم الحيض حار ، عبيط أسود له دفع وحرارة » (٢) فذكر الحرارة مرّتين ، ولعله أراد بإحداهما معنى الحرقة ، فإن الدّفع يشعر بها ، وزاد الدّفع والعبيط ، وهو بالمهملتين : الطري.

ورووا عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « دم الحيض عبيط أسود محتدم » والمحتدم : الحار ، كأنّه محترق ، يقال : احتدم النّهار إذا اشتدّ حره.

قوله : ( وللقرح إن خرج من الأيمن ).

هذا هو المشهور ، ذهب إليه ابن بابويه (٣) ، والشّيخ في النّهاية (٤) وأكثر الأصحاب (٥) والمصنّف في كتبه (٦).

واختلف قول شيخنا الشّهيد ، ففي بعض كتبه قال بالأوّل (٧) ، وفي بعضها قال بالثّاني (٨) ، وفي المنتهى (٩) والمختلف (١٠) أسند الثّاني إلى رواية الشّيخ‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٩١ حديث ٣ ، التهذيب ١ : ١٥١ حديث ٤٣١.

(٢) الكافي ٣ : ٩١ حديث ١ ، التهذيب ١ : ١٥١ حديث ٤٢٩.

(٣) الفقيه ١ : ٥٤.

(٤) النهاية : ٢٤.

(٥) منهم : ابن إدريس في السرائر : ٢٨ ، وابن سعيد في الجامع للشرائع : ٤١ ، والشهيد في البيان : ١٦.

(٦) ذكر ذلك في المختلف : ٣٦ ، والمنتهى ١ : ٩٥ ، والتذكرة ١ : ٢٦.

(٧) الدروس : ٦.

(٨) الذكرى : ٢٨.

(٩) المنتهى ١ : ٩٥.

(١٠) المختلف : ٣٦.

٢٨٢

______________________________________________________

رحمة الله عليه في التهذيب (١).

والّذي وجدته في التّهذيب الأوّل ، فإنّه روى عن محمّد بن يحيى ، رفعه عن أبان ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : فتاة منّا بها قرحة في جوفها ، والدّم سائل ، لا تدري من دم الحيض ، أو من دم القرحة؟ فقال : « مرها فلتستلق على ظهرها ، وترفع رجليها ، وتستدخل إصبعها الوسطى ، فان خرج الدم من الجانب الأيسر فهو من الحيض ، وإن خرج من الجانب الأيمن فهو من القرحة. » (٢).

لكن الّذي رواه الكليني ، عن محمّد بن يحيى أيضا عكس هذه الرّواية (٣) ، حكاه المصنّف في المنتهى (٤) والتّذكرة (٥) ، وشيخنا في الذكرى وزاد فيها ان في كثير من نسخ التهذيب الجديدة الرّواية بلفضها (٦) ، يعني كما رواه ابن يعقوب ، ثم حكى ان ابن طاوس رحمة الله عليه قال : إن الحكم بكون الخارج من الأيسر حيضا موجود في بعض نسخ التّهذيب الجديدة ، وقطع بأنّه تدليس ، إلاّ أن الرّواية مرسلة ، وفي الدّروس قال : والرواية مضطربة (٧).

أقول : ما قطع به ابن طاوس من التّدليس ليس بظاهر ، فان التّدليس إنّما يكون في الإسناد دون المتن ، كأن يروي عمّن لقيه ولم يسمع منه موهما أنّه سمع منه ، أو يروى عمّن عاصره ولم يلقه موهما أنه لقيه وسمع منه. أمّا الاضطراب فقد يكون في المتن ، وقد يكون في الإسناد ، بأن ترد الرّواية من طريق على وجه ، ومن آخر على وجه يخالفه ، لكن إنّما يصدق الاضطراب إذا تساويا ، أما إذا ترجح أحدهما بمرجح فلا اضطراب ، وحينئذ فيقال هنا : فتوى الشّيخ بأن الحيض من الأيسر يدلّ على أن الصّحيح من نسخ التّهذيب ما تضمن الرّواية.

__________________

(١) لم نجد هذه الرواية في التهذيب ، بل الموجود هو العكس ، وهي رواية محمد بن يحيى عن أبان الاتية.

(٢) التهذيب ١ : ٣٨٥ حديث ١١٨٥.

(٣) الكافي ٣ : ٩٤.

(٤) المنتهى ١ : ٩٥.

(٥) التذكرة ١ : ٢٦.

(٦) الذكرى : ٢٨.

(٧) الدروس : ٦.

٢٨٣

وكل ما تراه قبل بلوغ تسع سنين ،

______________________________________________________

ولا تعارضها رواية محمّد بن يعقوب لها بخلاف ذلك ، لأنّ الشّيخ أعرف بوجوه الحديث وأضبط ، خصوصا مع فتوى الأصحاب بمضمونها ، فإنّه مع ترجيحه لها جابر لوهن إرسالها.

ويشهد لذلك ما روي من أن الحائض إذا أرادت أن تستبرئ نفسها ألصقت بطنها إلى جدار ، ورفعت رجلها اليسرى (١) فإنها تدل على أن الحيض من الأيسر ، فعلى هذا المعتمد ما عليه أكثر الأصحاب (٢).

فرعان :

أ : إذا انتفت القرحة ، وخرج الدم من الأيمن بأوصاف الحيض وشرائطه فالظاهر أنّه حيض ، نظرا إلى الإمكان في نظر الشارع ، ووجوب تعلّق الحكم مع اجتماع الشرائط ، والحديث لا ينافي ذلك ، لأنه إنّما ورد على ذات القرحة ، والظاهر أن إطلاق الأصحاب يراد به ذلك.

ب : لو خرج الدّم من غير الرحم في دور الحيض لانسداد الرحم ، قال في البيان : فالأقرب أنّه حيض مع اعتياده ، كما حكي في زماننا عن امرأة يخرج الدّم من فيها (٣) ، وما قرّبه قريب.

قوله : ( وكل ما تراه قبل بلوغ تسع سنين ).

قد يقال : إن هذا مع قوله سابقا : ( إذا بلغت المرأة ) تكرار ، وجوابه أنه لم يتقدم تعيين الزّمان الّذي يحصل به البلوغ ، فلا تكرار.

وقد يقال أيضا : إن الحيض دليل على حصول البلوغ ، فإذا اشترط في كونه حيضا البلوغ انتفت دلالته.

وجوابه : أنّه يفيد العلم بالبلوغ فيمن جهل سنّها ، واستعدت له ـ عادة ـ ثم وجد‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٨٠ حديث ١ ، التهذيب ١ : ١٦١ حديث ٤٦٢.

(٢) ذهب اليه الشيخ في المبسوط ١ : ٤٣ ، والنهاية : ٢٤ وابن البراج في المهذب ١ : ٣٥ ، وغيرهم.

(٣) البيان : ١٦.

٢٨٤

أو بعد سن اليأس وهو ستون للقرشية والنبطية ، وخمسون لغيرهما ،

______________________________________________________

الدم بشرائط الحيض ، فإنه يكون دليلا على بلوغها.

قوله : ( وهو ستون للقرشيّة والنّبطية ، وخمسون لغيرهما ).

المراد بالقرشيّة من انتسبت إلى قريش بأبيها كما هو المختار في نظائره ، ويحتمل الاكتفاء بالأم هاهنا ، لأن المعتبر في الحيض تقارب الأمزجة ، ومن ثم اعتبرت العمات والخالات وبناتهن في المبتدئة إذا اختلف عليها الدّم ، والمعتمد هو الأوّل اقتصارا على المتيقن ، واتّباعا لمدلول قول الصّادق عليه‌السلام في صحيحة ابن أبي عمير : « إذا بلغت المرأة خمسين لم تر حمرة إلاّ أن تكون امرأة من قريش » (١).

امّا النّبطية فذكرها الأصحاب ، لكن لا نص ظاهرا عليها ، قال في الذكرى : وأمّا النّبطية فذكره المفيد رحمه‌الله ومن تبعه رواية ، ولم أجد به خبرا مسندا (٢) ، وعلى هذا فلم يذكر أحد من أصحابنا تعيين النبطية ، والّذي كثر في كلام أهل اللغة أنّ النبط : جيل كانوا ينزلون البطائح بين الكوفة والبصرة ، قال في الصّحاح : النّبط والنبيط قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين ، الجمع أنباط ـ الى أن قال ـ : وفي كلام أيوب ابن القرية أهل عمّان عرب استنبطوا ، وأهل البحرين نبيط استعربوا (٣) وفي النهاية لابن الأثير بعد أن ذكر ما قدمناه أولا قال : إنّهم كانوا قديما سكان العراق (٤) ، وفي القاموس اقتصر على ما قدمناه (٥) ، وحينئذ فالحكم خال من مستند قوي سوى الشهرة ، ومناطه غير مضبوط ، ويمكن أن يستأنس له بأن الأصل عدم اليأس ، فيقتصر فيه على موضع الوفاق.

وفي بعض الأخبار الصحيحة ، عن الصّادق عليه‌السلام حد التي يئست من المحيض خمسون سنة (٦) ، وفي بعضها استثناء القرشية (٧) ، والأخذ بالاحتياط في بقاء‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٠٧ حديث ٣ ، الفقيه ١ : ٥١ حديث ١٩٨ ، التهذيب ١ : ٣٩٧ حديث ١٢٣٦.

(٢) الذكرى : ٢٨.

(٣) الصحاح ٣ : ١١٦٢ مادة ( نبط ).

(٤) النهاية ( نبط ) ٥ : ٩.

(٥) القاموس ( نبط ) ٢ : ٣٨٧.

(٦) الكافي ٣ : ١٠٧ حديث ٢ ، ٤ ، التهذيب ١ : ٣٩٧ حديث ١٢٣٥ ، ١٢٣٧ ، وج ٨ : ١٣٧ حديث ٤٧٨.

(٧) الكافي ٣ : ١٠٧ حديث ٣ ، الفقيه ١ : ٥١ حديث ١٩٨ ، التهذيب ١ : ٣٩٧ حديث ١٢٣٦.

٢٨٥

أو دون ثلاثة أيام ، أو ثلاثة متفرقة ، أو زائدا عن أقصى مدة الحيض أو النفاس فليس حيضا.

ويجامع الحمل على الأقوى ،

______________________________________________________

الحكم بالعدة وتوابع الزوجية ـ استصحابا لما كان لعدم القطع بالمنافي ـ أولى ، والأمر في العبارة أسهل ، فالوقوف مع المشهور أوجه ، وبالغ المصنّف في المنتهى (١) فحكم بإمكان الحيض الى الستين مطلقا ، ومشهور الأصحاب ، والّذي في الاخبار خلافه.

قوله : ( أو زائدا عن أقصى مدّة الحيض أو النّفاس ، فليس حيضا ).

أمّا الزائد عن أقصى مدة الحيض فظاهر ، وأما الزائد عن أقصى مدّة النّفاس فلأنه لا بدّ من تخلل عشرة ـ هي أقل الطهر بين النّفاس والحيض ـ ليكون ما بعده وما قبله حيضا ، ولا يغني ذكر الأوّل عن الثّاني ، إذ لا يلزم من نفي كون الزائد عن أقصى مدة الحيض حيضا ، نفي كون الزّائد عن أقصى مدّة النفاس حيضا ، وهو المقصود بالبيان ، فلا تتوجّه على العبارة مؤاخذة.

قوله : ( ويجامع الحمل على الأقوى ).

اختلف الأصحاب في ذلك على أقوال :

فالمشهور أنّ الحامل قد تحيض كالحائل (٢) ، وللشّيخ قول في الخلاف بأنّها تحيض ما لم تستبن الحمل (٣) ، وفي النّهاية (٤) اعتبر عدم تأخر الدّم عن العادة بعشرين يوما ، فإن تأخر كذلك فليس بحيض تعويلا على رواية الصحاف (٥) ، وهي معارضة بأشهر منها وأكثر مع قبولها التأويل بالغالب.

وقال ابن الجنيد : لا يجتمع حمل وحيض (٦) ـ وهو اختيار ابن إدريس ـ (٧) استنادا إلى حجج ضعيفة ، منها قوله عليه‌السلام : « ما كان الله ليجعل حيضا مع‌

__________________

(١) المنتهى ١ : ٩٦.

(٢) منهم : الصدوق في المقنع : ١٦ ، والشهيد في الدروس : ٦.

(٣) الخلاف ١ : ٧٤ مسألة ١٢ كتاب الحيض.

(٤) النهاية : ٢٥.

(٥) الكافي ٣ : ٩٥ حديث ١ ، التهذيب ١ : ٣٨٨ حديث ١١٩٧ ، الاستبصار ١ : ١٤٠ حديث ٤٨٢.

(٦) نقل قوله في المختلف : ٣٦.

(٧) السرائر : ٢٩.

٢٨٦

وأقلّه ثلاثة أيام متوالية ، وأكثره عشرة أيام وهي أقل الطهر.

______________________________________________________

حبل » (١) ، وردّ بمنع صحّة السّند ، ومنها ان الحامل يصح طلاقها مع الدم ، ولا شي‌ء من الحائض يصحّ طلاقها ، والكبرى ممنوعة ومنقوضة بالغائب ، ومنها أن الحيض علامة على عدم الحمل فلا يجامعه ، وردّ بأنّ العلامة يكفي فيها الغالب ، والأصحّ الأوّل.

قوله : ( وأقله ثلاثة أيّام متوالية ).

اتفق الأصحاب كلّهم على أن أقل الحيض ثلاثة أيّام ، كما اتفقوا على أن أكثره عشرة ، فلو نقص عن ذلك فليس بحيض قطعا ، والأخبار (٢) في ذلك كثيرة جدّا ، ولا ريب أن اللّيالي معتبرة في الأيّام ، إمّا لكونها داخلة في مسمّاها أو تغليبا ، وقد صرّح بدخولها في بعض الأخبار من طرق العامة (٣) ، وفي عبارة بعض الأصحاب (٤) ، وادّعى المصنّف الإجماع على ذلك في المنتهى (٥).

لكن اختلفوا في أن الثّلاثة هل يشترط أن تكون متوالية أم يكفي كونها في جملة عشرة وإن كانت متفرقة؟ فالأكثر على الأوّل (٦) ، والشّيخ في النّهاية على الثّاني (٧) ، وبه مرسلة يونس ، عن بعض رجاله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٨) ، وضعفها بالشّذوذ ، والإرسال منع من التمسّك بها ، والوقوف مع الأصل للشكّ في الحيض ، واستصحاب شغل الذمة بالعبادة ، وموافقة أكثر الأصحاب اقتضى ترجيح الأوّل.

فعلى هذا ، ما المراد بالتّوالي؟ لا يعرف الان في كلام أحد من المعتبرين تعيينا له ، والمتبادر إلى الأفهام من كون الدّم ثلاثة أيّام حصوله فيها على الاتصال ، بحيث متى ما وضعت الكرسف تلون به ، وقد يوجد في بعض الحواشي الاكتفاء بحصوله فيها في‌

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٨٧ حديث ١١٩٦ ، الاستبصار ١ : ١٤٠ حديث ٤٨١.

(٢) الكافي ٣ : ٧٥ حديث ١ ـ ٣ ، التهذيب ١ : ١٥٦ حديث ٤٤٥ ـ ٤٤٧ ، الاستبصار ١ : ١٣٠ ـ ١٣١ حديث ٤٤٦ ـ ٤٥٠.

(٣) سنن النسائي ١ : ١٨٢.

(٤) المعتبر ١ : ٢٠٢ : وفيه ( فقال أبو علي بن الجنيد في المختصر : أقله ثلاثة أيام بلياليها ).

(٥) المنتهى ١ : ٩٧.

(٦) منهم : الشيخ في الجمل والعقود ( الرسائل العشرة ) : ١٦٣ ، وابن إدريس في السرائر : ٢٨ ، وابن الجنيد كما نقله في المختلف ٣٦ ، وابن حمزة في الوسيلة : ٤٧ ـ ٤٨.

(٧) النهاية : ٢٦.

(٨) الكافي ٣ : ٧٦ حديث ٥.

٢٨٧

وكلّ دم يمكن أن يكون حيضا فهو حيض وان كان أصفر أو غيره ، فلو رأت ثلاثة ثم انقطع عشرة ثم رأت ثلاثة فهما حيضان.

ولو استمر ثلاثة وانقطع ورأته قبل العاشر ، وانقطع على العاشر فالدمان وما بينهما حيض. ولو لم ينقطع عليه فالحيض الأول خاصة.

______________________________________________________

الجملة ، وهو رجوع الى ما ليس له مرجع.

قوله : ( وكل دم يمكن أن يكون حيضا فهو حيض ).

هذا الحكم ذكره الأصحاب كذلك ، وتكرر في كلامهم ، ويظهر انّه ممّا أجمعوا عليه ، ولولاه لكان الحكم به مشكلا ، من حيث ترك المعلوم ثبوته في الذمة تعويلا على مجرّد الإمكان ، وقد يستأنس له بظاهر الأخبار الدالة على تعلّق أحكام الحيض بمجرّد لون الدّم (١) ، مع إمكان أن لا يكون حيضا ، ومنه يظهر اعتبار التمييز.

والمراد بالإمكان : عدم الامتناع عند الشّارع ، فلو رأت دما بشرائط الحيض كلّها ، لكن تقدمّه دم كذلك ولم يتخلل بينهما أقل الطهر امتنع أن يكون حيضا ، وكذا ما بين العادة والعشرة مع التّجاوز ، ولا يقدح عدم ظهور الحال قبل بلوغ العشرة ، لأن الحكم بكونه حيضا وعدمه عند الشّارع واقع ، وانكشافه عندنا موقوف على التجاوز وعدمه ، ولا يعتبر في إمكان كون الدّم حيضا أن يكون بصفة دم الحيض ، كما صرّح به المصنّف في المنتهى (٢) وغيره (٣) ، وكذا غيره (٤).

ولا يشكل بأن لدم الاستحاضة صفات يختص بها ، فلا يجامع دم الحيض ، والا لم تكن مختصة ، لأن المراد الاختصاص غالبا ، ولأن الصفات غير موثوق بها ، لأن الصفرة والكدرة في أيّام الحيض حيض ، كما أن السواد والحمرة في أيام الطّهر استحاضة ، فلا يعارض ما هو أقوى ، فإن اجتماع الشرائط يوجب القطع بالحيض.

قوله : ( ولو لم ينقطع عليه ، فالحيض الأوّل خاصّة ).

هذا إذا لم تكن ذات عادة مستقرة ، أو كانت ولم يصادف الدّم الّذي قبل‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٧٦ حديث ٥ ، التهذيب ١ : ١٥٨ حديث ٤٥٢.

(٢) المنتهى ١ : ٩٨.

(٣) التحرير ١ : ١٣ ، والتذكرة ١ : ٢٦ ـ ٢٧.

(٤) المحقق في المعتبر ١ : ٢٠٣ والشهيد في اللمعة : ٢٠.

٢٨٨

ولو تجاوز الدم العشرة ، فإن كانت ذات عادة مستقرة ـ وهي التي يتساوى دمها أخذا وانقطاعا شهرين متواليين ـ

______________________________________________________

العاشر جزءا من عادتها ، فان صادف فالجزء الأخير من العادة ، والدّم الأوّل وما بينهما حيض ، امّا زمان الدّمين ـ أعني الجزء الأخير والدّم الأوّل ـ فظاهر لأنّهما في العادة ، وأما ما بينهما من النقاء فهو حيض عندنا ، لأنّه محفوف بدمي الحيض ، ويمتنع كون الطّهر أقل من عشرة.

قوله : ( ولو تجاوز الدّم العشرة ، فإن كانت ذات عادة مستقرّة ).

لما ذكر أن الدّم إذا انقطع على العشرة حكم بأن الجميع حيض ، أشار إلى حكم ما إذا تجاوز ، واعلم أنّه إذا تجاوز الدّم العشرة ، فقد امتزج الحيض بالطهر ، فلا يخلو إما أن تكون ذات عادة مستقرة ، أو مبتدئة ، أو مضطربة ناسية لعادتها عددا ووقتا ، أو عددا خاصّة ، أو وقتا خاصّة ، وعلى التّقديرات ، فامّا أن يكون لها تمييز أو لا ، فهذه صور عشر.

أ : ذات عادة مستقرة مميزة.

ب : الصورة بحالها ولا تمييز.

ج : مبتدئة مميّزة.

د : مبتدئة غير مميّزة.

ه : ناسية العادة عددا ووقتا ، مميّزة.

و : الصّورة بحالها ولا تمييز.

ز : ناسية العدد دون الوقت مميّزة.

ح : الصورة بحالها ولا تمييز.

ط : عكس ذلك مع التمييز.

ي : الصّورة بحالها ولا تمييز.

فهذه أقسام المستحاضات ، وسيأتي ـ ان شاء الله تعالى ـ مفصّلة.

قوله : ( وهي الّتي يتساوى دمها أخذا وانقطاعا شهرين متواليين ).

العادة إنّما تثبت بمرّتين متساويتين عددا ووقتا إجماعا ، لأن العادة مأخوذة من العود ، ولا تصدق بالمرة الواحدة ، لقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « دعي الصّلاة أيام‌

٢٨٩

______________________________________________________

أقرائك » (١) ، والجمع لا يصدق على الواحد قطعا ، وفي مقطوع سماعة : « فإذا اتفق شهران عدة أيام سواء فتلك أيّامها » (٢) ، وعن الباقر عليه‌السلام وقد سئل عن المستحاضة كيف يغشاها زوجها؟ قال : « ينظر الأيام التي كانت تحيض فيها وحيضتها مستقيمة ، فلا يقربها في عدّة تلك الأيام » (٣) وصدق الاستقامة يستدعي مرتين ، ولا يشترط الثلاث اتّفاقا منّا لقول الصّادق عليه‌السلام : « فان انقطع الدّم لوقته من الشّهر الأوّل ، حتّى توالت عليها حيضتان ، أو ثلاث فقد علم أن ذلك صار لها وقتا ، وخلقا معروفا » (٤).

ولا يشترط في استقرار العادة استقرار عادة الطهر لعموم النّص ، وصدق الأقراء بدونه ، فلو رأت في أوّل شهرين خماس ، ثم في آخر الثاني وعبر العشرة رجعت إلى الخمسة ، وتستظهر هذه برؤية الدّم الثّالث إلى ثلاثة ، كما سيأتي في المبتدئة والمضطربة ، لوقوعه في غير وقت العادة ، نعم يشترط استواء وقتيهما وان اختلف العدد كما في الفرض السابق.

ويلوح من عبارة المنتهى عدم اعتبار استواء الوقتين ، فإنه قال : لا يشترط في استقرار العادة استقرار عادة الطهر ، ثم قال بعده : لا يشترط التّساوي في الوقت ، فإن العادة تتقدم وتتأخّر بالوجدان (٥) ، وهذا وإن كان بإطلاقه يؤذن بعدم اعتبار استواء الوقت ، إلاّ أنّه يحتمل أن يريد بعدم اعتبار الاستواء بالنّسبة إلى الاستقرار العددي لا مطلقا.

وقد صرّح بذلك في التذكرة حيث قال : لا يشترط في استقرار العادة استقرار عادة الطّهر ـ إلى أن قال ـ وكذا لا يشترط الوقت ، فلو رأت خمسة في أوّل الشهر ، ثم في أوسط الثّاني ، ثم في آخره استقرت عادتها عددا ، فان اتفق الوقت مع العدد استقرأ عادة (٦).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٨٨ حديث ١.

(٢) الكافي ٣ : ٧٩ حديث ١.

(٣) التهذيب ١ : ٤٠٢ حديث ١٢٥٧.

(٤) الكافي ٣ : ٨٨ حديث ١ بتفاوت يسير.

(٥) المنتهى ١ : ١٠٣.

(٦) التذكرة ١ : ٢٧.

٢٩٠

______________________________________________________

وفي الذّكرى بعد أن اعتبر استقرار الطّهر حكى عن المصنّف عدمه ، ثم قال : وتظهر الفائدة لو تغاير الوقت في الثّالث ، فان لم نعتبر استقرار الطّهر جلست لرؤية الدّم ، وإن اعتبرناه فبعد الثلاثة ، أو حضور الوقت. هذا إن تقدم الوقت ، ولو تأخر أمكن ذلك استظهارا ، ويمكن القطع بالحيض هنا ، ثم قال : والأقرب ان اتحاد الوقت إنما يؤثر في الجلوس برؤية الدم ، وقلما يتفق دائما (١).

وأقول : ما حكاه عن المصنّف صحيح ، غير أن ما ادّعاه من الفائدة منظور فيه ، إذ ليس في كلام المصنّف ، ولا غيره من الأصحاب تصريح بأن من استقرت عادتها عددا لا وقتا تجلس لرؤية الدّم مع القول بوجوب الاستظهار بالثلاثة على المبتدئة والمضطربة ، وما قربه في آخر كلامه لا معنى له ، إذ لا فرق بين المبتدئة وذات العادة وذات الدم إذا رأت الدم في غير عادتها ، إلاّ إذا تأخر فيمكن الفرق هنا ، وسيأتي في كلام المصنّف اعتبار الاحتياط في المبتدئة بالصّبر ثلاثة وهو آت في متقدّمة العادة ، ومن لم تستقر عادتها وقتا ، ولم يوجد في كلامه ما ينافيه ، بل يظهر من قوله فيما بعد : ( وتترك ذات العادة العبادة برؤية الدّم فيها ).

ولو استوت الحيضتان عددا واختلفتا وقتا ، كما لو رأت خمسة أوّل الشّهر وأخرى آخره ، استقرت عددا لا وقتا ، اتفق عدد الطهر أو اختلف ، تدل على ذلك عبارات الأصحاب ، وحكاه في الذكرى (٢) عن المبسوط (٣) والخلاف (٤).

ومثله ما لو تساويا في زيادة على شهرين ، فتستظهر برؤية الدّم الثّالث إلى ثلاثة أيام ، وان عبر العشرة رجعت الى الخمسة ، فإن استمر الدّم فلا تصريح في حكم الدّم الرّابع ، والظاهر إلحاقها بذاكرة العدد النّاسية للوقت.

ولو استوى الوقت في الحيضتين واختلف العدد ، كما لو رأت خمسة في أوّل الشّهر وستة في أوّل الثّاني فوجهان :

__________________

(١) الذكرى : ٢٨.

(٢) الذكرى : ٢٨.

(٣) المبسوط ١ : ٤٧.

(٤) الخلاف ١ : ٤١ مسألة ١٣ كتاب الحيض.

٢٩١

______________________________________________________

أحدهما : استقرار أقل العددين ، وهو مختار المصنّف في النهاية (١) ، والشّهيد في الذكرى (٢).

والثاني : العدم ، وهو الأقرب لعدم صدق الاستواء والاستقامة ، لكن هذه تترك الصّلاة والصوم برؤية الدّم ، فإذا عبر دمها العشرة فالظاهر إلحاقها بذاكرة الوقت الناسية للعدد مع احتمال رجوعها ، والتي قبلها إلى عادة النّساء من الأقارب والأقران ان لم يسبق لها عادة مستقيمة.

ولو اختلف عدد الحيضتين ووقتهما ، فاستقرار الوقت منتف قطعا ، وفي استقرار أقل العددين ما تقدم. إذا تقرر هذا فهنا مباحث :

الأوّل : قد يلخص مما ذكرناه أن العادة على ثلاثة أقسام : مستقرة عددا ووقتا ، مستقرة عددا لا وقتا ، مستقرة وقتا لا عددا ، وظاهر عبارة الكتاب تعريف الأولى لأنها المتبادرة إلى الفهم من إطلاق لفظ المعتادة ، كما يظهر من قول المصنّف : ( وتترك ذات العادة العبادة برؤية الدّم فيها ) ، ولعدم انطباق التّعريف على غيرها ، لأن تساوي الدّمين أخذا وانقطاعا إنّما يصدق مع تماثل الزّمان ، وهو غير صادق في غير المدّعى.

ولو صحّ عدم اعتبار التماثل ، واكتفي بمطلق الاستواء في وقت الأخذ والانقطاع امتنع صدقه في الثّالثة ، وخروجها من التّعريف حينئذ نوع خلل ، لأنه إن أريد تعريف مطلق المعتادة وجب دخولها فخروجها خلل في عكس التّعريف ، أو المعتادة الحقيقة ، فدخول الثانية خلل في طرد التّعريف ، فتعيّن اعتبار التماثل.

الثّاني : الشّهر لغة هو العدّة بين هلالين ، وربّما أطلق على ثلاثين يوما كما سيأتي إن شاء الله تعالى في البيع ، والظهار ، والإيلاء وغيرها ، ويطلق هنا على العدّة الّتي يقع فيها حيض وطهر صحيحين ، وأقل ذلك عندنا ثلاثة عشر يوما كما صرّح به المصنّف في النّهاية (٣) وهذا الإطلاق شائع في كلامهم ، ولم يثبت أنه بطريق الحقيقة‌

__________________

(١) نهاية الأحكام ١ : ١٤٤.

(٢) الذكرى : ٢٨.

(٣) نهاية الأحكام ١ : ١٤٣.

٢٩٢

______________________________________________________

أو المجاز مع كثرة استعمالهم الشهر بالمعنى اللّغوي في مثل قولهم : في كلّ شهر ستّة أيّام ، أو سبعة.

وقولهم : تحديد أبي الصّلاح أكثر الطهر بثلاثة أشهر (١) ضعيف ، وأمثال ذلك مما لا يحصى ، مع أنّه قد ثبت أن غالب عادات النّساء في كلّ شهر هلالي مرّة ، ولهذا إنّما يحكم بالحيض للمتحيرة في كلّ هلال مرّة ، وكذا المبتدئة مع إمكان الزّيادة على ذلك ويحكم بانقضاء عدّتها لو طلقت بثلاثة أشهر ، وأكثر إطلاقات الشّهر في الأخبار منزلة على الهلالي ، فعلى هذا يكون إطلاق الشّهر على العدة الّتي يقع فيها حيض ، وطهر صحيحين بطريق المجاز لأنه خير من الاشتراك والنقل.

إذا عرفت هذا ، فقد ظهر ممّا قررناه أولا ، ان الشّهر في عبارة الكتاب في تعريف المعتادة إنّما يراد به الهلالي لا العدة بالمعنى الثّاني ، كما يوجد في بعض حواشي ولد المصنّف (٢) وشيخنا الشّهيد (٣) ، لأن تماثل الزّمان بالنسبة إلى الدّمين لا يتصوّر في غيره ، وكلام الفقهاء مشحون بذلك.

ولأنه لو أريد ذلك لم يتحقق استقرار العادة ، لصدقه مطردا فيما لو رأت خمسة في أوّل الشّهر ، وخمسة في آخره ، ثم استمرّ الدّم في الشّهر الذي بعده ، فإنا وإن حكمنا برجوعها في الدم الثّالث إلى العدد السّابق ، إلا أنّ ما بعده من زمان استمرار الدم لا يتعين لها حيض بيقين ، لانتفاء المعين لذلك ، ولم يصحّ قوله فيما بعد : ( وتترك ذات العادة العبادة برؤية الدّم فيها ) لأن التي استقرت عادتها وقتا لا عددا تخرج من التّعريف حينئذ.

ويمكن أن يقال : أراد بالشهر في التّعريف المعنى الثاني ، ولا يضر خروج المعتادة وقتا خاصة ، إذ المراد بالعادة هنا ما يرجع اليه عند عبور الدّم العشرة ، وهو ثابت في ذات العادة عددا ووقتا ، وعددا خاصة دون غيرهما.

إلا أنّ هذا إنّما يعتد في أوّل طروء الدّم بعد تخلل عشرة ، فلو دام أو طرأ قبل تخلل‌

__________________

(١) الكافي في الفقه : ١٢٨.

(٢) راجع مفتاح الكرامة ١ : ٣٤٧ ، والتنقيح الرائع ١ : ١٠٥.

(٣) ذكره السيد العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٣٤٧.

٢٩٣

رجعت إليها ،

______________________________________________________

عشرة بينه وبين الدّم الأوّل لم يكن حكمه معلوما ، ولا يكون حينئذ رجوع ذات العادة عددا ووقتا إلى عادتها مع استمرار الدّم دائما مستفادا من العبارة ، لأن صحّتها إنما تكون إذا أريد بقوله : ( رجعت إليها ) كون ذلك في المرة الأولى لما عرفته ، فلا يكون ضابطا مع احتياج قوله : ( وتترك ذات العادة ... ) حينئذ إلى التأويل ، فكان الأولى ما قدمناه.

الثّالث : هذا المذكور هنا ، هو حكم ذات العادة الّتي لا تمييز لها ، فان التي لها تمييز سيأتي بيان حكمها قبل الفروع ، وكيف نزلت الشهر في العبارة فهي غير شاملة لجميع أقسام المعتادة ، فلا يعرف أحكام الباقي منها من العبارة ، وقد أوضحنا حكمها فيما سبق.

الرابع : قد تلخص مما ذكرناه أنّ استقرار العادة وقتا إنّما يكون بتماثل زمان الدّمين بالنسبة إلى الشهرين الهلاليين ، لما عرفت من أن الشّهر في كلام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام إنّما يحمل على الهلالي ، نظرا إلى أنّه الأغلب في عادات النساء ، وفي الاستعمال ، ولو حمل على المعنى الآخر مع كونه مرجوحا لم يطرد ، فلو رأت ثلاثة ، ثم انقطع عشرة ، ثم رأته وعبر العشرة فلا وقت لها لعدم تماثل الوقت باعتبار الشهر.

الخامس : لو كان لذات العادة المستقرة عددا خاصّة ، أو وقتا خاصّة تميز ، فان طابق ما استقر لها من العادة عملت عليه ، وإن خالف فالترجيح للعادة.

قوله : ( رجعت إليها ).

معناه : ردت حكم دمها المتجاوز إلى عادتها المستقرّة ، فحكمت بأن مقدار العادة حيض ، وما زاد استحاضة ، فتقضي ما تركته فيه من صوم ، وصلاة ، لأنّها تبينت كونها طاهرة فيه ، وأنّ ما احتملته من كون الدّم حيضا فاسد ، والظن إذا ظهر فساده لا عبرة به ، فكيف الاحتمال.

٢٩٤

وان كانت مضطربة أو مبتدئة رجعت الى التمييز. وشروطه اختلاف لون الدم ، ومجاوزته العشرة ، وكون ما هو بصفة الحيض لا ينقص عن الثلاثة ولا يزيد على العشرة ، فجعلت الحيض ما شابهه والباقي استحاضة.

______________________________________________________

قوله : ( وإن كانت مضطربة أو مبتدئة رجعت إلى التمييز ، وشروطه اختلاف لون الدّم ، ومجاوزته العشرة ، وكون ما هو بصفة دم الحيض لا ينقص عن ثلاثة ولا يزيد على العشرة ).

ظاهر العبارة أن المبتدئة من لم يسبق لها عادة في الحيض ، لأنها مقابل المعتادة ، وأن المضطربة من سبق لها عادة ونسيتها ، لأنه قسّمها إلى ناسية العدد ، وناسية الوقت ، وناسيتهما ، وفي المعتبر : المبتدئة هي الّتي تبتدئ الدّم ، والمضطربة هي الّتي لم تستقر لها عادة (١).

وهذا التفسير صحيح إلا أن الأوّل هو الّذي تجري عليه أحكام الباب ، فان من لم تستقر لها عادة أصلا ترجع الى النّساء مع فقد التّميز كالّتي ابتدأت الدّم ، والمضطربة لا ترجع الى النّساء لسبق عادة لها ، وأيضا فإن المنقسم إلى الأقسام الثّلاثة هي هذه دون تلك.

ويجوز قراءة المبتدئة بكسر الدال ، وفتحه اسم فاعل أو اسم مفعول بمعنى التي ابتدأت الحيض ، أو التي ابتدأ بها الحيض ، أي لم تستقرّ لها عادة.

إذا تقرّر ذلك ، فالمبتدئة والمضطربة إمّا أن يكون لهما تمييز أو لا؟ والتمييز تفعيل من ماز الشي‌ء يميزه إذا عزله وفرزه (٢) ، ولا خلاف بين الأصحاب في اعتبار الأمور الّتي ذكرها المصنّف فيه. وهل يعتبر فيه بلوغ الدّم الضعيف أقل الطهر؟ وجهان :

أحدهما : نعم ، وهو الّذي يلوح من ظاهر المعتبر (٣) وبه صرّح المصنّف في النّهاية (٤) ، لأنا إذا جعلنا القوي حيضا كان الضّعيف طهرا ، لانه مقابله.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٢٠٧ ، ٢٠٩.

(٢) الصحاح ( ميز ) ٣ : ٨٩٧.

(٣) المعتبر ١ : ٢٠٧ ، ٢٠٩.

(٤) نهاية الأحكام ١ : ١٣٥.

٢٩٥

______________________________________________________

والثّاني : لا ، لعموم قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « دم الحيض اسود يعرف » (١) ولو رأت ثلاثة أسود ، ثم ثلاثة اصفر ، ثم عاد الأسود عشرة ، فعلى الأوّل لا تمييز لها ، وعلى الثّاني حيضها خمسة ، وفي المبسوط حيضها العشرة ، والستة السّابقة تقضي صلاتها وصومها (٢).

وقال المصنّف في التّذكرة : والأقرب أنه لا تمييز لها (٣) ، وهو يعطي اعتبار أقل الطهر في الضّعيف واعتباره قويّ متين ، لكن في خبر يونس بن يعقوب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في امرأة ترى الدّم ثلاثة أو أربعة ، ثم الطّهر ثلاثة أو أربعة ، ثم الدم كذلك ، ثم الطهر كذلك ، ثم الدّم كذلك ، فأجاب عليه‌السلام بترك الصلاة ، وفعلها مع الطهر ما بينها وبين شهر ، ثم هي مستحاضة (٤) ، أخرجه الشّيخ في التّهذيب من طريق ابن أبي عمير (٥).

وبمعناه عن يونس بن يعقوب ايضا من طريق آخر (٦) ، وحمله الشّيخ على مضطربة اختلط حيضها ، أو مستحاضة استمرّ بها الدّم واشتبهت عادتها ، ففرضها أن تجعل ما يشبه دم الحيض حيضا ، والآخر طهرا ، صفرة كانت أو نقاء ، ليستبين حالها (٧) ، وهو صريح في عدم اشتراط بلوغ الضّعيف أقل الطهر.

وبمعنى الخبر قال في المبسوط (٨) ، ووجهه صاحب المعتبر بحصول الاشتباه وعدم تيقن الحيض أو الطهر ، فتعمل فيه بالاحتياط (٩) ، ولا يكون هناك حيض بيقين ، ولا طهر بيقين ، لأن أقل الطهر عشرة.

وحمل في المختلف كلام الشّيخ على من رأت أربعة أسود أوّل الشّهر ، ثم خمسة‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٨٨ حديث ١.

(٢) المبسوط ١ : ٥٠.

(٣) التذكرة ١ : ٣١.

(٤) الكافي ٣ : ٨٣ حديث ١ ، التهذيب ١ : ٣٨١ حديث ١١٨٣.

(٥) التهذيب ١ : ٣٨٠ حديث ١١٧٩ ، الاستبصار ١ : ١٣١ حديث ٤٥٣.

(٦) التهذيب ١ : ٣٨٠ حديث ١١٨٠ ، الاستبصار ١ : ١٣٢ حديث ٤٥٤.

(٧) الاستبصار ١ : ١٣٢.

(٨) المبسوط ١ : ٤٣.

(٩) المعتبر ١ : ٢٠٦.

٢٩٦

______________________________________________________

طهر نقاء ، وبقية الشهر أو تتمة العشرة بصفة دم الاستحاضة ، فإنها تتحيض بما هو بصفة دم الحيض ، قال : ولا يحمل ذلك على ظاهره (١) ، وهذا الحمل يدل على اعتبار بلوغ الضّعيف أقل الطهر ، وعليه الفتوى ، وتنزيل صاحب المعتبر أقرب الى ظاهر اللفظ.

ومن علامات التمييز الرائحة ، فالمنتن قوي بالنّسبة إلى غيره ، ومنها الثخانة ، ومنها اللون ، فالأسود قوي ، ثم الأحمر ، ثم الأشقر ، ثم الأصفر ، ومتى اجتمع في دم خصلة ، وفي آخرى اثنتان فهو أقوى.

وفي التذكرة قال بعد أن قرر أن ما شابه دم الحيض فهو الحيض ، سواء كان الأوّل أو الأوسط أو الآخر قال : ولو كان في دم خصلة وفي آخر اخرى فالمتقدم هو القوي (٢) ، لكن ذكر هذا في سياق كلام الشافعي ، فلعلّه حكاية عنه ، وفي النّهاية تردد لعدم الأولوية (٣).

فرع :

قد تترك ذات التمييز العبادة عشرين يوما متوالية ، بأن ترى الحمرة عشرة فتجلسها لإمكان الحيض ـ بناء على عدم وجوب الاستظهار ـ ثم ترى السواد بعد عشرة فالحكم للثاني لأنه الأقوى ، والأوّل تبين أنه استحاضة ، ولو اتفق قوة الدم الثّالث بالنسبة إليهما انتقلت إليه ، ومثله يأتي في ناسية العادة إذا ذكرت بعد جلوسها في غيرها ، واختار في المعتبر أن تحتاط في العشرة الثّانية بالعبادة ، فان لم يعبر الدّم العشرة قضت الصوم ، والأصحّ ما فعلته لفوات شرط التّمييز بالنسبة إلى الدّم الثاني (٤) ، وفيه قوّة.

واعلم أنّ قول المصنّف : ( وان كانت مضطربة ، أو مبتدئة رجعت الى التمييز ) على ظاهره مؤاخذة ، فإن المضطربة هي التي اختلف عليها الدّم ونسيت عادتها ، إما عددا أو وقتا ، أو عددا ووقتا ، بدليل قوله بعد : ( لو ذكرت المضطربة العدد ، دون‌

__________________

(١) المختلف : ٣٨.

(٢) التذكرة ١ : ٣١.

(٣) نهاية الأحكام ١ : ١٣٥.

(٤) المعتبر ١ : ٢٠٤.

٢٩٧

ولو فقدتا التمييز رجعت المبتدئة إلى عادة نسائها ، فإن فقدن أو اختلفن فإلى عادة أقرانها ،

______________________________________________________

الوقت ... ) وحينئذ فالحكم برجوعها الى التمييز مطلقا لا يستمر ، لأن ذاكرة العدد ، النّاسية للوقت لو عارض تمييزها عدد أيام العادة لم ترجع الى التمييز بناء على ترجيح العادة على التمييز ، وكذا القول في ذاكرة الوقت ناسية العدد.

ويمكن الاعتذار ، بأن المراد برجوعها إلى التمييز ما إذا طابق تمييزها العادة ، بدليل ما ذكره من ترجيح العادة على التمييز ، وهو حسن ، فينزل إطلاق كلامه على ذلك.

قوله : ( ولو فقدتا التمييز رجعت المبتدئة إلى عادة نسائها ).

أي : دون المضطربة ، وإنما اختص هذا الحكم بالمبتدئة ، لأن المضطربة سبق لها عادة ، فلم يناسب الرّجوع إلى عادة غيرها ، والمراد بالنّساء الأقارب من الأبوين أو أحدهما ، ولا يختص ذلك بالعصبة ، لأن المعتبر الطبيعة وهي جاذبة من الطرفين.

قوله : ( فان فقدن أو اختلفن فإلى عادة أقرانها ).

هذا الحكم ذكره في المبسوط (١) ، وتبعه جماعة من الأصحاب (٢) ، وحكى المصنّف في المنتهى عن المرتضى وابن بابويه الرّجوع إلى الروايات من دون توسط الأقران (٣) ، ومال إليه.

وأنكر في المعتبر (٤) الرّجوع إلى الأقران مطالبا بالدّليل ، وفارقا بالمشاكلة في الطّباع والجنسيّة في النّساء دون الأقران ، واعترضه في الذكرى بصدق لفظ نسائها الوارد في الرّواية عليهنّ ، لأن الإضافة تصدق بأدنى ملابسة ، قال : ولما لابسنها في السّن والبلد ، صدق عليهنّ النّساء ، وامّا المشاكلة فمع السّن واتّحاد البلد تحصل غالبا ، قال : وليس في كلام الأصحاب منع منه ، وإن لم يكن فيه تصريح ، نعم الظّاهر اعتبار اتحاد‌

__________________

(١) المبسوط ١ : ٤٦.

(٢) منهم : ابن حمزة في الوسيلة : ٥٠ ، والشهيد في الذكرى : ٣٠.

(٣) المنتهى ١ : ١٠٠.

(٤) المعتبر ١ : ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٢٩٨

فان فقدن أو اختلفن تحيّضت هي والمضطربة في كل شهر بسبعة أيام أو بثلاثة من شهر وعشرة من آخر ، ولهما التخيير في التخصيص.

______________________________________________________

البلد في الجميع ، لأن للبلدان أثرا ظاهرا في تخالف الأمزجة (١) هذا كلامه.

ومراده بالجميع النّساء والأقران ، وللنظر فيما قاله مجال ، ولا بدّ من انتفاء الأغلب في عادات النّساء ، لترجع إلى الأقران ، فلو اختلفن وغلب عليهنّ عدد تحيّضت به ، ومثله يعتبر في اختلاف الأقران لترجع إلى الرّوايات.

قوله : ( تحيضت هي والمضطربة في كلّ شهر بسبعة أيام ، أو بثلاثة من شهر وعشرة من آخر ).

ولها أن تتحيض بالسّتة أيضا ، لورودها مع السّبعة في حديث واحد (٢) ، ولعله إنّما تركها المصنّف اكتفاء بالسّبعة في الدلالة عليها ، ويتخير في هذه الأعداد ، إلا أن يغلب على ظنها شي‌ء فتصير إليه.

وفي نهاية المصنّف : الأقوى الرّجوع إلى الاجتهاد ، لئلاّ يلزم التخيير في السّابع بين وجوب الصّلاة وعدمها (٣) ، ويشكل بامتناع الاجتهاد ، حيث ينتفي المرجّح ، إذ القول بالتخيير لا يصحّ معه ، وما ذكره من امتناع التخيير منقوض بيومي الاستظهار بعد العادة وغير ذلك.

والظاهر أنه لا يتعين عليها جعل الحيض أوّل الشّهر ، وإن اقتضته الجبلّة غالبا لعدم الترجيح في حقها ، وقد احتمله المصنّف في التذكرة (٤) ، ولا شك أنه أولى ، وإذا قلنا بالتخيير فلا أثر لمنع الزوج.

والمراد بتخييرها في الأعداد والتخصيص إنّما هو أوّل مرّة لا مطلقا ، بحيث يجوز لها ذلك في كل شهر ، وإن كانت عبارات الأصحاب مطلقة لبعد اختلاف مرات الحيض زمانا وعددا ، ولأن ذلك قائم مقام العادة للمعتادة.

__________________

(١) الذكرى : ٣١.

(٢) الكافي ٣ : ٨٣ حديث ١ ، التهذيب ١ : ٣٨١ حديث ١١٨٣.

(٣) نهاية الأحكام : ١ : ١٣٨.

(٤) التذكرة ١ : ٣١.

٢٩٩

ولو اجتمع التمييز والعادة فالأقوى العادة إن اختلفا زمانا.

______________________________________________________

فرعان :

الأول : إذا تحيضت المبتدئة والمضطربة بعدد من الرّوايات لفقد ما سواها ، فإنّما يبقى اعتباره في الدور الثّاني إذا لم يتجدد شي‌ء هو أولى من تمييز لهما ، أو عادة النّساء للمبتدئة.

الثّاني : إذا لم ينقطع الدم على العدد الّذي تحيضتا به ، هل تستظهران كذات العادة بيوم أو يومين؟ الظاهر نعم ، وصرح به في الدروس (١) ، وحكى أن في المبتدئة رواية أنّها تستظهر بعد عادة أهلها بيوم (٢).

قوله : ( ولو اجتمع التمييز والعادة فالأقوى العادة إن اختلفا زمانا ).

ما تقدم من حكم ذات العادة المستقرة المراد به ما إذا لم يكن لها مع العادة تمييز ، فإنه ذكر ذات التمييز هنا ، وهذا كما يفيد حكم ذات العادة المستقرة عددا ووقتا ، يفيد حكم المستقرة في أحدهما خاصّة ، وكذا يفيد حكم النّاسية للعادة عددا خاصّة ، أو وقتا خاصّة ، ومتى اتفق التمييز والعادة فلا بحث.

أمّا إذا اختلفا زمانا إما مع الاختلاف عددا أو لا معه ، فللشيخ قولان (٣) ، وبالعادة قال أكثر الأصحاب (٤) ، ومستند القولين الأخبار الكثيرة الدالة على اعتبار العادة مطلقا من غير تقييد بانتفاء التمييز (٥) ، وقد سبق بعضها ، وحديث حفص بن البختري في الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « إن دم الحيض حار عبيط أسود له دفع ، فإذا كان للدم حرارة ودفع فلتدع الصلاة » (٦) وهو دال على اعتبار التمييز من غير تقييد.

__________________

(١) الدروس : ٧.

(٢) التهذيب ١ : ٤٠١ حديث ١٢٥٢ ، الاستبصار ١ : ١٣٨ حديث ٤٧٢.

(٣) قول في الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ١٦٢ ، وقول في النهاية : ٢٤.

(٤) منهم : الشهيد في الذكرى : ٣٩.

(٥) الكافي ٣ : ٩١ حديث ١ ، التهذيب ١ : ١٥١ حديث ٤٢٩ ، ولمزيد الاطلاع راجع الوسائل ٢ : ٥٤٢ باب ٣.

(٦) المصدران السابقان.

٣٠٠