جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ١

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

جامع المقاصد في شرح القواعد - ج ١

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

______________________________________________________

الخلاف يرجع الى أربعة أقوال :

الأول : الحكم بالنجاسة بالملاقاة مطلقا ، واليه ذهب أكثر الأصحاب (١).

والثاني : الحكم ببقاء الطهارة والنزح مستحب ، وإليه ذهب المصنف وجماعة (٢).

الثالث : القول بعدم النجاسة مع وجوب النزح تعبدا ، وهو قول الشيخ في التهذيب (٣).

الرابع : القول بعدم النجاسة إن كان ماؤها كرّا وإلاّ تنجس (٤).

وهذان القولان نادران ، وأما الأولان فالأخبار في الدلالة عليهما مختلفة (٥) ، ولا يكاد يوجد خبر واحد من الأخبار الدالة على النجاسة سليما عن الطعن ، وأخبار الطهارة (٦) ـ مع سلامتها عن ذلك ـ أقوى دلالة ومتأيّدة بالأصل ، وبدلائل أخرى :

منها : ما ذكره المصنف في المنتهى : لو نجست البئر بالملاقاة لما طهرت ، والتالي ظاهر البطلان (٧).

بيان الملازمة : أن الدلو والرّشا (٨) وجوانب البئر تتنجس بملاقاة الماء النجس ، ونجاستها مانعة من حصول الطهارة في الماء بالنزح لدوام ملاقاتها ، وكذا المتساقط من الدلو حال النزح خصوصا الدلو الأخير ، وليس ارتكاب الحكم بطهارتها ، بعد‌

__________________

(١) من القائلين به : المفيد في المقنعة : ٩ ، والمرتضى في الانتصار : ١١ ، وأبو الصلاح في الكافي في الفقه : ١٣٠ ، وعبارته غير صريحة ، والشيخ في المبسوط ١ : ٩ ، والشهيد في البيان : ٤٥ ، واللمعة ١ : ٣٤ ـ ٣٥ : ١٥.

(٢) منهم : الفاضل في إيضاح الفوائد ١ : ١٧ ونقله عن ابن عقيل والشيخ.

(٣) اضطرب النقل عن الشيخ في هذه المسألة فقد نسب اليه ذلك تارة وتارة عكسه كما هو الظاهر ، انظر : التهذيب ١ : ٢٣٢ و ٤٠٩ ، والاستبصار ١ : ٣٢ ، ومفتاح الكرامة ١ : ٧٩ ـ ٨٠ ، والمدارك : ١٤.

(٤) حكاه السيد في المدارك : ١٦ ، عن أبي الحسن محمد بن محمد البصري من المتقدمين.

(٥) الكافي ٣ : ٥ حديث ١ ، التهذيب ١ : ٢٣٧ ، ٢٤٤ حديث ٦٨٦ ، ٧٠٥ ، الاستبصار ١ : ٣٧ ، ٤٤ حديث ١٠١ ، ١٢٤.

(٦) قرب الاسناد : ٨٤ ، التهذيب ١ : ٢٣٤ ، ٢٤٦ حديث ٦٧٦ ، ٧٠٩ ، الاستبصار ١ : ٤٢ حديث ١١٨.

(٧) المنتهى ١ : ١٠.

(٨) الرّشاء : الحبل الذي يوصل به الى الماء. لسان العرب ١٤ : ٣٢٢ ( رشا ).

١٢١

الفصل الثاني : في المضاف والأسآر

المضاف : هو ما لا يصدق إطلاق اسم الماء عليه ، ويمكن سلبه عنه كالمعتصر من الأجسام ،

______________________________________________________

استيفاء ما يجب نزحه بأولى من القول بعدم النجاسة بالملاقاة.

ومنها : أنه لو تنجست البئر بالملاقاة لكان وقوع الكر من الماء المصاحب للنجاسة فيها موجبا لنجاسة جميع الماء ، والتالي ظاهر البطلان ، لأنّ الملاقي للنجاسة إذا لم يتغير بها ـ قبل وقوعه ـ محكوم بطهارته ، فتمتنع نجاسته بغير منجس ، وللاستصحاب.

بيان الملازمة : ان نجاسة ماء البئر بملاقاة النجاسة يقتضي نجاسة الماء الواقع ، لاستحالة أن يكون بعض الماء الواحد طاهرا وبعضه نجسا ، مع عدم التغيّر.

ومنها : العمومات الدالة على عدم انفعال الماء إلاّ مع تغيره بالنجاسة ، إلاّ ما أخرجه دليل ، فالأصح حينئذ القول بعدم التنجيس.

قوله : ( الفصل الثاني : في المضاف والأسآر ).

السؤر لغة : هو ما فضل من شرب الحيوان (١) ، ويراد به هنا : ما باشره جسم حيوان مع قلّته ، فان البحث عنه من جهة طهارته ونجاسته وكراهته ، وذلك لا اختصاص له بالشرب.

قوله : ( المضاف : هو ما لا يصدق إطلاق اسم الماء عليه ، ويمكن سلبه عنه ).

المراد بعدم الصدق ، وبإمكان السلب ، أي : جوازه عند أهل العرف ـ كما تقدم في بيان مدلول المطلق ـ ولمّا كان المضاف مقابلا للمطلق كانت خاصّتاه مقابلتين لخاصّتي المطلق ، وإذ قد بيّنا ـ في ما سبق ـ أن التعريف لفظي لم يكن عموم تعريف المضاف المستفاد من قوله : ( ما لا يصدق ) قادحا في صحة التعريف ، لأن التعريف اللفظي يطلب به بيان موضوع اللفظ فيكفي فيه الإتيان بلفظ آخر هو أشهر استعمالا‌

__________________

(١) انظر لسان العرب ٤ : ٣٤٠ ( سأر ).

١٢٢

والممتزج بها مزجا يخرجه عن الإطلاق ، فهو طاهر غير مطهّر لا من الحدث ولا من الخبث ، فان وقعت فيه نجاسة فهو نجس قليلا كان أو كثيرا. فان مزج طاهرة بالمطلق ، فإن بقي الإطلاق فهو مطلق وإلاّ فمضاف.

______________________________________________________

في ذلك ، أو أوضح دلالة مثل الحنطة برّ ، والعشرق نبت (١).

قوله : ( وهو طاهر غير مطهّر لا من الحدث ولا من الخبث ).

يمكن أن تكون إعادة ( لا ) مع العطف في قوله : ( ولا من الخبث ) للاعتناء بالرد على المخالف في ذلك ، فان كلاّ من الأمرين قد وقع الخلاف فيه ، فقال ابن بابويه بتطهيره من الحدث (٢) تعويلا على رواية شاذة (٣).

وقال المرتضى بتطهيره من الخبث ، لصدق اسم المأمور به على إزالة النجاسة ، (٤) وهما ضعيفان ، وما ادعاه من الصدق ممنوع.

وقد استدلوا على انحصار الطهورية في المطلق بقوله تعالى ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (٥).

أما من حيث أن ذلك وقع في معرض الامتنان ، فلو لا الانحصار المذكور ، لكان المناسب للغرض الامتنان بالأعم ، ولأن رفع الحدث وزوال الخبث حكم شرعي ، فيتوقف على ورود الشرع به ، ولم يرد ثبوت ذلك للمضاف ، فلا يكون استدلالا بمفهوم اللقب الضعيف.

قوله : ( فان مزج طاهرة بالمطلق ، فإن بقي الإطلاق فهو مطلق ).

أي : فان بقي الإطلاق في المطلق ، إذ بالمزج يحدث الإطلاق في المجموع على ذلك التقدير ، فلا ينتظم بقاء الإطلاق فيه بالمزج ، إلاّ أن يراد بالبقاء الحصول ، والضمير في قوله : ( فهو مطلق ) ينبغي على الأول أن يعود الى المجموع ، وإن كان خلاف المتبادر من سوق الكلام ، إذ لو أعيد إلى المطلق لصار هكذا فالمطلق مطلق ،

__________________

(١) انظر : لسان العرب ١٠ : ٢٥٢ ( عشرق ).

(٢) الهداية : ١٣ ، الفقيه ١ : ٦.

(٣) الكافي ٣ : ٧٣ حديث ١٢ ، التهذيب ١ : ٢١٨ حديث ٦٢٧ ، الاستبصار ١ : ١٤ حديث ٢٧.

(٤) اختلف الفقهاء في اسناد هذا القول الى السيد ، راجع مفتاح الكرامة ١ : ٥٩.

(٥) الفرقان : ٤٨.

١٢٣

وسؤر كل حيوان طاهر طاهر ، وسؤر النجس ـ وهو الكلب والخنزير والكافر ـ نجس.

ويكره سؤر الجلاّل ، وآكل الجيف مع طهارة الفم ، والحائض المتهمة ، والدجاج ، والبغال ، والحمير ، والفأرة ، والحيّة ،

______________________________________________________

وهو تكرار عريّ عن الفائدة إلاّ أن يراد بالمطلق الثاني لازمه مجازا ، فيكون تقديره : فإن بقي الإطلاق فيه فهو مطهّر.

ولو جعل الضمير للمجموع ، أمكن أن يستفاد منه الرد على بعض العامة الذي يقول : إذا استهلك المطلق المضاف ، وجب أن يبقى منه قدر المضاف ، فلا يتطهر به (١) ، وفساده ظاهر ، لأن الحكم تابع للإطلاق وقد تحقق.

قوله : ( وهو الكلب والخنزير والكافر ).

يمكن أن يقال : المتولد من الكلب والخنزير ، إذا لم يغلب عليه اسم واحد منهما ، لاستواء الشبهين وارد على عبارته لأنه نجس.

قوله : ( والحائض المتهمة ).

أي : بعدم التحفظ من النجاسة والمبالاة بها ـ على الأصح ـ جمعا بين رواية النهي عن الوضوء بفضلها (٢) ، ونفي البأس إذا كانت مأمونة (٣) ، وتعدية الحكم إلى كل متهم تصرف في النص.

قوله : ( والبغال والحمير ).

وكذا الدواب ـ على الأصح ـ لكراهة لحمها ، والمراد بالحمير الأهلية ، إذ الوحشية لا كراهة فيها.

قوله : ( والفأرة والحيّة ).

للنهي عن سؤرهما (٤) ، وربما قيل بالمنع منه (٥).

__________________

(١) المجموع ١ : ٩٩ ، والوجيز ١ : ٦.

(٢) الكافي ٣ : ١١ حديث ٤.

(٣) التهذيب ١ : ٢٢١ حديث ٦٣٢ ، الاستبصار ١ : ١٦ حديث ٣٠.

(٤) الكافي ٣ : ٧٣ حديث ١٥ ، التهذيب ١ : ٤١٣ حديث ١٣٠٢ ، الاستبصار ١ : ٢٥ حديث ٦٢ ، ٦٣ ، وللمزيد راجع الوسائل ١ : ١٧١ باب ٩.

(٥) قاله الشيخ في النهاية : ٦.

١٢٤

وولد الزنا.

فروع :

أ : لو نجس المضاف ، ثم امتزج بالمطلق الكثير ، فغيّر أحد أوصافه ، فالمطلق على طهارته. فان سلبه الإطلاق خرج عن كونه مطهرا لا طاهرا.

______________________________________________________

قوله : ( وولد الزنا ).

على الأصح ، وقيل بالمنع للحكم بعدم إسلامه ، وهو ضعيف.

قوله : ( لو نجس المضاف ، ثم امتزج بالمطلق الكثير ، فغيّر أحد أوصافه ، فالمطلق على طهارته ، فان سلبه الإطلاق خرج عن كونه مطهرا لا طاهرا ).

الحكم الأول واضح ، وإن خالف فيه الشيخ (١) إلحاقا للتغير بالمتنجس بالتغير بالنجاسة (٢) ، وهو ضعيف.

وأما الثاني : ـ أعني الحكم بطهارة المضاف النجس ، مع بقاء الإضافة باختلاطه بالكثير الطاهر ـ فهو مختار المصنف في هذا الكتاب وفي غيره (٣) ، وهو مشكل ، لأن طهارة النجس متوقفة على شيوع الماء الطاهر في جميع أجزائه واختلاطها به ، وذلك غير معلوم ، على أنه بالشيوع تنفصل أجزاء المطلق بعضها عن بعض ، فيزول وصف الكثرة ، فيتنجس بالملاقاة ، والأصح الخروج عن الطهارة أيضا.

وينبغي أن يعلم ، أن موضع النزاع ما إذا أخذ المضاف النجس وألقي في المطلق الكثير ، فسلبه الإطلاق ، فلو انعكس الفرض وجب الحكم بعدم الطهارة جزما ، لأن موضع المضاف النجس نجس لا محالة ، فيبقى على نجاسته ، لأن المضاف لا يطهره ، والمطلق لم يصل اليه ، فيتنجس المضاف به على تقدير طهارته.

__________________

(١) المبسوط ١ : ٥.

(٢) في نسخة « ح » : للتغير بالنجاسة بالتغير بالمتنجس.

(٣) التذكرة ١ : ٤.

١٢٥

ب : لو لم يكفه المطلق للطهارة ، فتمم بالمضاف الطاهر وبقي الاسم ، صحّ الوضوء به ، والأقرب وجوب التيمم.

ج : لو تغيّر المطلق بطول لبثه ، لم يخرج عن الطهورية ما لم يسلبه التغير الإطلاق.

______________________________________________________

قوله : ( لو لم يكفه المطلق للطهارة ، فتمم بالمضاف الطاهر وبقي الاسم ، صح الوضوء به ، والأقرب وجوب التيمم ).

الذي يظهر من عبارة المختلف (١) أن خلاف الشيخ رحمه‌الله (٢) في وجوب التيمم خاصة ، وكأن وجوب الوضوء بعده لا نزاع فيه ، وكذا يدل آخر كلام الشارح ـ ولد المصنف (٣) ـ ويظهر من أوله : أن الشيخ يقول بصحة الوضوء بعد التيمم ولا يوجبه.

والذي يفهم من كلام الشيخ والمصنف ـ والمناسب لصحيح النظر ـ هو الأول ، إذ بعد المزج وصدق الإطلاق وصحة الوضوء لا يكاد يتردد أحد في وجوبه ، إنما الكلام في وجوب المزج.

ووجه ما قربه المصنف : أن الطهارة واجب مطلق فيجب تحصيل شرطها ، ولا يتم إلا بالمزج ، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب.

وألزم المصنف الشيخ بتنافي قوله بصحة الطهارة وعدم وجوب المزج ، لأن الماء المطلق إن تحقق وجوده بالمزج ، صح الوضوء به ووجوب المزج ، وإلاّ وجب الحكم بعدم صحة الوضوء (٤).

ودفعه الشارح بأن الطهارة واجب مشروط بوجود الماء والتمكن منه ، فلا يجب إيجاده ، لأن شرط الواجب المشروط غير واجب.

وجوابه : أنه إن أراد بإيجاد الماء ما لا يدخل تحت قدرة المكلف ، فاشتراط الأمر‌

__________________

(١) المختلف : ١٤.

(٢) المبسوط ١ : ٩ ـ ١٠.

(٣) إيضاح الفوائد ١ : ١٨.

(٤) نقل هذا التضاد في كلام الشيخ ولد المصنف في إيضاح الفوائد ١ : ١٨ ، والسيد العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٨٧.

١٢٦

الفصل الثالث : في المستعمل.

أمّا ماء الوضوء فإنه طاهر مطهّر ، وكذا فضلته وفضلة الغسل.

وأمّا ماء الغسل من الحدث الأكبر ، فإنه طاهر إجماعا ، ومطهر على الأصح.

______________________________________________________

بالطهارة به حق ولا يضرنا ، وإن أريد به الأعم فليس بجيد ، إذ لا دليل يدل على ذلك ، والإيجاد المتنازع فيه معلوم كونه مقدورا للمكلف ، والأمر بالطهارة خال من الاشتراط ، فلا يجوز تقييده إلا بدليل.

والأصح مختار المصنف ، وأراد بوجوب التيمم الحتم ، إن لم يجد ماء آخر ، وإلاّ وجب تخييرا.

قوله : ( الفصل الثالث : في المستعمل : أما ماء الوضوء فإنه طاهر مطهِّر ، وكذا فضلته وفضلة الغسل ).

لا خلاف عندنا في أن ماء الوضوء على حكمه قبل الاستعمال ، من أنه طاهر مطهر ، وقد خالف في الأمرين بعض العامة (١).

قوله : ( وأما ماء الغسل من الحدث الأكبر فإنه طاهر إجماعا ، ومطهر على الأصح ).

يلوح من العبارة ، أن الخلاف في رفع الحدث به ثانيا ، وإزالة الخبث حيث جعل مناطه كونه مطهرا وأطلق ، والشارح نقل الإجماع على جواز إزالته الخبث به (٢) ، وحكى شيخنا في الذكرى في ذلك خلافا (٣) ولعله الصواب ، والقائل : بأنه غير مطهر الشيخان (٤) وجماعة (٥) ، استنادا إلى أخبار ضعيفة (٦) ، والأصح مختار المصنف.

__________________

(١) المغني لابن قدامة ١ : ٤٧ ، المجموع ١ : ١٥١.

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ١٩.

(٣) الذكرى : ٩.

(٤) المفيد في المقنعة : ٩ ، والطوسي في المبسوط ١ : ١١ ، والخلاف ١ : ٢٥ مسألة ١٢٦ كتاب الطهارة.

(٥) منهم : ابن بابويه في الفقيه ١ : ١٠ ، والمحقق الحلي في الشرائع ١ : ١٦.

(٦) التهذيب ١ : ٢٢١ حديث ٦٣٠ ، المعتبر ١ : ٨٦ وراجع الوسائل ١ : ١٥٣ باب ٩ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

١٢٧

والمستعمل في غسل ـ النجاسة نجس وان لم يتغير بالنجاسة ،

______________________________________________________

ويستفاد من ظاهر قول المصنف : ( أما ماء الغسل من الحدث الأكبر ) أن الخلاف غير مختص بالغسل من الجنابة ، كما صرح به في المختلف (١).

واعلم : أن المراد بماء الوضوء والغسل الماء القليل المنفصل عن أعضاء الطهارة ، إذ الكثير لا يتصور فيه الاستعمال ، والمتردد على الأعضاء لا يمكن الحكم باستعماله ، وإلاّ لامتنع فعل الطهارة.

قوله : ( والمستعمل في غسل النجاسة نجس وإن لم يتغير بالنجاسة ).

هذا هو القول الأشهر بين متأخري الأصحاب ، والأشهر بين المتقدمين أنه غير رافع ، كالمستعمل في الكبرى.

وقال المرتضى (٢) وابن إدريس ـ (٣) وقواه في المبسوط (٤) ، ـ بعدم نجاسته إذا لم يتغير ، وإلا لم يطهر المحل ، لأنه إذا تنجس لوروده لم يفد المحل طهارة.

والتزم المصنف بعدم نجاسته حين الورود ، بل بعد الانفصال ، وفيه اعتراف بالعجز عن دفع ما استدل به من مكان قريب ، فإن القول بنجاسة القليل الملاقي للنجاسة ـ بعد مفارقتها ـ لا يعقل وجهه.

وقال الشيخ في الخلاف بطهارة ماء الغسل الأخير (٥) ، والظاهر أن موضع الخلاف ماء الغسل المعتبر في التطهير ، دون ما سواه.

وحكى بعضهم عن المصنف وشيخه ابن سعيد (٦) ، القول بنجاسة الغسالة مطلقا ، وان زاد الغسل على العدد المعتبر ، ولعله فهمه من قوله آخرا : ( والمتخلف في الثوب بعد عصره ... ) ، ولا دلالة فيه ، لأن هذا حكم الماء الوارد على المحل‌

__________________

(١) المختلف : ١٢.

(٢) جمل العلم والعمل : ٤٩.

(٣) السرائر : ٧.

(٤) المبسوط ١ : ١١.

(٥) الخلاف ١ : ٢٦ مسألة ١٣٥ كتاب الطهارة.

(٦) المصنف في تحرير الأحكام ١ : ٥ ، مختلف الشيعة ١ : ١٣ ، تذكرة الفقهاء ١ : ٥ ، والظاهر انه أراد بابن سعيد المحقق الحلّي كما يتضح ـ من شرائع الإسلام ١ : ٥٥.

١٢٨

عدا ماء الاستنجاء ، فإنه طاهر مطهّر ما لم يتغير بالنجاسة ، أو يقع على نجاسة خارجة ، والمستعمل في الأغسال المندوبة مطهر إجماعا.

______________________________________________________

النجس ، وبعد الغسل المعتبر يحكم بالطهارة ، فلا مقتضي لانفعال الماء ، والعمل على المشهور بين المتأخرين وقوفا مع الشهرة والاحتياط ، فعلى هذا يكون ماء الغسلة كمغسولها قبلها.

قوله : ( عدا ماء الاستنجاء فإنه طاهر مطهّر ، ما لم يتغير بالنجاسة ، أو يقع على نجاسة خارجة ).

استثنى الأصحاب من غسالة النجاسة ماء الاستنجاء من الحدثين ، فاتفقوا على عدم تنجسه ، وحكم الصادق عليه‌السلام ـ بعدم نجاسة الثوب الملاقي له (١) ـ يدل على ذلك ، ولا فرق بين المخرجين ولا بين المتعدي وغيره ، إلا أن يتفاحش التعدي ، ولا بين الطبيعي وغيره إذا صار معتادا لإطلاق الحكم.

لكن يشترط لطهارته أمور دلت على اشتراطها دلائل أخرى ، أن لا يتغير بالنجاسة ، ولا يقع على نجاسة خارجة ، مماثلة كانت أو لا ، وقد ذكرهما المصنف ، واشتراطهما ظاهر. ويشترط أيضا ـ زيادة على ما ذكره ـ أن لا تنفصل مع الماء أجزاء من النجاسة متميّزة ، لأنها كالنجاسة الخارجة ، يتنجس الماء بها بعد مفارقة المحل ، وأن لا تخالط نجاسة الحدثين بنجاسة أخرى.

ولا يعتد بما يقال من اشتراط سبق الماء اليد إلى المحل ، أو مقارنتها له ، لأن اليد تتنجس على كل حال ، ولا أثر للتقدم والتأخر في ذلك.

نعم ، ثبوت العفو مخصوص بما إذا كانت نجاستها لكونها آلة للغسل ، فلو تنجست لا لذلك ثم حصل الاستنجاء فلا عفو.

وهل يعتبر عدم زيادة الوزن؟ فيه وجهان : أظهرهما العدم ، لأن التنجيس لتغير شي‌ء من الأوصاف الثلاثة ، لا مطلقا.

واعلم أن قول المصنف : ( فإنه طاهر ) ، مقتضاه أنه كغيره من المياه الطاهرة في‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٣ حديث ٥ ، الفقيه ١ : ٤١ حديث ١٦٢ ، التهذيب ١ : ٨٥ ، ٨٦ حديث ٢٢٣ ، ٢٢٧ ، ٢٢٨ ، وللاستزادة راجع الوسائل ١ : ١٦٠ باب ١٣.

١٢٩

وتكره الطهارة بالشمس في الآنية ،

______________________________________________________

ثبوت الطهارة له ، ونقل في المنتهى على ذلك الإجماع (١) ، وقال المحقق في المعتبر : ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة ، إنما هو بالعفو (٢) ، وتظهر الفائدة في استعماله ( ثانيا ) (٣).

قال شيخنا في الذكرى : ولعله أقرب ، لتيقن البراءة بغيره (٤).

قلت : اللازم أحد الأمرين : إما عدم إطلاق العفو عنه ، أو القول بطهارته ، لأنه إن جاز مباشرته من كل الوجوه لزم الثاني ، لأنه إذا باشره بيده ، ثم باشر به ماء قليلا ـ ولم يمنع من الوضوء به ـ كان طاهرا لا محالة ، وإلاّ وجب المنع من مباشرة نحو ماء الوضوء به إذا كان قليلا ، فلا يكون العفو مطلقا ، وهو خلاف ما يظهر من الخبر (٥) ومن كلام الأصحاب ، فلعل ما ذكره المصنف أقوى ، وإن كان ذاك أحوط.

قوله : ( وتكره الطهارة بالشمس في الآنية ).

الأصل في كراهته ورود النص بالنهي عنه معلّلا بخوف البرص (٦) ، والظاهر : أنه لا فرق في الكراهية بين الآنية المنطبعة وغيرها (٧) ، وكون ذلك في قطر حار أو لا ، وقوفا مع إطلاق النص ، والتعليل بخوف البرص تنبيه على الحكمة في النهي عنه ، ولا يفيد تخصيصا ولا تقييدا ، وربما خص الكراهية بعض بكون ذلك في إناء منطبع ، وقطر حار ، وقد دللنا على ضعفه.

وكذا لا يشترط القصد إلى التشميس ، فيعم الحكم ما تشمس بنفسه. ولا‌

__________________

(١) المنتهى ١ : ٢٢.

(٢) قال السيد العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٩٤ : ( ولقد تتبعت المعتبر غير مرة فما وجدت ما يناسب ما نحن فيه الا قوله : « وأما طهارة ماء الاستنجاء فهو مذهب الشيخين. وقال علم الهدى رحمه‌الله في المصباح : لا بأس بما ينضح من ماء الاستنجاء على الثوب والبدن » المعتبر ١ : ٩١. وكلامه صريح في العفو وليس بصريح في الطهارة ).

(٣) زيادة من النسخة الحجرية.

(٤) الذكرى : ٩.

(٥) الكافي ٣ : ١٣ حديث ٥ ، الفقيه ١ : ٤١ حديث ١٦٢ ، التهذيب ١ : ٨٥ حديث ٢٢٣ ، العلل : ٢٨٧ باب ٢٠٧ ، وللمزيد راجع الوسائل ١ : ١٦٠ باب ١٣ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(٦) الكافي ٣ : ١٥ حديث ٥ ، علل الشرائع : ٢٨٠ باب ١٩٤ حديث ٢ ، التهذيب ١ : ٣٧٩ حديث ١١٧٧.

(٧) الأواني المنطبعة : هي الأواني المصنوعة من الفلزات كالحديد والرصاص والنحاس وغيرها عدا الذهب والفضة ، لأن الشمس إذا أثرت فيها استخرجت منها زهومة تعلو الماء ومنها يتولد المحذور. اما الذهب

١٣٠

وتغسيل الميت بالمسخن بالنار إلاّ مع الحاجة.

وغسالة الحمام لا يجوز استعمالها إلاّ مع العلم بخلوّها من النجاسة

______________________________________________________

يشترط بقاء السخونة استصحابا لما كان ، والقول باشتراطهما ضعيف ، فعلى هذا لو قال المصنف : ( المتشمس ) بدل ( المشمس ) لكان أولى.

وهل الكراهة هنا للإرشاد على حد قوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) (١) أم للعبادة؟ كل محتمل ، ولعل الأول أوضح.

فإن قيل : لم لم يكن استعماله محرما لوجوب دفع الضرر؟ قلنا : ليس بمعلوم الوقوع ولا مظنونه ، وإنما هو ممكن ، نظرا الى صلاحيته له ، وكما تكره الطهارة يكره العجن به ، لورود الخبر به (٢).

وهل تكره باقي استعمالاته؟ لا يبعد القول به نظرا الى المحذور.

واعلم : أن التقييد بالآنية يشعر باختصاص الحكم بالمتشمس بها ، وهو كذلك ، فلو تشمس الماء في حوض أو ساقية لم يكره استعماله.

وهل يختص هذا الحكم بالقليل ، أم يعم الكثير؟ لا يحضرني الآن نص على شي‌ء بخصوصه ، لكن إطلاق النص (٣) ، وكلام الأصحاب يتناوله ، وكذا خوف تولد المحذور.

ومعلوم أن الكراهة إنما هي مع وجود ماء آخر للطهارة ، فان لم يوجد وجب استعماله حينئذ.

قوله : ( وتغسيل الميت بالمسخن بالنار ، إلا مع الحاجة ).

علل في الأخبار بأن فيه أجزاء نارية تعجل للميت ، ولأن فيه تفاؤلا له بالحميم (٤) ، ولأنه يعد بدن الميت لخروج شي‌ء من النجاسات لأنه يرخيه.

قوله : ( وغسالة الحمام لا يجوز استعمالها ، إلاّ مع العلم بخلوّها من‌

__________________

والفضة فلصفاء معدنهما لا تؤثر فيهما الشمس هذا التأثير.

وغير المنطبعة : هي الأواني الأخرى المصنوعة من الخزف أو الخشب وغيرهما.

( انظر للتفصيل : نهاية الأحكام ١ ٢٢٦ والحدائق ٢ ٤٠٩ ).

(١) البقرة : ٢٨٢.

(٢) الكافي ٣ : ١٥١ حديث ٥ ، علل الشرائع : ٢٨٠ باب ١٩٤ حديث ٢ ، التهذيب ١ : ٣٧٩ حديث ١١٧٧.

(٣) الكافي ٣ : ١٥١ حديث ٥ ، علل الشرائع : ٢٨٠ باب ١٩٤ حديث ٢ ، التهذيب ١ : ٣٧٩ حديث ١١٧٧.

(٤) الكافي ٣ : ١٤٧ حديث ٢ ، التهذيب ١ : ٣٢٢ حديث ٩٣٧ ، ٩٣٩ والتعليل الأخير قد يكون للفقهاء.

١٣١

والمتخلف في الثوب بعد عصره طاهر ، فان انفصل فهو نجس.

______________________________________________________

النجاسة ).

لم يصرح المصنف بنجاستها ، لعدم التصريح بذلك في الأخبار ، إنما الذي ورد النهي عن استعماله في الغسل (١) ، مع ضعف السند ، وقيل بنجاستها (٢). استنادا إلى هذا النهي ، وضعفه ظاهر.

واختار المصنف في المنتهى طهارتها (٣) ، لحكم الكاظم عليه‌السلام بنفي البأس عن إصابتها الثوب (٤) ، ولا يكاد يظهر منه مخالفة ما هنا ، والذي يقتضيه النظر ، أنه مع الشك في النجاسة يكون على حكمها الثابت لها قبل الاستعمال ، وإن كان اجتنابها أحوط.

قوله : ( والمتخلف في الثوب بعد عصره طاهر ، فإن انفصل فهو نجس ).

إنما كان كذلك ، لأن المصنف التزم عدم نجاسة الماء الوارد على المحل النجس ما دام لم ينفصل عنه ، وإلا لم يطهر المحل ، فإذا انفصل ظهر أثر ملاقاة النجاسة فيه ، فينجس حينئذ ـ كما سبق ـ (٥) ، فإذا عصر الثوب من الغسل المعتبر في تطهيره حكم بطهارته قطعا ، ولا ريب أن المتخلف فيه من الماء على حكم الطهارة ، فلو بالغ أحد في عصره ، فانفصل منه شي‌ء كان نجسا ، لما عرفت من أن أثر ملاقاته للمحل النجس إنما يظهر بعد انفصاله ، وقد عرفت ما فيه.

والظاهر : أن هذا الحكم عنده مختص بالغسل المقتضي لحصول الطهارة ، فلو غسل زيادة عن الموظف كان ماء الغسل الزائد طاهرا ، لعدم ملاقاته للمحل في حال نجاسته ، مع إمكان أن يقول بنجاسته أيضا لانفصال شي‌ء من الماء المتخلف في المحل معه ، والتنجيس فيه بعد انفصاله ، وهو بعيد ، مع أن الأصل العدم.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٩٨ و ٥٠٣ حديث ١٠ ، ٣٨ ، العلل : ٢٩٢ حديث ١ ، التهذيب ١ : ٣٧٣ حديث : ١١٤٣ ، وللمزيد راجع الوسائل ١ : ٥٨ باب ١١.

(٢) قاله المحقق في المعتبر ١ : ٩٢.

(٣) المنتهى ١ : ٢٥.

(٤) الكافي ٣ : ١٥ حديث ٤ ، الفقيه ١ : ١٠ حديث ١٧ ، التهذيب ١ : ٣٧٩ حديث : ١١٧٦.

(٥) قد سبق قول المصنف ص ٤٧.

١٣٢

الفصل الرابع : في تطهير المياه النجسة

أمّا القليل ، فإنّما يطهر بإلقاء كرّ دفعة عليه لا بإتمامه كرا على الأصح ،

______________________________________________________

قوله : ( الفصل الرابع : في تطهير المياه النجسة : أمّا القليل فإنما يطهر بإلقاء كر دفعة عليه لا بإتمامه كرّا على الأصح ).

المراد بحصر تطهيره ـ فيما ذكره ـ : بالإضافة إلى إتمامه كرّا ، لأنه يطهر بوصول الماء الجاري وماء المطر اليه ، وكذا القول في المادة المشتملة على الكرّ ، لأنها لا تختص بالحمام كما سبق.

والمراد بالدفعة : وقوع جميع أجزاء الكرّ في زمان قصير ، بحيث يصدق اسم الدفعة عليه عرفا ، لامتناع ملاقاة جميع الأجزاء في آن واحد ، ولأن الاستعمال العرفي هو المراد في نحو ذلك ، تقول : جاؤوا دفعة ، ولا تريد إلا هذا المعنى.

وقد عبّر في الذكرى بإلقاء كر عليه متصل (١) ، وفيه تسامح ، لأن وصول أقل جزء إلى النجس يقتضي نقصانه عن الكر ، فلا يطهر حينئذ ، ولورود النص بالدفعة (٢) وتصريح الأصحاب بها (٣) ، ويمكن أن يريد به هذا المعنى ، لأن اتصال جميع الأجزاء حين إلقائه لا يتحقق إلا بهذا المعنى ، وإن كان خفيا.

إذا تقرر ذلك ، فقد اختلف الأصحاب في طهر القليل النجس إذا تمم كرّا ، على أقوال ثلاثة (٤) ، ثالثها يفرق فيه بين الإتمام بالطاهر والنجس ، وأكثر المحققين‌

__________________

(١) الذكرى : ٨.

(٢) الفقيه ١ : ٦ حديث ٢ ، انظر : هامش مفتاح الكرامة ١ : ٩٩.

(٣) منهم : المحقق في الشرائع ١ : ١٢ ، والعلامة في التذكرة ١ : ٢.

(٤) القول الأول : عدم التطهير وذهب اليه الشيخ في الخلاف ١ : ٣٠ مسألة ١٤٩ كتاب الطهارة ، والمحقق في المعتبر ١ : ٥١ والشرائع ١ : ١٢ : والعلامة في التذكرة ١ : ٤.

والقول الثاني : التطهير ان تمم بطاهر وذهب اليه ابن حمزة في الوسيلة : ٦٨.

١٣٣

ولا بالنبع من تحته.

______________________________________________________

كالشيخ (١) ، وابن البراج (٢) ، والمرتضى (٣) ، وابن إدريس (٤) ، ويحيى بن سعيد (٥) على الطهارة مطلقا ، لقوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا » (٦) ، فان الماء مطلق فيجري في الطاهر والنجس ، والخبث نكرة في سياق النفي فيعم.

ومعنى لم يحمل خبثا : لم يظهر فيه ، قال في القاموس : وحمل الخبث أظهره ، قيل : ومنه : لم يحمل خبثا أي : لم يظهر فيه الخبث (٧) ، وفي نهاية ابن الأثير : لم يحمل خبثا أي : لم يظهره ، ولم يغلب الخبث عليه ، من قولهم : فلان يحمل غضبه ، أي : ( لا يظهره ، وقيل : معنى لم يحمل خبثا أنه يدفعه عن نفسه ، كما يقال : فلان لا يحمل الضيم ، إذا كان يأباه ويدفعه عن نفسه (٨) ، وفي المجمل : وحكى ناس أن معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا » (٩) إنما أراد لم يظهر فيه الخبث ، قالوا : وتقول العرب : فلان يحمل غضبه ، أي : يظهر غضبه (١٠).

والمتأخرون على استصحاب حكم النجاسة (١١) ، وارتكبوا في الحديث تأويلات لا يدل عليها دليل ، وطعنوا فيه بمطاعن ضعيفة ، ولا شبهة في أن الاحتياط هو العمل بقولهم ، وللتحقيق حكم آخر.

قوله : ( ولا بالنبع من تحته ).

هذا الحكم مشكل ، ويمكن حمل كلامه على نبع ضعيف يترشح ترشحا ، أو نبع لا مادة له ، فلو نبع ذو المادة من تحته مع قوة وفوران ، فلا شبهة في حصول الطهارة.

__________________

(١) المبسوط ١ : ٧.

(٢) المهذب ١ : ٢٣.

(٣) جوابات المسائل الرسية الأولى ( ضمن رسائله ، المجموعة الثانية ) : ٣٦١.

(٤) السرائر : ٨.

(٥) الجامع للشرائع : ١٨.

(٦) عوالي اللآلي ٢ : ١٦ حديث ٣٠ وأورد الرواية الشيخ في المبسوط ١ : ٧.

(٧) القاموس المحيط ( حمل ) ٣ : ٣٦٢.

(٨) النهاية ( حمل ) ١ : ٤٤٤ وما بين المعقوفين من المصدر.

(٩) سنن أبي داود ١ : ١٧ حديث ٦٣ ، وسنن الترمذي ١ : ٤٦ حديث ٦٧ ، وسنن النسائي ١ : ٤٦ و ١٧٥.

(١٠) المجمل لابن الفارس ١ : ٢٥٣.

(١١) منهم : الشهيد في الدروس : ١٤ والبيان : ١٤.

١٣٤

وأمّا الكثير ، فإنّما يطهر بذلك ان زال التغيّر ، وإلاّ وجب إلقاء كرّ آخر ، فان زال وإلاّ فآخر ، وهكذا.

ولا يطهر بزوال التغيّر من نفسه ، أو بتصفيق الرياح ، أو بوقوع أجسام طاهرة فيه غير الماء ، فيكفي الكر وان لم يزل التغيّر به لو كان ، ولو تغير بعضه وكان الباقي كرا طهر بزوال التغيّر بتموّجه.

والجاري يطهر بتكاثر الماء وتدافعه حتى يزول التغيّر.

______________________________________________________

قوله : ( والا وجب إلقاء كرّ آخر ).

أي : دفعة ، اكتفاء بما سبق ، وإنما يجب إلقاء كرّ آخر إذا تغيّر الكر الأول بالنجاسة ، فلو بقي على حكمه ، فالمتغير كنجاسة متصلة به ، فإذا امتزج أحدهما بالآخر وزال تغير المتغير حكم بالطهارة ، ولم يحتج إلى كرّ آخر ، وليس هذا بأدون مما لو تغير بعض الزائد على الكر ، وبقي الباقي كرّا.

قوله : ( ولا يطهر بزوال التغير من نفسه ).

خلافا ليحيى بن سعيد (١).

قوله : ( فيكفي الكرّ وإن لم يزل به لو كان ).

أي : لو وقعت أجسام طاهرة في الماء المتغير بالنجاسة ، فأزالت عنه التغير ، بحيث لم يبق فيه تغيّر أصلا ، لا أن سترته فلم يدرك بالحس ، فإنه يكفي الكر لتطهيره حينئذ ، لعدم وجود التغير ، وإن كان التغير السابق لا يزول بالكرّ لو لا الأجسام الطاهرة ، لحصول المطلوب بزواله.

قوله : ( والجاري يطهر بتكاثر الماء وتدافعه حتى يزول التغير ).

هكذا وقع في عبارته وعبارة غيره ، والظاهر : أن الحكم بالطهارة في الجاري غير موقوف على التكاثر والتدافع ، بل لو زال التغير ـ بأي وجه كان ـ حكم بالطهارة لمكان المادة.

اللهم إلا أن يقال : بأن مجرد اتصال الماء الطاهر بالنجس لا يقتضي طهارة النجس ، بل لا بد من الامتزاج مع صلاحيته للتطهير ، فيستوي في ذلك الجاري ،

__________________

(١) الجامع للشرائع : ١٨.

١٣٥

والمضاف بإلقاء كرّ دفعة وان بقي التغيّر ما لم يسلبه الإطلاق فيخرج عن الطهورية ، أو يكن التغيّر بالنجاسة فيخرج عن الطهارة.

______________________________________________________

والواقف ، وماء الحمام ، وماء الكوز النجس إذا غمس في الكثير ، والأصح : أن الامتزاج غير شرط ، للأصل ، ولأنه ليس للامتزاج معنى معتمد محصل.

قوله : ( وإن بقي التغير ما لم يسلبه الإطلاق فيخرج عن الطهورية ).

خالف الشيخ رحمه‌الله في الحكم الأول ، فحكم بأن حصول التغير في المطلق بالمضاف النجس موجب لنجاسته ، وإن بقي إطلاق الاسم ، لأنه متغير بنجس (١) ، وهو ضعيف ، لأن تغيره بغير النجاسة ، والمقتضي للتنجيس هو الأول دون الثاني ، ولأن المضاف يصير طهورا بأول خروجه عن الإضافة ، لقبوله الطهارة ، فإنه ليس عين نجاسة.

وهذا إذا لم يسلب المضاف المطلق إطلاقه ، فإن سلبه خرج عن الطهورية ، لا عن الطاهرية عند المصنف ، وقد علم فيما مضى خروجه عنهما ، وضعف ما ذهب اليه. وعلم أيضا ، أن تصوير المسألة يجب أن يكون بأن يلقى المضاف النجس على الكثير المطلق ، وإن كان ظاهر قوله : ( بإلقاء كر ) قد يشعر بخلافه.

قوله : ( أو يكن التغير بالنجاسة فيخرج عن الطهارة ).

أي : إذا كان التغير في المطلق حين إلقائه على المضاف بأوصاف النجاسة لوجودها في المضاف ـ كلون الدم في ماء الورد ـ فان المطلق حينئذ يخرج عن الطهارة ، وهو واضح.

واعلم أن جملة ( إن ) الوصلية لتأكيد إطلاقه الحكم بطهر المضاف بإلقاء كرّ ، وما ـ في ( ما لم يسلبه ) ـ ظرف بمعنى المدة هي في معنى الاستثناء من الحكم السابق ، لأنه في قوة عود المضاف طهورا ، وإلا لما صح الاستثناء ، والمستتر في ( يسلبه ) للمضاف ، والآخر للمطلق ، والمعطوف بـ ( أو ) على ما في خبر لم ، والمعنى : يعود طهورا ما لم يكن هذا أو ذاك.

__________________

(١) المبسوط ١ : ٥.

١٣٦

وماء البئر بالنزح حتى يزول التغيّر.

______________________________________________________

قوله : ( وماء البئر بالنزح حتى يزول التغير ).

لما لم يحكم بنجاسة البئر إلا مع التغير بالنجاسة ، حكم بعود الطهارة بزواله بالنزح ، وظاهره : أن ذلك طريق تطهيرها ، وهو مشكل ، وقد كان اللازم الحكم بطهرها بزوال التغير بأي طريق كان ، اعتبارا بمادة النبع ، كما دلّ عليه حديث الرضا عليه‌السلام (١) ، وكما يظهر من احتجاجه بوجود المادة المقتضي لعدم النجاسة إلا بالتغير.

لكن بناء على أصله من اعتبار الكرية في الجاري ، يجب اعتبارها هنا بطريق أولى ، وعلى ما اخترناه ، فينبغي الحكم بطهرها إذا غلب ماؤها الطاهر ، واستهلك المتغير ، وإن كان النبع من تحت ، إذا كان غزيرا ، ولو سبق إليها الجاري ، أو وقع عليها ماء الغيث ، أو ألقي عليها ماء كثير فزال تغيرها ، فلا ريب في عود الطهارة.

واعلم أن المصنف لم يذكر حكم تغير البئر عند القائلين بالنجاسة بالملاقاة ، فإن لهم أقوالا :

منها : النزح حتى يزول التغير كما سبق (٢).

ومنها : نزح الجميع ، فان تعذر نزح حتى يزول التغير ، ويستوفى المقدّر (٣).

ومنها : نزح الجميع ، فان تعذّر وجب التراوح (٤).

ومنها : نزح أكثر الأمرين من المقدر ، وما به يزول التغير في النجاسة المنصوصة (٥) وفي غيرها نزح الجميع ، بناء على أن غير المنصوصة ينزح لها جميع الماء ، واختاره ابن إدريس (٦) ، وهو الأقوى ، تفريعا على القول بالنجاسة.

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٣٣ حديث ٨٧.

(٢) ذهب اليه الصدوق في المقنع : ١١ ، وأبو الصلاح في الكافي في الفقه : ١٣٠.

(٣) قاله الشيخ في المبسوط ١ : ١١ ، والنهاية : ٧.

(٤) ذهب اليه الصدوق في الفقيه ١ : ١٣ ، والشيخ في التهذيب ١ : ٢٤٠ ، والمحقق في الشرائع ١ : ١٤.

(٥) ذهب إليه أبو المكارم ابن زهرة في الغنية ( ضمن الجوامع الفقهية ) : ٤٩٠ ، ويحيى بن سعيد في الجامع للشرائع : ١٩ ، والشهيد في الذكرى : ٩.

(٦) السرائر : ١٠.

١٣٧

وأوجب القائلون بنجاستها بالملاقاة نزح الجميع بوقوع المسكر ، أو الفقاع ، أو المني ، أو دم الحيض أو الاستحاضة أو النفاس ، أو موت بعير ،

______________________________________________________

قوله : ( لوقوع المسكر ).

لا فرق فيه بين الخمر وغيره ، لأن كل مسكر خمر ، والمراد به : المائع بالأصالة ، لعدم نجاسة الجامد ، ولا فرق أيضا بين كثيره وقليله ، حتى القطرة ، كما يظهر من العبارة ، وقد فرق بعض الأصحاب ، فأوجب في القطرة عشرين (١).

والفقاع خمر ، كما ورد به النص (٢) ، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

قوله : ( أو مني ).

اشتهر القول بذلك بين الأصحاب ، ولا نص فيه ، على ما ذكره الشيخ أبو علي ابن الشيخ أبي جعفر في شرح نهاية والده.

قوله : ( أو دم الحيض ، أو الاستحاضة ، أو النفاس ).

ذهب إلى ذلك الشيخ (٣) وعامة الأصحاب (٤) ، نظرا إلى أنها كالمني ، ولغلظ نجاستها ، وأطلق المفيد القول بأن الدم الكثير ينزح له عشر ، وللقليل خمس (٥) ، وكذا ابنا بابويه (٦) ، وان خالفاه في مقدّر الكثير والقليل ، والاحتياط العمل بالمشهور.

قوله : ( أو موت بعير ).

هو للجنس ، يتناول الذكر والأنثى ، ومثله الثور عند الأكثر ـ وهو ذكر البقر ـ لصحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام (٧) ، خلافا لابن إدريس فإنه‌

__________________

(١) وهو الصدوق في المقنع : ١١.

(٢) الكافي ٣ : ٤٠٧ حديث ١٥ ، التهذيب ١ : ٢٨٢ حديث ٨٢٨.

(٣) المبسوط ١ : ١١.

(٤) منهم : ابن حمزة في الوسيلة : ٦٩ ، وابن البراج في المهذب ١ : ٢١ ، والمحقق في الشرائع ١ : ١٣.

(٥) المقنعة : ٩.

(٦) المقنع : ١٠ ، ١١ ، الفقيه ١ : ١٣ ، المختلف : ٦.

(٧) التهذيب ١ : ٢٤١ حديث ٦٩٥ ، الاستبصار ١ : ٣٤ حديث ٩٣.

١٣٨

فان تعذّر تراوح عليها أربعة رجال يوما ، كل اثنين دفعة.

______________________________________________________

اكتفى بالكر (١) ، والشيخان (٢) وأتباعهما (٣) لم يذكروا حكمه ، لأنهم أوجبوا لنزح البقرة كرّا ، ولم يتعرضوا للثور ، ولفظ البقرة لا يدل عليه ، ونقل صاحب الصحاح إطلاق لفظ البقرة على الذكر (٤) ، فيجب الكر حينئذ ، حكى ذلك المصنف في المختلف (٥).

قوله : ( فان تعذر تراوح عليها أربعة رجال يوما ، كل اثنين دفعة ).

التراوح : تفاعل من الراحة ، لأن كل اثنين يريحان صاحبيهما دفعة ،.

ولا يجزئ فيه ما دون الأربعة ، لقول الصادق عليه‌السلام : « يقام عليها قوم اثنين اثنين » (٦) ، ويجزئ ما فوقها ما لم يتصور بطء بالكثرة.

ولا غير الرجال من نساء ، أو صبيان ، أو خناثى للفظ القوم ، واجتزأ بهم بعض الأصحاب (٧) لشمول الاسم ، واختلف تفسير أهل (٨) اللغة له ، والآية (٩) ترجح القول بأن القوم للرجال.

والمعتبر يوم الصوم من طلوع الفجر الثاني إلى الغروب ، وهو الظاهر من عبارة الأصحاب ، ولا فرق بين الطويل والقصير ، نظرا الى شمول الإطلاق ، ولا يجزئ الليل ، ولا الملفق منهما اقتصارا على المنصوص ، ويجب إدخال جزء من الليل أولا وآخرا من باب المقدمة ، ويستثني الاجتماع في الأكل والصلاة.

والظاهر : أن التأهب للنزح داخل في اليوم ، لأنه من مقدماته ، مع إمكان‌

__________________

(١) السرائر : ١٠.

(٢) المفيد في المقنعة : ٩ ، والطوسي في المبسوط ١ : ١١.

(٣) منهم : سلاّر في المراسم : ٣٥ ، والمحقق في الشرائع ١ : ١٣ ، والشهيد في اللمعة : ١٥.

(٤) الصحاح ٢ : ٥٩٤ ، ٥٩٣ مادة ( بقر ، بعر ).

(٥) المختلف : ٨.

(٦) التهذيب ١ : ٢٨٤ حديث ٨٣٢.

(٧) قاله العلامة في التذكرة ١ : ٤.

(٨) قال الجوهري في الصحاح ٥ : ٢٠١٦ مادة ( قوم ) : القوم الرجال دون النساء ، وفي القاموس ( قوم ) ٤ : ١٦٨ ، الرجال والنساء معا أو الرجال خاصة أو تدخله النساء على تبعيّة ويؤنث ، وفي اللسان ( قوم ) ١٢ : ٥٠٤ الجماعة من دون النساء ، وعن الصنعاني : وربما دخل النساء تبعا لان قوم كل نبي رجال ونساء.

(٩) الحجرات : ١١.

١٣٩

ونزح كرّ لموت الدابة ، أو الحمار ، أو البقرة. وسبعين دلوا لموت الإنسان ،

______________________________________________________

وجوب تقديمه عليه نظرا الى ظاهر قوله عليه‌السلام : « يقام عليها قوم اثنين اثنين ينزفون يوما إلى الدليل » (١).

قوله : ( ونزح كر لموت الدابة ، أو الحمار ، أو البقرة ).

البغل كالحمار في ذلك ، وان لم يذكر في بعض الروايات ، لوجوب قبول الزيادة غير المنافية ، وأما الدابة والبقرة فللشهرة ، إذ هما مما لا نص فيه ، ذكره في المعتبر (٢) ، وفي المختلف لم نقف على حديث يتعلق بالبقرة (٣).

قوله : ( وسبعين دلوا لموت الإنسان ).

سيأتي أنه لا فرق في الإنسان بين المسلم والكافر ، وكذا لا فرق بين موته في البئر ووقوعه ميتا ، وعبارته قاصرة عن الثاني ، فلو قال لمباشرة ميت الإنسان كان أشمل ويشترط كون الميت نجسا ، فلو طهّر بالغسل أو لم يجب غسله لم يجب النزح ، بخلاف ما لو يمم أو غسل فاسدا ونحوه.

واعلم : أن الميت في البئر ، إذا كان كافرا ، يجب أن ينزح له أكثر الأمرين من الواجب لما لا نص فيه ، والواجب لنجاسة الموت ، فيبني على الخلاف فيما لا نص فيه ، فان قيل بوجوب الجميع فلا بحث ، وإلا فسبعون ، مع احتمال التضاعف لاختلاف النجاسة.

وإنما لم يكتف بالسبعين لملاقاته البئر في حال الحياة ، وتلك نجاسة غير منصوصة ، وعروض الموت له موجب لنجاسة أخرى.

ووجه التداخل : أنها نجاسة ذات واحدة في حالين.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٨٤ حديث ٨٣٢.

(٢) المعتبر ١ : ٦٣.

(٣) المختلف : ٨.

١٤٠