جامع المقاصد في شرح القواعد - المقدمة

السيد جواد الشهرستاني

جامع المقاصد في شرح القواعد - المقدمة

المؤلف:

السيد جواد الشهرستاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

١
٢

٣
٤

٥
٦

المقدّمة‌

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

وبعد :

ان القانون ـ الوضعي ـ الذي يضعه البشر لأنفسهم لضمان مسيرة المجتمع الذي يعيشون فيه محدود بمحدودية الإنسان ، لا يستطيع أن يغطّي كلّ المجتمعات البشريّة ، ولا أن يستوعب كلّ الأزمان ، ولذا فهو يختلف باختلاف الأشخاص الذين يضعونه ـ فكرهم ، مجتمعهم ، حاجاتهم ، مستواهم الحضاري ـ ويختلف باختلاف الأزمان فإنّ لكلّ زمن حاجاته التي يختلف فيها عن زمن آخر.

يقول القانوني الكبير الدكتور السنهوريّ عن نقص القانون الفرنسي وتغيّره حسب الزمن :

« والتقنين الفرنسي قد قدم به العهد وهو اليوم متخلّف عن العصر الذي يعيش فيه قرنا ونصف القرن ، وفي خلال هذه الأجيال الطويلة ارتقى التقنين المقارن إلى مدى جعل التقنين الفرنسي في الصفّ الأخير من التقنينات الحديثة.

٧

فهناك مسائل ذات خطر كبير نبتت في العهود الأخيرة ، ونمت وازدهرت فاحتوتها تقنينات القرن العشرين ، ولا نجد لها أثرا في التقنين الفرنسي وقد ولد في فجر القرن التاسع عشر ، ولا في تقنيننا المدني ـ أي المصري ـ الذي أخذ عنه فمبدأ التعسف في استعمال الحق ، ونظريّة الاستغلال ، ونظام المؤسسات ، وتنظيم الملكيّة في الشيوع وعقود التزام المرافق العامة ، وعقد التأمين ، وحوالة الدين ، والإعسار المدني ، كلّ هذه المسائل الخطيرة لا نعثر على نصّ واحد فيها لا في التقنين الأصل ، ولا في التقنين المقلد ، وحتّى فيما احتواه هذان التقنينان من النظريات والأحكام نرى الكثير منها ناقصا مبتورا » (١).

ثمّ يستطرد قائلا : « تقرّر تنقيح القانون الفرنسي وشكّلت لهذا الغرض في سنة ١٩٤٥ لجنة من كبار رجال القانون في فرنسا وعلى رأسهم عميد كلّيّة الحقوق بجامعة باريس الأستاذ جوليودي لامورانديير » (٢)

وقد بحث هنا بحثا مفصّلا عن العيوب الشكليّة للتقنين المدني القديم.

هذا ولم يقتصر التعديل والتصحيح على القانون الفرنسي وحده بل انظر إلى القانون إلايطالي والسويسري اللّذين تحدّث السنهوري عن تبدّلهما بتبدّلهما بتبدّل الزمان قائلا :

« المشروع الفرنسي الإيطالي أكسب التقنينات اللاتينية العتيقة جدّة لم تكن لها ، ونفخ فيها روح العصر ، وجمع بين البساطة والوضوح مع شي‌ء كثير من الدقّة والتجديد ، على أنّ المشروع يكاد يكون محافظا إذا قيس إلى التقنينات العالمية الأخرى.

والتقنين الالماني يعدّ أضخم تقنين صدر في العصر الحديث ، وهو خلاصة النظريات العلمية الألمانية مدى قرن كامل ، ويبزّ من الناحية الفقهية أي تقنين آخر ، فقد اتّبع طريقة تعدّ من أدقّ الطرق العلمية وأقربها إلى المنطق القانوني ،

__________________

(١) الوسيط ١ : ٤.

(٢) الوسيط ١ : ٥.

٨

ولكن هذا كان عائقا له عن الانتشار ، فإنّ تعقيده الفنّي ودقّته العلميّة أقصياه بعض الشي‌ء عن منحى الحياة العمليّة ، وجعلاه مغلق التركيب ، عسر الفهم.

والتقنين النمساوي يرجع عهده إلى أوائل القرن التاسع عشر ، فقد ظهر في سنة ١٨١٢ عقب التقنين الفرنسي ، ولكنّه لم يتح له من النجاح ما اتيح لهذا التقنين ، لذلك بقي محدود الانتشار في اوربا حتّى غمرة التقنين الألماني ، وقد قام النمساويون بتنقيح تقنينهم في أول سنيّ الحرب العالميّة الاولى ، وظهر التنقيح في سنة ١٩١٦. فأعاد لهذا التقنين العتيق شيئا من الجدّة والمسايرة لروح العصر.

أمّا التقنين السويسري ـ تقنين الالتزامات والتقنين المدنيّ ـ فقد كان المنتظر أن يكون ـ وهو من عمل « فيك وهو بر » ـ عملا فقهيا ، فإذا به ذو صفة عمليّة بارزة ، ويجمع التقنين السويسري إلى الوضوح والبساطة الدقّة والتعمّق ، وإن كان خداعا في بعض المواطن فيما يتّسم به من وضوح ودقّة » (١).

ولكنّ المؤسف حقّا عند ما نرى الدكتور السنهوري يجعل الفقه الإسلامي المصدر الثالث للقانون المدنيّ بعد النصوص التشريعية والعرف (٢).

ويأمل في هامش تلك الصفحة أن تكون الشريعة الإسلامية هي الأساس الأوّل الذي يبتنى عليه التشريع المدني.

ويطالب بعد ذلك بالقيام بنهضة علميّة قويّة لدراسة الشريعة الإسلامية في ضوء القانون المقارن ، ويرجو أن يكون من وراء جعل الفقه الإسلامي مصدرا رسميا للقانون الجديد ما يعاون على قيام هذه النهضة.

ومع مطالبته بالدراسات الجادّة للشريعة الإسلاميّة نراه يقول : « إنّ كتب الفقه الإسلامي بالدرجة الثانية من الأهميّة ». مع علمه بأهميّتها ، ومدى تأثيرها على القانون المدني الخاص. ويكون ذلك في موارد لم تتعرض لها بقية القوانين الأخرى.

ويقول أيضا : « يجب أن يراعى في الأخذ بأحكام الفقه الإسلامي‌

__________________

(١) مجلة القانون والاقتصاد ١٢ : ٥٥٥ ـ ٥٥٩ نقلا عن الوسيط ١ : ٥٠ الهامش.

(٢) الوسيط ١ : ٤٨.

٩

التنسيق ما بين هذه الأحكام والمبادئ العامة التي يقوم عليها التشريع المدني في جملته ، فلا يجوز الأخذ بحكم في الفقه الإسلامي يتعارض مع مبدأ من هذه المبادئ ، حتّى لا يفقد التقنين المدني تجانسه وانسجامه ، وفيما قدّمناه من الرخصة في الأخذ بمذاهب الفقه جميعا ـ دون تمييز بين مذهب ومذهب ـ ما يجعل تحقيق هذا التنسيق ميسورا فلا يضلّ الباحث في تفصيلات الفقه الإسلامي ولا يختار منها إلاّ ما يتّسق مع المبادئ العامّة للتشريع المدني » (١).

يقول هذا متناسيا قوله : « فمن المبادئ العامّة التي أخذ بها النزعة الموضوعية التي نراها تتخلّل كثيرا من نصوصه. وهذه هي نزعة الفقه الإسلامي والقوانين الجرمانيّة ، آثرها التقنين الجديد على النزعة الذاتية التي هي طابع القوانين اللاتينية وجعل الفقه الإسلامي عمدته في الترجيح.

ومن هذه المبادي أيضا نظريّة التعسّف في استعمال الحق ».

« ومن الأحكام التي استحدثها التقنين الجديد مسائل تفصيلية اقتبسها من الفقه الإسلامي ، ومن هذه المسائل الأحكام الخاصّة بمجلس العقد ، وبإيجار الوقف ، وبالحكر ، وبإيجار الأراضي الزراعيّة ، وبهلاك الزرع في العين المؤجرة ، وبانقضاء الإيجار بموت المستأجر ، وفسخه للعذر ، وبوقوع الإبراء من الدّين بإرادة الدائن وحده » (٢).

هذا ، وللقانون الوضعي مصادر متعدّدة ـ كما يقول البدراوي ـ هي في الغالب : التشريع والعرف والشريعة الإسلامية ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة (٣). وقد أفاض أساطين علماء القانون الوضعي في مدح الفقه الإسلامي والإشادة به ، ووصلوا إلى أنّ القوانين الصالحة التي سنّها علماء القانون هي من وحي فكر علماء الإسلام وجهابذته إلاّ ما خرج عن نطاق الإسلام بإباحة ما حرّمه الله أو تحريم ما أباحه الله.

__________________

(١) الوسيط ١ : ٤٩ ، ٥٠.

(٢) الوسيط ١ : ٤٧.

(٣) المدخل للعلوم القانونية : ٥٨.

١٠

فالفقه الإسلامي كان مصدرا هاما من مصادر التقنين والتشريع في مختلف العصور والأزمنة ، وما زال كذلك مرجعا لكلّ من أراد الحصول على الطريق الصحيح للحياة.

واتّجهت الإنظار إلى هذا الفقه الشامل لكلّ مرافق الحياة رغبة في الاستفادة والاقتباس من درره وجواهره.

فالقانون الإسلامي هو قانون واحد يستمدّ مشروعيّته وقوّته وقدسيّته من الشارع الواحد الذي اتّفق عليه جميع علماء المسلمين وهو الله جلّت قدرته ، وهذا القانون الواحد يتمثّل في القرآن الكريم والسنّة المطهّرة.

ولذا ترى إطلاق ( الشارع ) على الله تعالى أمرا متّفقا عليه بين علماء المسلمين ، فهم يعدّونه المشرّع الأول ولا مشرّع غيره ، وإذا وجدت إطلاق هذا اللفظ على الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّما هو تجوّز ومراعاة لمقام الرسالة ، ولأنّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ المبلّغ للأحكام عن الله تعالى.

وهذا القانون الشامل تجده في العلم المختصّ به ، والذي أطلق عليه اسم ( علم الفقه ).

الفقه لغة واصطلاحا :

الفقه في اللّغة هو الفهم كما في الصحاح (١) والمصباح (٢) ، وهو العلم بالشي‌ء كما في القاموس المحيط (٣).

أمّا في اصطلاح الفقهاء فالفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلّقة بالايمان والعقائد وما يتّصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام ...

وبعد فترة تخصّص استعماله فصار يعرف بأنّه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود ...

__________________

(١) ج ٦ ص ٢٢٤٣ ( فقه ).

(٢) ج ٢ ص ٤٧٩.

(٣) ج ٤ ص ٢٨٩.

١١

وقد استقرّ تعريف الفقه ـ اصطلاحا كما يقول الشهيد ـ على « العلم بالأحكام الشرعية العمليّة عن أدلّتها التفصيليّة لتحصيل السعادة الأخرويّة » (١).

تدوين الفقه‌

أرسل الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم أنبيائه ومكمّل شريعته للبشرية ، فبلّغ ما أرسله الله به ، ودلّ الناس على ما يسعدهم وينجيهم في معاشهم ومعادهم ، وبيّن لهم أحكام القرآن الكريم ، الكتاب الشامل الكامل الذي فيه تفصيل كلّ شي‌ء.

وكان المسلمون في أيام حياته الشريفة لا يحتاجون إلى غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معرفة أحكام دينهم ، وتبيين ما أبهم عليهم منها ، أو ما لم تصل إليه إفهامهم.

وقد بدأ تدوين الفقه في حياته ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقد كتب لعمرو بن حزم وغيره كتاب الصدقات والديات والفرائض والسنن ، وكان عند علي ـ عليه‌السلام ـ صحيفة فيها العقل وفكاك الأسير وألاّ يقتل مسلم بكافر.

ثمّ كثر التدوين بعد وفاته ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقد صارت للمسلمين دولة كبيرة ، وجدّت لهم حاجات متشعّبة في البلدان المفتوحة ، فدوّنوا ما اثروه عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال سعد بن إبراهيم : أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فجمعت دفترا دفترا ، فبعث إلى كلّ أرض له عليها سلطان دفترا.

وقال الله‌وردي ( المتوفّى سنة ١٨٦ ) : أول من دوّن العلم وكتبه ابن شهاب الزهري ( المتوفّى سنة ١٢٤ ).

وقد دوّن ابن جريج وابن عروبة وابن عيينة والثوري وغيرهم ، ودوّن سائر فقهاء الأمصار وأصحابهم (٢).

__________________

(١) الذكرى : ١.

(٢) موسوعة جمال ١ : ٤٧.

١٢

الغرض المتوخّى من التدوين‌

لم تكن الغاية من التدوين منحصرة في سبب واحد ، وإنّما تجمّعت عدّة أسباب اضطرت المسلمين إلى تدوين علومهم جملة ، ومنها علم الفقه.

ومن هذه الأسباب :

١ ـ كانت العرب امّة تقلّ فيها الكتابة والقراءة ، وكانوا يعتمدون على حافظتهم في خزن ما يريدون نقله إلى أخلافهم.

ولما استبحر بهم العمران ، واختلطوا بالأمم الأخرى التي دخلت في الإسلام ، واتسعت العلوم إلى حدّ لا يمكن معه الاعتماد على الذاكرة في استيعاب فنونها المتشعّبة.

لذلك دوّنوا ما حفظوه في الصدور من العلوم الإسلامية ، لئلاّ يضيع ويذهب بذهاب أهله.

٢ ـ ترتيب المسائل ترتيبا منسّقا من غير تصرّف في العبارات ، وحفظ كلّ كلام بنصه.

٣ ـ تدوين اختلاف الفقهاء من الصحابة والتابعين.

٤ ـ العناية بآيات الأحكام ، وبيان أقوال العلماء والمجتهدين فيها ، والعناية بأحاديث الأحكام والسير في شرح هذه الآيات ومعرفة المراد بها.

٥ ـ تدوين القواعد الكلية وأصول المسائل التي يبنى عليها التفريع في المذاهب المختلفة.

٦ ـ تدوين فتاوى مفت معين أو مفتين معروفين في إقليم من أقاليم الدولة الكبيرة.

٧ ـ الانتصار لرأي معين والرد على من خالفه ، كردّ محمد على أهل المدينة ، وردّ الشافعي على محمد بن الحسن.

٨ ـ الجمع بين المسائل المتشابهة المختلفة الأحكام ، وبيان ما بينها من فروق دقيقة دعت الى اختلاف أحكامها.

١٣

من آثار التدوين :

كان من الآثار المهمّة للتدوين أن حفظت أقوال الفقهاء وآراؤهم ومنهاجهم في الاستنباط ، وتوارثها تلامذتهم وأتباعهم خلفا عن سلف ، فكان أن ظهرت المذاهب الطويلة الأمد ، بعد أن كان المذهب الفقهي يموت بموت مؤسّسة.

من تأريخ المذاهب :

كانت كلمة الفقيه في القرن الأوّل الهجري تعني العالم بسائر الأحكام من أصولية وتعبدّية وأخلاقية وعملية ، وكان المفروض في الفقيه أن يكون حافظا لآيات من القران الكريم ، يعرف ناسخها ومنسوخها ومتشابهها ومحكمها والمراد منها.

وكانت التسمية الشائعة للفقهاء هي كلمة القرّاء أي يقرؤون القرآن الكريم ويعرفون معانيه باعتبار تميزهم عن عامة الناس ، ولمّا نما علم الفقه واستقلّ بنفسه أبدل هذا الاسم بـ ( الفقهاء ).

وقد كتبت في هذا الدور الأحكام الشرعية وسمّيت تلك الكتب الصحائف :

منها ما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكتابته بعد هجرته إلى المدينة مثل أحكام الزكاة وما تجب فيه ومقادير ذلك ، وقد كتبت في صحيفتين.

ومنها ما أعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عمرو بن حزم لمّا ولاه اليمن حيث كتب له أحكام الفرائض والصدقات والديات وغير ذلك.

ومنها ما أعطاه لعبد الله بن حكيم من الكتاب الذي فيه أحكام الحيوانات الميتة.

ومنها ما دفعه الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى وائل بن حجر عندما أراد الرجوع إلى بلاده ( حضرموت ) من الكتاب الذي فيه أحكام الصلاة والصوم والربا والخمر وغيرها.

١٤

ومنها صحيفة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام التي ذكرتها كتب الفريقين.

وممّا كتب من الصحائف في هذا الدور أيضا صحيفة عبد الله بن عمرو ابن العاص ، وقد ذكروا أنّ فيها ما يكفي في معرفة الشريعة كلّها في جميع أبواب الفقه ، وإن كنّا لا نؤمن بهذه المبالغة لأنّ عبد الله وأباه أسلما قبل وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسنتين وكان لعبد الله من العمر خمسة عشر عاما ، ولم يكن له من الصلة مع الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يؤهله لذلك ، وقد طعن في صحيفة عبد الله هذه الحافظ ابن كثير في المجلد الأول من تاريخه البداية والنهاية.

ومن هذه الصحف أيضا صحيفة سعد بن عبادة الأنصاري ، وصحيفة عبد الله بن أبي أوفى ، وصحيفة جابر بن عبد الله ، وصحيفة سمرة بن جندب ، وصحف ابن عباس.

وكان المعروفون بالفتوى في هذا الدور كثيرين ، منهم الإمام علي ـ عليه‌السلام ـ وابن عباس وعمر بن الخطاب وأبو بكر وعثمان بن عفان وعمار ابن ياسر ومعاذ بن جبل وأبو سعيد الخدري وسلمان الفارسي وزيد بن ثابت ...

وكان الإمام علي عليه‌السلام هو المرجع في تشخيص الحكم الشرعي ، فعن ابن عباس أنّه قال : إذا حدّثنا ثقة عن علي بفتيا فلا نعدوها (١).

وقد تواتر عن عائشة أنّ عليا أعلم الناس بالسنّة (٢).

وممّا يدلّ على ذلك قول عمر : « أقضانا علي » (٣).

وروى صاحب الاستيعاب بسنده عن المغيرة : « ليس أحد منهم أقوى قولا في الفرائض من عليّ » (٤).

وقد اجتمع عند أهل المدينة وأهل الكوفة وبقية الأمصار الإسلامية‌

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٢ : ٣٣٨.

(٢) الاستيعاب ٣ : ٤٠.

(٣) صحيح البخاري ٦ : ٢٣ ، طبقات ابن سعد ٢ : ٣٣٩ ، أخبار القضاة ١ : ٨٨ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ٣٠٥ ، الاستيعاب ٣ : ٣٨ ، تاريخ ابن عساكر ٣ : ٢٨.

(٤) الاستيعاب ٣ : ٤١.

١٥

مسائل كثيرة في كلّ باب ، وصار لكلّ عالم من التابعين مذهب معيّن ، فكان سعيد بن المسيب بالمدينة ، وعطاء بمكّة ، وإبراهيم النخعي بالكوفة ، والحسن البصري بالبصرة ، وطاوس باليمن ، ومكحول بالشام.

وأهمّ فقهاء هذا الدور عبد الله بن عباس المتوفّى بالطائف سنة ٦٨ ه‍ ، وكان يسمى ترجمان القرآن ، وكان عالم أهل مكّة في التفسير والفقه.

وسعيد بن جبير ، وهو من خريجي مدرسة الكوفة ، وقد شهد له جماعة بالفقه والعلم.

كان ابن عباس إذا سأله أهل الكوفة عن أمور دينهم يقول : أليس فيكم سعيد بن جبير؟ (١).

وقال فيه ميمون بن مهران : مات سعيد وما على وجه الأرض رجل إلاّ وهو يحتاج إلى علمه.

وعدّه اليعقوبي من الفقهاء الذين يفتون الناس في عصر الوليد وسليمان ابني عبد الملك (٢).

وقال فيه ابن حجر : فقيه ثبت (٣).

وقد قتل سعيد صبرا على يد الحجاج بن يوسف سنة ٩٥ ه‍.

وسعيد بن المسيب ، وهو من الفقهاء ، وكان زعيم مدرسة أهل الحديث حكي عن الذهبي أنّه قال فيه : أعلم الناس بالقضاء ، وسيّد التابعين ، وليس فيهم أحد أوسع علما منه.

وذكر أرباب التراجم أنّه أبى أن يزوّج ابنته للوليد بن عبد الملك ، وزوّجها لأحد الفقراء المسمّى ( أبو وداعة ) ، وكان لا يقبل جائزة السلطان. وكان بينه وبين الحسن البصري مكاتبة.

وكان هو والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، وأبو خالد الكابلي من ثقات الإمام عليّ بن الحسين عليه‌السلام وحواريه.

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٤ : ١١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٢.

(٣) تقريب التهذيب ١ : ٢٩٢ ١٣٣.

١٦

وقد توفى سعيد سنة ٩٤ ه‍.

وإبراهيم بن يزيد بن قيس النخعيّ المتوفى سنة ٩٦ ه‍ كان له مذهب ، وهو رئيس مدرسة أهل الرأي والقياس ، وكان شيخا لحماد بن أبي سليمان الذي هو شيخ أبي حنيفة.

كان يذهب إلى أنّ الأحكام الشرعية لها علل ، وأنّ على الفقيه إدراكها ، ليجعل الأحكام الشرعيّة تدور مدارها خلافا لمذهب داود الظاهري وسعيد بن المسيب.

وقد نقل حديثه البخاري ومسلم.

وقد كثرت المذاهب وجاوزت الحد ، فكان لكلّ بلد فقيه الذي يسود رأيه الفقهي بقية الآراء ، ولكلّ عالم منهجه في استنباط الأحكام ، وقد قيل أنّ المذاهب بلغت أكثر من خمسين مذهبا ، وذلك لاتّساع رقعة البلاد الإسلامية ودخول أمم مختلفة في الدين الإسلامي الحنيف ، ولا يمكن ـ طبعا ـ تخلّصها من ماضيها بين يوم وليلة ، فكان الفقيه هو الذي يوائم بين الأحكام الإسلامية وبين الظروف المحيطة بها.

هذه المذاهب منها ما رزق الاتباع فبقي ، ومنها ما اندثر ، نذكر من المذاهب المندثرة على سبيل المثال :

مذهب عبد الرحمن الأوزاعي المتوفّى سنة ١٥٧ ه‍ ، الذي انتشر بالشام حتّى ولي قضاء دمشق أبو زرعة محمد بن عثمان من أتباع الشافعي الذي أدخل مذهبه بالشام وعمل على نشره ، وكان يهب لمن يحفظ مختصر المزني مائة دينار ، وبالدعوة إلى هذا المذهب انقرض أتباع الأوزاعي بالشام في القرن الرابع ، وكان مذهب الأوزاعي الغالب على أهل الأندلس ثمّ انقطع هناك بعد المائتين وتغلّب مذهب مالك (١).

مذهب سفيان الثوري المتوفى عام ١٦١ ه‍ ، وقد كان سفيان متسترا خائفا من سلطان زمانه ، وكان قد أخذ عنه أناس منهم باليمن ، وآخرون بأصفهان‌

__________________

(١) موسوعة جمال ١ : ٣٤.

١٧

وجماعة بالموصل ، وقد انقرض مذهبه بعد فترة وجيزة.

المذهب الظاهري : وهو مذهب داود بن علي بن خلف الأصفهاني المعروف بالظاهري ، ولد بالكوفة سنة ٢٠٢ ه‍ ونال رئاسة العلم في بغداد وكان شافعيا في أوّل أمره ثمّ استقل بمذهب خاص ، وانتقل سنة ٢٢٣ ه‍ إلى نيسابور ثمّ رجع منها إلى بغداد ، وتوفى فيها سنة ٢٧٠ ه‍.

وقد اتخذ لنفسه مذهبا خاصا وهو العمل بظاهر الكتاب والسّنة ما لم يقم دليل على خلافهما ، وكان لا يرى البحث عن علل الأحكام ، وإن لم يجد نصا عمل بإجماع الصحابة أو إجماع العلماء. وقد أبعد عن استنباطاته القياس والاستحسان والتقليد والرأي ، وادّعى أنّ في عمومات النصوص من الكتاب والسّنة ما يكفي لكلّ سؤال.

ويقول ابن فرحون المتوفّى سنة ٧٩٩ ه‍ ، عن المذهب الظاهري ومؤسّسة داود بن علي : إنّ داود بن عليّ المتوفى سنة ٢٧٠ ه‍ كثر أتباعه ، وانتشر مذهبه ببلاد بغداد وبلاد فارس ، وأخذ به قليلون من أهل إفريقية وأهل الأندلس ، وهو ضعيف الآن ـ أي في عصر ابن فرحون.

ويقول ابن خلدون المتوفّى سنة ٨٠٨ : إنّ مذهب أهل الظاهر قد اندرس اليوم بدروس أئمته ، وإنكار الجمهور على منتحليه ، ولم يبق إلاّ في الكتب المجلّدة ، وربما عكف عليها كثير من الطالبين الذين تكلّفوا انتحال هذا المذهب ليأخذوا منه مذهبهم وفقههم ، فلا يظفرون بطائل ، ولا ينالون إلاّ مخالفة الجمهور وإنكارهم عليهم ، وربما عدّوا مبتدعين بنقلهم العلم من الكتب من غير مفتاح المعلمين.

وقد فعل ذلك ابن حزم بالأندلس على علوّ مرتبته في حفظ الحديث ، وصار إلى مذهب أهل الظاهر ، ومهر فيه باجتهاد زعمه ، وخالف إمامهم داود ، وتعرّض للكثير من أئمّة المسلمين ، فنقم لذلك الناس عليه ، وأوسعوا مذهبه استهجانا وإنكارا ، وتلقّوا كتبه بالإغفال والترك ، حتّى أنّه ليحظر بيعها بالأسواق ، وربما مزّقت في بعض الأحيان.

وهذا الطبري أبو جعفر محمد بن جرير المتوفّى سنة ٣١٠ أخذ الفقه عن‌

١٨

داود ، ودرس فقه أهل العراق ومالك والشافعي على رجاله ، ولم ير أحمد فقيها وما رآه إلاّ محدّثا ، ولذا شنّعوا عليه بعد موته ، وبعد أن نضج كان له مذهب في الفقه اختاره لنفسه ، وكان له أتباع ، من أجلّهم المعافى النهرواني القاضي ، وكانت له ولأتباعه مؤلّفات فقهيّة لكنّها لم تصل إلينا ، ولو لا تفسيره الجليل ما وصل إلينا هذا القدر القيّم من مذهبه ، ولم نقف حتى الآن على أنّه كان له اتباع موجودون بعد القرن الرابع (١).

وبعد اندثار القسم الكبير من هذه المذاهب بقيت مذاهب اخرى منها ما شاع في أقطار خاصّة بعيدة عن مركز الدولة كالأباضية : وهم أتباع عبد الله بن إباض الخارجي المعروف المتوفى سنة ٨٦ هجرية في عهد عبد الملك بن مروان ، وقد وجدت الحركة الإباضية تربتها الخصبة في بلاد العرب ، وبخاصة في عمان ، حيث أصبحت بتوالي الزمن المذهب السائد بها ، ودخل هذا المذهب المغرب وانتشر بين البربر.

المذهب المالكي : ينتسب إلى مالك بن أنس بن مالك الأصبحي المتولّد عام ٩٣ ه‍ بالمدينة ووالده غير أنس الصحابي المعروف ، وتوفي عام ١٧٩ ، عاش ردحا من عمره في دولة الأمويين ، واستمرّ به الشوط إلى دولة العباسيين.

تفقّه على الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام وربيعة الرأي التابعي وسمع الحديث من نافع مولى ابن عمر والزهري.

وأشهر تلاميذه الشافعي ومحمد بن الحسن الشيباني وأسد بن الفرات وعبد الله بن وهب.

بزغ نجمة في زمن المنصور ، وقد ألحّ عليه المنصور أن يكون مفتي الدولة وقد ضمن له حمل الرعيّة على آرائه الفقهيّة ، ولعلّ ذلك كان من المنصور حدا من تمادي انتشار مدرسة الإمام الصادق عليه‌السلام.

وانتشر مذهبه في الأندلس وشمال إفريقيا.

ولمالك كتاب أسماه ( الموطأ ) وكيفية تأليفه للكتاب أنّه لقي المنصور في‌

__________________

(١) موسوعة جمال ١ : ٣٤.

١٩

موسم الحج واعتذر منه عمّا صدر من عامله بحقّه ، وطلب منه أن يؤلّف كتابا في الحديث يكون عليه المعوّل في الفتوى والقضاء.

وقال له : ضع الفقه ودوّن منه كتبا ، وتجنّب شدائد عبد الله بن عمر ، ورخص عبد الله بن عباس ، وشوارد عبد الله بن مسعود ، واقصد إلى أواسط الأمور ، وما اجتمع عليه الأئمّة والصحابة لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ، ونبثّها في الأمصار ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ، فكتب مالك الموطأ.

واهتمّ الخلفاء العباسيون وأعوانهم في إطرائه بألقاب كثيرة حتى قالوا : انّ رسول الله سمّاه بهذا الاسم ، وأن لا مثيل له بعد كتاب الله.

واختلفوا في منزلته من بين كتب السنّة ، فمنهم من جعله مقدّما على الصحيحين كابن العربي وابن عبد البر والسيوطي وغيرهم (١).

قال الليث بن سعد : أحصيت على مالك سبعين مسألة ، وكلّها مخالفة لسنّة الرسول ، وقد اعترف مالك بذلك (٢).

وأشهر الكتب في المذهب المالكي هو المدوّنة لتلميذه أسد بن فرات والتي أخذها سحنون ورتّبها ونشرها باسم المدوّنة الكبرى.

وأهم المصادر التي اعتمد عليها في استنباطه للأحكام وفي فقهه ، مضافا للكتاب والسنّة هي :

١ ـ الاستحسان ٢ ـ الاستصحاب ٣ ـ المصالح والذرائع ٤ ـ العرف والعادة والقياس عنده في مرتبة ضعيفة.

المذهب الحنفي : ينتسب إلى النعمان بن ثابت بن زوطي بن ماه ( أبو حنيفة ) المولود في الكوفة سنة ٨٠ ه‍ ، وقد تفقّه فيها وكانت دراسته وتلقّيه للفقه عن شيخه حمّاد بن أبي سليمان ( المتوفّى سنة ١٢٠ ه‍ ) تلميذ إبراهيم بن يزيد النخعي ( المتوفّى سنة ٩٦ ه‍ ).

وقد توفي أبو حنيفة في بغداد سنة ١٥٠ ه‍.

__________________

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ٢ : ٥٥٦ ، ومقدّمة مستدرك الوسائل ١ : ٢١.

(٢) أضواء على السنّة المحمديّة : ٣٤٦.

٢٠