الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي

الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

المؤلف:

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-064-3
الصفحات: ٨٣٢

وقال أبو حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر محمّد الباقر عليه‌السلام قال : لمّا أتى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثنان وعشرون شهرا من يوم ولادته رمدت عيناه ، فقال عبد المطّلب لأبي طالب : اذهب بابن أخيك الى عرّاف الجحفة وكان بها راهب طبيب في صومعته.

قال : فحمله غلام له في سفط هندي حتى أتى به الراهب ، فوضعه تحت الصومعة ، ثم ناداه أبو طالب : يا راهب يا راهب.

فأشرف عليه فنظر حول الصومعة الى نور ساطع وسمع حفيف أجنحة الملائكة. فقال له : من أنت؟

قال : أنا أبو طالب بن عبد المطّلب جئتك بابن أخي لتداوي عينه.

فقال : وأين هو؟

قال : في السفط قد غطّيته من الشمس.

قال : اكشف عنه. فكشف عنه فإذا هو بنور ساطع في وجهه قد أذعر الراهب فقال له : غطّه ، فغطّاه.

ثمّ أدخل الراهب رأسه في صومعته فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسوله حقّا حقا وأنّك الذي بشّر به في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى عليهما‌السلام ، فأشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله ، ثمّ أخرج رأسه. فقال : يا بنيّ انطلق به فليس عليه بأس.

فقال له أبو طالب : ويلك يا راهب لقد سمعت منك قولا عظيما.

فقال : يا بنيّ شأن ابن أخيك أعظم ممّا سمعت منّي ، وأنت معينه على ذلك ومانعه ممّن يريد قتله من قريش.

قال : فأتى أبو طالب عبد المطّلب فأخبره بذلك.

فقال له عبد المطّلب : اسكت يا بنيّ لا يسمع هذا الكلام منك أحد ، فو الله ما يموت محمّد حتى يسود العرب والعجم (١).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٥ ص ٣٥٨ باب ٤ ح ١٥.

٦١

وروي أنّ قريشا كانت في جدب شديد وضيق من الزمان ، فلمّا حملت آمنة بنت وهب برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اخضرّت لهم الأرض ، وحملت لهم الأشجار ، وأتاهم الوفد من كلّ مكان ، فأخصب أهل مكّة خصبا عظيما ، فسمّيت السنة التي حمل فيها برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنة الفتح والاستيفاء والابتهاج ، ولم تبق كاهنة إلاّ حجبت عن صاحبتها ، وانتزع علم الكهنة ، وبطل سحر السحرة ، ولم يبق سرير لملك من الملوك إلاّ أصبح منكوسا ، والملك مخرسا لا يتكلّم يومه ذلك ، وفي كلّ شهر من الشهر نداء من السماء أن ابشروا فقد آن لمحمّد أن يخرج الى الأرض ميمونا مباركا (١).

وروى الزهري ، عن علي بن الحسين عليهما‌السلام أن أبيه صلّى الله عليه قال : أوّل خبر قدم المدينة في ولادة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لامرأة تدعى فطيمة ، وكان لها تابع ، فجاءها ذات يوم فقام مذعورا على الجدار يرتعد ارتعادا شديدا ، فقالت له : انزل مالي أراك على هذه الصفة؟

فقال : ومالي لا أكون على هذه الصفة وقد ولد الرسول المصطفى ، ولد الرسول المجتبى ، كلّت الشياطين ، ومنعت الجنّ عن أخبار الغيوب.

فقالت له فطيمة : فمه؟

قال : يحرّم الزنا (٢).

قال : وروى ابن أبي سبرة ، عن يحيى بن شبل ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سمعت آبائي يحدّثون ويقولون : كانت لقريش كاهنة يقال لها جرهمانيّة ، وكان لها ابن من اشدّ قريش عبادة للأصنام ، فلمّا كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاءت إليها تابعتها وقالت لها : جرهمانيّة حيل بيني وبينك ، جاء النور الممدود الذي من دخل في نوره نجا ، ومن تخلّف عن نوره هلك ، وهو أحمد صاحب اللواء الأكبر والعزّ الآبد ، وابنها يسمع.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٥ ص ٢٩٦ باب ٣ ح ٣٣.

(٢) لم نعثر عليه في مظانه.

٦٢

فلمّا كانت الليلة الثانية عادت بمثل قولها ثم مرّ ، فلمّا كانت الليلة الثالثة عادت بمثل قولها ، فقالت : ويحك ومن أحمد؟

قال : ابن عبد الله بن عبد المطّلب يتيم قريش ، صاحب الغرّة الحجلاء والنور الساطع. فلمّا تكلّم بهذا الكلام نظرت الى صنمها يمشي مرّة ويعدو مرّة ويقول :

ويلي من هذا المولود ، هلكت الأصنام.

قال : وكانت الجرهمانيّة تنوح على نفسها بهذا الحديث (١).

وقيل : لمّا ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال أبو طالب لفاطمة بنت أسد : أيّ شيء خبّرتك به آمنة أنّها رأت حيث ولدت هذا المولود؟

قالت : خبّرتني أنّها لمّا ولدته خرج معتمدا على يده اليمنى ، رافعا رأسه الى السماء ، يصعد منه نور في الهواء حتى ملأ الافق.

فقال لها أبو طالب : استري هذا ولا تعلمي به أحدا ، أما إنّك ستلدين مولودا يكون وصيّه (٢).

* * *

فصل

في ذكر تنقله في الأصلاب الطاهرة والأرحام الزكيّة

من آدم عليه‌السلام الى أن ولده أبوه عبد الله رضي‌الله‌عنه

حدّث أبو محمّد عبد الله بن حامد ، قال : أخبرنا أبو صالح خالد بن محمّد بن اسماعيل البخاري ببخارى فيما قرأت عليه ، قال : حدّثنا أبو عبد الله محمّد بن علي بن حمزة الأنصاري ، قال حدّثنا عبد الرحمن بن اسماعيل الدمشقي دحيم ، قال حدّثنا بشر بن بكر السيسي ، عن بكر بن أبي مريم ، عن سعيد بن عمرو

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٥ ص ٢٩٧ باب ٣ ح ٣٤ من غير ذكر السند.

(٢) بحار الأنوار : ج ١٥ ص ٢٩٧ باب ٣ ح ٣٥.

٦٣

الأنصاري ، عن أبيه قال : صحبت كعب الأحبار وهو يريد الإسلام فلم أر رجلا لم ير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أوصف له من كعب ، ولقد وصف لنا حالاته وأخلاقه وقال : هذه سنة موته.

فلمّا كنّا ببعض الطريق ذات ليلة جعل يكثر الدخول والخروج والنظر في السماء ، فلمّا أصبح قلنا له : يا أبا إسحاق لقد رأينا منك عجبا؟

قال : فاستعبر باكيا وقال : قبض في هذه الليلة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

قال : فأعجبني كلامه ، فودّعني وانصرف راجعا. فلم أره حتى قبض أبو بكر.

فلمّا كان في خلافة عمر قدم علينا بالمدينة فبلغني قدومه ، فأتيته فسلّمت عليه ، فعرفني ، فأدناني وقرّبني.

قال : فجعلت احدّث الناس بما كان وصف كعب من صفة النبيّ عليه‌السلام.

قال : فعجبوا من ذلك وقالوا : إنّ كعب الأحبار ساحر.

فلمّا سمع مقالتهم قال : الله اكبر ، الله أكبر ، والله ما أنا بساحر ، ثم أخرج من مزودته سفطا صغيرا من درّ أبيض عليه قفل من الذهب مختوما بخاتم ، ففضّ الخاتم فأخرج منه حريرة خضراء مطويّة طيّا شديدا فقال : هل تدرون ما هذه الحريرة؟ قالوا : لا.

قال : هذه صفات محمّد ونعته وأخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : فقلنا : يا أبا اسحاق فحدّثنا رحمك الله بنبذ من خلقه عليه‌السلام.

قال : نعم ، إنّ الله لمّا أراد أن يخلق سيّد ولد آدم محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر جبرئيل عليه‌السلام أن يأتيه بالقبضة البيضاء التي هي قلب الأرض ونور الأرض.

قال : فهبط جبرئيل عليه‌السلام في ملائكة الفراديس المقرّبين الكروبيين وملائكة الصفح الأعلى ، فقبض قبضة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من موضع قبره ، وهي يومئذ بيضاء نقيّة ، فعجنت بماء التسنيم ، ورعرعت حتى جعلت كالدرّة البيضاء ، ثمّ غمست في كلّ أنهار الجنّة وطيف بها في كلّ السماوات والأرض والبحار.

قال : فعرفت الملائكة محمّدا وفضله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يعرف آدم عليه‌السلام.

٦٤

قال : فلمّا خلق الله عزّ وجلّ آدم سمع من تخطيط أسارير جبهته نشيشا كنشيش الذرّ.

فقال : سبحانك ما هذا؟

قال الله عزّ وجلّ : يا آدم هذا تسبيح خاتم النبيّين وسيّد ولدك من المرسلين ، فخذه بعهدي وميثاقي على أن لا تودعه إلاّ في الأصلاب الطاهرة والفتيات الزاهرة.

قال آدم : نعم يا إلهي وسيّدي ، قد أخذته بعهدك على أن لا اودعه إلاّ في المطهّرين من الرجال والمحصنات من النساء.

قال : فكان نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرى في دائرة غرّة جبين آدم عليه‌السلام كالشمس في دوران فلكها وكالقمر في ديجور ليله ، فكان آدم عليه‌السلام كلّما أراد أن يغشي حوّاء تطيّب وتطهّر وأمرها أن تفعل ذلك ويقول : يا حوّاء تطهّري فعسى هذا النور المستودع ظهري ووجهي عن قليل يستودعه الله طهارة بطنك.

قال : فلم تزل حوّاء كذلك حتى بشّرها الله عزّ وجلّ بشيث أب الأنبياء والمرسلين عليهم أفضل الصلاة والسلام ، وأصبح آدم عليه‌السلام والنور مفقود من وجهه ، فنظر إليه في وجه حوّاء فسرّ بذلك.

قال : وحوّاء تزداد في كلّ يوم حسنا وجمالا وشكلا ، وبقي آدم عليه‌السلام لا يقربها لطهارتها وطهارة ما في بطنها ، تأتيها الملائكة كلّ يوم بالتحيّات من عند ربّ العالمين ، وتؤتى في كلّ وقت بماء التسنيم من الجنّة فتشربه حتى خلق الله عزّ وجلّ شيثا في بطنها جنينا وحيدا ، وقد كانت تضع في كلّ بطن قبل ذلك ذكرا وانثى ، ما خلا شيثا فإنّ الله عزّ وجلّ خلقه وحيدا كرامة من الله عزّ وجلّ لنور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فلم تزل كذلك حتى وضعت شيثا عليه‌السلام.

فلمّا أن وضعته نظرت الى نور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين عينيه ، فضرب الله بينها وبين ملعون الله إبليس حجابا من النور في غلظ خمس مائة عام ، فلم يزل ابليس محبوسا حتى بلغ شيث سبع سنين ، وعمود النور بين السماء والأرض وللملائكة

٦٥

فيه مسلك ، وعلى مقاعد كرامته مجلس ، ومنادي البشارة ينادي في كلّ يوم : أيّتها الخضرة اهتزّي وبشّري سكّانك بعظيم نور محمّد المضروب بين السماء والأرض فقد صار الى قرار الأرحام ومستقرّ الأصلاب. وضرب له بين السماء والأرض عمود من النور ، فلم يزل ذلك النور في الأرض ممدودا حتى أدرك شيث وبلغ ، وذلك النور لا يفارق وجهه.

وأيقن آدم عليه‌السلام بالموت والمفارقة حين أدرك شيث ، فأخذ بيد شيث وانطلق به الى الحوض الأعظم وقال : يا بنيّ إنّ الله عزّ وجلّ أمرني أن آخذ عليك عهدا وميثاقا من أجل هذا النور المستودع في وجهك وظهرك أن لا تضعه إلاّ في أطهر نساء العالمين ، واعلم أنّ ربّي عزّ وجلّ قد أخذ فيه عليّ عهدا عظيما وميثاقا شديدا.

ثمّ قال آدم عليه‌السلام : ربّي وسيّدي إنّك أمرتني أن آخذ على شيث من بين ولدي عهدا من أجل هذا النور الذي في وجهه ، فأسألك أن تبعث إليّ ملائكة من ملائكتك ليكونوا شهودا عليه.

قال : فما استتمّ آدم الدعوة حتى نزل جبرئيل عليه‌السلام في سبعين ألف ملك ، معه حريرة بيضاء وقلم من أقلام الجنّة ، فقال : السلام عليك يا روح الله فإنّ الله عزّ وجلّ يقرأ عليك السلام ويقول : قد آن لحبيبي محمّد أن ينتقل في الأصلاب والأرحام ، وهذه حريرة بيضاء وقلم من أقلام الجنّة ليستمدّ لك من غير مداد نورا بإذني ، فاكتب على ابنك شيث كتاب العهد والأمانة بشهادة هؤلاء فإنّهم عبّاد ملائكة السماوات.

قال : فكتب آدم عليه‌السلام كتابا وأشهد عليه ربّ العزة جلّ جلاله وجبرئيل ومن حضر من الملائكة ، وطوى الحريرة طيّا شديدا وختمها بخاتم جبرئيل عليه‌السلام ، وكسا شيث في ذلك المقام حلّتين حمراوين في نور الشمس ورقّة الماء ، وزوّجه الله عزّ وجلّ قبل نزول الملائكة بمخوايلة (١) البيضاء ، وكانت في طول حوّاء وجمالها

__________________

(١) في البحار ، محاولة.

٦٦

وذؤابتها ، بخطبة جبرئيل عليه‌السلام وشهادة الملائكة والوليّ آدم عليه‌السلام ، وضربت عليه قبّة الزمرّد الأصفر ، فواقع مخوايلة فيها فحملت بأنوش.

فلمّا حملت به سمعت نداء الأصوات من كلّ مكان : هنيئا لك هنيئا لك يا بيضاء ، البشرى فقد استودعك الله نور محمّد المصطفى.

قال : وضرب لها حجاب من النور عن أعين الناس ومكايدة الشيطان ، فكان ابليس لا يتوجّه في وجه من الأرض إلاّ نظر الى ذلك الحجاب عليه مضروبا.

قال : فلم تزل مخوايلة حتى وضعت أنوش عليه‌السلام. فلمّا وضعته نظرت الى نور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين عينيه.

فلمّا ترعرع دعاه أبوه فقال له : يا بني إنّ ابي أمرني أن آخذ عليك عهدا وميثاقا ألاّ تتزوّج إلاّ بأطهر نساء العالمين. فقبل وصيته.

وأوصى كذلك أنوش ابنه قينان ، وأوصى قينان ابنه مهلائيل ، وأوصى مهلائيل ابنه يزد ، فتزوّج يزد امرأة يقال لها برّة ، فحملت بأخنوخ وهو إدريس النبيّ عليه‌السلام.

فلمّا ولد إدريس عليه‌السلام نظر أبوه الى النور يلوح بين عينيه فقال له أبوه : يا بني اوصيك بهذا النور كلّ الوصيّة. فقبل وصيّته. فتزوّج بامرأة يقال لها بزوجا ، فولدت له متوشلخ.

وولد متوشلخ لمك ، وكان لمك رجلا أشقر قد اعطي قوّة وبطشا ، فتزوّج امرأة يقال لها قسوش بن يردائيل بن مخوائيل ، فواقعها فولدت له نوح عليه‌السلام ، وفيه نور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلوح في وجهه.

فقال له : يا بنيّ إنّ هذا النور هو النور الذي توارثته الأنبياء عليهم‌السلام ، وهو نور المصطفى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينقل بالعهود والمواثيق الى يوم خروجه ، وإنّي آخذ عليك عهدا وميثاقا أن لا تتزوّج إلاّ بأطهر نساء العالمين.

قال : فقبل وصيّة أبيه ، فتزوّج امرأة يقال لها عمردة ، وكانت من المؤمنات الصالحات ، فواقعها فولدت سام عليه‌السلام ، وفيه نور النبيّ عليه‌السلام.

فلمّا نظر نوح عليه‌السلام الى النور في وجهه سلّم إليه تابوت آدم عليه‌السلام ، وكان

٦٧

التابوت من درّة بيضاء ، له بابان مغلقان بسلسلة من الذهب الأحمر ، وعروتان من الزمرّد ، وفيه العهد. وزوّجه امرأة من بنات الملوك لم يوجد لها في الحسن والجمال شبيه ، فواقعها فولدت أرفخشد ، وفيه نور النبيّ عليه‌السلام فأوصاه أبوه سام بذلك وسلّم إليه التابوت.

فتزوّج ارفخشد امرأة يقال لها مرجانة ، فحملت غابر وهو هود النبيّ عليه‌السلام ، فلمّا وضعته سمعت نداء الأصوات من كلّ مكان : هذا نور محمّد النبيّ الذي يكسر كلّ صنم ، ويقتل كلّ من طغى وكفر ، يخرج من أجمل قومه جمالا ، وأكثرهم زهدا.

فتزوّج امرأة يقال لها ميشاخا ، فولدت له فالغ ، وولد فالغ شالخ ، وولد شالخ ارغو ، وولد أرغو شروع ، وولد شروع ناحور ، وولد ناحور تارخ.

فتزوّج تارخ امرأة يقال لها دبا بنت غرة ، فولدت له الخليل إبراهيم عليه‌السلام ، فلمّا ولدت إبراهيم عليه‌السلام ضرب عليه علمان من النور : علم في شرقها وعلم في غربها ، فصارت الدنيا كلّها نورا واحدا ، وضرب له عمود من النور في وسط الدنيا قد لحق بعنان السماء ، له إشراق.

فقالت : ربّنا ما هذا؟ فنوديت : إنّ هذا نور محمّد.

ورفع إبراهيم كما رفع آدم من قبل ، فقال إبراهيم عليه‌السلام : ربّ لم أر لك خليقة هي أحسن من هذه الخليقة ، ولا أمّة من امم الأنبياء أنور من هذه الامّة.

فنودي : يا إبراهيم هذه أمّة محمّد حبيبي ، لا حبيب لي من خلقي مثله ، أجريت ذكره من قبل أن أخلق سمائي وأرضي ، وسمّيته نبيّا وأبوك آدم بين الطين والروح ، وقد التقيت أنت معه في الذروة الأولى ، وأنا مجريه الى قناة صلبه ، ثمّ أخرجه من صلبك الى صلب ابنك إسماعيل ، فأبشر فقد أمرت الخير والكرم أن يجريا معه في طريقه.

قال : وكان إبراهيم عليه‌السلام قد خبّر سارة أنّ الله عزّ وجلّ سيرزقها ولدا طيبا ، فطمعت في نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان إبراهيم عليه‌السلام قد خبّرها بعظيم نوره وحسنه وبهائه ، فلم تزل متوقّعة لذلك حتى حملت هاجر بإسماعيل.

٦٨

فلمّا حملت هاجر إسماعيل عليه‌السلام اغتمّت من ذلك غمّا شديدا ، فلم تزل في أشدّ الغمّ والكرب. فلمّا ولدت هاجر إسماعيل عليه‌السلام أدرك سارة الغيرة فأخذها ما يأخذ النساء ، فبكت وقالت : يا إبراهيم مالي من بين الخلق حرمت الولد؟

قال لها إبراهيم عليه‌السلام : ابشري وقرّي عينا ، فإنّ الله عزّ وجلّ منجز وعده ، وأنّه لا يخلف الميعاد. فلم تزل سارة كذلك حتّى رزقها الله عزّ وجلّ إسحاق عليه‌السلام.

فلمّا نشأ وصار رجلا أدركت إبراهيم عليه‌السلام الوفاة ، فجمع أولاده وهم يومئذ ستة ودعا بتابوت آدم عليه‌السلام ففتحه وقال : يا بنيّ انظروا الى هذا التابوت.

قال : فنظروا فإذا فيه بيوت بعدد الأنبياء كلّهم أجمعين ، وآخر البيوت بيت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ياقوتة حمراء. قال : فإذا هو قائم يصلّي وبين يديه علي بن أبي طالب شاهرا سيفه على عاتقه ، مكتوب على جبينه : هذا أخوه وابن عمّه المؤيّد بالنصر من عند الله عزّ وجلّ. وحوله عمومته والخلفاء والنقباء.

فقال إبراهيم عليه‌السلام لبنيه : يا بنيّ انظروا في من ترون النبيّين منقولين.

قال : فنظروا فإذا الأنبياء عليهم‌السلام كلّهم منقولون في صلب إسحاق إلاّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالصا فإنّه منقول في صلب إسماعيل.

قال : فلمّا نظر إبراهيم عليه‌السلام الى النور في وجه إسماعيل عليه‌السلام قال : بخ بخ ، هنيئا لك يا بنيّ ، قد خصّك الله تعالى بنور نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنا آخذ عليك عهدا وميثاقا.

قال : فلم يزل إسماعيل عليه‌السلام متمسّكا بذلك العهد والميثاق حتّى تزوّج هالة بنت الحارث فواقعها ، فولدت له قيدار ، وفيه نور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فلمّا نظر إسماعيل الى النور في وجه قيدار سلّم إليه التابوت ، وأوصاه بدين الله وسنّته ، وأمره أن لا يضع النور إلاّ في أطهر نساء العالمين.

قال : فنظر قيدار الى المطهّرات من ولد إسحاق فتزوّج منهنّ بمائتي امرأة ، وكان شابّا جميلا ، فأحبّ الله عزّ وجلّ أن يريه في نفسه عجائب كثيرة لئلاّ يضع هذا النور إلاّ في أطهر نساء العالمين.

قال : وكان قيدار ملك قومه وسيّدهم ، وكان قد اعطي سبع خصال لم يعطها

٦٩

أحد من الناس قبله : اعطي : ١ ـ القنص ، ٢ ـ والرمي ، ٣ ـ والفروسيّة ، ٤ ـ والشدّة ، ٥ ـ والبأس ، ٦ ـ والصراع ، ٧ ـ وإتيان النساء.

وكان صاحب قنص وصيد. وكان قد تزوّج بمائتي امرأة من بنات إسحاق ، وأقام معهنّ مائتي سنة لا يحبلن ولا يلدن له ولدا ، فبينا هو ذات يوم راجع من قنصه فتلقّته زمرة من الوحش والطير والسباع من كلّ مكان ، فنادته بلسان الآدميّين : ويحك يا قيدار قد مضى عمرك وإنّما همّتك اللهو ولذّة الدنيا ، أما آن لك بعد أن تهتمّ بنور محمّد أين تضعه ، ولما ذا استودعته؟

قال : فرجع قيدار الى منزله مغموما مكروبا ، وحلف بإله إبراهيم ألاّ يطعم طعاما ولا يشرب شرابا ولا يقرب انثى أبدا حتى يأتيه بيان ما سمع على ألسنة الطير والوحش والسباع ، إذ بعث الله عزّ وجلّ إليه ملكا في الهواء في صورة رجل من الآدميّين لم ير قيدار أحسن منه وجها ، ولا أنقى منه ثوبا ، ولا أحسن منه خلقا ، فهبط عليه الملك فسلّم ، فردّ قيذار عليه‌السلام ، فقعد معه.

فقال : يا قيذار إنّك قد ملكت البلاد ، وقد زيّنت بالقوّة والبأس ، وقد نقل إليك مع هذا نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه كائن لك ولد من غير نسل إسحاق عليه‌السلام ، فلو انّك تجرّدت وقرّبت لإله إبراهيم قربانا وسألته أن يبيّن لك من أين لك التزويج لكان ذلك خيرا لك من اللهو والتواني. وتركه الملك وعرج الى مقامه.

فقام قيدار تلك الساعة ، وكان صاحب جمّة وجمال وبهاء وكمال الى البقعة التي ولد فيها إسماعيل عليه‌السلام فقرّب يومئذ سبعمائة كبش أقرن من كباش إبراهيم عليه‌السلام ، فكان كلّما ذبح كبشا جاءت نار من السماء حمراء لا دخان لها في سلاسل بيض فتأخذ ذلك القربان فتصعد به الى السماء. فلم يزل قيذار يذبح ويقرّب حتّى ناداه مناد : حسبك يا قيذار فقد استجاب الله دعوتك وقبل قربانك ، انطلق من فورك هذا الى شجرة الوعد فنم في أصلها وانتبه الى ما تؤمر به في المنام فافعله.

قال : فردّ قيذار باقي غنمه ، وأقبل حتى أتى الشجرة فنام في أصلها ، فأتاه آت في المنام فقال له : يا قيذار إنّ هذا النور الذي في ظهرك هو النور الذي فتح الله

٧٠

عزّ وجلّ به الأنوار كلّها ، وخلق الدنيا والخلق طرّا من أجله ، واعلم أنّه لم يكن الله عزّ وجلّ ليجريه إلاّ في الفتيات (١) العربيّات ، فابتغ لنفسك امرأة طاهرة من العرب وليكن اسمها الغاضرة.

قال : فوثب قيذار من نومه فرحا الى منزله ، وبعث رسلا يطلبون له امرأة من العرب اسمها غاضرة ، ولم يرض باولئك الرسل حتى بكّر وهو على جواده وأخذ السيف معه شاهرا مسلولا فجعل يبقر عن أحياء العرب ، ينزل على قوم ويرحل الى آخرين ، حتى وقع على ملك الجرهميّين ، وكان من ولد ذهل بن عامر بن يعرب بن قحطان وله ابنة اسمها الغاضرة ، وكانت أجمل نساء العالمين ، فتزوّجها وحملها الى أرضه وبلاده ، فواقعها فحملت بابنه وأصبح قيذار والنور من وجهه مفقود منتقل الى وجه الغاضرة فسرّ بذلك سرورا عظيما.

وكان عنده تابوت آدم عليه‌السلام ، وكان ولد إسحاق ينازعونه التابوت ليأخذوه ، وكانوا يقولون : إنّ النبوّة قد صرفت عنكم وليس لكم إلاّ هذا النور الواحد فأعطنا التابوت. فكان يمتنع عليهم ويقول : إنّه وصيّة أبي ولا اعطيه أحدا من الناس.

قال : فذهب ذات يوم يفتح ذلك التابوت فعسر عليه فتحه ، فناداه مناد من الهواء : مهلا يا قيذار فليس لك الى فتح هذا التابوت سبيل ، انّه وصيّة نبيّ ، ولا يفتح هذا التابوت إلاّ نبيّ من النبيّين ، فادفعه الى ابن عمّك يعقوب اسرائيل الله.

قال : وإنّما سمّي يعقوب إسرائيل الله لأنّ يعقوب كان يخدم بيت المقدس ، وكان أوّل من يدخل وآخر من يخرج ، وقد يسرج القناديل ، فكان إذا كان بالغداة أصابها مطفاة.

قال : فبات ذات ليلة في مسجد بيت المقدس فإذا بجنّي يطفيها ، فأخذه فأسره الى سارية في المسجد ، فلمّا أصبحوا رأوه أسيرا ، وكان اسم الجنّي ائيل.

فلمّا أن سمع قيذار هذا أقبل الى أهله وهي الغاضرة فقال : انظري إن أنت ولدت غلاما فسمّيه حملا ، وأنا أرجو أن يكون غلاما طيّبا.

__________________

(١) في الأصل : فتيات.

٧١

قال : وحمل قيذار التابوت على عاتقه وخرج يريد أرض كنعان ، وذلك أنّ يعقوب عليه‌السلام كان بأرض كنعان ، فأقبل يسير ترفعه أرض وتخفضه اخرى حتى قرب من البلاد.

قال : فصرّ التابوت صرّة سمعها يعقوب عليه‌السلام ، فقال لبنيه : اقسم بالله لقد جاءكم قيذار فقوموا نحوه.

قال : فقام يعقوب وأولاده جميعا ، فلمّا أن نظر يعقوب الى قيذار استعبر باكيا وقال : يا قيذار ما لي أرى لونك متغيّرا وقوّتك ضعيفة ، أرهقك عدوّ أم أتيت معصية بعد أبيك اسماعيل؟

قال : ما رهقني عدوّ ، ولا أتيت معصية ، ولكن نقل من ظهري نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلذلك تغيّر لوني وضعف ركني.

قال يعقوب : أفمن بنات إسحاق؟

قال : لا ولكن في العربيّة الجرهميّة وهي الغاضرة.

قال يعقوب : بخ بخ ، شوقا لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يكن الله عزّ وجلّ ليجريه إلاّ في الطاهرات يا قيذار وأنا مبشّرك ببشارة.

قال : وما هي؟

قال يعقوب : اعلم أنّ الغاضرة قد ولدت لك الليلة غلاما.

قال : وما علمك يا ابن عمّي وأنت بأرض الشام وهي بأرض الحرم؟

قال يعقوب : أعلم ذلك لأنّي رأيت أبواب السماء قد فتحت ، ورأيت نورا كالقمر الممدود بين السماء والأرض ورأيت الملائكة ينزلون من السماء بالبركات والرحمة ، فعلمت أنّ ذلك من أجل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : فسلّم قيذار التابوت الى يعقوب عليه‌السلام ورجع الى أهله ، فوجدها قد ولدت غلاما فسمّاه « حمل » ، وفيه نور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فلمّا ترعرع أخذه أبوه بيده ليريه مكّة والمقام وموضع البيت الحرام. فلمّا أن صار على جبل ثبير تلقّاه ملك الموت عليه‌السلام في صورة رجل من الآدميّين ، فقال :

٧٢

الى أين يا قيذار؟

قال : انطلق بابني هذا فاريه مكّة والمقام وموضع البيت الحرام.

فقال : وفّقك الله ولكن عندي نصيحة ، فهلمّ إليّ فإنّ بيني وبينك سرّا.

قال : فدنا منه قيذار ليسارّه فقبض ملك الموت روحه من اذنه فخرّ ميّتا بين يدي ابنه حمل ، وعرج ملك الموت الى أسباب السماوات. فرفع « حمل » رأسه فلم ير داعيا ولا مجيبا فعلم أنّه إنّما كان ملك الموت ، فقعد عند رأسه يبكي ، فقيّض الله عزّ وجلّ لقيذار قوما من أولاد إسحاق النبيّ عليه‌السلام فغسّلوه وحنّطوه وكفّنوه ، ودفن في جبل ثبير.

وبقي حمل يتيما وحيدا ، فكلاه الله عزّ وجلّ حتّى بلغ ، وذكر في العزّ والشرف ، فتزوّج من قومه امرأة يقال لها بريرة ، فحملت بابنه نبت.

قال : فخرج يطلب مواضع آبائه ، ويحبّ القنص والصيد ، حتى ولد له هميسع ، وولد لهميسع أدد.

وإنّما سمّي أددا لأنّه كان مادّ الصوت طويل العزّ والشرف ، وكان أوّل من تعلّم بالقلم من ولد إسماعيل ، وكان طالبا يطلب آثار الخير ، ففضل في الكتابة على أهل زمانه. حتى ولد له أدّ ، وولد لأدّ عدنان.

وإنّما سمّي عدنان لأنّ أعين الجنّ والإنس كلّها كانت تنظر إليه ، فقالوا : إن تركنا هذا الغلام حتى يدركه مدرك الرجال ليخرجنّ من ظهره من يسود الناس كلّهم أجمعين. فأرادوا قتله فوكّل الله عزّ وجلّ به من يحفظه ، فبقوا لا يقدرون على حيلة ، وهو يخرج منه أكرم العالمين خلقا وخلقا حتى ولد له معد.

وإنّما سمّي معدا لأنّه كان صاحب حروب وغارات على بني اسرائيل من يهودها ، ولم يكن يحارب خلقا إلاّ رجع بالنصر والظفر ، فجمع من المال ما لم يجمعه أحد من الناس ، حتى ولد له نزار.

وإنّما سمّي نزارا لأنّ معدا نظر الى نور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجهه فقرّب له قربانا عظيما ، وقال : لقد استقللت هذا القربان وأنّه لقليل نزر ، فأنت نزار وانزارت

٧٣

لك الأرض بحضرتها ، فمن أجل ذلك سمّي نزارا.

فتزوّج امرأة من قومه يقال لها سعيدة ، فولدت له مضر.

وإنّما سمّي مضرا لأنّه أخذ بالقلب ، فلم يكن يراه أحد إلاّ أحبّه ، وكان صاحب ظفيرتين ، وكان صاحب قنص.

وكان كلّ رجل منهم يأخذ على ابنه كتابا وعهدا وميثاقا أن لا يتزوّج إلاّ بأطهر النساء في زمانه. وكانت الكتب تعلّق في البيت الحرام ، فلم تزل معلّقة من ولد إسماعيل عليه‌السلام الى أيّام الفيل. وكان أوّل من بدّلها وغيّرها عمرو بن اللحى صاحب استخراج الأصنام من الكعبة.

فلم تزل كذلك حتى تزوّج امرأة من قومه يقال لها كريمة ، وتدعى أمّ حكيم ، فولدت له الياس.

وإنّما سمّي الياس لأنّه ولد على اليأس والكبر وانقطاع الرجاء ، فكان يدعى كبير قومه وسيّد عشيرته ، لا يقطعون أمرا دونه ، يسمع من ظهره أحيانا دويّ تلبية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فلم يزل كذلك حتى تزوّج امرأة يقال لها مخة ، فولدت له مدركة.

وإنّما سمّي مدركة لأنّه أدرك كلّ عزّ كان في آبائه وكلّ شرف ، وكانوا لا يتزوّجون إلاّ بالمهور السنية.

فلم يزل كذلك حتى تزوّج امرأة يقال لها قزعة ، فولدت له خزيمة.

وإنّما سمّي خزيمة لأنّه خزم نور آبائه وشرفهم ، ومكث لا يدري بمن يتزوّج حتى اري في منامه أن يتزوّج بمرّة بنت ودّ بن طابخة ، فتزوّجها فولدت له كنانة.

وإنّما سمّي كنانة لأنّه لم يزل في كنّ ودعة من قومه حتى تزوّج امرأة يقال لها ريحانة ، وتدعى أمّ الطيّب ، فأولدها النضر.

وإنّما سمّي النضر لأنّ الله عزّ وجلّ اختاره وألبسه النضرة ، وسمّي قريشا ، فكلّ من ولده النضر فهو قرشيّ ، ومن لم يلده النضر فليس بقرشيّ ، وهو الذي قال : بينا أنا نائم في الحجر إذا رأيت كأنّما خرجت من ظهري شجرة خضراء حتى بلغت

٧٤

عنان السماء ، وأنّ أغصانها نور في نور وإذا أنا بقوم بيض الوجوه وإذا القوم متعلّقون بها من لدن ظهري الى السماء الدنيا. فلمّا انتبهت أتيت كهنة قريش فأخبرتهم بذلك.

قالوا : إن صدقت رؤياك فقد صرف إليك العزّ والكرم والشرف ، وقد خصصت بحسب وسؤدد لم يخصّ به أحد من العالمين. فأعطاه الله عزّ وجلّ ذلك ، وذلك حين نظر الله عزّ وجلّ نظرته الى الأرض فقال للملائكة : انظروا من ترون أكرم أهل الأرض اليوم عندي ، وأنا أعلم وأحكم؟

فقالت الملائكة : ربّنا وسيّدنا ما نرى في الأرض أحدا يذكرك بالوحدانيّة مخلصا إلاّ نورا واحدا في ظهر رجل من ولد إسماعيل.

قال الله عزّ وجلّ : اشهدوا انّي قد اخترته لنطفة حبيبي محمّد.

قال : فبسط له الحرم بالعزّ والشرف حتى ولد له مالك ، وإنّما سمّي مالك لأنّه ملك العرب. وأوصى مالك ابنه فهرا ، وأوصى فهر الى لؤيّ ، وأوصى لؤيّ الى غالب ، وأوصى غالب الى كعب ، وأوصى كعب الى مرّة ، وأوصى مرّة الى كلاب ، فولد له قصيّ ، وذلك في زمان فيروز بن قباد.

وإنّما سمّي قصيّ لأنّه كان يقصي الباطل ويدني الحقّ ، وكانت العرب إليه تتحاكم زمانا ودهرا ، وهو الذي ولي الناس وولي أمر البيت ، وأطعم الحاجّ ، وساد الناس ، وبنى لنفسه دارا بمكّة ، فكانت أوّل دار بنيت بمكّة ، وهي دار الندوة ، وجمع قبائل قريش فأنزلهم أبطح مكّة ، وكان بعضهم في الشعاب ورءوس الجبال بمكّة ، فقسّم منازلهم فسمّي بذلك مجمّعا ، وفيه يقول مطرود لبنيه ، ويقال إنّه لحذافة بن غانم الجمحي :

قصيّ أبوكم كان يدعى مجمّعا

به جمع الله القبائل من فهر

هم نزلوها والمياه قليلة

وليس بها إلاّ كهول أبي عمرو

يعني خزاعة. ومات قصيّ بمكّة ، ودفن بالحجون ، فتدافن الناس في الحجون ، والحجون هو الجبل الذي بحذاء المسجد الذي يلي شعب الخرّازين الى ما بين

٧٥

الحوضين اللّذين في حائط عوف ، وكانت العرب تتحاكم الى قصيّ زمانا ودهرا حتى ولد له عبد مناف.

وإنّما سمّي عبد مناف لأنه شرف وعلا وناف فضرب إليه الركبان من أطراف الأرضين يتحفونه بتحف الملك ، بيده لواء نزار وقوس إسماعيل وسقاية الحاجّ ، ووهب له خمسة من الذكران وتسع نسوة ، فأوّل من ولد له هاشم.

وإنّما سمّي هاشما لأنّه أوّل من هشم الثريد لقومه ، وكان الناس في جدوبة شديدة وضيق من الزمان فكانت مائدته منصوبة لا تحمل في السرّاء والضرّاء ، وكان يحمل أبناء السبيل ويؤوي الخائفين ، وكانت ضفيرتاه على صفة ظفيرتي إسماعيل النبيّ عليه‌السلام. وخرج أفخر قومه مفاخرة وأسبقهم سابقة لم تدنّسه دنسات الامّهات ، بل امّهاته طاهرات مطهّرات (١).

حدّث الأوزاعي : قال حدّثني أبو عمّار شدّاد ، قال : حدّثني واثلة بن الأسقع ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ الله اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل ، واصطفى من كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم » (٢).

فلمّا خصّ الله هاشما بالنور واصطفاه على العرب وقريش كلّها قال الله عزّ وجلّ للملائكة : يا ملائكتي اشهدوا انّي قد طهّرت عبدي هذا من دنس الأرض كلّها.

قال : فأجريت نطفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ظهره ممزوجة بلحمه ودمه فكانت ترى على وجهه كالهلال وكالكوكب الدرّي في توقّد شعاعه لا يمرّ بشيء إلاّ سجد له ، ولا يراه أحد من الناس إلاّ أقبل نحوه.

قال : فلم يزل كذلك حتى اري في المنام أن يزوّج بسلمى بنت زيد بن عمر بن لبيد بن خراش بن عدي بن النّجار ، فتزوّجها وكانت كخديجة بنت خويلد في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها عقل وحلم ويسار ، وكانت كعوبة نهود عطبولة (٣) فواقعها ،

__________________

(١) ذكر في بحار الأنوار كلاما ملخّصا بمعناه ج ١٥ ص ٣٣ فما بعد نقلا عن كتاب الأنوار للشيخ أبي الحسن البكري.

(٢) البداية والنهاية : ج ٢ ص ٢٥٦.

(٣) العطبول : الممتدّ القامة الطويل العنق ، وقيل : هو الطويل الصلب الأملس ، ويوصف به الرجل والمرأة. النهاية لابن الأثير : ج ٣ ص ٢٥٦ مادة « عطبل ».

٧٦

فولدت له عبد المطّلب ، واسمه شيبة الحمد ، فصارت مكارم الأخلاق كلّها إليه.

وقد قيل : إنّما سمّي شيبة لأنّه ولد وكان في رأسه شعرة بيضاء حين ولد ، فبذلك سمّي شيبة.

وولد بيثرب وهي المدينة ، فمكث بها سبع سنين أو ثمان سنين حتى أخذه المطّلب وأردفه خلفه على راحلته لا يثق أن يدعه وحده ظنّا به وحبّا له ، ودخل به مكّة فسمّي بذلك عبد المطّلب ، وأقام في مكّة وهو سيّدها وكبيرها ، فتزوّج هالة بنت الحارث ، فولدت له أبا لهب واسمه عبد العزّى ، فخرج كافرا شيطانا رجيما ، ثمّ ماتت فتزوّج بعدها سعدى بنت غياث فأولدها العبّاس ثمّ ماتت ، فتزوّج بعدها حميدة فولدت له حمزة سيّد الشهداء وحجل وعاتكة ، وبقي زمانا ودهرا لا يدري من يتزوّج من نساء العالمين حتى اري في منامه أن يتزوّج فاطمة بنت عمرو ، فتزوّجها وأمهرها مائة ناقة حمراء ومائة رطل من الذهب الأحمر ، فواقعها فأولدها أبا طالب وآمنة بنت عبد المطّلب وبرّة بنت عبد المطّلب.

وأقام على ذلك زمانا ودهرا لا يخرج نور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وجه عبد المطّلب الى بطن فاطمة ، فلمّا كان يوما من الأيّام راجعا من قنصه وصيده في الظهيرة نصف النهار وهو عطشان يلهث فرأى في الحجر ماء فنزل فشرب من ذلك الماء فوجد برده على قلبه ، ثمّ دخل تلك الساعة على فاطمة فواقعها فحملت بعبد الله ، وهو أصغر أولاده.

فلمّا ولد سرّ أبوه سرورا شديدا ، ولم يبق أحد من أحبار الشام إلاّ علم بمولده ، وذلك أنّه كانت عندهم جبّة من صوف بيضاء ، وكانت الجبّة مغموسة في دم يحيى بن زكريّا عليهما‌السلام ، وكانوا يجدون في الكتب عندهم إذا رأيتم الجبّة بيضاء والدم يقطر فاعلموا أنّه قد ولد عبد الله بن عبد المطّلب ، فعدّوا الأيّام والشهور والسنين فلمّا أن صار غلاما مترعرعا قدم عليه الأحبار ليقتلوه فصرف الله عزّ وجلّ كيدهم عنه ، فرجعوا الى الشام ولم يقدروا له على حيلة.

قال : وكانت تجارات قريش يومئذ بأرض الشام ، فكان لا يقدم على أحبار

٧٧

يهود الشام أحد من قريش إلاّ سألوه عن عبد الله بن عبد المطّلب كيف تركوه؟

فتقول قريش : بخ بخ ، تركناه نورا في قريش يتلألأ حسنا وبهاء وجمالا وكمالا.

فتقول الأحبار : معاشر قريش إنّ ذلك النور لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بن عبد الله بن عبد المطّلب نبيّ يخرج من ظهره في آخر الزمان يغيّر عبادة الأصنام ويبطل عبادة اللات والعزّى.

فكانت قريش إذا سمعوا بذلك يغشى عليها ، فإذا أفاقت رجعت في تحيّرها وكفرها ، ثمّ تقول : القول كما يقولون وربّ الكعبة.

وعبد الله يومئذ أجمل قريش كلّها ، قد شغفت به كلّ نساء قريش ، حتى لقي في زمنه ما لقي يوسف الصدّيق عليه‌السلام من امرأة العزيز في زمانه ، وكان يخبر أباه بما يرى من العجائب ، وكان يقول : يا أبه إنّي إذا خرجت الى مكّة خرج من ظهري نوران : أحدهما يأخذ شرق الأرض والآخر غربها. ثمّ إنّ النورين يستديران في ظهري كأسرع من طرف العين.

قال أبوه : لئن صدق قولك فسيخرج من ظهرك (١) أكرم العالمين ، وقد رأيت رؤيا بعد رؤيا ، كلّ يدلّ على أن سيخرج من ظهرك أجمل الخلق أجمعين.

وبقي عبد الله على ذلك زمانا ودهرا ليس لنساء قريش غسل من أزواجهنّ ولا للرجال فرح من أهاليهم شوقا الى عبد الله بن عبد المطّلب.

فجاءوا معهم بسبعين سيفا شاهرة مسمومة ، فجعلوا يسيرون الليل والنهار حتى نزلوا بفناء مكّة ، فلمّا كان يوم من الأيّام خرج عبد الله الى صيده وحيدا وأصاب الأحبار منه الخلوة أحدقوا به ليقتلوه ، فلمّا نظر الى ذلك وهب بن عبد مناف الزهري وهو أبو آمنة جدّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أدركته الحميّة وعصبية العرب والجاهلية فقال : سبعون رجلا تحدقون برجل واحد من أهل مكّة تريدون قتله لا ناصر له ، والله لأنصرنّه.

قال : فأجرى جواده لينصر عبد الله بن عبد المطّلب على اولئك الأحبار فحانت

__________________

(١) في هامش الأصل : صلبك خ ل.

٧٨

منه التفاتة نحو السماء ، فنظر الى رجال لا يشبهون رجال الدنيا ينزلون من السماء قد حملوا على اولئك الأحبار فقطّعوهم وهزموهم حتى كشفوهم عن عبد الله ، فلمّا نظر وهب الى ذلك رجع مبادرا الى أهله فخبّرها بالخبر وقال : انطلقي الى عبد المطّلب فاعرضي عليه ابنتك لعلّه أن يزوّجه إيّاها قبل أن يسبقنا إليه أحد من الناس فتكون الحسرة الكبرى والمصيبة العظمى.

قال : فجاءت برّة أمّ آمنة الى عبد المطّلب فعرضت ابنتها عليه.

فقال عبد المطّلب : لقد عرضت عليّ امرأة لا يصلح لا بني من النساء غيرها.

فزوّجه إيّاها وابتنى بها.

فلمّا ابتنى عبد الله بآمنة مرضن نساء قريش ، وماتت مائتا امرأة من قريش بغيرتها أسفا وجزعا ، إذ لم يتزوّج بهنّ عبد الله بن عبد المطّلب. فأعطى الله عزّ وجلّ آمنة من النور والعفاف والبهاء والجمال والكمال ما أنّها كانت تدعى سيّدة قومها.

قال : وبقي عبد الله على ذلك عدّة سنين ونور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يخرج منه الى بطن آمنة حتى أذن الله عزّ وجلّ في ذلك.

فصل

في ذكر تنقّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن فطامه الى وقت مبعثه

قيل : إنّه لمّا شبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وترعرع وسعى ردّته حليمة السعدية الى امّه آمنة بنت وهب فافتصلته وقدمت به على أخواله من بني عدي بن النّجار بالمدينة ، ثم رجعت به حتى إذا كانت بالأبواء هلكت بها ، فيتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان عمره يومئذ ستّ سنين ، فروي أنّ أمّ أيمن رجعت به الى مكّة وكانت تحضنه ، وورث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من امّه أم أيمن وخمسة أجمال أوداك (١) وقطعة غنم ، فلمّا تزوّج

__________________

(١) أوداك : دجاجة وديكة أي سمينة ( لسان العرب ١٠ / ٥٠٩ ).

٧٩

خديجة أعتق أمّ أيمن.

وروي أنّ آمنة لمّا قدمت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة نزلت به في دار النابغة ، لرجل من بني عديّ بن النّجار ، فأقامت بها شهرا ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذكر امورا كانت في مقامه ذلك ، فقال عليه‌السلام : نظرت الى رجل من اليهود يختلف وينظر إليّ ثمّ ينصرف عنّي ، فلقيني يوما خاليا فقال لي : يا غلام ما اسمك؟ قلت : أحمد.

فنظر الى ظهري فأسمعه يقول : هذا نبيّ هذه الامّة ، ثمّ راح الى أخوالي فخبّرهم الخبر ، فأخبروا امّي ، فخافت عليّ وخرجنا من المدينة (١).

وكانت أمّ أيمن تحدّث وتقول : أتاني رجلان من اليهود يوما نصف النهار بالمدينة فقالا : أخرجي لنا أحمد ، فأخرجته فنظرا إليه وقلّباه مليّا ونظرا الى سرّته ، ثمّ قال أحدهما لصاحبه : هذا نبيّ هذه الامّة ، وهذه دار هجرته ، وسيكون بهذه البلدة من القتل والسبي أمر عظيم (٢).

فلمّا ماتت آمنة ضمّ عبد المطّلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى نفسه ، وكان يرقّ عليه ويحبّه ويقرّبه إليه ويدنيه.

وقال الواقدي : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما يلعب معه الغلمان حتى بلغ الردم فرآه قوم من بني مدلج ، فدعوه فنظروا الى قدميه والى أثره ثمّ خرجوا في أثره ، فصادفوا عبد المطّلب قد اعتنقه ، فقالوا له : ما هذا منك؟ قال : ابني. قالوا : احتفظ به فإنّا لم نر قطّ قدما أشبه بالقدم التي في المقام منه. فقال عبد المطّلب لأبي طالب :

اسمع ما يقول هؤلاء ، فكان أبو طالب يحتفظ به (٣).

وقال كندير بن سعيد ، عن أبيه قال : حججت في الجاهلية فإذا أنا برجل يطوف بالبيت وهو يرتجز ويقول :

يا ربّ ردّ راكبي محمّدا

ردّ إليّ واصطنع عندي يدا

فقال : فقلت : من هذا؟

__________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٢) البداية والنهاية : ج ٢ ص ٢٧٩.

(٣) البداية والنهاية : ج ٢ ص ٢٨٢ نقلا عن ابن اسحاق.

٨٠