الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي

الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

المؤلف:

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-064-3
الصفحات: ٨٣٢

فلمّا قدم هاشم بالكتاب على أبي موسى دعا أبو موسى السائب بن مالك الأشعري فقال له : ما ترى؟ وأقرأه الكتاب إليه.

فقال له السائب : اتّبع ما كتب به إليك أمير المؤمنين. فأبى وعصى ، وبعث الى هاشم يخوّفه ويتوعّده.

قال السائب : فأتيت هاشما فأخبرته برأي أبي موسى ، فكتب هاشم الى عليّ عليه‌السلام كتابا هذه نسخته :

بسم الله الرحمن الرحيم ، إلى عبد الله عليّ أمير المؤمنين من هاشم بن عتبة ، سلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، أمّا بعد فإنّي قدمت يا أمير المؤمنين بكتابك على امرئ شاقّ عاقّ بعيد الرحم ظاهر الغلّ والشنآن (١) ، يهدّدني بالسجن مرّة وبالقتل مرّة ، وقد بعثت بكتابي إليك مع المحل بن خليفة الطائي ، وهو من شيعتك وأنصارك وعنده علم نبأ ما قلت (٢) ، فاسأله عمّا بدا لك واكتب إليّ برأيك والسلام (٣).

فلمّا قدم المحل بكتاب هاشم الى عليّ عليه‌السلام سلّم عليه ثمّ قال : الحمد لله الذي أدّى الحقّ الى أهله ، ووضعه موضعه ، وإن كان ذلك قد كرهه قوم يسير ، فقد والله كرهوا نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ نابذوه وبارزوه وجاهدوه ، فردّ الله كيدهم في نحورهم ، وجعل دائرة السوء عليهم ، والله يا أمير المؤمنين لنجاهدنّهم معك في كلّ موطن حفظا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أهل بيته إذ صاروا اعدى الخلق لآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعده.

فرحّب به عليّ عليه‌السلام وقال له خيرا ، وقرأ كتاب هاشم ، ثمّ سأله عن الناس وعن أبي موسى ، فقال له المحل : والله ما أثق به ولا آمنه على خلافك إن وجد من يساعده على ذلك.

فقال عليّ عليه‌السلام : والله ما كان عندي بمؤتمن ولا ناصح ، ولقد كان أصحابي الذين كانوا قبلي استولوا على مودّته وتأميره ، وانّي أردت عزله فأتاني الأشتر

__________________

(١) في الجمل : الشقاق.

(٢) في الجمل : وعنده علم ما قبلنا.

(٣) مصنّفات الشيخ المفيد ج ١ ص ٢٤٣.

٣٤١

وسألني أن اقرّه وذكر أنّ الناس راضون به فأقررته.

وقال المحل بن خليفة : والله إنّي لجالس مع عليّ عليه‌السلام إذ أقبل سواد كثير وغبار ساطع ، فقال عليّ عليه‌السلام : انظروا ما هذا السواد؟ فذهبت الخيل تركض ثمّ لم تلبث أن جاءت فقالت : هذه طي قد جاءتك تسوق الغنم وفيهم من جاءك بهداياه وكرامته وفيهم من يريد أن ينفذ معك الى عدوّك.

فقال عليّ عليه‌السلام : جزى الله طيّا خيرا ، وقد فضّل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ، فلمّا انتهوا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام سلّموا عليه ، فسرّني والله ما رأيت من جماعتهم وحسن هيئتهم ، ثم تكلّموا بأحسن كلام وأفصحه وأبلغه ، والله ما رأيت خطباء قطّ أبلغ في قول منهم ، ثمّ أنشأ رجل منهم يقول :

ونحن نصرنا الدين من قبل هذه

وأمّا بحقّ ما حيينا سننصر

سنصفيك دون الناس طرّا بنصرنا

وأنت به من سائر الناس أجدر

فقال لهم عليّ عليه‌السلام : جزاكم الله من حيّ عن الإسلام خير الجزاء ، فقد والله أسلمتم طائعين ، وقاتلتم المرتدّين ، ووفيتم بصدقاتكم المسلمين.

قال : ثمّ إنّ رجلا من همدان يقال له عبد خير أتى أبا موسى فقال له : يا أبا موسى هل بايع الناس عليّا؟

قال : نعم.

قال : فهل هذان الرجلان ممّن بايعه؟

قال : نعم.

قال : وهل كان من عليّ عليه‌السلام حدث يحلّ به نقض بيعته؟

قال : لا.

قال : فأي القوم أحقّ أن نقاتل ، أهما [ الى ] أن يرجعا الى ما خرجا منه أم عليّ حتى نردّ بيعته؟

قال : لا أدري.

قال له : فإنّا تاركوك ومفعول ما لا تدري.

٣٤٢

فأنشأ رفاعة بن شدّاد البجلي يقول :

أبا موسى أجابك عبد خير

فأنت اليوم كالشاة الربيض

فلا حقّا تبعت ولا ضلالا

تركت ، فأنت تهوي في الحضيض

أبا موسى نظرت برأي سوء

يؤول به الى قلب مريض

ونمت فليس تفرق بين خمس

ولا ستّ ولا سود وبيض

وتذكر فتنة شملت وفيها

سقطت وأنت تهوي في الحريض (١)

قال : وأقام عليّ عليه‌السلام بذي قار ينتظر من يقدم عليه ، فأشاع طلحة والزبير أنّه إنّما أقام للذي بلغه من جدّنا وعددنا وعدّتنا ، وتباشروا بذلك ، فكتبت عائشة الى حفصة بنت عمر كتابا هذه نسخته :

بسم الله الرحمن الرحيم ، من عائشة بنت أبي بكر زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى حفصة بنت عمر زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سلام عليك ، أمّا بعد فإنّي اخبرك أنّ عليّ بن أبي طالب نزل بالدقاقة ، والله داقّه بها ، فهو بمنزله الأشقر إن تقدّم نحر وإن تأخّر عقر والسلام (٢).

فلمّا وصل الكتاب الى حفصة استفزّها الفرح والسرور ، فدعت جواريها فأمرتهنّ أن يغنّين ويضربن بالدفوف ، فجعلن يغنّين ويقلن : شبّهت الحميراء عليّا في السفر بالفرس الأشقر إن تقدّم نحر وإن تأخّر عقر. وجعل أبناء الطلقاء وسفهاء العامّة يدخلون على حفصة وجواريها يغنّين والكتاب يقرأ ، فبلغ ذلك أمّ كلثوم بنت عليّ عليه‌السلام فقامت ولبست جلبابيها وخرجت في نسوة من حفدتها متنكّرات ، فدخلن على حفصة وجواريها يغنّين والكتاب يقرأ ، فأسفرت أمّ كلثوم عن وجهها فلمّا رأتها حفصة أخذت الكتاب فحشيته واسترجعت وأمرت جواريها بالكفّ والخروج عنها.

فقالت أمّ كلثوم رضي الله عنها : يا حفصة إن كنت تظاهرين عليّ بن أبي طالب

__________________

(١) مصنّفات الشيخ المفيد ج ١ ص ٢٥٠.

(٢) مصنّفات الشيخ المفيد ج ١ ص ٢٧٦.

٣٤٣

اليوم فقد ظاهرت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل اليوم ، فأنزل الله فيهما قرآنا : ( فكان الله مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) (١).

قالت حفصة : أعوذ بالله من نكرك.

قالت : كيف يعيذك الله من شرّي وقد ظلمتيني ميراثي من امّي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وميراثي من أبيك وقد شهدت أنت وصاحبتك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورّث فمنعتمونا ميراثنا ودفعتمونا عن حقّنا الذي جعله الله لنا.

وأقبلت النساء على حفصة يلمنها وأمرت حفصة بتخريق الكتاب.

وقال في ذلك سهل بن حنيف :

عذرنا الرجال بحرب الرجال

فما للنساء وما للشعاب

أما حسبنا ما ابتلينا به

لك الخير من هتك ذات الحجاب

ومخرجها اليوم من بيتها

تعرفها الحوب بنبح الكلاب

الى أن أتانا كتاب لها

فيا قبّح الله فحش الكتاب

ولمّا نزل عليه‌السلام بذي قار في قلّة من الناس صعد الزبير منبر البصرة وقال : ألا ألف فارس أو خمسمائة فارس اسيّرهم إلى عليّ لعلّي آتيه بياتا أو أصبحه صباحا قبل أن يأتيه مدده من الكوفة. فلم يجبه أحد ، فنزل وهو يقول : هذه والله الفتنة التي كنّا نتحدّث بها.

فقال له مولى : رحمك الله أبا عبد الله تسمّيها الفتنة ثمّ تقاتل فيها! فقال له الزبير : ويحك والله انا لنبصّر ولكنّا لا نبصر (٢). فاسترجع المولى. فلمّا كان من الليل لحق بعليّ عليه‌السلام بذي قار فأخبره الخبر ، فضحك عليه‌السلام وقال : اللهمّ عليك به.

ثمّ إنّ طلحة أتى الزبير في منزله وعنده مروان بن الحكم ، فقال له : يا أبا عبد الله إنّ عليّا رجل مستخفّ ، وهو لأمرنا محتقر ، فلو أصبت ستّمائة فارس تلقاه فيهم.

فضحك مروان وطمع فيها ، فقال : والله يا أبا محمّد لقد استطاب هذا منك ،

__________________

(١) الجمل : ص ١٤٩ مع اختلاف.

(٢) تاريخ الطبري : ج ٣ ص ٤٩١.

٣٤٤

ولو كان عليّ مكانك لم يبدها حتى ينتهزها منك.

قال الزبير : أخرجتم والله الرأي ، أمن ابن أبي طالب تصاب الفرصة؟! أو مثلك يصبح مفقودا يقال فيه الأقاويل؟! القه كما يلقاك.

قال طلحة : ما الرأي إلاّ رأي مروان.

فخرج طلحة ليلا ، فإذا غلام من بني تميم إلى جانب منزله وهو يقول :

يا طلح يا بن عبيد الله ما ظفرت كفّاك

إن رمت في عرينه أسدا

لا تطمع اليوم مروانا وصحبته

في تلك منك ولا تندب لها أحدا

أو قل لمروان رمها من أبي حسن

إن كنت تطلب منه عزّة أبدا

فإن أجاب فقد تمّت نصيحته

أو لا يجبك فقد أبدى لك الحسدا

إنّي رأيت عليّا من يبارزه

عين اليقين تزايل روحه الجسدا

ليثا متى ما يزر يوما بغيطلة

تلق الاسود له من زأره بددا

قد جاش في الليل من قوم مجاهرة

والأوس والخزرج البحران قد حشدا

فالبد بأرضك حتى تستحليهم

إنّ الخمول لهذا الأمر من لبدا

وقال الأصبغ بن نباتة : إنّ عليّا عليه‌السلام وجّه مالك الأشتر ومحمّد بن أبي بكر رضي الله عنهما إلى الكوفة بعد هاشم وكتب معهما كتابا هذه نسخته :

بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله عليّ أمير المؤمنين الى من بالكوفة من المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم ، أمّا بعد فإنّي قد خرجت مخرجي هذا إمّا ظالما أو مظلوما ، وإمّا باغيا وإمّا مبغيّا عليّ ، فادّكروا الله رجلا بلغه كتابي هذا إلاّ نفر إليّ ، فإن كنت مظلوما أعانني ، وإن كنت ظالما استعتبني والسلام.

وكتب الى أبي موسى كتابا هذه نسخته :

بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله عليّ أمير المؤمنين الى عبد الله بن قيس ، سلام عليك ، أمّا بعد فو الله إنّي كنت أرى أن ابعدك من هذا الأمر الذي لم يجعلك الله له أهلا ، ولم يجعل لك فيه نصيبا ، ينفعك من ردّ أمري والابتزاز عليّ ، وقد وجّهت إليك مالك الأشتر ومحمّد بن أبي بكر فخلّهما والمصر وأهله واعتزل عملنا

٣٤٥

مذموما مدحورا ، فإن فعلت وإلاّ فقد أمرتهما أن ينابذاك على سواء ، إنّ الله لا يهدي كيد الخائنين ، فإن ظفرا بك قطّعاك إربا إربا.

فلمّا وصلا إلى الكوفة خلّى بينهما وبين الناس ، فخرجت العساكر ولحقت بأمير المؤمنين عليه‌السلام (١).

وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما : لمّا نزلنا بذي قار مع أمير المؤمنين عليه‌السلام قلت له : يا أمير المؤمنين ما أقلّ من يأتيك من أهل الكوفة فما أظنّ.

فقال : والذي بعث محمّدا بالحقّ لتأتيني منهم ستّة آلاف وخمسمائة وستّون رجلا لا يزيدون ولا ينقصون رجلا.

قال : فدخلني من ذلك شكّ شديد وعظم عليّ. فقلت في نفسي : والله لئن قدموا لأعدّنهم. فلمّا وردوا قعدت على الجسر لاعتبار ما قاله عليّ عليه‌السلام ، فوجدتهم كما قال ستّة آلاف وخمسمائة وستّين رجلا لا يزيدون ولا ينقصون ، فعجبت من ذلك وذكرته لعليّ عليه‌السلام ، وسألته من أين علم ذلك؟ فذكر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبره بذلك (٢).

وأكثر عليّ عليه‌السلام مراسلة طلحة والزبير وعائشة مرارا كثيرة ويدعوهم الى التوبة ويأمرهم بالرجوع إلى الطاعة. وتكلم الزبير بكلام يدلّ على أنّه ينصرف عن القتال ، فأنكره عليه ابنه عبد الله ، وقال له كلاما معناه : قد جبنت لمّا رأيت رايات عليّ وهبت سيوف بني عبد المطّلب. فحمل الزبير فرسه على العسكر مرارا ليعلم الناس أنّه ليس بجبان ثمّ انصرف ، فقتله عمر بن جرموز بوادي السباع ، وإنّما انصرف لأنّ عليّا عليه‌السلام ذكّره بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له : إنّك تقاتله وأنت ظالم ، فاعترف الزبير بذلك وذكر أنّه نسي.

ولمّا تصافّ الناس للقتال يوم الجمل قام الحسين بن عليّ عليهما‌السلام الى أبيه فقال : يا أمير المؤمنين أتأمرني أن أسلّ سيفي وافوّق سهمي وأطعن برمحي في أعراض القوم.

__________________

(١) مصنفات الشيخ المفيد : ج ١ ص ٢٤٣.

(٢) الجمل : ١٥٧.

٣٤٦

قال : كأنّك في شكّ من أمرهم؟ والذي لا إله إلاّ هو الذي يحيي ويميت وإليه النشور لقد وصف لي جدّك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الموقف وهذا المقام حتى لا أنقل منقلة ولا أخطو خطوة إلاّ كأنّي أنظر إلى ما وصفه لي ، ولقد أخبرني صلوات الله عليه بعدّة من يقتل منّا ومنهم.

وخرج عليّ عليه‌السلام وعليه عمامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السحاب وتحته بغلته الدلدل ، وعليها كان يشهد المشاهد ، وقال لها يوم حنين اربضي فربضت ، ومعه سيفه ذو الفقار.

ثمّ إنّ عليّا عليه‌السلام نادى في أصحابه فقال : ألا لا تقاتلوا القوم حتى يبدؤوكم فإنّكم بحمد الله على حجّة فكفّكم عنهم حتى يبدؤوكم حجّة ثانية ، فإذا قاتلتموهم لا تجهزوا على جريح ، وإذا هزمتموهم لا تتبعنّ مدبرا ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثّلوا بقتيل ، وإذا وصلتم الى رحال القوم فلا تهتكوا سترا ، ولا تدخلوا دارا إلاّ بإذن ولا تأخذوا شيئا من أموالهم إلاّ ما وجدتموه في عسكرهم ، ولا تهيّجوا امرأة بأذى وأن هنّ شتمن أعراضكم وامراءكم فإنّهنّ ضعاف.

ودعا عليه‌السلام بمصحف وقال : من يأخذ هذا ويدعوهم إلى ما فيه؟ وله الجنّة.

فقام غلام شابّ يقال له مسلم بن عبد الله بن جندل التميمي عليه قباء أبيض وعليه عمامة بيضاء فقال : أنا أحمله يا أمير المؤمنين.

فنظر إليه عليّ عليه‌السلام وقال له : يا فتى إنّ يدك اليمنى تقطع فتأخذه باليسرى فتقطع ثمّ تضرب بالسيف حتى تقتل.

قال : لا صبر لي على هذا وانصرف.

فنادى عليّ عليه‌السلام ثانية فقام إليه الفتى فأعاد عليّ عليه‌السلام عليه القول ، فقال الفتى :

لا صبر لي على هذا.

فنادى عليه‌السلام ثالثة ، فقام الفتى إليه ، وأعاد عليّ عليه‌السلام عليه القول ، مثل قوله الأول ، فقال الفتى : هذا في الله قليل : فأخذ المصحف وانطلق حتى توسّط القوم فناداهم : هذا كتاب بيننا وبينكم من فاتحته الى خاتمته. فضرب رجل من أصحاب الجمل

٣٤٧

على يده اليمنى فقطعها ، فأخذ المصحف بيده اليسرى فقطعت ، فاحتضن المصحف الى صدره وناداهم. فضرب بالسيف على هامّته حتّى قتل (١).

ثمّ إنّ عليّا عليه‌السلام لمّا رأى القوم قد حادّوه القتال وصمدوا للحرب بعث الى محمّد بن الحنفيّة وكانت الراية بيده أن أقدم يا ابن خولة واقتحم على القوم. قال : نعم. فأرسل إليه ثانية أن اقحم يا ابن خولة قال : نعم ، وكان بازاء محمّد قوم من الرماة فرموه وحادّوه ، فتأخّر محمّد وقال لأصحابه : إنّ القوم قد رموكم فجرّحوكم وأنّهم يبدّدون نبلهم في رشق آخر ثمّ احملوا عليهم. فبعث عليّ عليه‌السلام إليه ثالثة فقال له : يا ابن خولة اقحم لا أمّ لك. قال : نعم. فلمّا أبطأ عليه تحوّل من بغلته الى فرسه وسلّ سيفه وركض نحوه فأتاه من خلفه فوضع يده اليسرى على منكبه اليمنى ثمّ رفعه حتى أشاله من سرجه وقال : لا أمّ لك.

قال محمّد : والذي لا إله إلاّ هو ما ذكرت ذلك منه قطّ إلاّ كانّي أجد ريح نفسه فيأخذ الراية من يديه ، ثمّ حمل على القوم وذلك عند زوال الشمس من يوم الأحد ، فأنشأ وهو يطعنهم ويقول :

اطعن بها طعن أبيك تحمد

لا خير في الحرب إذا لم توقد

بالمشرفي والقنا المبدّد

والضرب بالخطّي والمهنّد (٢).

ثمّ حمل عليهم حتى توسّطهم وغاص فيهم ، فاقتتل الناس قتالا شديدا ، ثمّ خرج من ناحية القوم وقد انحنى سيفه ، فأقامه بركبته ، واجتمع حوله أصحابه فقالوا : نحن نكفيك يا أمير المؤمنين ، فما يجيب أحدا منّا ، فانّه لطافح ببصره نحوهم ثمّ حمل الثانية حتّى توسّطهم وغاب فيهم ، فسمعنا له تكبيرة بعد حين وله همهمة كزئير الأسد ثمّ تكشّف الناس عنه وانقشعوا حوله ، فوصلنا إليه وأنّه لواقف قد أزبد كالجمل الهائج والأسد الحامي وقد وقعت الرءوس والسواعد والجيف

__________________

(١) الجمل : ص ١٨١ ، تاريخ الطبري : ج ٣ ص ٥٢٠ مع اختلاف.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ٣ ص ١٥٥.

٣٤٨

حوله أعكاما. فقلنا : يا أمير المؤمنين نحن نكفيك. فقال : والله ما اريد بما ترون إلاّ وجه الله والدار الآخرة. ثمّ انصرف وأعطى محمّدا الراية وقال : هكذا فاصنع يا ابن خولة. فقال له محمّد : والله يا أمير المؤمنين ما تأخّرت عنهم من جبن ولكن القوم نضحونا بالنبل وعلمت أنّهم سيبقون بلا نبل فعندها أحمل عليهم.

وفي رواية اخرى أنّه أخذ الراية من محمّد بن الحنفية وقال له : نشبت فيك عروق من امّك ، ودفعها الى الحسن بن عليّ عليهما‌السلام ، ثمّ إنّ الناس كلّموه في محمّد بن الحنفية فردّ إليه الراية ثمّ تقدّم وهي بيده ومعه أصحابه من المهاجرين والأنصار من أهل المدينة.

وبرز أصحاب الجمل يتقدّمهم عبد الرحمن بن عامر بن كريز وقد أحمى أصحابه وحثّهم على القتال.

قال محمّد بن الحنفية : بينما أنا حامل الراية أسير بين الصفّين وآمر أصحابي بالجدّ والاجتهاد إذ أتاني أمير المؤمنين عليه‌السلام من خلفي فقال : أين مثوى القوم يا ابن خولة يعني عددهم. فقلت : هاهنا يا أمير المؤمنين نحو الجمل. فدفع في ظهري وقال : قدّم رايتك واحمل عليهم. فحملت وحمل أصحابي معي ، فما زلت أطعنهم برمحي وأضربهم بسيفي حتّى انقشع الناس من حولي ، فانتهيت الى رجل لأطعنهم برمحي وأضربهم بسيفي حتّى انقشع الناس من حولي ، فانتهيت الى رجل لأطعنه فلمّا برزت له بالرمح قال : فانشدك الله فإنّي على دين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فعرفت أنّه إنّما يردّ بذلك عن نفسه ، فرفعت عنه الرمح حتى نجا ، فنظرت فإذا هو محمّد بن طلحة.

وخرج محمّد بن خلف الخزاعي فأخذ بخطام الجمل ونادى بعلي عليه‌السلام ، فبرز إليه وشدّ عليّ عليه‌السلام عليه فضربه بذي الفقار ضربة على بيضته ففلق به البيضة والهامة والعنق والصدر حتى وصلت ظبّة السيف إلى قربوس سرجه لم ينهنه سلاح ولم تثبت عليه جنّة

وحمل شريح بن هاني القابصي وعلى مقدّمته الحارث بن قيس بن ذي عين على فرس له جواد.

وتقدّم عمّار بن ياسر رضي‌الله‌عنه على فرس له ذنوب ويخبّ عليها أمام الكتيبة ،

٣٤٩

ولمّا دنا عمّار في كتيبته نظر إليها الزبير فقال : كتيبة من هذه؟ قالوا : كتيبة عمّار.

فدعا الزبير فتى من الأزد يقال له الضحّاك بن عدس على فرس له جواد فقال له : ادن من القوم فانظر هل ترى فيهم عمّارا. فدنا الفتى ونادى : ألا كفّوا فإنّي رسول. فكفّوا عنه حتى دنا ، فنظر الى عمّار ثمّ رجع. فقال : يا أبا عبد الله هذا عمّار صاحب الفرس الأدهم قد استثبتّه. فقال له الزبير : هل رأيت بأنفه خرما؟ فعاد الفتى إليهم ، وعرف عمّارا أنّه رسول ، فهدر عن لثامه وحسر عن رأسه ، فنظر الفتى إلى خرمه ، ثمّ رجع الى الزبير فأخبره ، فأهوى الزبير الى حقوه وجعل يقول :

واجليل مصيبتاه ، واقطع ظهراه ، وا سوءتاه من الوقوف بين يدي الله عزّ وجلّ غدا.

فقال له الفتى : مالك يا أبا عبد الله؟ فقال : خير يا ابن عمّ. فقلب الفتى ترسه وركض على فرسه حتى لحق بعليّ عليه‌السلام فأخبره بذلك ، ثمّ أنشأ يقول :

قال الزبير ولم أعلم بفتنته

لله درّك هل في القوم عمّار

فانظر فدى لك نفسي هل ترى خرما

في الأنف منه وفي الحوباء إضمار

فاعتمت جمعهم حتى وقعت به

ثمّ استبنت وللخيلين اعصار

خرم بأنف أبي اليقظان فانكشفت

عنه الغمامة إذ مخّ الفتى رار (١)

لمّا رأيت الفتى أبدت ندامته

حوّلت ترسي وفي تركيه اعذار

قالوا لبست بها عارا فقلت لهم

سيان ذا العار بعد الموت والنار

وحمل مالك بن الحارث الاشتر ، ثمّ تقدّم عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنهما ، وتقدّم شريح بن هاني رضي‌الله‌عنه في بني الحارث بن كعب ، وكان إذا قاتل قاتل بهم وبأهل نجران ، فجعل يتقلّب كالفحل المزبد وهو يرتجز ويقول :

قدما بني الحارث قدما لا شلل

لا يعش إلاّ ضرب أصحاب الجمل

بالبيض والطعن بأطراف الأسل

إنّ التراخي في الوغى من الفشل

والقول لا ينفع إلاّ بالعمل

والغزو لا ينفع إلاّ بالفعل

خوضوا سريعا تدركوا عظم الأمل

مالكم بعد عليّ من بدل

__________________

(١) مخّ رار : ذائب فاسد من الهزال ( لسان العرب ٤ / ٣١٣ ).

٣٥٠

إذا قضيتم ما عليكم فبجل (١)

شدّوا عليهم شدّة الليث الأزل

ثمّ تقدّم زجر بن قيس الجعفي في جعف وقضاعة وهو يقول :

أضربكم حتّى تقرّوا لعليّ

خير قريش كلّها بعد النبيّ

من عزّ بالعلم وسمّاه الوصي

نبدأ بالأزدي ونثنّي بعدي

وتقدّم هاني رضي‌الله‌عنه بأصحابه على فرس له يدعى السابق أمام الكتيبة.

وتقدّم سعيد بن قيس الهمداني ونادى في همدان : يا معشر همدان لئن كان أمير المؤمنين فضّلنا على قومنا ثمّ لم نأت أمرا يحقّق به ظنّه ونصدّق به رأيه فينا ما نحن إذن كما قال.

قال : فأجابته همدان من كلّ ناحية بما أحبّ وتأهّبوا للحرب ، وكان سعيد من فرسان العرب فتقدّم أمام القوم فهو يقول :

قل للوصي اجتمعت قحطانها

انّا لما قلنا لها أعيانها

لم تك حرب ضرمت نيرانها

وكسرت يوم الوغى مرّانها

هم بنوها وهم إخوانها

وهم مثيروها وهم فتيانها

وتقدّم زياد بن كعب بن مرحب وله نصف رئاسة همدان.

وحمل جندب بن زهير رضي الله عنهما وهو يرتجز ويقول :

يا ربّ إنّ الحرب قد تفرّت

وأبرزت عن نابها وهرّت (٢)

وبادرت جلبابها ودرّت

وأرؤس منّا ومنهم خرّت

وأذرع منّا ومنهم برّت

تلهبها أمّ لنا قد غرّت

جهرا فلم تنفع ولكن ضرّت

يخدعها شيخان حين مرّت

بالحوب قبل الصبح فاقشعرّت

ونادت الرجعة ثمّ ولّت

حين رأت كلابها قد هرّت

ثمّ أعادوا خدعها فقرّت

وحملت الأنصار وكانوا مع عليّ عليه‌السلام ، وكانوا من الأزد ، فقاتلوا قومهم الذين كانوا من أصحاب الجمل.

__________________

(١) بجل الرجل : حسنت حاله ، وقيل : فرح ، وأبجله الشيء إذا فرح به ( لسان العرب ١١ / ٤٤ ).

(٢) الهرت : سعة الشدق ( لسان العرب ٢ / ١٠٣ ) وهو كناية عن توسّع الحرب.

٣٥١

وحمل عمرو بن الحمق الخزاعي. وتقدّم رفاعة بن شدّاد البجلي ثمّ رجع الى موقفه ، وتبيّن في أصحاب الجمل اختلالا فرجع وهو يرتجز ويقول :

إنّي إذا ما كثر الصياح

والتفّت الرماح بالرماح

وأبرز المناطح المناطح

ناديت في الفتية الأبراح

هذا عليّ في الدجى مصباح

وخير من تضمّه البطاح

وخير من تطلب له الرياح

وخير من قاربه القداح

نحن بدا من فضله فصاح

نقوله جهرا هو الصراح

وحمل عبد الرحمن الكندي وهو من أولاد الملوك ، وكانت الراية مع حجر بن عدي ، وعبد الرحمن يرتجز ويقول :

قد حمل الراية خير كندة

حجر وحجر لعليّ عدّة

متوّج في قومه بالنجدة

قد قاتل الشرك وأهل الردّة

وخرج رجل من الأزد من أصحاب الجمل يضرب بسيفه بين الصفّين ويقول :

أقتلهم ولا أرى أبا الحسن

ضربته بصارم مثل اللبن

ذاك الذي في الحادثات قد قرن

ذاك الذي يطلب فينا بالاحن

فحمل عليه حجر بن عدي وهو يقول :

يا أيّها السائل ما عليّ

اثبت فأنت رجل شقيّ

هذا عليّ وهو الوصيّ

آخاه يوم الحرّة النبيّ

وقال هذا بعدي الوليّ

وعاه واع ونسي الشقيّ

ثمّ شدّ عليه حجر بن عدي فضربه ضربة خرّ منها منكّسا.

ثمّ تقدّم يزيد بن محنفة الجعفي ، وتقدّم عبد الله بن الحارث أخو الأشتر ، وحمل الأفوه بن قدّامة الأزدي وهو يقول :

إنّي إذا الحرب تعالى أمرها

لم يعدني ضحضاحها وغمرها

باشرتها حتى يبوخ (١) جمرها

__________________

(١) باخت النار والحرب تبوخ بوخا : سكنت وفترت ( لسان العرب ٣ / ٩ ).

٣٥٢

الى عليّ حلبها ودرّها

الى عليّ نفعها وضرّها

الى عليّ خيرها وشرّها

حتىّ تقرّوا أنّه أبرّها

وتقدّم أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري ثمّ تقدّم عقبة بن عامر الأنصاري وكان بدريا عقبيّا ثم تقدّم خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين رضي‌الله‌عنه فتكلّم بكلام طويل يحضّ فيه على قتال الفئة الباغية ، وتقدّم الحجّاج بن غزية الأنصاري ، وحمل زياد بن لبيد الأنصاري ، ثمّ تقدّم زيد بن أرقم الأنصاري ، وتقدّم خالد بن أبي خالد وتقدّم الحارث بن حسان الذهلي فنادى : يا بني ثعلبة أشيفوا نحوي واسمعوا قولي. فاجتمع إليه بكر بن وائل وأهل الكوفة فقال : يا قوم إنّي لمّا قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأيت أصحابه لم أر أحدا من الناس عنده بمنزلة صاحبكم أعني أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، كان أدنى إليه منهم مجلسا ، وأمسّهم به رحما ، وأفضلهم عنده مكانا ، وكان وزيره وأمينه ووصيّه ، فمن كان ناصرا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته فلينصر هذا الرجل اليوم ، فو الله إنّ ناصر هذا اليوم كناصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل اليوم.

وتقدّم أبو اميّة الأصمّ وهو يقول :

هذا عليّ قائد يرضى به

مولى رسول الله من أصحابه

من عوده الباقي ومن نصابه (١)

ومن مواسيه ومن إينابه.

وتقدّم عامر بن شدّاد الأزدي ، فأسره الأشتر ومضى به الى عليّ عليه‌السلام فبايعه.

وحمل فروة بن نوفل الأشجعي صاحب النحيلة وكان للأشتر ـ وهو مالك بن الحارث ـ غناء عظيم.

ويقال انّ عبد الله بن الزبير أخذ بخطام الجمل فقبّله وأراد أن يخرج الى الأشتر ، فسألته عائشة من هو ، فعرّفها أنّه عبد الله بن الزبير ، فكرهت خروجه إليه وحذّرته من الأشتر ، فلم يقبل منها. فقيل : إنّ الأشتر صرع ابن الزبير فجعل ينادي : اقتلوني ومالكا واقتلوا مالكا معي ، فأقبل الناس إليهما ، وشغل الأشتر عن ابن

__________________

(١) النّصب والنصب : العلم المنصوب ( لسان العرب ١ / ٧٥٩ ).

٣٥٣

الزبير فانصرف وفيه جراحة كثيرة. ويقال : إنّ الأشتر قال في ذلك :

أعائش لو لا انّني كنت طاويا ثلاثا

لألفيت ابن اختك هالكا

عشيّة يدعو الرماح تنوشه

بآخر صوت اقتلوني ومالكا (١)

فنجّاه منّي أكله وشبابه

وخلوة جوف لم يكن متناهكا

وقد روي عن ابن الزبير أنّه قال : كان الأشتر طاويا ثلاثا ، وكذلك كانت تفعل فرسان العرب إذا أرادوا القتال ، لأنّهم كانوا يكرهون الشبع في الحرب كراهة أن يطعن أحدهم في بطنه فيظهر منه شيء يكرهه.

وانفلق عمود الصبح ليلة الاثنين فصلّى عليّ عليه‌السلام بأصحابه ثمّ قال : يا قنبر عليّ بدرعي. فأتاه بها ، فصبّها عليه ، وهي درع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات الفضول.

وتقلّد ذا الفقار. وتعمّم بعمامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السحاب ، ثمّ خرج من فسطاطه ، وركب بغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدلدل ثمّ سلّ سيفه وهزّه ونادى : يا معشر المهاجرين والأنصار ابرزوا لله وجدّوا في قتال عدوّكم رحمكم الله.

ثمّ دعا محمّد ابنه وقال له : اركب فرسك ، فركبها ، ودفع إليه الراية من يده ، وهي العقاب راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر ، وقال له : يا محمّد تقدّم أمام الكتيبة. فتقدّم محمّد والراية بيده تخفق فوق رأسه ، وكانت سوداء.

ثمّ سار عليّ عليه‌السلام بالناس والحسن عن يمينه ، والحسين عن يساره ، وعبد الله بن جعفر الطيّار في الجنّة أمامه ، ومحمّد وعون ابنا جعفر من ورائه ، وعبد الله والفضل وعبيد الله وقثم بنو العباس بن عبد المطلب بعضهم عن يمينه وبعضهم عن يساره ، والمهاجرون والأنصار قد احتولوه وأحدقوا به. وأمرهم ألا يبدؤوهم بقتال حتى يبدؤوهم به.

وأنشأ عدي بن حاتم يقول :

يا ربّنا سلّم لنا عليّا

سلّم لنا المبارك التقيّا

المؤمن المسترشد الرضيّا

واجعله هادي أمّة مهديّا

__________________

(١) مصنفات الشيخ المفيد : ج ١ ص ٣٥٠.

٣٥٤

لا خطل الرأي ولا غويّا

واحفظه ربّي واحفظ البنيّا

فيه فقد كان لنا وليّا

ثمّ ارتضاه بعده وصيّا

وقال هذا لكم وليّا

من بعد إذ كان بكم حفيّا

وأرسل عليّ عليه‌السلام الى الأشتر فقال له : يا مالك لا تبدأ القوم بقتال حتى يبدؤوك ، واعذر إليهم ، واجعل الحجّة عليهم. فوقفوا ساعة من النهار يهلّلون ويكبّرون وينظرون أيّ الفريقين يكون البادئ ، فتقدّم محمّد بن طلحة فأخذ الخطام فقبّله فقالت له عائشة : من أنت؟

قال : أنا محمّد بن طلحة ، فما تأمريني يا امّه؟ قالت : آمرك أن تكون خير بني آدم. فخرج بسيفه يدعو للبراز ، فخرج إليه المعكبر بن حدير ، فاختلفا ضربتين ، فضربه محمّد بن طلحة على هامته فقتله ، وعاد الى الخطام فقبّله ، ثمّ تقدّم فدعا للبراز ، فثار إليه الأشتر مسرعا كأنّه أسد حلّ من رباطه ، فلمّا نظر طلحة أنّ الأشتر قد أقبل نحو ابنه دنا منه وأخذه بيده وقال : ارجع يا بني عن هذا الأسد الضاري أما سمعت قول الله : ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) (١) فلم يطعه ، وبرز الى الأشتر ، فلمّا غشيه الأشتر بالرمح ولّى هاربا ، فتبعه الأشتر حتى لحقه فطعنه في صلبه طعنة أكبّه بها لوجهه ، ونزل إليه ليضرب عنقه ، فقال له محمّد :

اذكّرك الله يا مالك ، فرفع عنه السيف وحمله على دابّته ووجّهه إلى أبيه الى عسكره ، فمات من يومه ، ورجع الأشتر الى موقفه وهو يقول :

وأشعث قوّام بآيات ربّه

قليل الكرى فما ترى العين مسلم

يذكّرني حميم والرمح شاجر (٢)

فهلاّ تلا « حاميم » قبل التقدّم

هتكت له بالرمح جيب قميصه

فخرّ صريعا لليدين وللفم

على غير شيء غير أن ليس تابعا

عليّا ومن لا يتبع الحق يندم

ولمّا رأى عليّ عليه‌السلام القوم يقتلون صبرا وتقطع أيديهم على خطام الجمل

__________________

(١) الأنفال : ٢٥.

(٢) رماح شواجر : مختلفة متداخلة ( لسان العرب ٤ / ٣٩٦ ).

٣٥٥

أمر بعقره ، فقصد الأشتر نحوه أوّل الناس فضربه على عرقوبيه وعنقه سبع ضربات ولم يصنع شيئا ، فانصرف وقال : إنّ الله قد أعدّ لقتل هذا غيري ثمّ حمل عمّار بن ياسر على الجمل فلم يصنع شيئا ، وجعل الناس يضربونه فلا يصنعون شيئا ، حتى حمل عمر بن عبد الله المرادي فضربه على عرقوبه الأيمن فأبانه ثمّ ضرب عرقوبه الأيسر فأقعى وقام على يديه وله رغاء وعجيج شديد ، ثمّ ضرب يديه فأبانهما حتى صرعه لجنبه وله عجيج ورغاء ، فضربه على عنقه ورأسه وعينيه حتى قتله.

وحمل عبد الله بن عوف بن الأحمر الأزدي على طلحة والزبير لا يريد غيرهما وأنشأ يقول :

يا أيّها الشيخان قولا واعلما

أنّ عليّا خير من تكلّما

ممّن بقي منّا ومن تقدّما

غير النبيّ المصطفى لمّا سما

وقال عبد الرحمن بن عبيد الثقفي : مرّ بنا الزبير منصرفا حتى صار بوادي السباع ، وتبعه عمرو بن جرموز ومعه رجلان فركضوا في أثره ، وقد كان الزبير لقيه رجل من بني تميم يقال له عمرو بن تميم وكان شجاعا نجدا فقال للزبير : هل لك أن اجيرك؟ فقال له الزبير ومن أنت؟ فأخبره فلم يعجبه أن يجيره وكره صحبته ، ثمّ لقيه رجلان أحدهما من مجاشع والآخر من سعد بن زيد مناة فأجاراه ، ولحقه ابن جرموز وصاحباه ، فحرّك الدارمي والسعدي فرسيهما فقال : أين تذهبان نحن ثلاثة وهم ثلاثة؟ ومضيا وتركاه ، وحمل عليه ابن جرموز فوقف له الزبير ونصب رايته ، فانصرف عنه ابن جرموز ، فطعنه في حربان درعه فصرعه عن فرسه ، فاعتوروه وقتلوه ، فأخذ ابن جرموز فرسه وخاتمه وسيفه وحثا عليه التراب ، وهرب غلامه.

ورجع ابن جرموز الى الأحنف ممسيا فأخبره الخبر ، فقال له الأحنف : والله ما أدري أحسنت أم أسأت ، انطلق بنا الى أمير المؤمنين عليه‌السلام فأتياه فإذا هو جالس في ملأ من أصحابه ، فأخبره الأحنف خبر الزبير وابن جرموز فقال عليّ عليه‌السلام : بابن جرموز أنت قاتل ابن صفيّة؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، هذا سيفه وهذا خاتمه

٣٥٦

وعندي فرسه فأعاد عليّ عليه‌السلام عليه القول ، فلم يزده على قوله الأول ، فتناول عليّ عليه‌السلام سيف الزبير ونظر فيه ثمّ قال : طالما جلى الكرب عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار.

فخرج ابن جرموز مغضبا فأتى طلحة فقاتل عليّا وأصحابه ليخرج من قتلة الزبير.

فلمّا قتل الجمل أمر عليّا عليه‌السلام مناديا فنادى : ألا تجهزوا على جريح ، ولا تقتلوا أسيرا ، ولا تتبعوا مدبرا ، ولا تفتحوا بابا ، ولا تهتكوا سترا ، ولكم ما في عسكر إلاّ أمّ ولد وغير خارج من العسكر ، وعلى نسائهم العدّة أربعة أشهر وعشرا ، وما كان لهم من مال فهو بينهم ميراث على كتاب الله ، وهذه السنّة في أهل القبلة.

واتي بمروان بن الحكم أسيرا الى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فأرسل مروان الى الحسن والحسين يسألهما أن يكلّما عليّا عليه‌السلام فيه ، فكلّماه فأطلقه ، فقال مروان : ابايعك يا أمير المؤمنين. فقال له : ألم تبايعني بعد قتل عثمان؟ قال : بلى.

وحدّث أبو الأسود الدؤلي أنّه دخل مع أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى بيت المال بالبصرة فجعل ينظر الى ما فيه من المال والذهب والفضّة كالذي يريد أن يحرزه ، وقال : اقسموه بين أصحابي لكلّ رجل خمسمائة درهم ، فقسّمت كذلك ، فو الذي لا إله إلاّ هو ما بقيت درهما ولا زادت درهما ، فكأنّها كانت عنده ، فكان المال ستّة آلاف ألف درهم والناس اثنا عشر ألف رجل ، وأخذ عليّ لنفسه خمسمائة ، فجاءه رجل فقال : يا أمير المؤمنين أعطني من الفيء ، فأعطاه الخمسمائة (١).

ولمّا أراد أمير المؤمنين عليه‌السلام المسير عن البصرة استخلف عليها عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما ، وجعل زياد بن عبيد ـ المعروف بزياد بن أبيه وهو الذي ادّعى معاوية أنّه أخوه لأبيه ـ كاتب عبد الله بن عبّاس ، وجعل أبا الأسود الدؤلي على الشرطة.

__________________

(١) الجمل : ص ٢١٤ ـ ٢١٥ باسناد آخر.

٣٥٧

وكان مقام عليّ عليه‌السلام في البصرة شهرا ، وأمر مالك بن الحارث الأشتر أن يتقدّمه في الخيل الى الكوفة.

قال : فقدم عليّ عليه‌السلام إلى الكوفة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ستّ وثلاثين من الهجرة.

وخرج قوم من أشياخ الكوفة مع قرظة بن كعب الأنصاري يتلقّون عليّ عليه‌السلام في يوم ذي قرّ وهو يتصبّب عرقا وكسوته خفيفة وقد روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا له ألاّ يصيبه حرّ ولا قرّ.

وكان مقام عليّ في حرب الجمل خمسة عشر يوما ، وكان عدّة من قتل في يوم الجمل على ما روى أبو مخنف ثمانية عشر ألفا وثمانمائة وخمسة وخمسين رجلا.

وذكر المسعودي أنّ الذي قتل من أصحاب الجمل ثلاث عشر ألف رجل ، ومن أصحاب عليّ عليه‌السلام ألفا رجل (١).

وكان بين خلافة عليّ عليه‌السلام وبين وقعة الجمل خمسة أشهر وأحد وعشرون يوما وأقام بالكوفة ستّة أشهر ثمّ خرج الى صفّين.

وقعة صفّين

وهم القاسطون :

روي أنّه أشير على أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام أن يقرّ معاوية بن أبي سفيان في عمله وعمرو بن العاص ومن يجري مجراهما ، وقيل له : إذا بايعوك فاعزل من شئت منهم. فقال : والله لا ادهن في ديني ، ولا اعطي الرياء في أمري.

ثمّ أشار عليه ابن عبّاس رضي الله عنهما بأن يقرّ معاوية ، فقال عليّ عليه‌السلام : والله لا اعطيه إلاّ السيف ، ثمّ تمثّل بقول القائل :

وما ميتة إن متّها غير عاجز

بعار إذا ما غالت النفس غولها (٢)

__________________

(١) التنبيه والأشراف : ص ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

(٢) غاله الشيء غولا واغتاله : أهلكه وأخذه من حيث لم يدر ( لسان العرب ١١ / ٥٠٧ ).

٣٥٨

فقال ابن عبّاس : يا أمير المؤمنين سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : الحرب خدعة ، ثمّ قال ابن عبّاس : والله لئن أطعتني لأصدرنّ بهم بعد ورود ولأتركنّهم ينظرون في دبر الامور لا يعرفون وجهها في غير نقصان عليك ولا إثم لك. فقال : يا ابن عبّاس لست من هنيّاتك ولا هنيّات معاوية في شيء ، تشير عليّ فأرى رأيي ، فإذا عصيتك فأطعني. فقال : افعل فأنّ أيسر ما لك عندي الطاعة.

وكان مسير أمير المؤمنين عليه‌السلام من الكوفة إلى صفّين لخمس خلون من شوال سنة ستّ وثلاثين ، واستخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري فاجتاز في مسيره بالأنبار ، ثمّ نزل الرقّة فعقد جسرا وعبر عليه الى الشام ، ومعه تسعون ألف فارس.

وكان معاوية قد نزل في موضع أفيح (١) منهل إلى الشريعة ، ونزل أمير المؤمنين عليه‌السلام ما سوى ذلك من الأجراف العالية والأماكن الوعرة ووكّل معاوية الأعور السلمي بالشريعة في أربعين ألف ، وكان على مقدّمته وبات عليّ عليه‌السلام في البرّ وبات جيشه عطاشى قد حيل بينهم وبين الورود.

فقال عمرو لمعاوية : إنّ عليّا لا يموت عطشا هو وتسعون ألف وسيوفهم على عواتقهم ، ولكن يشربون ونشرب. فقال معاوية : قد مات عثمان عطشانا.

وخرج عليّ عليه‌السلام يدور في عسكره ليلا فسمع قائلا يقول :

أيمنعنا القوم ماء الفرات

وفينا المناجون تحت الدجى

وفينا الصلاة وفينا الصيام

وفينا عليّا وفينا الهدى

وسمع آخر يقول :

أيمنعنا القوم ماء الفرات

وفينا الرماح وفينا الحجف (٢)

وفينا عليّ له سورة

إذا خوّفه الردى لم يخف

ونحن غداة لقينا الزبير

وطلحة خصّنا غمار التلف

__________________

(١) الأفيح : الواسع.

(٢) الحجف ، جمع حجفة ، وهي الترس من جلود الإبل يطارق بعضها ببعض. ( انظر مقاييس اللغة مادة « حجف » ).

٣٥٩

فما بالنا أمس اسد العرين

وما بالنا اليوم شياء عجف (١)

والقي في فسطاط الأشعث بن قيس الكندي رقعة فيها المكتوب :

لئن لم يجل الأشعث اليوم كربة

من الموت عنّا للنفوس تفلّت

ونشرب من ماء الفرات بسيفه

فهبنا اناسا قبل ذلك موّتوا (٢)

فقرأها وأتى بها عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فقال له : اخرج في أربعة آلاف من الخيل حتى تهجم بهم وسط عسكر معاوية فتشرب وتسقي أصحابك أو تموتوا عن آخركم وأنا مسيّر الأشتر في خيل ورجّالة وراءك.

فسار الأشعث في أربع آلاف وهو يقول :

لاوردنّ خيلي الفراتا

شعث النواصي أو يقال ماتا (٣)

ثمّ سار الأشتر في أربعة آلاف وصاحب رايته يقول :

يا أشتر الخير ويا خير النخع

وصاحب النصر إذا غمّ الفزع

قد جزع القوم وغالوا بالجزع

إن تسقنا اليوم فما هي بالبدع (٤)

ثمّ سار عليّ عليه‌السلام في باقي الجيش ، ومضى الأشعث فما ردّ وجه شيء حتى هجم على عسكر معاوية ، فزال أبا الأعور عن الشريعة وأورد خيله الفرات ، فارتحل معاوية عن الموضع ، وورد الأشتر وقد كشف الأشعث القوم عن الماء ، وورد أمير المؤمنين عليه‌السلام فنزل مكان معاوية.

فقال معاوية لعمرو بن العاص : ما ظنّك بالقوم أيمنعون الماء كما منعناهم؟ فقال له عمرو : إنّ الرجل قد جاء لغير الماء.

فبعث إليه معاوية يستأذنه في ورود الشريعة والاستقاء منها ، فأذن له في جميع ذلك.

__________________

(١) وقعة صفين : ص ١٦٤ ـ ١٦٥ ، مروج الذهب : ج ٢ ص ٣٧٥.

(٢) وقعة صفين : ص ١٦٦ ، مروج الذهب : ج ٢ ص ٣٧٦. وفي وقعة صفين : « تعنّت » بدل « تفلّت » و « شاء النجف » بدل « شياء عجف ».

(٣) وقعة صفين : ص ١٧٩ مع اختلاف ، المناقب لابن شهرآشوب : ج ٣ ص ١٦٨.

(٤) وقعة صفين : ص ١٧٣.

٣٦٠