الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي

الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

المؤلف:

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-064-3
الصفحات: ٨٣٢

وخرج عليّ عليه‌السلام في البدريين وعيناه كأنّهما سراجا سليط ، وعليه عمامة بيضاء ، وجعل يطوف على الناس ويحضّهم حتى انتهى الى الأشتر وهو في كثيف من الناس فقال : معاشر الناس عمّوا الأصوات وأكملوا اللامة (١) واستشعروا الخشية ، وأقلقوا السيوف في الأجفان قبل السل ، والحظوا الشزر ، واطعنوا الوخز ، وناجوا بالظبا (٢) وصلوا السيوف بالخطى ، والنبال بالرمي ، وطيبوا نفسا فإنّكم بعين الله ومع ابن عمّ نبيّه ، وعاودوا الكرّ ، واستقبحوا الفرّ فإنّه عار في الأعقاب ونار يوم الحساب ، ودونكم هذا السواد الأعظم والرواق المطنب (٣) فاضربوا نفحه (٤) فانّ الشيطان قد ركب صعداء وبسط ذراعيه وقدّم للوثبة يدا وأخّر للنكوص رجلا فصمدا صمدا حتى يتجلّى عن الحقّ ، وأنتم الأعلون ، والله معكم.

وخرج معاوية في عدد من أهل الشام ، وانصرفوا عند المساء ، وكلّ غير ظافر.

ثمّ خرج عليّ عليه‌السلام ومعاوية يوم الخميس واقتتل القوم الى الضحى ، وبرز أمام الناس عبيد الله بن عمر بن الخطّاب في أربعة آلاف معلمين ، فناداه عليّ عليه‌السلام : ويحك يا ابن عمر علام تقاتلني؟ قال : أطلب بدم عثمان. فقال عليّ عليه‌السلام : تطلب بدم عثمان والله تطلب بدم الهرمزان.

ثمّ إنّ عليّا عليه‌السلام أمر الأشتر بالخروج ، فخرج وهو يقول :

إنّي أنا الأشتر معروف السير

إنّي أنا الأفعى العراقيّ الذكر

لست من الحيّ ربيع أو مضر

لكنّني من مذحج البيض الغرر

فانصرف عبيد الله ولم يبارزه.

وقال عمّار : إنّي لأرى وجوه قوم لا يزالون يضاربوننا ، والله لو هزمونا حتى يبلغونا سعفات هجر لكنّا على الحقّ (٥).

__________________

(١) اللامة : الدرع ، وإكمالها أن يزاد عليها البيضة والسواعد ونحوها.

(٢) الظبا جمع ظبة : طرف السيف وحدّه.

(٣) الرواق : الفسطاط ، والمطنب : المشدود بالأطناب جمع طنب وهو الحبل.

(٤) نفحت الناقة : ضربت برجلها ( لسان العرب ٢ / ٦٢٢ ) وفي « نهج البلاغة » : فاضربوا بثبجه وهو الوسط.

(٥) وقعة صفين : ص ٣٢٢.

٣٦١

وتقدّم عمّار رحمة الله عليه وقاتل ثمّ رجع الى موضعه فاستسقى امرأة من مصافّهم من بني شيبان بعسّ (١) فيه لبن فقال : الله أكبر ، الله أكبر ، اليوم ألقى الأحبة تحت الأسنّة ، صدق الصادق ، وبذلك خبّر الناطق ، هذا اليوم الذي وعدت به. ثمّ قال : أيّها الناس هل من رايح الى الله تحت العوالي ، فتقدّم وهو يقول :

نحن ضربناكم على تنزيله

فاليوم نضربكم على تأويله

ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحقّ الى سبيله (٢)

فاشتبكت عليه الأسنّة ، وقتله أبو العادية العاملي وابن حوى السكسكي ، واختلفا في سلبه ، وارتفعا الى عبيد الله بن عمرو بن العاص فقال : قوموا عنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : أولعت قريش بعمّار ، مالهم ولعمّار؟! يدعوهم الى الجنّة ويدعونه الى النار ، عمّار جلدة بين عيني ، تقتله الفئة الباغية ، لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة (٣).

وخرج هاشم المرقال ، وحمل ذو الكلاع ، ومع هاشم جماعة من أسلم قد آلوا أن لا يرجعوا أو يفتحوا ، أو يقتلوا واجتلد الناس ، وقتل هاشم وذو الكلاع جميعا ، فتناول ابن المرقال اللواء وحمل وهو يقول :

يا هاشم بن عتبة بن مالك

أعزز بشيخ من قريش هالك

تخبطه الخيلات بالسنابك

ابشر بحور العين في الأرائك

و الروح والريحان عند ذلك (٤)

فوقف أمير المؤمنين عليه‌السلام على مصرع هاشم ومن صرع حوله فقال :

جزى الله خيرا عصبة أسلميّة

صباح الوجوه صرّعوا حول هاشم

يزيد وعبد الله بشر بن معبد

وسفيان وابنا هاشم ذي المكارم

__________________

(١) العس : القدح الضخم ( لسان العرب ٦ / ١٤٠ ).

(٢) وقعة صفين : ص ٣٤١.

(٣) وقعة صفين : ص ٣٤٢ ـ ٣٤٣.

(٤) وقعة صفين : ص ٣٤٨ مع زيادة في رواية الشعر.

٣٦٢

وعروة لا يبعد ثناه وذكره

إذا سلّ للبيض الخفاف الصوارم (١)

واستشهد في هذا اليوم صفوان وسعد ابنا حذيفة بن اليمان ، وكان حذيفة عليلا بالكوفة قبل دخول عليّ إليها ومات قبل أن يراه خليفة.

واستشهد عبد الله بن الحارث أخو الأشتر ، واستشهد عبد الله وعبد الرحمن ابنا بديل بن ورقاء الخزاعي في خلق من خزاعة ، وكان في ميسرة عليّ عليه‌السلام.

ولمّا رأى معاوية القتل في أهل الشام وكلب أهل العراق عليهم تجهّم النعمان بن جبلة التنوخي وكان صاحب راية قومه من تنوخ ، وقال له : لقد هممت أن اولّي قومك غيرك من هو خير منك مقدما وأنصح جيبا (٢).

فقال : إنّا لو كنّا نغدوا الى جيش مصنوع لكان في قطع الرجال بعض الأناة فكيف ونحن ندعوهم الى سيوف قاطعة وردينية شارعة وقوم ذوي بصائر نافعة ، فو الله لقد نصحتك على نفسي وقد بذلنا لك أمرا لا بدّ من إتمامه. وصمد للقتال.

وكان عبيد الله بن عمر إذا خرج للقتال قام إليه نساؤه يشددن سلاحه إلاّ الشيبانيّة ، فخرج هذا اليوم وأقبل على الشيبانيّة وقال لها : قد عبأت لقومك صدرا ، وأيم الله إنّي لأرجو أن أربط بكلّ طنب من أطناب فسطاطي سيّدا منهم. فقالت الشيبانيّة : ما أبغض إليّ أن تقاتلهم. قال : ولم؟ قالت : لأنّه لم يتوجّه إليهم صنديد في جاهلية ولا إسلام وبرأسه صعر (٣) إلاّ أقاموه ، وأخاف أن يقتلوك ، وكأنّي بك قتيلا وقد أتيتهم فأسألهم أن يهبوا لي جيفتك. فرمى بسهم فشجّها وقال لها : ستعلمين من آتيك به من زعماء قومك.

فحمل عليه حريث بن جابر الحنفي فطعنه فقتله. وقيل : إنّ الأشتر قتله. وقيل : إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ضربه فقطع ما عليه من الحديد والحشو حتى خالط السيف حشوة جوفه ، وأنّ عليّا عليه‌السلام قال حين هرب وطلبه ليقيد منه الهرمزان : لئن فاتني

__________________

(١) وقعة صفين : ص ٣٥٦ مع اختلاف يسير.

(٢) كذا في ظاهر الأصل ، وفي مروج الذهب : انصح منك دينا.

(٣) الصعر : الميل في الخد خاصّة وهو كناية عن التكبر ( انظر لسان العرب ٤ / ٤٥٦ ).

٣٦٣

في هذا اليوم لن يفوتني في غيره.

فلمّا قتل عبيد الله كلّم نساؤه معاوية في جيفته ، فأمرهنّ أن يأتين ربيعة فيبدلن لهم في جيفته عشرة آلاف ، ففعلن ذلك ، فاستأمرت ربيعة عليّا عليه‌السلام في ذلك فقال لهم : اجعلوا جيفته لبنت هاني بن قبيصة الشيباني وأتتهم الشيبانيّة فألقت إليهم مطرف خزّ فلفّوه فيه ودفعوه إليها ، فمضت به.

ولمّا قتل عمّار بن ياسر رضي‌الله‌عنه ومن ذكرنا من الناس حرّض عليّ عليه‌السلام ربيعة وقال لهم : أنتم درعي ورمحي ، فانتدب عشرة آلاف جادوا بأنفسهم لله تعالى ، وعليّ عليه‌السلام على بغلته الشهباء يقول :

من أيّ يومي من الموت أفرّ

من يوم لم يقدر أو يوم قدر

وحمل وحملوا معه حملة واحدة ولم يبق صفّ من صفوف أهل الشام إلاّ انفضّ ، وعليّ عليه‌السلام يقول :

أضربهم ولا أرى معاوية

لا حرز العين العظيم الحاوية

ثمّ قال : يا معاوية علام يقتل الناس بيني وبينك ، هلمّ احاكمك إلى الله عزّ وجلّ ، فأيّنا قتل صاحبه استقامت له الامور. فقال له عمرو : يا معاوية قد أنصفك والله الرجل ، ولا تحسن بك إلاّ مبارزته. فقال له معاوية : أطمعت فيها بعدي وأقسم معاوية لا يخرج إليه غير عمرو وأنّ عمرا برز إليه وكشف عن سوءته.

وكان في هذا اليوم ما لم يكن في غيره قبله ، وانصرف القوم يحملون قتلاهم. ومرّ معاوية في خواصّه بالموضع الذي كانت فيه ميمنته ، فنظر إلى عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي معفّرا بدمائه ، وقد كان في ميسرة عليّ عليه‌السلام ، فسأله فيه ابن عامر وكان صديقا له فوهبه له فغطّاه بعمامته وحمله وواراه.

ثمّ نظر عليّ عليه‌السلام إلى غسّان على مصافهم ، فنادى أين أهل الصبر وطلاّب الأجر؟ ثمّ دعا ابنه محمّد بن الحنفيّة فدفع إليه الراية ، ثمّ قال له : امش بها فإذا شرعت في صدورهم فأمسك حتى يأتيك رأيي. ففعل ، وأتاه عليّ عليه‌السلام ومعه الحسن والحسين عليهما‌السلام وشيوخ بدر وغيرهم قد كردسهم (١) على غسّان ، وعادت

__________________

(١) كردس القائد خيله أي جعلها كتيبة كتيبة ( لسان العرب ٦ / ١٩٥ ).

٣٦٤

الحرب كما كانت ، فاختلط الناس وأجنّهم الليل ، وكان الفارس يعتنق الفارس فيقعان إلى الأرض جميعا ، وكانت ليلة الجمعة وهي ليلة الهرير ، وأصبح القوم على قتالهم ، فكشفت الشمس وارتفع القتام وتقطّعت الألوية ولم يعرفوا أوقات الصلاة ، فقال معاوية لعمرو بن العاص : هلمّ مخبآتك يا بن العاص؟ فقال له عمرو : تأمر الناس من كان معه مصحف فليرفعه على رمحه. ففعل ذلك ، وارتفعت الضجّة : من لثغور الشام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟ من للروم؟ من للترك؟ من لجهاد الكفرة؟ وفي ذلك قال النجاشي :

فأصبح أهل الشام قد رفعوا القنا

عليها كتاب الله خير قرآن

ونادوا عليّا يا ابن عمّ محمّدا

أما تتّقي أن يهلك الثقلان

فلمّا رأى أهل العراق ذلك أحبّوا الموادعة ، وقال كثير من أصحاب عليّ عليه‌السلام : قد أعطاك معاوية الحقّ ودعاك إلى كتاب الله عزّ وجلّ فاقبله منه. وكان أشدّهم في ذلك الأحنف بن قيس (١). فقال عليّ عليه‌السلام : أيّها الناس إنّه لم يزل لي من أمركم ما احبّ حتى قدحتم (٢) الحرب ، وقد والله أخذت منكم وتركت ، وإنّي كنت بالأمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا ، وقد أحببتم البقاء.

فقال الأشتر : إنّ معاوية لا خلف له من رجاله ، ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا نصرك ، فاقرع الحديد بالحديد واستعن بالله. وقال الأشعث بن قيس : إنّا لك اليوم على ما كنّا لك أمس ، وليس ندري ما يكون غدا ، وقد والله كلّ الحديد وقلّ الناصر.

فقال عليّ عليه‌السلام : ويحكم ما رفعوها إلاّ خدعة. فقال الأشعث : إن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد. فقال له : افعل. فسأله ، فقال : نرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله تعالى به في كتابه ، تبعثون رجلا تختارونه وترضون به ونبعث رجلا ، ونأخذ عليهما العهد والميثاق أن يعملا بما في الكتاب ولا يخرجا عنه ، وننقاد جميعا إلى ما اتّفقا عليه من حكم الكتاب. فصوّب الأشعث رأيه ، وانصرف إلى عليّ عليه‌السلام فأخبره

__________________

(١) كذا ، والظاهر : الأشعث بن قيس.

(٢) في مروج الذهب : قرحتكم الحرب ج ٢ ص ٣٩٠.

٣٦٥

بذلك. فقال أكثر الناس : قبلنا ورضينا وسمعنا وأطعنا. فاختار أهل الشام عمرو بن العاص ، واختار الأشعث ومن رأى رأيه أبا موسى الأشعري.

فقال لهم عليّ عليه‌السلام : إذ قد عصيتموني في أوّل هذا الأمر فلا تعصوني الآن ، إنّي لا أرى لكم أن تولّوا أبا موسى. فقال الأشعث ومن معه : لا نرضى إلاّ به.

قال : ويحكم إنّه وإنّه وذكر عنه امورا ، ولكن هذا عبد الله بن عبّاس اولّيه ذلك.

قالوا : والله لا نحكّم فينا مضريان.

قال : فالأشتر. قالوا : وهل هاج هذا الأمر إلاّ الأشتر.

فقال لهم عليّ عليه‌السلام : فاصنعوا الآن ما أردتم.

فبعثوا الى أبي موسى وكتبوا القضيّة. وقيل لأبي موسى : إنّ الناس قد اصطلحوا عليك. فقال : الحمد لله ربّ العالمين. قيل : وقد رضوا بك حكما. قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وكتبت الصحيفة لأيّام بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين ، على أن يكون اجتماع الحكمين في موضع عدل بين الكوفة والشام. ومرّ الأشعث بالصحيفة يقرأها على الناس فرحا مسرورا حتى انتهى الى مجلس بني تميم فقرأها عليهم ، فقال له عروة بن اذينة : أتحكمون في دين الله وأمره ونهيه ، لا حكم إلاّ لله وكان أوّل من قال وشدّ بسيفه على الأشعث فأصابت الضربة كفل الفرس. وكادت العصبية تقع بين اليمانية والنزارية ، وتباغض القوم وتبرأ بعضهم من بعض ، الأخ من أخيه والابن من أبيه ، فأمر عليّ عليه‌السلام بالرحيل لعلمه باختلاف الكلمة وعدم النظام وتضارب القوم بالمقارع ، ولام بعضهم بعضا.

وسار أمير المؤمنين عليه‌السلام الى الكوفة ، ولحق معاوية بالشام ، وفرّق عساكره فيه ، والتقى الحكمان سنة ثمان وثلاثين بدومة الجندل.

وبعث أمير المؤمنين عليه‌السلام بعبد الله بن عبّاس وشريح بن هاني في أربعمائة رجل فيهم أبو موسى ، وبعث معاوية عمرو بن العاص معه شرحبيل بن السمط في أربعمائة رجل. فلمّا تدانى القوم من الموضع قال ابن عبّاس لأبي موسى : إنّ عليّا

٣٦٦

لم يرض بك حكما والمتقدّمون عليك كثير ، ولكن القوم أبوا غيرك ، وقد ضمّوا داهية العرب معك ، وما نسيت فلا تنس أنّ عليّا عليه‌السلام بايعه الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، وليست فيه خصلة تباعده من الخلافة.

وكان من أمر الحكمين ما كان ، وحيث انفصلا على ما انفصلا عليه وتسابّا ، ركب أبو موسى راحلته ولحق بمكّة ولم يعد الى الكوفة وآلى أن لا ينظر في وجه عليّ عليه‌السلام حتى يموت. ومضى ابن عمر وسعد الى بيت المقدس فأحرما.

وفي فعل الحكمين يقول أيمن بن حريم بن قاتل الأسدي :

لو كان للقوم أمر يعصمون به

عند الخطوب رموكم بابن عبّاس

لكن رموكم بوغد من ذوي يمن

لم يدر ما ضرب أخماس بأسداس

وقال آخر :

رضينا بحكم الله لا حكم غيره

وبالله ربّا والنبيّ وبالذكر

وبالأصلع الهادي عليّ إمامنا

رضينا بذاك الشيخ في العسر واليسر

رضينا به حيّا وميتا وأنّه

إمام الهدى في الوقف والنهي والأمر

ولأبي موسى يقول ابن أعين :

أبا موسى بليت وكنت شيخا

قريب القعر مخروق اللسان

رمى عمرو صفاتك بابن قيس

فيا لله من سفح يماني

فأمسيت العشية ذا اعتذار

ضعيف العذر منكوب العياني

تعضّ الكفّ من ندم وما ذا

يردّ عليك عضّك بالبنان

وانصرف عمرو الى منزله ولم يأت معاوية ، فأرسل معاوية إليه يدعوه ، فقال له : إنّما كنت آتيك إذا كانت إليك حاجة فأمّا إذا كانت الحاجة إلينا فأنت أحقّ أن تأتينا فعلم معاوية ما قد دفع إليه ، فخمّر الرأي وأعمل الحيلة في أمر عمرو ، وغدا معاوية إليه وعمرو جالس على فراشه فلم يقم له عنها ولم يدعه إليها ، فجلس معاوية على الأرض واتكأ على ناحية الفراش ، وجرى بين معاوية وبين عمرو كلام كثير ، فقال عمرو : هذا الأمر إليّ أستخلف فيه من اريد وقد أعطاني أهل الشام

٣٦٧

عهودهم ومواثيقهم بذلك. فحادثه معاوية ساعة وأخرجه عمّا كانوا عليه وضاحكه وداعبه. ثمّ قال : يا أبا عبد الله هل من غداء؟

فقال : أمّا والله شيء يشبع من ترى فلا.

فقال معاوية : يا غلام هلمّ غداك. فآتوه بالطعام المستعدّ فوضع ، فقال له : ادع مواليك وأهلك يا ابا عبد الله فدعاهم.

فقال له عمرو : ادع أصحابك ثمّ يجلس هؤلاء بعدهم. فجعلوا كلّما قام رجل من حاشية عمرو قعد مكانه رجل من حاشية معاوية حتى خرج أصحاب عمرو وجلس أصحاب معاوية ، وقام الذي وكّله معاوية بغلق فأغلقه ، فقال معاوية لعمرو : والله بيني وبينك أمران اختر أيّهما شئت : البيعة لي أو قتلك ، وليس والله غير ذلك. قال عمرو : فإذن لو ردّ غلامي حتى استشيره وانظر ما ذا رأيه. قال : والله لا يراك ولا تراه إلاّ قتيلا أو على ما قلت لك. قال : فالوفاء إذن بطعمة مصر. قال : هي لك ما عشت.

فاستوثق كلّ واحد منهما من صاحبه ، وأحضر الخواصّ من أهل الشام ، ومنع أن يدخل معهم أحد من حاشية عمرو ، فقال لهم عمرو : قد رأيت أن ابايع معاوية فلم أر أحدا أقوى على هذا الأمر منه. فبايعه أهل الشام ، وانصرف الى منزله.

وذكر عن يحيى بن معين أنّ عدّة من قتل من أهل الشام وأهل العراق ـ في مائة يوم وعشرة أيّام ـ مائة ألف وعشرة آلاف ، من أهل الشام ممّن حضر الحرب بصفّين مائة وخمسين ألف مقاتل دون الخدم والأتباع ، وأهل العراق مائة وعشرون ألف مقاتل دون الخدم والأتباع ، والله أعلم.

وقعة النهروان

وهم المارقون.

قيل : لمّا دخل عليّ عليه‌السلام الكوفة بعد عوده من صفّين انحاز عنه اثنا عشر ألفا من أهل العراق ، فنزلوا حروراء قرية بالكوفة ، وجعلوا عليهم شبث بن ربعي

٣٦٨

التميمي ، وعلى صلاتهم عبد الله بن الكواء اليشكري من بكر بن وائل ، فخرج عليّ عليه‌السلام إليهم فكانت له معهم مناظرات ، ودخلوا جميعا الكوفة وسمّوا الحرورية باجتماعهم في هذه القرية.

وقيل : إنّهم كانوا ينادونه وهو على المنبر : جزعت من البليّة ورضيت بالقضيّة وقبلت الدنيّة لا حكم إلاّ لله.

فيقول لهم عليه‌السلام : حكم الله أنتظر فيكم.

فقال المسعودي : اجتمع الخوارج في أربعة ألف وبايعوا عبد الله بن وهب الراسبي ، ولحقوا بالمدائن فقتلوا عاملا من عمّال عليّ عليه‌السلام ذبحا وبقروا بطن امرأته وكانت حاملا (١).

وقد كان أمير المؤمنين عليه‌السلام انفصل عن الكوفة في خمسة وستيّن ألفا ، وأتاه ابن عبّاس من البصرة في ثلاثة آلاف فيهم الأحنف بن قيس وحارثة بن قدامة السعدي وذلك في سنة ثمان وثلاثين.

فنزل عليّ عليه‌السلام الأنبار ، فخطب الناس وحضّهم على الجهاد وقال لهم : سيروا إلى قتلة المهاجرين والأنصار ، ألا إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرني بقتل القاسطين وهم هؤلاء الذين سيّرنا إليهم ، والناكثين وهم الذين فرغنا منهم ، والمارقين ولم نلقهم بعد ، فسيروا الى القاسطين فهم أهم من الخوارج ، سيروا الى قوم يقاتلونكم كما يكونوا جبّارين ، يتّخذهم الناس أربابا ويتّخذون عباد الله خولا.

فأبوا أن يسيروا إلاّ الى الخوارج ، فسار عليّ عليه‌السلام حتى أتى النهروان ، فبعث إليهم الحارث بن مرّة العبدي يدعوهم الى الرجوع فقتلوه ، وبعثوا الى عليّ عليه‌السلام : إن تبت من حكومتك وشهدت على نفسك بالكفر بايعناك ، وإن أبيت اعتزلنا عنك حتى نختار لأنفسنا إماما فإنّا منك برآء.

فبعث إليهم عليّ عليه‌السلام أن ادفعوا إليّ قتلة إخواني فأقتلهم ثمّ انازلكم الى أن أفرغ من قتال أهل المغرب لعلّ الله تعالى يقلب بقلوبكم.

__________________

(١) مروج الذهب : ج ٢ ص ٤٠٤.

٣٦٩

فبعثوا إليه : كلّنا قتلة أصحابك ، وكلّنا مستحلّ لدمائهم مشتركون في قتلهم. وأخبره الرسول ـ وكان من يهود السواد ـ أنّ القوم قد عبروا نهر طبرستان.

فقال عليّ عليه‌السلام : هيهات ما عبروه ولا قطعوه حتى نقتلهم بالرميلة دونه. فتواترت إليه الأخبار بقطعهم هذا النهر وعبورهم الجسر ، وهو يأبى ذلك ويحلف أنّهم لا يعبرونه وأنّ مصارعهم دونه. ثمّ قال : سيروا الى القوم فما يفلت منهم إلاّ عشرة ولا يقتل منكم عشرة.

وسار عليه‌السلام فأشرف عليهم وقد عسكروا بالرميلة على حسب ما قال ، فلمّا رآهم قال : الله أكبر الله أكبر.

فتصافّ القوم ، ووقف عليه‌السلام بنفسه ودعاهم الى الرجوع والتوبة ، فرموا أصحابه ، فقال لأصحابه : كفّوا حتى نكرّر القول عليهم ثلاثا. وهو يأمرهم بالكفّ حتى اتي برجل مشحّط بدمائه ، فقال عليه‌السلام لأصحابه : الآن فاحملوا. فحمل رجل من الخوارج على أصحاب عليّ عليه‌السلام وجعل يقول :

أضربهم ولو أرى عليّا

جلّلته أبيض مشرفيّا

فخرج عليّ عليه‌السلام إليه فقتله. ثمّ خرج آخر وهو يقول :

أضربهم ولو أرى أبا الحسن

ذاك الذي الى هوى الدنيا ركن

اذن فهذا حزن من الحزن

فنادى عليّ عليه‌السلام :

يا أيّها المستنزل المعلى الفتن

والمتمنّي أن يرى أبا حسن

أتاك فانظر أيّنا يلقى الغبن

وحمل عليه فقتله بالرمح وتركه فيه وانصرف وهو يقول : قد رأيت أبا الحسن فرأيت ما تكره.

وحمل أبو أيّوب الأنصاري على زيد بن حصين فقتله ، وقيل عبد الله بن وهب الراسبي قتله هاني بن خاطب الأزدي وزياد بن حفصة ، وقيل حرقوص بن زهير السعدي.

٣٧٠

وكان جملة من قتل من أصحاب عليّ عليه‌السلام تسعة ، ولم يفلت من الخوارج إلاّ عشرة.

وأمر عليّ عليه‌السلام بطلب المخدج ، فطلبوه فلم يجدوا عليه. فقام عليّ عليه‌السلام فانتهى الى قتلى بعضهم على بعض فقال : اخرجوا ، فاخرجوا يمينا وشمالا فاستخرجوه من تحتهم ، فقال عليّ عليه‌السلام : والله ما كذّبت على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه لناقص اليد ليس فيها عظم ، طرفها حلمة مثل ثدي المرأة ، عليها خمس شعرات أو سبع رءوسها معقفة. ثمّ قال : ائتوني به ، فأتوه به ، فنظر الى عضده فإذا لحمة مجتمع على كتفيه مثل ثدي المرأة عليها شعرات سود إذا مدّت امتدّت حتى تحاذي بطن يده الاخرى ثمّ تترك فتعود الى منكبه. فثنى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) رحله ونزل ، فخرّ ساجدا ، ثمّ ركب ومرّ بهم وهم صرعى فقال : لقد صرعكم من غرّكم. قالوا : يا أمير المؤمنين من غرّهم؟ فقال : الشيطان وأنفس السوء. فقيل : قد قطع الله دابرهم الى آخر الدهر. فقال : كلاّ والذي نفس عليّ بيده انّهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء لا تخرج خارجة إلاّ خرج بعدها مثلها حتى يخرج خارجة بين الفرات ودجلة مع رجل يقال له الأشمط. يخرج إليه رجل منّا أهل البيت فيقتلهم ، فلا تخرج بعدها خارجة الى يوم القيامة.

وجمع عليه‌السلام ما كان في عسكر الخوارج ، فقسّم السلاح والدواب بين المسلمين ، وردّ المتاع والعبيد والإماء على أهلها. وخطب الناس فقال : إنّ الله قد أحسن إليكم وأعزّ نصركم فتوجّهوا من فوركم هذا الى عدوّكم. فقالوا : يا أمير المؤمنين قد كلّت سيوفنا ، ونفذت نبالنا ، ونصلت أسنّة رماحنا ، فدعنا نستعدّ عدّتنا. وكان الذي كلّمه بهذا الأشعث بن قيس.

فعسكر عليّ عليه‌السلام بالنخيلة ، فجعل أصحابه يتسلّلون ويلحقون بأوطانهم ، فلم يبق منهم إلاّ نفر يسير. ومضى الحارث بن راشد التاجي في ثلاثمائة من الناس

__________________

(١) كذا في الأصل.

٣٧١

فارتدّ الى دين النصرانيّة ، وهو من ولد سامة بن لؤي بن غالب ودخل عليه‌السلام الكوفة (١).

تمّ الجزء الأوّل من كتاب الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم ، ويتلوه في الجزء الثاني فصل في ذكر بعض حكم أمير المؤمنين عليه‌السلام وخطبه ووصاياه ومواعظه ، والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيّدنا محمّد النبيّ وآله الطاهرين سنة ٤٣٤ (٢).

* * *

بسم الله الرحمن الرحيم

فصل

في ذكر بعض حكم أمير المؤمنين عليه‌السلام

وخطبه ووصاياه ومواعظه

ربّ أنعمت فزد قال الأصبغ بن نباتة : إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام خطب ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على النبيّ عليه‌السلام ثمّ قال : أيّها الناس اسمعوا مقالتي وعوا كلامي ، إنّ الخيلاء من التحيّر ، والنخوة من التكبّر ، وإنّ الشيطان عدوّ حاضر يعدكم الباطل. ألا إنّ المسلم أخو المسلم فلا تنابزوا ولا تخاذلوا فانّ شرائع الدين واحدة وسبله قاصدة ، من أخذ بها لحق ، ومن تركها مرق ، ومن فارقها محق. ليس المسلم بالخائن إذا اؤتمن ، ولا بالمخلف إذا وعد ، ولا بالكذوب إذا نطق. نحن أهل بيت الرحمة ، وقولنا الحقّ ، وفعلنا القسط ، ومنّا خاتم النبيين ، وفينا قادة الإسلام وامناء الكتاب ، ندعوكم الى الله ورسوله ، والى جهاد عدوّه ، والشدّة في أمره ، وابتغاء رضوانه ، وإلى إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحجّ البيت ، وصيام شهر رمضان ،

__________________

(١) مروج الذهب : ج ٢ ص ٤٠٦ ـ ٤٠٧.

(٢) كذا في الأصل وهو تصحيف.

٣٧٢

وتوفير الفيء لأهله. ألا وانّ أعجب العجب أنّ معاوية بن أبي سفيان الاموي وعمرو بن العاص السهمي يحرّضان الناس على طلب الدين بزعمهما ، وإنّي والله لا اخالف رسول الله قطّ ، ولم أعصه في أمر قطّ ، أقيه بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال وترعد فيها الفرائص بقوّة أكرمني الله بها فله الحمد ، ولقد قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأسه في حجري ، ولقد ولّيت غسله بيدي يقلّبه معي الملائكة المقرّبون ، وأيم الله ما اختلفت أمّة بعد نبيّها إلاّ نصر باطلها على حقّها إلاّ ما شاء الله.

وحدّث المعافة بن اسرائيل ، عن المقدام بن شريح بن هاني ، عن أبيه شريح بن هاني ، قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : العلم وراثة كريمة ، والأدب خلال حسان ، والفكر مرآة صافية (١) ، والاعتبار منذر ناصح.

قد أزرى بنفسه من استشعر الطمع ، ورضي بالذلّ من كشف ضرّه (٢) ، وأهان نفسه من اطّلع على سرّه سواه.

فلا كرم أعزّ من التقوى ، ولا معقل أحرز من الورع ، ولا شفيع أنجح من التوبة ، ولا لباس أجمل من العافية ، ولا وقاية أمنع من السلامة ، ولا كنز أغنى من القنوع ، ولا شيء أذهب للفاقة من الرضا بالقوت (٣).

والحسد آفة الدين ، والتقوى سابق الى الخير ، وكفى بك أدبا لنفسك ما كرهته لغيرك.

قد خاطر بنفسه من استغنى برأيه.

التدبير قبل العمل يؤمنك من الندم.

إعجاب المرء بنفسه فساد عقله.

من غلب لسانه أمّره قومه.

من لم يصلح خلائقه (٤) كثرت بوائقه (٥).

__________________

(١) الى هنا في نهج البلاغة : ص ٤٦٩ حكمة ٥.

(٢) الى هنا في نهج البلاغة : ص ٤٦٩ حكمة ٢.

(٣) نهج البلاغة : ص ٥٤٠ حكمة ٣٧١.

(٤) الخلائق جمع خليقة : الطبيعة والسجية.

(٥) البوائق جمع بائقة : الشرّ والغائلة والداهية.

٣٧٣

من ساء خلقه ملّه أهله.

ربّ كلمة سلبت نعمة.

شفيع المذنب خضوعه.

أصل الدين الوقوف عند الشبهة.

في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق (١).

لا تيأس لذنبك وباب التوبة مفتوح.

الرشد في خلاف الشهوة.

تاريخ المنى الموت.

النظر الى البخيل يقسي القلب ، والنظر الى الأحمق يسخّن العين.

السخاء فطنة واللؤم تغافل (٢).

من عرف المعاد لم يغفل عن الاستعداد.

الحرص علامة الفقر (٣).

الفقر هو الموت الأكبر.

قلّة العيال أحد اليسارين (٤).

التدبير نصف العيش.

الهمّ نصف الهرم.

ما عال امرؤ اقتصد.

ما عطب امرؤ استشار.

الصنيعة لا تصلح إلاّ عند ذي حسب أو دين.

السعيد من وعظ بغيره.

المغبون لا محمود ولا مأجور (٥).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧٨ ص ٥٣ ح ٨٦ وأوله : اعجاب المرء بنفسه ...

(٢) بحار الأنوار : ج ٧٨ ص ٥٣ ح ٨٧ وأوله : لا تيأس لذنبك ...

(٣) بحار الأنوار : ج ٧٨ ص ٥٤ ح ٩١.

(٤) كذا في البحار ، وفي الأصل أحد الدينارين.

(٥) بحار الأنوار : ج ٧٨ ص ٥٣ ح ٨٨ وأوّله : الفقر الموت الأكبر ...

٣٧٤

رحم الله امرأ سمع فوعى ، ودعي الى رشاد فدنا ، وأخذ بحجزة هاد فنجا ، قدّم صالحا واكتسب مذخورا ، آثر هداه وكذّب مناه ، وجعل الصبر مطيّة نجاته ، والتقوى عدّة وفاته ، لزم الطريقة الغرّاء والمحجّة البيضاء واغتنم المهل ، وبادر الأجل ، وتزوّد من العمل (١).

قال أبو العبّاس أحمد بن الخضر بإسناده يرفعه الى محمّد بن واسع ، قال : حدّثني اويس القرني ، قال : سمعت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يقول يوما لابنه الحسن بن عليّ عليهم‌السلام : يا بنيّ من قال انّي مؤمن فليخضع لله عزّ وجلّ في دينه ، وليسع لنفسه في حياته ، وليخشع في صلاته ولا يجزع من زكاته.

يا بني لا إيمان أطيب من الأمانة ، ولا طغيان أخبث من الخيانة ، ولا زهادة أفضل من التدبير ، ولا عبادة أفضل من التفكّر ، ولا مهابة أعزّ من العلم ، ولا أمارة أرفق من الحلم ، ولا كياسة أوفق من السماحة ، ولا بشاشة أبقى من النصيحة ، ولا أخ أعون من الحمد والشكر ، ولا مروءة أكرم من الفصاحة واللبّ ، ولا رزانة أنجب من الالفة والحبّ ، ولا شين أشين من السفاهة والعجب ، ولا صديق أزين من العقل ، ولا قرين أشين من الجهل ، ولا شرف أعزّ من التقوى ، ولا كرم أجود من ترك الهوى ، ولا عمل أفضل من التفكّر ، ولا حسنة أعلى من الصبر ، ولا سيئة أسوأ من الكبر ، ولا دواء ألين من الرفق ، ولا داء أوجع من الحزن ، ولا رسول أعدل من الحقّ ، ولا دليل أفصح من الصدق ، ولا غنى أشفى من القنوع ، ولا فقر أذلّ من الطمع ، ولا عبادة أحسن من الورع ، ولا زهادة أنبل من الخشوع ، ولا حياة أطيب من الصحّة ، ولا حشمة أهنأ من العفّة ، ولا حارس أحفظ من الصمت ، ولا آت أقرب من الموت.

واعلم يا بنيّ انّ هلاك المرء في ثلاثة : في الكبر والحرص والحسد. أمّا الكبر فهلاك الدين ، وبه لعن اللعين وصار من أهل النار. وأمّا الحرص فهو عدوّ النفس ، وبالحرص اخرج آدم من الجنّة. وأمّا الحسد فهو دليل الشرّ ، وبه قتل قابيل هابيل حتى صار شقيّا.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧٨ ص ٥١ ح ٨١.

٣٧٥

يا بنيّ النجاة في ثلاث : في الهدى ، والتقى ، وترك الهوى والردى.

يا بنيّ الاستقامة في ثلاث : في الجماعة والطاعة ، والسنّة.

يا بنيّ السعادة في ثلاث : في العلم والعقل وصدق النيّة.

يا بنيّ والحتف في ثلاث : في الجمع ، والمنع ، والطمع.

يا بنيّ والرئاسة في ثلاث : في الصدق ، والحلم ، وحسن المداراة.

يا بنيّ والجهل في ثلاث : في الكذب ، والسفاهة ، والغضب.

يا بنيّ والكرم في ثلاث : في حسن العطية ، وحفظ الجار ، وصلة الرحم.

يا بنيّ واللؤم في ثلاثة : في الشحّ ، والبخل ، والجفاء بالاخوان.

يا بنيّ وحسن الخلق في ثلاثة : في اجتناب المحارم ، والطلب للحلال ، والسعة على العيال.

يا بني وسوء الخلق في ثلاثة : في ارتكاب المعاصي ، وذكر أعراض الناس ، والتكلّف لما لا يعنيك.

يا بنيّ والاخوة في ثلاثة : في المودة ، والنصيحة ، والمواساة.

يا بنيّ والفرقة في ثلاثة : في خلاف العلماء ، وامارة السفهاء ، وكثرة العجز والتواني.

يا بنيّ والبركة في ثلاثة : في الاقتصاد ، والمشاورة ، والرزق بالكفاية.

يا بنيّ والسلامة في ثلاثة : في الوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وترك الخيانة.

يا بنيّ والعافية في ثلاثة : في حفظ اللسان ، وترك الغيبة ، وترك النميمة.

يا بنيّ والراحة في ثلاثة : في احتمال المؤنة ، وحسن المعونة ، والأخذ بالفضل.

يا بنيّ والانسانية في ثلاثة : في التواضع عند القول ، والعفو عند القدرة ، والعطية بغير منّة.

واعلم يا بنيّ انّ الدنيا بحذافيرها فانية ، والأموال لأهلها عارية ، وأنّ حلالها وإن كثر منها حساب ، وأنّ حرامها وإن قلّ منها عذاب ، وفيها بكلّ فرحة بعدها ترحة ، ولكلّ جماعة فرقة ، ولكلّ شهوة غمّ وكربة ، ولكلّ لذاذة شدّة ، ولكلّ سيئة

٣٧٦

حسرة ، ولكلّ سعة مضرّة ، ولكلّ حلاوة بعدها مرارة ، ولكلّ إبرام بعده نقض ، ولكلّ لين بعده صعوبة ، ولكلّ سرور بعده حزن ، ولكلّ طرب بعده سجن.

فكلّ هذا يا بنيّ في الدنيا ، ولا ينجو إلاّ من عصمه الله منها وأكرمه برحمته ، والناس فيها غافلون ، ومن فنائها آمنون ، والموت أمامهم ينتظر آجالهم ، وهم فيها بين ذلك مجتهدون يكدّون أنفسهم ومن الحلال والحرام يكتسبون ، أملهم طويل وأجلهم قصير ، عموا في الدنيا واستأنسوا بأهلها ، فهم عن آخرها آمنون مطمئنّون ، يبنون القصور وما لا يسكنون ، ويعمرون ما لا يدخلون ، ويأمنون ما لا يخافون.

يا بنيّ لا الدنيا يطلبون ولا الآخرة يرجون ، لو طلبوا للدنيا لعملوا بما امروا فيها ، ولو رجوا الآخرة لاشتغلوا فيما رجوا منها.

يا بنيّ كيف تجمعون؟ ومن أين تأكلون؟ وممّ تلبسون؟

يا بنيّ المال والبنون حرث الدنيا ، والدين والعمل الصالح حرث الآخرة ، وقد يجمعها الله لأقوام يحبّهم ويحبّونه.

يا بنيّ فمن أحبّ الله أحبّه الله وحبّبه الى خلقه ، ومن أبغض الله أبغضه الله وبغّضه الى خلقه. ولا قوّة إلاّ بالله.

حدّث الأصبغ بن نباتة قال : دعا أمير المؤمنين عليه‌السلام الحسن والحسين عليهما‌السلام لمّا ضربه ابن ملجم لعنه الله فقال لهما : إنّي مقبوض في ليلتي هذه ولاحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاسمعا قولي وعياه. أنت يا حسن وصيّي والقائم بالأمر بعدي ، وأنت يا حسين شريكه في الوصيّة فأنصت ما نطق ، وكن لأمره تابعا ما بقي ، فإذا خرج من الدنيا فأنت الناطق بعده والقائم بالأمر ، وعليكما بتقوى الله الذي لا ينجو إلاّ من أطاعه ولا يهلك إلاّ من عصاه ، واعتصما بحبله ، وهو الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

ثمّ قال للحسن عليه‌السلام : إنّك وليّ الأمر بعدي ، فإن عفوت عن قاتلي فلك ، وإن قتلت فضربة مكان ضربة ، وإيّاك والمثلة فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عنها ولو بكلب عقور.

٣٧٧

واعلم أنّ الحسين وليّ الدم معك ، تجري فيه مجراك ، وقد جعل الله تبارك وتعالى له على قاتلي سلطانا كما جعل لك ، وأنّ ابن ملجم ضربني ضربة فلم تعمل فثنّاها فعملت ، فإن عملت فيه ضربتك فذاك ، وإن لم تعمل فمر أخاك الحسين فليضربه اخرى بحقّ ولايته فإنّها ستعمل فيه ، فإنّ الإمامة له بعدك ، وجارية في ولده إلى يوم القيامة ، وإيّاك أن تقتل فيّ غير قاتلي فإنّ الله عزّ وجلّ يقول : ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (١).

واعلم أنّ معاوية سيخالفك كما خالفني ، فإن وادعته وصالحته كنت مقتديا بجدّك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موادعته بني ضمرة وبني أشجع وفي مصالحته أهل مكّة يوم الحديبية وكانت لك بي اسوة في الصبر خمس وعشرين سنة ، فإن أردت مجاهدة عدوّك فلن يصلح لك من شيعتك من لم يصلح لأبيك فإنّهم قوم لا وفاء لهم ، يوردونك ثمّ لا يصدرونك ، ويخذلونك ثمّ لا ينصرونك ، ويعاهدونك ثمّ لا يفون لك ، وسيقتلك معاوية بالسمّ ظلما وعدوانا وذلك سابق في علم ربّك تقدّس ذكره ، فاحقن دماء شيعتك بموادعته ، وابتغ لهم السلامة بمصالحته.

ثمّ قال للحسين عليه‌السلام : وأنت يا حسين ستخرج لمجاهدة ابنه يزيد فيقتلك من قومه أبرص ملعون لا يراقب فيك إلاّ ولا ذمّة ، وسيقتل معك سبعة عشر من أهل بيتك تحت أديم السماء مالهم شبيهون ، وكأنّي بك تستسقي الماء فلا تسقى ، وتنادي فلا تجاب ، وتستغيث فلا تغاث ، وكأنّي بأهل بيتك قد سبوا وبثقلك قد نهب ، وكأنّي بالسماء قد أمطرت لقتلك دما ورمادا ، وكأنّي بالجنّ قد ناحت عليك ، وكأنّي بموضع تربتك قد صار مختلف زوّارك من الملائكة والمؤمنين. ثمّ قطع كلامه.

وصيّة اخرى :

حدّث عبد الرحمن بن الحجاج ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام وعمّن رواه ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنه عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : هذه وصيّة عليّ

__________________

(١) الأنعام : ١٦٤.

٣٧٨

ابن أبي طالب عليه‌السلام إلى ابنه الحسن عليه‌السلام ، وهي نسخة كتاب سليم بن قيس الهلالي دفعه إلى أبان وقرأها عليه ، وقال أبان : قرأتها على عليّ بن الحسين عليهما‌السلام.

قال سليم : شهدت وصيّة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حين أوصى إلى ابنه الحسن عليه‌السلام ، وأشهد على وصيّته الحسين عليه‌السلام ومحمّدا وجميع ولده ورؤساء أهل بيته وشيعته ، ثمّ دفع إلى الكتاب والسلاح ثمّ قال : يا بنيّ أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن اوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي ، كما أوصى إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودفع إليّ كتبه وسلاحه ، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين عليه‌السلام.

قال : ثمّ أقبل على ابنه الحسين عليه‌السلام وقال له : وأمرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تدفعه إلى ابنك عليّ بن الحسين.

ثمّ أقبل على عليّ بن الحسين فقال له : وأمرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تدفعه إلى ابنك محمّد بن عليّ فاقرأه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنّي السلام.

ثمّ أقبل على ابنه الحسن عليه‌السلام وقال له : يا بنيّ أنت وليّ الأمر ووليّ الدم فإن عفوت فلك ، وإن قتلت فضربة مكان ضربة ولا تأثم.

ثمّ قال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به عليّ بن أبي طالب :

أوصى أنّه يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون ، ثمّ إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له وبذلك امرت وأنا من المسلمين.

ثمّ إنّي اوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغه كتابي من المؤمنين بتقوى الله ربّكم ، ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون ، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام ، وانّ البغض خالعة الدين وفساد ذات البين ، ولا قوّة إلاّ بالله. انظروا ذوي أرحامكم

٣٧٩

فصلوهم يهوّن الله عليكم الحساب. والله الله في الأيتام فلا تعرّ (١) أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم ، فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من عال يتيما حتى يستغني أوجب الله له الجنّة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار. والله الله في القرآن فلا يسبقنّكم الى العمل فيه غيركم. والله الله في جيرانكم ، فإنّ الله عزّ وجلّ ورسوله أوصى بهم. والله الله في بيت ربّكم فلا يخلونّ منكم ما بقيتم ، فإنّه إن يترك لم تناظروا فإنّ أدنى ما يرجع به من أمّه أن يغفر له ما سلف من ذنبه. والله الله في الصلاة فإنّها خير العمل ، وإنّها عمود دينكم. والله الله في الزكاة فإنّها تطفئ غضب ربّكم. والله الله في شهر رمضان فإنّ صيامه جنّة من النار. والله الله في الفقراء والمساكين فشاركوهم في معيشتكم. والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ، فإنّما يجاهد في سبيل الله رجلان : إمام هدى ، ومطيع له مقتد بهداه. والله الله في ذريّة (٢) نبيّكم فلا يظلمن بين أظهركم وأنتم تقدرون على الدفع عنهم. والله الله في أصحاب نبيّكم الذين لم يحدثوا حدثا ولم يأووا محدثا ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى بهم ولعن المحدث منهم ومن غيرهم والمؤوي للمحدث. والله الله في النساء وما ملكت أيمانكم. لا تخافنّ في الله لومة لائم ، يكفيكم الله من أرادكم وبغى عليكم. قولوا للناس حسنا كما أمركم الله ، ولا تتركنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّي الله الأمر شراركم ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم. عليكم يا بنيّ بالتواصل والتباذل والتبارّ ، وإيّاكم والتقاطع والتدابر والتفرّق ، تعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ، واتقوا الله إنّ الله شديد العقاب. حفظكم الله من أهل بيت ، وحفظ فيكم نبيّكم ، وأستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام.

ثمّ لم يزل يقول : لا إله إلاّ الله حتى قبض صلوات الله عليه في أوّل ليلة من العشر الأواخر ، ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان ، ليلة الجمعة لأربعين سنة مضت من الهجرة (٣).

__________________

(١) كذا في النسخة ، وفي البحار : فلا تغيّروا ، وفي الكافي : فلا تغبّوا ، أي لا تجيعوهم ، والمعنى واحد لأنّ الجائع يتغيّر فمه.

(٢) وفي الأصل : ذمّة.

(٣) الكافي : ج ٧ ص ٥١ ح ٧ ، بحار الأنوار : ج ٤٢ ص ٢٥٠ باب ١٢٧ كيفية شهادته ووصيته ح ٥٢.

٣٨٠