الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي

الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

المؤلف:

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-064-3
الصفحات: ٨٣٢

لأبغضك (١) ولكن أبغض محمّدا. ثمّ أخرجني الى باب داره وإذا رمل كثير فقال : والله لئن أصبحت ولم تنقل هذا الرمل كلّه من هذا الموضع لأقتلنّك.

قال : فجعلت أحمل طول ليلي ، فلمّا جهدني (٢) التعب سألت الله تعالى الراحة منه. فبعث الله ريحا فقلعت ذلك الرمل الى ذلك المكان.

فلمّا أصبح نظر الى الرمل فقال : أنت ساحر قد خفت منك. فباعني من امرأة سليميّة لها حائط ، فقالت لي : افعل بهذا الحائط ما شئت.

فكنت فيه إذا أنا بسبعة رهط تظلّهم غمامة ، فلمّا دخلوا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين وأبو ذر والمقداد وعقيل وحمزة وزيد فأوردتهم طبقا من رطب فقلت : هذه صدقة.

فقال النبيّ عليه‌السلام : كلوا ، وأمسك رسول الله وأمير المؤمنين وحمزة وعقيل.

ووضعت طبقا آخر وقلت : هذه هديّة. فمدّ يده وقال : بسم الله كلوا.

فقلت : في نفسي : بدت ثلاث علامات ، وكنت أدور خلفه إذ التفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا روزبه تطلب خاتم النبوّة ، وكشف عن كتفيه وإذا بخاتم النبوّة معجوم بين كتفيه عليه شعرات ، فسقطت على قدميه اقبّلهما.

فقال لي : [ يا روزبه ائت ] هذه المرأة وقل لها : يقول لك محمّد بن عبد الله تبيعينا هذا الغلام؟

فلمّا أخبرتها قالت : قل له لا أبيعكه إلاّ بأربعمائة نخلة ، مائتي نخلة صفراء ، ومائتي نخلة حمراء.

فأخبرته بذلك فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أهون ما سألت. قم يا علي فاجمع هذا النوى كلّه. فأخذه بيده فغرسه ثم قال له : اسقه ، فسقاه ، فلمّا بلغ آخره خرج النخل ولحق بعضه بعضا ، فقال لها : خذي شيّك وادفعي إلينا شيّنا.

فخرجت وقالت : والله لا أبيعكه إلاّ باربعمائة نخلة كلّها صفراء.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والظاهر لا أبغضك.

(٢) كذا في الأصل ، وفي روضة الواعظين وفي المناقب : أجهدني.

٢١

فهبط جبرئيل عليه‌السلام فمسح بجناحه على النخيل فصار كلّه أصفر.

فنظرت وقالت : والله نخلة من هذه أحبّ إليّ من محمّد ومنك.

فقلت لها : والله وإنّ يوما مع محمّد أحبّ إليّ منك ومن كلّ شيء أنت فيه.

فأعتقني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمّاني سلمان (١).

وقال نصر بن المنتصر في ذلك :

من غرس النخل فجاءت يانعا

مرضيّة ليومها من النوى

* * *

فصل

في ذكر نسبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

محمّد بن عبد الله

وهو الذي تصوّر أبوه عبد المطّلب أنّ ذبح الولد أفضل قربة ، لما علم من حال إسماعيل عليه‌السلام ، فنذر أنّه متى رزق عشرة ذكورا أن ينحر أحدهم للكعبة شكرا لربّه عزّ وجلّ.

فلمّا وجدهم عشرة قال لهم : يا بنيّ ما تقولون في نذري؟

فقالوا : الأمر إليك ونحن بين يديك.

قال : فلينطلق كلّ واحد منكم الى قدحه وليكتب عليه اسمه. ففعلوا وأتوه بالقداح ، فأخذها وقال :

عاهدته والآن اوفي عهده

إذ كان مولاي فكنت عبده

نذرت نذرا لا احبّ ردّه

ولا احبّ أن أعيش بعده

فقدّمهم ثمّ تعلّق بأستار الكعبة ونادى : اللهمّ ربّ البلد الحرام ، والركن والمقام ، وربّ المشاعر العظام ، والملائكة الكرام ، اللهمّ أنت خلقت الخلق لطاعتك

__________________

(١) روضة الواعظين : ص ٢٧٥ ـ ٢٧٨ ، المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٦ ـ ١٨.

٢٢

وأمرتهم بعبادتك ، لا حاجة منك إليهم ، في كلام له.

ثمّ أمر بضرب القداح وقال : اللهمّ إليك أسلمتهم ، ولك أعطيتهم ، فخذ من اخترت منهم فإنّي راض بما حكمت ، وهب لي أصغرهم سنّا فإنّه أضعفهم ركنا. ثمّ أنشأ يقول :

يا ربّ لا تخرج عليه قدحي

واجعل له واقية من ذبحي

فخرج السهم على عبد الله. فأخذ عبد المطلب الشفرة وأتى عبد الله حتّى أضجعه في الكعبة وقال :

هذا بنيّ قد اريد نحره

والله لا يقدر شيء قدره

فإن يؤخّره يقبل عذره ثمّ همّ بذبحه ، فأمسك أبو طالب يده وقال :

كلاّ وربّ البيت ذي الأنصاب

ما ذبح عبد الله بالتلعاب (١)

ثمّ قال : اللهمّ اجعلني فديته وهب لي ذبحته ، وقال :

خذها إليك هديّة يا خالقي

روحي وأنت مليك هذا الخافق

وعاونه أخواله من بني مخزوم ، وقال بعضهم :

يا عجبا من فعل عبد المطّلب

وذبحه ابنا كتمثال الذهب

فأشاروا عليه بكاهنة بني سعد ، فخرج في ثمانمائة رجل وهو يقول :

تعاورني هم فضقت به ذرعا

ولم استطع ممّا تجلّلني دفعا

نذرت ونذر المرء دين ملازم

وما للفتى ممّا قضى ربّه منعا

وعاهدته عشرا فلمّا تكمّلوا

اقرّب منهم واحدا ماله رجعا

فأكملهم عشرا فلمّا هممت أن

أفي بذاك النذر ثار له جمعا

يصدّونني عن أمر ربّي وأنّني

سأرضيه مشكورا ليكسبني نفعا

فلمّا دخلوا عليها قال :

يا ربّ انّي فاعل لما ترد

إن شئت ألهمت الصواب والرشد

__________________

(١) التلعاب : مصدر لعب.

٢٣

فقالت : كم دية الرجل عندكم؟

قالوا : عشرة من الإبل.

قالت : فاضربوا على الغلام وعلى الإبل القداح ، فإن خرج القدح على الإبل فانحروها ، وإن خرج عليه فزيدوا في الإبل عشرة عشرة حتى يرضى ربّكم. فكانوا يضربون القداح على عبد الله وعلى عشرة فيخرج السهم على عبد الله ، الى أن جعلها مائة وضرب فخرج القدح على الإبل ، فكبّر عبد المطلب وكبّرت قريش ووقع عبد المطّلب مغشيّا عليه ، وتواثبت بنو مخزوم فحملوه على أكتافهم ، فلمّا أفاق من غشيته قالوا : قد قبل منك فداء ولدك.

فبينا هم كذا وإذا بهاتف من داخل البيت وهو يقول : قبل الفداء ، ونفد (١) القضاء ، وآن ظهور محمّد المصطفى.

فقال عبد المطّلب : القداح تخطئ وتصيب حتى أضرب ثلاثا. فلمّا ضربها خرج على الإبل ، فارتجز يقول :

دعوت ربّي مخلصا وجهرا

يا ربّ لا ينحر بنيّ نحرا

فنحرها كلّها ، فجرت السنّة في الدية بمائة من الإبل (٢).

ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « أنا ابن الذبيحين ولا فخر » (٣) يعني عبد الله واسماعيل عليهما‌السلام.

وكانت امرأة يقال لها فاطمة بنت مرّة قد قرأت الكتب ، فمرّ بها عبد الله بن عبد المطّلب فقالت له : أنت الذي فداك أبوك بمائة من الإبل؟ قال : نعم.

فقالت : هل لك أن تقع عليّ مرّة واعطيك من الإبل مائة؟ فنظر إليها وأنشأ يقول :

أمّا الحرام فالممات دونه

والحلّ لا حلّ فأستبينه

فكيف بالأمر الذي تبغينه

__________________

(١) في المناقب : نفذ.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٢٠ ـ ٢٢.

(٣) الدر المنثور : ج ٥ ص ٢٨١.

٢٤

ومضى مع أبيه فزوّجه أبوه آمنة ، فظلّ عندها يوما وليلة فحملت بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ انصرف عبد الله ومرّ بها فلم يربها حرصا على ما قالت أوّلا ، فقال لها عند ذلك مختبرا : هل لك فيما قلت لي فقلت لا؟

قالت : قد كان ذاك مرّة فاليوم لا. فذهبت كلمتاهما مثلا.

ثم قالت : أيّ شيء صنعت بعدي؟

قال : زوّجني أبي آمنة فبتّ عندها.

فقالت : لله ما زهريّة سلبت ثوبيك ما سلبت وما تدري.

ثمّ قالت : رأيت في وجهك نور النّبوة فأردت أن يكون فيّ ، وأبى الله أن يضعه إلاّ حيث يحبّ. ثمّ قالت :

بني هاشم قد غادرت من أخيكم

امينة إذ للباه يعتلجان

كما غادر المصباح بعد خبوّه

فتائل قد ميثت له بدخان

وما كلّ ما يحوي الفتى من نصيبه

بحرص ولا ما فاته بتواني

ويقال انّه مرّ بها وبين عينيه غرّة مثل غرّة الفرس.

وكان عند الأحبار جبّة صوف بيضاء قد غمست في دم يحيى بن زكريّا ، وكانوا قد قرءوا في كتبهم : إذا رأيتم هذه الجبّة تقطر دما فاعلموا أنّه قد ولد أبو السفّاك الهتّاك.

فلمّا رأوا ذلك من الجبّة اغتمّوا ، واجتمع خلق منهم على أن يقتلوا عبد الله ، فوجدوا الفرصة منه لكون عبد المطّلب في الصيد ، فقصدوه فأدركه وهب بن عبد مناف الزهري ، فحان منه نظرة ، فنظر الى رجال نزلوا من السماء فكشفوهم عنه ، فزوّج ابنته من عبد الله ، قال : فماتت من نساء قريش مائتا امرأة غيرة.

ويقال : إنّ عبد الله كان في جبينه نور يتلألأ ، فلمّا قرب حمل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يطق أحد رؤيته ، وما مرّ بشجر ولا حجر إلاّ سجد له وسلّم عليه ، فنقل الله منه نوره يوم عرفة وقت العصر وكان يوم الجمعة الى آمنة (١).

__________________

(١) المناقب : ج ١ ص ٢٧.

٢٥

وكانت أمّ آمنة : برّة بنت عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار (١).

وعبد الله وآمنة ماتا مسلمين ، والدليل على ذلك ما ورد في الأخبار المرويّة عن الثقات.

فمن ذلك : ما رواه الثعلبي والواحدي وابن بطّة ، عن عطاء وعكرمة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) (٢). يعني ندبّرك من أصلاب الموحّدين من موحّد الى موحّد حتى أخرجك في هذه الامّة ، وما زال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يتقلّب في أصلاب الأنبياء والصالحين حتى ولدته امّه (٣).

وعن علي عليه‌السلام : انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم الى أن ولدني أبي وامّي ، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء (٤).

وقال متكلّم : لقد منّ الله عليه بالآباء الطاهرين الساجدين. ولو عنى سجدة الأصنام لما منّ عليه ، لأنّ المنّة على الكفر قبيح.

وفي مسلم : قال بريدة : انتهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى رسم قبر ، فجلس وجلس الناس حوله ، فجعل يحرّك رأسه كالمخاطب ثم بكى.

فقيل : ما يبكيك يا رسول الله؟

قال هذا قبر آمنة بنت وهب ، استأذنت ربّي في زيارة قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور يذكّركم الموت (٥).

ولو لم تكن مؤمنة لما جاز له زيارتها ، ولا أذن له ، لقوله : ( وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ ) (٦) الآية.

[ قال ] أبو عبد الله عليه‌السلام : نزل جبرئيل عليه‌السلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « يا محمّد

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام : ج ١ / ص ١٦٥.

(٢) الشعراء : ٢١٩.

(٣) الدر المنثور : ج ٥ / ص ٩٨ ، مجمع البيان : ج ٧ ـ ٨ / ص ٢٠٧.

(٤) البداية والنهاية : ج ٢ / ص ٢٥٥.

(٥) صحيح مسلم : ج ٢ / ص ٦٧٢ باب ٣٦ من كتاب الجنائز ح ١٠٦.

(٦) التوبة : ٨٤.

٢٦

إنّ الله جلّ جلاله يقرؤك السلام ويقول : إنّي قد حرّمت النار على صلب أنزلك ، وبطن حملك ، وحجر كفلك » (١) يعني عبد الله وآمنة وأبا طالب وفاطمة بنت أسد.

وقال الحسن البصري في قوله : ( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) (٢) : أي ما كان ذلك يا محمّد إلاّ بأمر منّي ، فلمّا أمره أن يقول : ( وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) (٣) علمنا أنّ الله أمره.

وعبد الله أنفذه أبوه عبد المطلب يمتار له تمرا من يثرب فتوفّي بها.

وعبد الله بن عبد المطّلب :

وكان لعبد المطّلب عشرة أسماء : عمرو ، وشيبة الحمد ، وسيّد البطحاء ، وساقي الحجيج ، وساقي الغيث ، وغيث الورى في العام الجدب ، وأبو السادة العشرة ، وحافر زمزم ، وعبد المطّلب.

وسمّي « عبد المطلّب » لأنّ أباه هاشما كان شخص في تجارة الى الشام فترك طريق المدينة فتزوّج سلمى ابنة عمرو فولدت شيبة ، ومات هاشم بالشام ، فمكث شيبة سبع سنين فرآه حارثي في غلمان يتناضلون وهو إذا خنقه الأمر يقول :

أنا ابن هاشم ، فحكى الحارثي للمطّلب ذلك ، فذهب المطّلب وأردفه خلفه ودخل مكّة وهو مردفه ، فقيل إنّه عبد المطّلب ، فصار بذلك لقبا له.

وإنّما سمّي « شيبة الحمد » لأنّه كان في رأسه شيبة حين ولد.

وكان له عشرة بنين وهم : الحارث ، والزبير ، وحجل وهو الغيداق ، وضرار وهو نوفل والمقوّم ، وأبو لهب وهو عبد العزّى ، وعبد الله ، وأبو طالب ، وحمزة ، والعبّاس. وكانوا من امّهات شتّى إلاّ عبد الله وأبو طالب والزبير فإنّهم كانوا أولاد أمّ ، وامّهم فاطمة بنت عمرو بن عابد.

وأعقب منهم البنين خمسة : عبد الله أعقب محمّدا سيّد البشر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبو طالب أعقب [ طالبا ] (٤) جعفرا وعقيلا وعليّا وهو سيّد الوصيّين ، وعبّاس أعقب عبد الله

__________________

(١) روضة الواعظين : ص ١٣٩ ، الكافي : ج ١ ص ٤٤٦ باب مولد النبي ح ٢١.

(٢) التوبة : ١١٣.

(٣) الإسراء : ٢٤.

(٤) لم يرد في الأصل.

٢٧

وقثم والفضل وعبيد الله ، والحارث أعقب عبيدة ، وأبو لهب أعقب عتبة ومعتّبا وعتيقا.

وأعقب عبد المطّلب ست بنات : عاتكة ، اميمة ، البيضاء وهي أمّ حكيم ، برّة ، صفيّة وهي أمّ الزبير ، أروى ويقال وريدة.

وأسلم من أعمام النبيّ عليه‌السلام : أبو طالب ، وحمزة ، والعبّاس. ومن عمّاته صفيّة ، وأروى ، وعاتكة. وآخر من مات من أعمامه : العبّاس ، ومن عمّاته : صفيّة.

وكانت لعبد المطّلب خمس من السنن أجراها الله في الإسلام : حرّم نساء الآباء على الأبناء ، وسنّ الدية في القتل مائة من الإبل ، وكان يطوف بالبيت سبعة أشواط ، ووجد كنزا فأخرج منه الخمس.

وسمّي حافر زمزم حين حفرها وجعلها سقاية الحاجّ.

وكان أوّل من تحنّث بحراء ، والتحنّث : التألّه ، وكان يدخل فيه إذا أهلّ هلال شهر رمضان الى آخر الشهر.

وهو الذي خرج الى أبرهة بن الصباح ملك الحبشة لمّا قصد لهدم البيت ، وتسرعت الحبشة فأغاروا عليها وأخذوا سرحا لعبد المطّلب بن هاشم ، فجاء عبد المطّلب الى الملك فاستأذن عليه فأذن له وهو في قبّة ديباج على سرير له ، فسلّم عليه ، فردّ أبرهة السلام وجعل ينظر في وجهه ، فراقه حسنه وجماله وهيأته فقال له : هل كان في آبائك مثل هذا النور الذي أراه لك والجمال؟ قال : نعم أيّها الملك ، كلّ آبائي كان لهم هذا الجمال والنور والبهاء.

فقال له أبرهة : لقد فقتم الملوك فخرا وشرفا ، ويحقّ لك أن تكون سيّد قومك.

ثمّ أجلسه معه على سريره وقال لسائس فيله الأعظم ـ وكان فيلا أبيض عظيم الخلق ، له نابان مرصّعان بأنواع الدرر والجواهر ، وكان الملك يباهي به ملوك الأرض ـ : آتيني به.

فجاء به سائسه وقد زيّن بكلّ زينة حسنة ، فحين قابل وجه عبد المطّلب سجد له ولم يكن يسجد لملكه ، وأطلق الله لسانه بالعربيّة فسلّم على عبد المطّلب (١).

__________________

(١) أمالي المفيد : ص ٣١٢ المجلس ٣٧ ح ٥.

٢٨

وفي خبر : وقال بلسان فصيح : يا نور خير البريّة ، ويا صاحب البيت والسقاية ، ويا جدّ سيّد المرسلين (١).

وذكر ابن بابويه في الجزء الرابع من كتاب النبوّة انّ الفيل نادى بلسان ... (٢)

على النور الذي في ظهرك يا عبد المطّلب ، معك العزّ والشرف ، ولن تذلّ ولن تغلب أبدا. فلمّا رأى الملك ذلك ارتاع له وظنّه سحرا ، ثمّ قال : ردّوا الفيل الى مكانه.

ثمّ قال لعبد المطّلب : فيم جئت فقد بلغني سخاؤك وكرمك وفضلك ورأيت من هيبتك وجمالك وجلالك ما يقتضي أن أنظر في حاجتك فسلني ما شئت. وهو يرى أنّه يسأله في الرجوع عن مكّة.

فقال له عبد المطّلب : إنّ أصحابك عدوا على سرح لي فذهبوا به فمرهم بردّه عليّ.

قال : فتغيّظ الحبشي من ذلك وقال لعبد المطّلب : لقد سقطت من عيني ، جئتني تسألني في سرحك وأنا قد جئت لهدم شرفك وشرف قومك ومكرمتكم التي تتميّزون بها من كلّ جيل ، وهو البيت الذي يحجّج إليه من كلّ صقع في الأرض ، فتركت مسألتي في ذلك وسألتني في سرحك! فقال له عبد المطّلب : لست بربّ البيت الذي قصدت لهدمه ، وأنا ربّ سرحي الذي أخذه أصحابك فجئت أسألك فيما أنا ربّه ، وللبيت ربّه هو أمنع له من الخلق كلّهم وأولى به منهم.

فقال الملك : ردّوا عليه سرحه.

وانصرف عبد المطّلب الى مكّة ، واتّبعه الملك بالفيل الأعظم مع الجيش لهدم البيت ، فكانوا إذا حملوه على دخول الحرم أناخ وإذا تركوه رجع مهرولا.

فقال عبد المطّلب : ادعوا إليّ ابني : فجيء بالعبّاس ، فقال : ليس هذا اريد ، ادعوا إليّ ابني. فجيء بأبي طالب ، فقال : ليس هذا اريد ، ادعوا إليّ ابني. فجيء بعبد الله أبي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا أقبل إليه قال له : اذهب يا بنيّ حتى تصعد أبا قبيس ثم

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٥ ص ١٣٢.

(٢) هنا كلمتان مطموستان.

٢٩

اضرب ببصرك ناحية البحر فانظر أيّ شيء يجيء من هناك وخبّرني به.

قال : فصعد عبد الله أبا قبيس فما لبث أن جاء طير أبابيل مثل السيل والليل فسقط على أبي قبيس ، ثمّ صار الى البيت وطاف به سبعا ، ثمّ صار الى الصفا والمروة فطاف بهما سبعا. فجاء عبد الله الى أبيه فأخبره الخبر.

فقال له : انظر يا بنيّ ما يكون من أمرها بعد فأخبرني به.

فنظرها فإذا هي قد أخذت نحو عسكر الحبشة ، فأخبر عبد المطّلب بذلك ، فخرج عبد المطّلب وهو يقول : يا أهل مكّة اخرجوا الى العسكر فخذوا غنائمكم.

قال : فأتوا العسكر وهم أمثال الخشب النخرة وليس من الطير إلاّ ومعه ثلاثة أحجار في منقاره ويديه يقتل بكلّ حصاة منها واحدا من القوم. فلمّا أتوا على جميعهم انصرفوا. فلم ير قبل ذلك ولا بعده.

فلمّا هلك القوم بأجمعهم جاء عبد المطّلب الى البيت فتعلّق بأستاره وقال :

يا حابس الفيل بذي المغمس

حبسته كأنّه مكوكس (١)

في محلس يزهق فيه الأنفس

وانصرف وهو يقول : في فرار قريش وجزعهم من الحبشة :

طارت قريش إذا رأت خميسا

فظلت فردا لا أرى أنيسا

ولا أحسّ منهم حسيسا

إلاّ أخا لي ماجدا نفيسا

مسوّدا في أهله رئيسا (٢)

فكانوا بين هالك مكانه ، أو مات في الطريق عطشا ، وسلّط الله على جيشه من العرب الجدريّ والحصبة ، وهلك الأشرم وابنه النجاشي وكان على مقدمته ، وأفلت نفيل بن الحبيب الخثعمي وكان قائد الفيل ، وأفلت أخنس الفهميّ وكان دليل الحبشة.

__________________

(١) قال الفيروزآبادي : المغمس كمعظم ، ومحدث : موضع بطريق الطائف فيه قبر أبي رغال دليل أبرهة ، ومكوكس : المنكس الذي قلب على رأسه ، وفي نسخة البحار « مكوس » بتشديد الواو وهو بمعناه. ونقل في البحار في بيانه عن القاموس : المكوس كمعظم : حمار.

(٢) أمالي المفيد : ص ٣١٣ ـ ٣١٥ المجلس ٣٧ ص ٥.

٣٠

وورّث الله قريشا أموالهم وما معهم. وسمّى الناس قريشا أهل الله وسمّتهم العرب الحمى الممنوع ، وقالوا : قاتل الله عنهم أقيالهم وخوّلهم أموالهم.

وهو الذي سار الى سيف بن ذي يزن وبشّره بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال ابن عباس رضي الله عنهما : لمّا ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلك بعد مولد النبيّ عليه‌السلام بسنتين أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تهنئه وتمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثار قومه. فأتى وفد قريش وفيهم عبد المطّلب بن هاشم واميّة بن عبد شمس وأسد بن عبد العزّى وعبد الله بن جذعان فقدموا عليه وهو في قصر له يقال له غمدان ، وله يقول أبو الصلت :

لن يدرك الثأر أمثال بن ذي يزن

في لجّة البحر للأعداء أحوالا

أتى هرقلا وقد شالت نعامته

فلم تجد عنده القول الذي قالا

ثمّ انثنى نحو كسرى بعد تاسعة

من السنين لقد أبعدت إيغالا

حتى أتى بفتى الأحرار يقدمهم

إنّك لعمري لقد أسرعت إرقالا

من مثل كسرى وبهرام الجنود له

ومثل وهرز يوم [ الجيش إذ صالا ] (١)

لله درّهم من عصبة خرجوا

ما أن رأينا لهم في الناس أمثالا

صيدا جحاجحة بيضا خضارمة

اسدا تربّت في الغابات أشبالا

أرسلت اسدا على سود الكلاب فقد

غادرت جمعهم في الأرض أفلالا

فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا

في رأس غمدان دارا منك محلالا

ثمّ أطل بالمسك إذ شالت نعامتهم

وأسبل اليوم في برديك أسبالا

تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا

بماء فعادا بعد أبوالا (٢)

فطلبوا الإذن عليه فأذن لهم ، فدخلوا فوجدوه متضمّخا بالعبير ، وعليه بردان أخضران قد اتّزر بأحدهما وارتدى بالآخر ، وسيفه بين يديه والملوك عن يمينه وشماله ، وأبناء الملوك والمقاول. فدنا عبد المطّلب واستأذنه في الكلام ، قال له : قل.

__________________

(١) بياض في الأصل.

(٢) تاريخ الطبري : ج ١ ص ٥٦٤ ، السيرة النبوية لابن هشام : ج ١ ص ٦٧ ـ ٦٨ مع اختلاف.

٣١

فقال : إنّ الله تعالى أيّها الملك أحلّك محلاّ رفيعا صعبا منيعا باذخا شامخا وأنبتك منبتا طابت أرومته ، وقرّت جرثومته ، ونبل أصله ، وبسق فرعه في أكرم معدن وأطيب موطن ، فأنت أبيت اللعن رأس العرب ، وربيعها الذي به تخصب ، وملكها الذي إليه ينقاد ، وعمودها الذي عليه العماد ، ومعقلها الذي تلجأ إليه العباد ، سلفك خير سلف ، وأنت لنا بعدهم خير خلف ، ولم يهلك من أنت خلفه ، ولم يخمل منهم سلفه ، نحن ـ أيّها الملك ـ أهل حرم الله وسدنة بيته ، أشخصنا إليك الذي أبهجنا من كشفك الكرب الذي فدحنا ، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزية.

قال : ومن أنت أيّها المتكلّم؟

قال : أنا عبد المطّلب بن هاشم.

قال : ابن اختنا.

قال : نعم. فأدناه وقرّبه. ثمّ أقبل عليه وعلى القوم فقال : مرحبا وأهلا ، وناقة ورحلا ، ومستناخا سهيلا ، وملكا سبحلا (١) يعطى عطاء جزلا ـ وكان أوّل من تكلّم بها ـ قد سمع الملك مقالتكم ، وعرف قرابتكم ، وقبل وسيلتكم ، لكم الكرامة ما أقمتم ، والحبا إذا ظعنتم.

ثمّ استنهضوا الى دار الضيافة والوفود ، وأجرى عليهم الأنزال (٢) ، فأقاموا ببابه شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف.

ثمّ انتبه لهم انتباهة فدعا بعبد المطّلب من بينهم فأخلاه وأدناه مجلسه وقال : يا عبد المطّلب إنّي مفض إليك من سرّ علمي أمرا فليكن عندك مصونا مطويّا حتى يأذن الله فيه ، فإنّ الله بالغ أمره.

فقال عبد المطّلب : مثلك أيّها الملك من سرّ وبرّ فما هو فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر؟

__________________

(١) السبحل : الواسع ( لسان العرب ١١ / ٣٢٣ ).

(٢) أنزال القوم : أرزاقهم ( لسان العرب ١١ / ٦٥٨ ).

٣٢

قال : إذا ولد بتهامة غلام ، بين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة ولكم الدعامة الى يوم القيامة.

فقال : أيّها الملك قد أتيت بخبر ما أتى بمثله أحد ، ولو لا هيبة الملك وإجلاله لسألته من سارّي ما أزداد به سرورا.

قال : هذا حينه الذي يولد فيه أوقد ولد ، اسمه أحمد ، يموت أبوه وامّه ويكفله جدّه وعمّه ، قد ولد سرارا والله باعثه جهارا ، وجاعل له منّا أنصارا ، يعزّ بهم أولياءه ، ويذلّ بهم أعداءه ، ويفتح بهم كرائم الأرض ، ويضرب بهم الناس عن عرض ، يخمد الأديان ، ويكسر الأوثان ، ويعبد الرحمن ، قوله حكم وفصل ، وأمره حزم وعدل ، يأمر بالمعروف ويفعله ، وينهى عن المنكر ويبطله.

فقال عبد المطّلب : أيّها الملك دام ملكك وعلا كعبك فهل الملك ساري بإفصاح ، فقد أوضح بعض الإيضاح.

فقال ابن ذي يزن : والبيت ذي الحجب ، والعلامات على النصب ، إنّك يا عبد المطّلب جدّه غير كذب.

فخرّ عبد المطّلب ساجدا.

قال ابن ذي يزن : ارفع رأسك ثلج صدرك ، وعلا أمرك ، فهل أحسست شيئا ممّا ذكرت لك؟

قال عبد المطّلب : أيّها الملك كان لي ابن كنت له محبّا ، وعليه حذرا مشفقا ، فزوّجته كريمة من كرائم قومه يقال لها آمنة بنت وهب بن عبد مناف ، فجاءت بغلام بين كتفيه شامة ، وفيه كلّما ذكرت من علامة ، مات أبوه وامّه ، فكفلته أنا وعمّه.

قال ابن ذي يزن : إنّ الذي قلته لك كما قلت فاحفظ ابنك واحذر عليه من اليهود ، فإنّهم له أعداء ، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا ، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإنّي لست آمنهم أن يدخلهم النفاسة من أن يكون لك الرئاسة ، فيبغون لك الغوائل ، وينصبون لك الحبائل ، وهم فاعلون أو أبناؤهم ، ولو لا أنّي أعلم أنّ الموت مدركي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير

٣٣

بيثرب دار مهاجرته ، فإنّي أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أنّ يثرب دار مهاجرته ، وبيئة نصرته ، ولو لا أنّي أقيه الآفات ، وأحذر عليه العاهات ، لأعليت على حداثة سنّه أمره ، وأوطأت رقاب العرب كعبه ، ولكنّي صارف إليك ذلك عن غير تقصير منّي بمن معك.

ثمّ أمر لكلّ واحد منهم بعشرة أعبد وعشرة إماء سود ، وخمسة أرطال مسكا ، وكرشا مملؤة عنبرا ، وحلّتين من حلل اليمن. وأمر لعبد المطّلب بأضعاف ذلك ، وقال له : إذا حال الحول فأتني بما يكون من أمره.

فما حال الحول حتى مات ابن ذي يزن ، فكان عبد المطّلب يقول : يا معشر قريش لا يغبطني أحد منكم بعطاء الملك فإنّه الى نفاد ، لكن ليغبطني بما بقي لي ولعقبي ذكره وفخره الى يوم القيامة. فإذا قالوا له : وما ذاك؟ قال : سيظهر بعد حين (١).

وقال ابن رزّيك :

محمّد خاتم الرسل الذي سبقت

به بشارة قسّ وابن ذي يزن

وأنذر النطقاء الصادقون بما

يكون من أمره والطهر لم يكن

الكامل الوصف في حلم وفي كرم

والطاهر الأصل من ذام ومن درن

ظلّ الإله ومفتاح النجاة وينبو

ع الحياة وغيث العارض الهتن

فاجعله ذخرك في الدارين معتصما

به وبالمرتضى الهادي أبي الحسن (٢)

وعبد المطّلب رأى في منامه أنّ شجرة نبتت على ظهره قد نال رأسها السماء ، وضربت بأغصانها الشرق والغرب ، ونورا يزهر بينها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفا ، والعرب والعجم ساجدة لها ، وهي كلّ يوم تزداد عظما ونورا ، ورأى رهطا من قريش يريدون قطعها فإذا دنوا منها أخذهم شابّ من أحسن الناس وجها وأنظفهم ثيابا فيأخذهم ويكسر ظهورهم ويقلع أعينهم.

فقصّ ذلك على كاهنة قريش فقالت : لئن صدقت ليخرجنّ من صلبك ولد

__________________

(١) اعلام النبوّة للماوردي : ص ١٥٧ ـ ١٦٠.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٢٠.

٣٤

يملك الشرق والغرب ، ونبيّا في الناس (١).

وذكر الماوردي أنّ عبد المطّلب رأى في منامه أيضا كأنّه خرج من ظهره سلسلة [ لها ] (٢) أربعة أطراف : طرف قد أخذ المغرب ، وطرف قد أخذ المشرق ، وطرف لحق بأعنان السماء ، وطرف لحق بثرى الأرض. فبينما هو يتعجّب إذ التفّت الأنوار فصارت شجرة خضراء مجتمعة الأغصان ، متدلّية الأثمار ، كثيرة الأوراق ، قد أخذ أغصانها أقطار الأرض في الطول والعرض ، ولها نور قد أخذ الخافقين ، وكأنّي قد جلست تحت الشجرة ، وبإزائي شخصان بهيّان ، وهما نوح وإبراهيم عليهما‌السلام ، قد استظلاّ بها فقصّ ذلك على كاهن ، ففسّره بولادة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) وفي رامش أفزاي (٤) : إنّ عبد المطّلب عاش مائة وأربعين سنة ، فأعطاه شخص مهيب ضغث ريحان وقال له : شمّه ، فلمّا شمّه مات ، وكان الشيخ ملك الموت عليه‌السلام. وكان يفتي على ملّة إبراهيم عليه‌السلام.

وقال الشعبي : دخل عبد الله بن جعفر الطيّار عليهما‌السلام على معاوية بن أبي سفيان وعنده ابنه يزيد بن معاوية ، فجعل يزيد يعرّض بعبد الله في كلامه وينسبه إلى الشرف في غير مرضاة الله.

فقال عبد الله : إنّي لأرفع نفسي عن جوابك ، ولو صاحب السرير كلّمني لأجبته.

فقال معاوية : يا عبد الله بن جعفر كأنّك تظنّ أنّك أشرف منه.

فقال ابن جعفر : اي والله إنّي أشرف منه ومن أبيه وجدّه.

فقال معاوية : ما كنت أحسب أنّ أحدا في عصر حرب بن اميّة أشرف منه.

فقال ابن جعفر : إنّ أشرف من حرب من غطاه بإنائه وأجاره بردائه.

__________________

(١) في روضة الواعظين : ينبأ ، ج ١ ص ٦٤ مجلس في مولد النبيّ ( ص ) ، المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٢٣.

(٢) بياض في الأصل.

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٢٤.

(٤) قال في الذريعة ج ١٠ ص ٥٩ : هو كتاب للشيخ محمّد بن الحسين المحتسب ، قال الشيخ منتجب الدين أنّه في عشر مجلدات .. ورامش في الفارسية بمعنى الطرب والعيش.

٣٥

قال الشعبي : هذا كلام عربيّ ، وتفسيره : إنّ حرب بن اميّة كان إذا خرج في سفر فعرضت له ثنيّة أو عقبة فتنحنح ، لم يقدم أحد أن يسلكها حتى يجوزها حرب ، فجاء غلام من بني اسيد فجاز العقبة قبل حرب ، فهدّده حرب وقال له : سيمكّنني الله منك إن دخلت مكّة ، فضرب الدهر ضرباته أن قدم الاسيدي مكّة فسأل عن أعزّ أهل مكّة ، فقيل له : عبد المطّلب ، فقال : دون عبد المطّلب ، قيل :

فالزبير. فقرع عليه الباب ، فقال الزبير : إن كنت مستجيرا أجرناك ، وإن كنت طالب قرى قريناك. فأنشأ الاسيدي يقول :

لاقيت حربا بالثنيّة مقبلا

كالليل أبلج (١) ضوؤه للساري

فتركته خلفي وسرت أمامه

وكذاك كنت أكون في الأسفار

أنا يهددني الوعيد ببلدة

فيها الزبير كمثل ليث ضار

ليث هزبر (٢) يستضاء بقربه

رحب المباءة (٣) حافظ للجار

وحلفت بالبيت العتيق وركنه

وبزمزم والحجر ذي الأستار

إنّ الزبير لمانعي بمهنّد

عضب المهزّة صارم بتّار

قال الزبير : قد أجرتك فسر أمامي فإنّا بني عبد المطّلب إذا أجرنا رجلا لم نتقدّمه. فمضى والزبير في أثره ، فلقيه حرب ، فقال الاسيديّ : وربّ الكعبة ثمّ شدّ عليه ، واخترط الزبير سيفه ونادى في إخوته ، ومضى حرب يشتدّ والزبير في أثره حتى دخل دار عبد المطّلب.

فقال : ميهم يا حرب.

قال : ابنك الزبير.

قال : ادخل الدار ، وكفا عليه جفنة هاشم التي كان يهشم فيها الثريد ويطعم الناس.

وجاء بنو عبد المطّلب فجلسوا بالباب ، واحتبوا بحمائل سيوفهم ، فخرج إليهم

__________________

(١) بياض في الأصل.

(٢) الهزبر : الأسد.

(٣) المباءة : المراح الذي تبيت فيه الإبل.

٣٦

عبد المطّلب فسرّه ما رأى منهم وقال لهم : يا بنيّ أصبحتم اسود العرب.

ثمّ دخل الى حرب فقال له : قم فاخرج إليهم يا أبا الحرب.

فقال حرب : هربت من واحد وأخرج الى عشرة؟

فقال : خذ ردائي فالبسه فإنّهم إذا رأوا ردائي عليك لم يهيجوك.

فلبسه ثمّ خرج ، فرفعوا رءوسهم ونظروا إلى رداء عبد المطّلب ونكسوا رءوسهم حتى جاز. فذلك قوله : إنّ أشرف من حرب من كفا عليه إناءه وأجاره بردائه (١).

وقيل : كان لعبد المطّلب ماء بالطائف يدعى ذا الهرم ، فادّعته ثقيف واحتفروا ، فخاصمهم فيه عبد المطّلب الى عزّى سلمة الكاهن العذري بالشام ، وخرج مع عبد المطّلب ابنه الحارث ونفر من قومه ، ولا ولد له يومئذ غيره ، وخرج جندب بن الحارث الثقفي خصم عبد المطّلب في نفر من قومه. فلمّا كانوا ببعض الطريق نفد ماء عبد المطّلب فسأل عبد المطّلب الثقيفيّين أن يسقوه من مائهم ، فأبوا ، وبلغ العطش منهم كلّ مبلغ ، وظنّوا أنّه الهلاك ، ونزل عبد المطّلب وأصحابه وأناخوا إبلهم وقد يئسوا من الحارث ، فظهر (٢) الله لهم عينا من تحت جران بعير عبد المطّلب ، فحمد الله وعلم أنّ ذلك غوث الله ، فشربوا وتزوّدوا.

ثمّ نفد ماء الثقيفيين فطلبوا الى عبد المطّلب أن يسقيهم. فقال ابنه الحارث : والله لئن سقيتهم لأضعنّ سيفي في هامتي (٣) ولأجثينّ عليه حتى ينجم من ظهري.

فقال له عبد المطّلب : يا بنيّ استقم ولا تفعل ذلك بنفسك. وسقاهم عبد المطّلب.

وانطلقوا الى الكاهن وقد خبئوا له خبيئا وهو رأس جرادة في حربة مزادة ، وعلّقوه في قلادة كلب لهم يدعى سوارا.

فلمّا أتى القوم الكاهن فإذا هم ببقرتين تسوقان بحزجا (٤) كلتاهما ترأمه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٥ ص ٢٢٩ ـ ٢٣١ مع اختلاف في رواية ألفاظ القصيدة.

(٢) كذا في الأصل والظاهر : فطر أو فأظهر.

(٣) في ظاهر الأصل : رهامتى ، والظاهر هامتي.

(٤) البحزج : ولد البقرة الوحشيّة ( لسان العرب ٢ / ٢١١ ).

٣٧

تزعم أنّه ولدها ، وذلك أنّهما ولدتا في ليلة واحدة فأكل النمر إحدى البحزجين ، فهما يرأمان الباقي.

فلمّا وقفتا بين يدي الكاهن ، قال : هل تدرون ما تقول هاتان البقرتان؟ قالوا :

لا. قال : تختصمان في هذا البحزج ويطلبان بحزجا آخر ذهب به ذو جسد أربد (١) وشدق (٢) مرمع ، وناب معق (٣) وحلق صعق (٤) فما للصغرى في البحزج من حق.

فقضى به للكبرى وذهبتا.

وتقدّم عبد المطّلب وأصحابه فقال لهم الكاهن : ما حاجتكم؟

قالوا : إنّا خبأنا لك خبيئا فأنبئنا عنه.

قال : نعم ، خبأتم لي شيئا طار فسطع التصوّب فتصوّب فوقع ، فالأرض منه بقع.

قالوا : لادة فلادة ، أي بيّن.

قال : إن لادة فلادة ، وهو رأس جرادة ، في حربة مزادة ، في عنق سوار صاحب القلادة.

قالوا : لادة.

قال : هو شيء طار فاستطار ، ذو ذنب جرّار ، ورأس كالمسمار ، وساق كالمنشار.

قالوا : قد أصبت. فانتسبا له وقالا : أخبرنا فيم اختصمنا.

قال : احلف بالضياء والظلم ، والبيت ذي الحرم ، إنّ الدفين ذي الهرم للقرشي ذي الكرم.

قال جندب بن الحارث الثقفي : اقض لأرفعنا مكانا ، وأعظمنا جفانا ، وأشدّنا طعانا.

فقال عبد المطّلب : اقض لصاحب الخيرات الكبر ، ولمن كان أبوه سيّد مضر ، وساقي الحجيج إذا كثر.

__________________

(١) الربدة : الغبرة ( لسان العرب ٣ / ١٧٠ ).

(٢) الشدق : جانب الفم ( لسان العرب ١٠ / ١٧٢ ).

(٣) المعيق : الشديد الدخول في جوف الأرض ( لسان العرب : ١٠ / ٣٤٦ ).

(٤) الصعقة : الصوت الشديد ( لسان العرب ١٠ / ١٩٨ ).

٣٨

فقال الكاهن :

أما وربّ القلص (١) الرواسم (٢)

يحملن أزوالا (٣) بفيء طاسم

إنّ علاء المجد والمكارم

في شيبة الحمد الندى بن هاشم

فقال عبد المطّلب : اقض بين قريش وبين ثقيف أيّهم أفضل؟

فقال الكاهن :

إنّ مقالي فاسمعوا شهادة

إنّ بني النضر كرام سادة

من مضر الحمراء في القلادة

أهل رباء وملوك قادة

زيارة البيت لهم عبادة

ثمّ قال : إنّ ثقيفا عبد آبق ، فثقف فعتق ، ثمّ ولد فأبّق ، فليس له في النسب من حقّ.

أبّق : أيّ أكثر ، والبقّ من هذا اخذ.

ففضّل عبد المطّلب وقريشا على الثقفي وقومه.

وكان لعبد المطّلب حوضان يسقي فيهما اللبن والعسل ، يربّيان حصوريان.

وأنشد بعضهم لأمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام :

أنا ابن ذي الحوضين عبد المطّلب

أخو رسول الله لا قول الكذب

وأنبط الله لعبد المطلب ماء زمزم ، وحوّض عليه ، فجاءته قريش حسدا له فثلمته ، فقال : « اللهمّ إنّي لا أحلّها لمغتسل وهي لشارب حلّ وبلّ » فكان بعد من رامه بسوء سيئ به ، واصيب ببليّة في جسده ، فهو ماء عبد المطلب. ثمّ صار لأبي طالب ، وكان مملقا ، وكان أخوه العبّاس ذا مال فادّان منه عشرين ألفا ولم يقدر على قضائها.

فقال العبّاس : يا أبا طالب إنّه مال كثير ولا قضاء عندك فاجعل لي ماء زمزم

__________________

(١) فرس مقلص : طويل القوائم منضمّ البطن ( لسان العرب ٧ / ٨٠ ).

(٢) رسمت الناقة : اثّرت في الأرض من شدّة وطئها ( لسان العرب ١٢ / ٢٤١ ).

(٣) الزّول : الخفيف الظريف ، والجمع أزوال ( لسان العرب ١١ / ٣١٦ ).

٣٩

بمالي عندك. فلهذا السبب صارت السقاية للعبّاس.

وقال الفضل بن العبّاس :

إنّما عبد مناف جوهر

زيّن الجوهر عبد المطّلب

نحن قوم قد بني الله لنا

شرفا فوق بيوتات العرب

برسول الله وابني عمّه

وبعبّاس بن عبد المطّلب

وبعمرو أنّ عمرا في الذرى

من بني عبد مناف والحسب

قال أبو سعيد الخركوشي فلي اللوامع وفي شرف المصطفى (١) : قال ابن عبّاس : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بني عبد المطّلب إنّي سألت الله تعالى أن يثبّت قائلكم ، وأن يهدي ضالّكم ، وأن يعلّم جاهلكم ، وسألت الله تعالى أن يجعلكم رحماء نجداء جوداء نجباء ، فلو أنّ امرأ صفّ قدميه بين الركن والمقام فصلّى وصام ثم لقي الله عزّ وجلّ وهو لأهل بيت محمّد مبغض دخل النار.

وفي اللوامع أيضا : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتروني يا بنيّ عبد المطّلب إذا أخذت حلقة باب الجنّة مؤثرا عليكم أحدا.

وعنه عليه‌السلام : من أولى رجلا من بني عبد المطّلب معروفا في الدنيا فلم يقدر أن يكافئه كافأته عنه يوم القيامة.

كتاب مدينة العلم : قال الصادق عليه‌السلام : يحشر عبد المطلب يوم القيامة أمّة وحده ، عليه سيماء الأنبياء ، وهيبة الملوك (٢).

وقال عليه‌السلام : إنّ عبد المطلب حجّة وأبو طالب وصيّه. انتهى.

وأنفذ ابرهة حيّاطة الحميري ليرد بسيّد قريش ، فكان يعدّ بعسكر ، فلمّا رأى

__________________

(١) اللوامع وشرف المصطفى لأبي سعيد عبد الملك بن عثمان الخركوشي الواعظ المتوفى سنة ٤٠٦ هجرية. ( كشف الظنون : ج ٢ ص ١٥٦٩ ).

(٢) مدينة العلم للشيخ الصدوق : مفقود. قال عنه صاحب الذريعة في ج ٢٠ ص ٢٥٢ : وينقل عنه الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الفقيه الشامي تلميذ المحقق الحلي وابن طاوس وغيرهما في كتابه « الدر النظيم » في مناقب الأئمة.

٤٠