الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي

الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

المؤلف:

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-064-3
الصفحات: ٨٣٢

إنّ هذا الأعرابي صادني ولي خشفان (١) في البرّية ، وقد تعقّد اللبن في أخلا في فلا هو يذبحني فأستريح ولا يدعني فأرجع الى خشفيّ في البرّية.

فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن تركتك ترجعين؟

قالت : نعم وإلاّ عذّبني الله عذاب العشّار.

فأطلقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم تلبث أن جاءت تلمظ فشدّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وأقبل الأعرابي ومعه قربة ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تبيعها. فقال : هي لك يا رسول الله. فأطلقها.

قال زيد بن أرقم : فأنا والله رأيتها تسبّح في البرّية وهي تقول : لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله (٢).

حدّث ابن عبّاس قال : جاء رجل الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له : ما هذا الذي يقوله قومك؟

قال : وحول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعذاق قال : فقال له : هل اريك آية؟ قال : بلى.

قال : فدعا عذقا منها فأقبل يخدّ الأرض ويسجد ويرفع رأسه حتّى وقف بين يديه ، ثمّ أمره فرجع.

قال : فخرج العامريّ وهو يقول : يا آل عامر بن صعصعة والله لا اكذّبه بشيء يقوله أبدا (٣).

حدّث عبد الله بن مسعود أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى صلاة العشاء ثمّ انصرف فأخذ بيدي فخرج بي الى أبطح مكّة وأجلسني وخطّ عليّ خطّا ثمّ قال : لا تبرح ويحك فإنّه سينتهي إليك رجال فلا تكلّمهم فإنّهم لن يكلّموك. ثمّ انطلق رسول الله عليه‌السلام حتّى لم أره ، فبينا أنا كذلك إذا أنا برجال كأنّهم الزطّ شعورهم وأجسامهم لا أرى عورة ولا أرى بشرا.

__________________

(١) الخشف : ولد الغزال يطلق على الذكر والانثى ، والجمع : خشوف.

(٢) بحار الأنوار : ج ١٧ ص ٤٠٢ باب ٥ ح ١٩.

(٣) بحار الأنوار : ج ١٧ ص ٣٦٨ باب ٤ ح ١٧.

١٤١

قال : فجعلوا ينتهون الى الخطّ فلا يجوزونه. قال : ثمّ يصدرون الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى إذا كان في آخر الليل جاء رسول الله وأنا في خطّي فقال : لقد آذاني هؤلاء هذه الليلة. ثمّ دخل عليّ في خطّي فتوسّد فخذي ثمّ رقد ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نام ينفخ في النوم نفخا.

قال : فبينا أنا كذلك إذا برجال عليهم ثياب بيض ، الله أعلم ما بهم من الجمال ، فقعد طائفة منهم عند رأسه ، وقعد طائفة منهم عند رجليه ، فقالوا بينهم : ما رأينا عبدا اوتي ما اوتي هذا ، إنّ عينيه لتناما وقلبه يقظان ، اضربوا له مثلا سيّدا بنى قصرا ثمّ جعل مأدبة فدعا الناس الى طعامه وشرابه ، فمن أجابه أكل من طعامه وشرب من شرابه ، ومن لم يجبه عاقبه أو قال عذّبه.

قال : ثمّ ارتفعوا. فاستيقظ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ذلك ، فقال : أمّا انّي قد سمعت ما قالوا فهل تدري من هم؟

قلت : الله ورسول أعلم.

قال : إنّهم الملائكة ، وقال : تدري المثل الذي ضربوه ، هو الرحمن عزّ وجلّ بنى الجنّة فدعا إليها عباده ، فمن أجابه دخل جنّته ، ومن لم يجبه عذّبه أو قال عاقبه.

وقيل : مرّ أعرابي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : أين تريد؟

قال : أهلي.

فقال له : هل لك في خير الدنيا والآخرة؟

قال : وما هو؟

قال : تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله. قال الأعرابي : من الشاهد على ما تقول؟

قال : هذه ، يعني السدرة. فدعاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي شطبا (١) لوادي ، فجاءت تخدّ الأرض حتّى قامت بين يديه ، فاستشهدها ثلاثا ، فشهدت له كما قال ، ثمّ أمرها فرجعت الى منبتها.

__________________

(١) الشطب : الأخضر الرطب من جريد النخل.

١٤٢

ورجع الأعرابي فقال : آتي قومي فإن بايعوني أتيتك بهم ، وإن لم يفعلوا رجعت إليك وكنت معك (١).

وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أراد حاجة أبعد المشي ، فأتى يوما واديا لحاجته ونزع خفّيه فقضى حاجته ثمّ توضّأ ولبس خفّه الأيمن ، وجاء طائر أخضر فحمل الخفّ الآخر فارتفع به ثمّ طرحه فخرج منه أسود سالخ ، فلمّا رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : هذه كرامة أكرمني الله بها ، اللهمّ إنّي أعوذ بك من شرّ من يمشي على بطنه ومن شرّ كلّ ذي شرّ ومن شرّ كلّ دابّة أنت آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط مستقيم (٢).

قال أنس بن مالك : اهدي الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طير ، فقال : اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر. فجاء عليّ عليه‌السلام فدقّ الباب ، فرددته رجاء أن يكون رجلا من الأنصار. ثمّ جاء الثالثة فقال : يا أنس افتح له ففتحت له ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهمّ وإليّ اللهمّ وإليّ (٣).

وفي رواية اخرى : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأنس : يا أنس لم رددت عليّا ثلاثا عنّي وقد سمعتني أدعو ما أدعو؟

قال أنس : بأبي أنت وامّي يا رسول الله ما حملني على ذلك كفرا به ولا بغضا له ، لكنّي سمعتك تدعو فتمنّيت أن يكون ذلك الرجل من قومي فأشرف به ، فأبى الله عزّ وجلّ إلاّ أن يجعله حيث أراد.

قال : فو الله ما سبّني ولا هجرني ولا قطّب في وجهي ولكنّه تبسّم ثمّ قال : الرجل يحبّ قومه (٤).

قال إبراهيم بن الحسن ، عن فاطمة بنت علي ، عن أسماء بنت عميس : قالت :

__________________

(١) الخرائج والجرائح : ج ١ ص ٤٣ ح ٥٢.

(٢) بحار الأنوار : ج ٩٥ ص ١٤١ باب ١٠٣ ح ٤.

(٣) بحار الأنوار : ج ٣٨ ص ٣٥٦ ـ ٣٥٧ باب ٦٩ ح ٩.

(٤) لم نعثر عليه في مظانه.

١٤٣

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزل عليه الوحي يكاد أن يغشى عليه ، فنزل عليه الوحي يوما ورأسه في حجر عليّ عليه‌السلام فلم ينتبه إلاّ غروب الشمس ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صلّيت العصر يا عليّ؟ فقال : لا يا رسول الله.

قالت : فدعا الله جلّ جلاله فردّ عليه الشمس حتى صلّى العصر.

قالت : فرأيت الشمس بعد ما غابت ردّت عليه حتّى صلّى العصر (١).

وفيه : وقال مطر الاسكيف (٢) بحذف الإسناد ، عن أنس بن مالك ، قال : انّه لمّا ردّت الشمس على عليّ عليه‌السلام قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى شبّهتك بيوشع بن نون وسليمان بن داود في ردّ الشمس عليهما ، والذي بعثني بالحقّ ليردّنّها عليك بعدي كما ردّها في حياتي ، فابشر يا عليّ فإنّك كريم على ربّك لكرامتي عليه ، وأنت أخي ووصيّي وخير الخلق بعدي.

حدّث ثابت ، عن عبد الرحمن بحذف الإسناد ، عن سلمان الفارسي أنّه قال : كنت ذات يوم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أقبل أعرابي على ناقة له حتّى أناخها بالقرب منّا ، ثمّ نزل عنها وأخذ بخطامها وأقبل يقودها نحو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ وقف وسلّم ثمّ قال : يا قوم أيّكم محمّد؟ فأومأنا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأصابعنا. فعقل ناقته وجثا بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قال : يا محمّد أخبرني بما في بطن ناقتي هذه حتى أعلم أنّ الذي جئت به حقّ وأومن بإلهك وأقرّ بك واتّبعك ، وإن لم تخبرني علمت أنّ الذي جئت به باطل ولم أومن بإلهك ولم أقرّ بك ولم اتّبعك.

قال سلمان : فالتفت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : يا حبيبي وصفيّي أخبر الأعرابي بما في بطن ناقته بإذن الله تعالى.

قال سلمان : فوثب عليّ من بين يدي النبيّ فأخذ بخطام الناقة فأثارها ثمّ مسح يده على نحرها وعلى خواصرها ثمّ رفع طرفه نحو السّماء وهو يقول : اللهمّ إنّي أسألك بأدنى علمك وأقصاه ، وبحقّ أقربه وأعلاه ، وبحقّ محمّد وأهل بيت

__________________

(١) مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي : ص ٩٦ ح ١٤٠.

(٢) في البحار : قطرب بن عليف ( عطيف خ ل ).

١٤٤

محمّد أسألك بهم وبأسمائك الحسنى وبكلماتك التامّات العلى لما أنطقت هذه الناقة حتّى تخبر بما في بطنها.

قال سلمان : فإذا الناقة قد التفتت الى عليّ عليه‌السلام وهي تقول : يا أمير المؤمنين انّه قد ركبني ذات يوم وهو يريد زيارة ابن عمّ له ، فلمّا انتهى بي الى واد يقال له وادي الحسك نزل عنّي و

أبركني وواقعني وأنا حامل منه.

فقال الأعرابي : ويحكم أيّكم النبيّ هذا أم هذا؟

فقيل له : هذا النبيّ وهذا أخوه وابن عمّه. فقال الأعرابي : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك يا محمّد رسول الله وأنّ هذا الفتى حقيق بمقامك من بعدك. فأسلم الأعرابي وحسن إسلامه وسأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأل الله تعالى أن يكفيه ما في بطن ناقته ، فكفاه الله ذلك (١).

حدّث عبد الملك بن المغيرة بن سعيد بحذف الإسناد ، عن محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم‌السلام ، قال : حدّثتني أمّ سلمة رضي الله عنها أنّها كانت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نصف النهار إذ أقبل ثلاثة من أصحابه ، فقالوا : ندخل يا رسول الله ، فصيّر ظهره الى ظهري ووجهه إليهم. فقال الأوّل منهم : يا محمّد زعمت أنّك خير من إبراهيم ، وإبراهيم اتّخذه الله خليلا ، فأيّ شيء اتّخذك؟

فقال له : ويلك أكفر بعد إيمان! اتّخذني صفيّا ، والصفيّ أقرب من الخليل.

فقام الثاني فقال : يا محمّد زعمت أنّك خير من موسى ، وموسى كلّمه الله تكليما ، فأنت متى كلّمك؟

فقال له : ويلك موسى كلّمه ربّه في الأرض من وراء حجاب ، وأنا كلّمني من تحت سرادق عرشه.

فقام إليه الثالث فقال : يا محمّد زعمت أنّك خير من عيسى ، وعيسى أحيى الموتى ، فأيّ شيء أحييت ميّتا؟

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤١ ص ٢٣٠ ـ ٢٣١ باب ١١١ ح ١.

١٤٥

قالت : فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى تصبّب عرقا ، فصفّق بيديه وقال : يا عليّ يا عليّ ، فإذا عليّ عليه‌السلام مشتمل بشملة له وهو يقول : لبّيك لبّيك يا رسول الله.

فقال له : من أين أقبلت يا أمير المؤمنين؟

قال : كنت في بستان أنضح على نخلي إذ سمعت صوتك وتصفيقك.

فقال له : ادن منّي ، فو الذي نفس محمّد بيده ما ألقى الصوت في مسامعك إلاّ جبرئيل.

قالت : فأقبل عليّ يدنو إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورسول الله يدنيه حتى أدخله في قميصه ، فأخرج رأسه من جيب رسول الله ثمّ كلّمه بكلمات لم نسمعها ، ثمّ قال له :

قم يا حبيبي فالبس قميصي هذا وانطلق بهم الى قبر يوسف بن كعب فأحيه لهم بإذن الله محيي الموتى.

قالت أمّ سلمة : فخرجوا أربعة معا ، وأقبلت أتلوهم حتى انتهى الى بقيع العرقد ، فانتهى بهم الى قبر دراس ، فدنا منه وتكلّم بكلمات وأمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتصدّع القبر ، ثمّ أمره ثانيا فتصدّع القبر ، ثمّ أمره ثالثا وركله برجله وقال له : قم بإذن الله محيي الموتى ، فإذا شيخ ينفض التراب عن رأسه ولحيته وهو يقول : يا أرحم الراحمين ، ثمّ التفت الى القوم كأنّه عارف بهم وهو يقول : ويلكم أكفر بعد إيمان ، أنا يوسف بن كعب صاحب أصحاب الاخدود ، أماتني الله منذ ثلاثمائة وستين سنة حتى كان الساعة إذا أنا بهاتف قد هتف بي وهو يقول : قم فصدّق سيّد ولد آدم فقد كذّب.

فقال بعضهم لبعض : ارجعوا بنا لا يعلم بنا صبيان قريش يرجمونا بالحجارة.

وقالوا : ناشدناك الله يا أمير المؤمنين لما رددته.

قالت : فأمره عن رسول الله على جهة وتكلّم بكلام لا أفهمه ، فإذا الرجل قد رجع الى قبره ، فرمى عليه التراب ورجع ، ورجعت الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

حدّث أبو يعقوب يوسف بن القاسم الصفّار وقال : حدّثنا منصور الرماديّ ، قال : دخلت صنعاء اليمن مع جماعة من أصحاب الحديث لتعذّر عليّ أمر

١٤٦

عبد الرزاق ، وجلست في مسجد جامعها أؤدّب الصبيان سنة لا أرزاهم شيئا ولا أقبل منهم برّا ، فمشى إليّ آباؤهم فقالوا : وجب حقّك علينا ، تؤدّب أولادنا ولا ترزأنا شيئا ولا تقبل منّا هديّة.

فقلت : إنّي في كفاية ، والذي خرجت له غير هذا.

قالوا : ولم خرجت؟

قلت : لعبد الرزّاق.

فقالوا : علينا أن نأتيك به ، فمضوا بأجمعهم الى عبد الرزّاق ، فقالوا له : إن أردت مكافأتنا يوما فاليوم رجل طوى علينا من العراق يؤدّب أولادنا ويعلّمهم كتاب الله ولا يرزؤنا شيئا ولا يقبل منّا برّا وقد أحببنا أن نكافئه.

فقال عبد الرزّاق : قوموا بنا إليه ، فقام عبد الرزّاق مع القوم ، فلمّا رأيته على باب المسجد وثبت إليه حافيا حاسرا ، فأخذ بيدي وقال : وجب حقّك عليّ وعلى القوم فامض معي ، فمضيت معه الى منزله ، فقال لي : ترى ما هاهنا من العلم.

فقلت : نعم جعله الله حجّة لك ولا جعله حجّة عليك. فقال لي : قد ألحتك فسل عمّا بدا لك.

فقلت : خصّني بغرائبه.

فقال : لاحدّثك بحديث كان عندي في التخت المخزون : حدّثني معمّر ، عن الزهريّ ، عن سعيد بن المسيّب ، قال : إنّ السماء طشّت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلا ، فلمّا أصبح قال لعليّ : يا عليّ امض بنا الى العقيق ننظر الى حسن الماء في حفر الأرض.

قال علي عليه‌السلام : على يدي ، فمضينا فلمّا وصلنا الى العقيق نظرنا الى صفاء الماء في حفر الأرض ، فقلت : يا رسول الله لو أعلمتني من الليل اتّخذت لك سفرة من الطعام تصيب منها هاهنا.

فقال لي : يا علي إنّ الذي خرجنا إليه لا يضيّعنا ، فبينا نحن وقوف إذا نحن بغمامة قد أظلّتنا تبرق وترعد حتى قربت منّا ، فألقت بين يدي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفرة

١٤٧

عليها رمّان لم تر العيون مثله ، على كلّ رمّانة ثلاثة أقشار : قشر من اللؤلؤ ، وقشر من الذهب ، وقشر من الفضّة. فقال لي : بسم الله كل يا علي هذا أطيب من سفرتك.

فكسرنا عن الرمّان فإذا فيه ثلاثة ألوان من الحبّ : حبّ كالياقوت الأحمر ، وحبّ كاللؤلؤ الأبيض ، وحبّ كالزمرّد الأخضر فيه طعم كلّ شيء من اللذّة. فلمّا أكلت ذكرت فاطمة والحسن والحسين فضربت بيدي الى ثلاث رمّانات فوضعتهنّ في كمّي ثمّ رفعت السفرة ثمّ انقلبنا الى منازلنا ، فلقينا أبا بكر وعمر ، فقال أبو بكر : من أين أقبلت يا رسول الله؟

قال : من العقيق.

قال : لو علمنا لأعددنا لك سفرة تصيب منها.

قال : إنّ الذي خرجنا إليه ما أضاعنا.

فقال عمر : يا أبا الحسن إنّي أجد رائحة طيّبة منكما ، فهل كان ثمّ من طعام ، فضربت بيدي الى كمّي لاعطي أبا بكر وعمر رمّانة فلم أجد في كمّي شيئا ، فاغتممت من ذلك ، فلمّا افترقنا ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى منزله وقربت من باب دار فاطمة عليها‌السلام استأذنت للدخول فأذنت لي ، فرأيت في كمّي ، خشخشة ، فنظرت فإذا الرمّان ، فدخلت فألقيت رمّانة الى فاطمة واخرى الى الحسن والثالثة الى الحسين ، ثمّ خرجت اريد النبيّ عليه‌السلام ، فلمّا رآني قال : يا أبا الحسن تحدّثني أم احدّثك؟

قلت : حدّثني يا رسول الله فإنّ حديثك أشفى لغليلي.

قال : سألك أبو بكر وعمر عن الرائحة التي وجداها منّا فضربت بيدك الى كمّك لتتحفهما برمّانة فلم تر شيئا ، فلمّا وصلت الى منزلك أصبت رمّانا فأتحفت فاطمة برمّانة والحسن والحسين برمّانتين.

فقال عليّ : نعم يا رسول الله كأنّك كنت معي.

قال : نعم يا أبا الحسن إنّ جبرئيل حدّثني أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إليه أن ينزّل علينا بالعقيق من رمّان الجنّة ، وأمرني أن لا يأكل منه إلاّ نبيّ أو وصيّ أو ابنة نبيّ

١٤٨

أو سبطا نبيّ. فلمّا هممت أن تخصّ أبا بكر وعمر برمّانة فاختطفها جبريل عليه‌السلام من كمّك ، فلمّا وصلت الى منزلك أعادها إليك ، فهنيئا لك ولولدك يا أبا الحسن ولزوجتك.

ثمّ ضرب عبد الرزّاق على كتفي وقال لي : عراقيّ هذا من الجوهر المخزون احتفظ به واعقل من تحدّث به.

قال الرمادي : فكان هذا الحديث أحبّ إليّ من الذهب والفضّة لو أحرزتهما.

* * *

فصل

في غزواته عليه‌السلام التي باشرها بنفسه

وهي : بدر الكبرى ، احد ، الخندق ، بنو قريظة ، بنو المصطلق ، الحديبيّة ، خيبر ، الفتح ، حنين ، الطائف.

غزاة بدر

وغزاة بدر هو يوم الفرقان (١).

وبدر موضع بين مكّة والمدينة.

وقال الشعبي والثمالي : هي بئر منسوبة الى بدر الغفاري (٢).

وقال الواقدي : هو اسم لموضع (٣).

وذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمع بقدوم أبي سفيان من الشام في عير قريش فندب عليه‌السلام المسلمين إليهم ، وقال : هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها ، فانتدب الناس فخفّ بعض وثقل بعض ، فخرج في سابع شهر رمضان أو ثالثه

__________________

(١) اشارة الى قوله تعالى : ( وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ).

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٨٧.

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٨٧.

١٤٩

في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، فاخبر أبو سفيان بخروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذ بالعير على الساحل واستصرخوا أهل مكّة على لسان أبي ضمضم بن عمرو الغفاري.

وقيل : وكانت عاتكة بنت عبد المطّلب قد رأت قبل قدوم أبي ضمضم بثلاثة أيّام رؤيا أفزعتها ، فبعثت الى أخيها العبّاس فقالت له : والله يا أخي لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني وتخوّفت أن يدخل على قومك منها شرّ فاكتم عليّ احدّثك.

فقال : وما رأيت؟

قالت : راكبا أقبل على بعير له فوقف بالأبطح ثمّ صرخ بأعلى صوته أن انفروا يا آل غدر لمصارعكم ، ثمّ نادى على ظهر الكعبة ، ثمّ نادى على أبي قبيس ، ثمّ أرسل صخرة فارفضّت فما بقي في مكّة بيت إلاّ دخل منها فلذة (١).

ثمّ خرج العبّاس وقد ارتاع فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان له صديقا فذكرها له واستكتمه إيّاها ، فذكرها الوليد لأبيه عتبة ، فنما الحديث حتى تحدّثت به قريش.

قال العبّاس : فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام ورهط من قريش قعود يتحدّثون برؤيا عاتكة ، فلمّا رآني أبو جهل قال : يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا. فلمّا حضرتهم قال أبو جهل : يا بني عبد مناف متى حدثت فيكم هذه النبيّة؟

قلت : وما ذاك؟

قال : الرؤيا التي رأت عاتكة. وقال : يا بني عبد المطّلب ما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ، قد زعمت عاتكة في رؤياها أنّه قال انفروا الى مصارعكم ثلاثا فسنتربّص بكم هذه الثلاث ، فإن كان ما قالت حقّا فسيكون ، وإن كان باطلا كتبنا عليكم كتابا أنكم أكذب بيتا في العرب.

قال العبّاس : فو الله ما كان منّي إليه كثير غير أنّي جحدت وأنكرت أن تكون رأت شيئا. ثمّ تفرّقنا.

__________________

(١) الفلذة : القطعة ( لسان العرب ٣ / ٥٠٢ ).

١٥٠

فلمّا أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطّلب إلاّ أتتني فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ثمّ يتناول النساء وأنت تسمع ولم يكن عندك شيء غير ما سمعت.

قال العبّاس : فقلت : قد كان هذا وأيم الله لأتعرضنّ له ، فإن عاد لأكفيتكموه.

قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أن قد فاتني أمرا احبّ أن ادركه منه.

قال : فدخلت المسجد فرأيته ، فو الله انّي لأمشي نحوه ليعود لبعض ما قال فأقع فيه ، فإذا هو وقد خرج نحو باب المسجد يشتدّ ، فقلت في نفسي : ما له لعنه الله أكلّ هذا فرقا من أن اشتمه ، فإذا هو قد سمع ما لم أسمعه صوت أبي ضمضم بن عمرو وهو يقول ببطن الوادي : يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم أموالكم مع أبي سفيان فقد عرض لها محمّد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث ، قال : فشغلني عنه وشغله عنّي ما جاء من الأمر. قال : فتجهّز الناس سراعا (١).

وخرج تسعمائة وخمسون ، ويقال : ألف ومائتان وخمسون ، ويقال : ثلاثة آلاف ومعهم مائتان فرس يقودونها ، والقيان (٢) يضربن بالدفوف ويتغنّين بهجاء المسلمين ، ولم يبق من قريش بطن إلاّ خرج منها ناس إلاّ من بني زهرة وبني عدي بن كعب ، واخرج فيهم طالب كرها فلم يوجد في القتلى والأسرى.

وشاور النبيّ أصحابه في لقائهم أو الرجوع ، فقال أبو بكر وعمر كلاما فأجلسهما ، ثمّ قال المقداد وسعد بن معاذ كلاما فدعا لهما وسرّ ، ونزل : ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ) (٣) وأصابهم المطر فبعثوا عمير بن وهب الجمحي حتّى طاف على عسكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : نواضح يثرب ، فنزل : ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ) (٤).

__________________

(١) البداية والنهاية : ج ٣ ص ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٢) القيان : جمع قينة وهي المغنّية.

(٣) آل عمران : ١٤٤.

(٤) الأنفال : ٦٣.

١٥١

فبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا معشر قريش إنّي أكره أن أبدأ بكم فخلّوني والعرب وارجعوا.

فقال عتبة : ما ردّ قوم هذا فأفلحوا.

فقال له أبو جهل : جبنت ، وانتفخ سحرك (١).

فلبس عتبة درعه وتقدّم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد ، وقال : يا محمّد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش.

فتطاولت الأبصار لمبارزتهم ، فمنعهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال لهم : إنّ القوم دعوا الأكفاء منهم. ثمّ أمر عليّا عليه‌السلام بالبروز إليهم ، ودعا حمزة بن عبد المطّلب وعبيدة ابن الحارث رحمهما الله أن يبرزا معه.

فلمّا اصطفّوا لهم لم يتبيّنهم القوم لأنّهم كانوا قد تغفروا ، فسألوهم : من أنتم؟

فانتسبوا لهم. فقالوا : أكفاء كرام. ونشبت الحرب بينهم ، وبارز الوليد عليّا عليه‌السلام فلم لبث حتّى قتله ، وبارز عتبة حمزة رضي‌الله‌عنه فقتله حمزة ، وبارز شيبة عبيدة رحمه‌الله فاختلفت بينهما ضربتان قطعت إحداهما فخذ عبيدة ، فاستنقذه أمير المؤمنين بضربة بدر بها شيبة فقتله وشركه في ذلك حمزة رحمه‌الله (٢).

ثمّ بارز أمير المؤمنين عليه‌السلام العاص بن سعيد بن العاص بعد أن أحجم عنه من سواه ، فلم يلبث إلاّ أن قتله. وبرز إليه حنظلة بن أبي سفيان فقتله. وبرز بعده طعيمة بن عدي فقتله. وقتل بعده نوفل بن خويلد وكان من شياطين قريش. ولم يزل عليه‌السلام يقتل واحدا منهم بعد واحد حتى أتى على شطر المقتولين منهم وكانوا سبعين قتيلا ، وتولّى كافّة من حضر بدرا من المسلمين مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسوّمين الشطر الآخر ، وكان قتل أمير المؤمنين للشطر بمعونة الله تعالى له وتوفيقه وتأييده ونصره ، وكان الفتح له بذلك وعلى يديه.

__________________

(١) السحر بفتح السين وسكون المهملة : الرية ، وانتفخ سحره أي جبن ، كأنّ الخوف ملأ جوفه فانتفخ سحره.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٨٧ ـ ١٨٨.

١٥٢

وختم الأمر بمناولة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفّا من الحصى فرمى بها في وجوههم وقال لهم : شاهت الوجوه ، فلم يبق أحد منهم إلاّ ولّى الدّبر لذلك منهمزما ، وكفى الله المؤمنين القتال بأمير المؤمنين عليه‌السلام.

عن الكلبي وأبي جعفر وأبي عبد الله قالوا (١) : كان إبليس لعنه الله في صفّ المشركين آخذا بيد الحارث بن هشام فنكص على عقبيه ، فقال له الحارث يا سراقة : الى أين أتخذلنا ونحن على هذه الحالة؟

فقال : إنّى أرى ما لا ترون.

فقال : والله ما ترى إلاّ جعاسيس (٢) يثرب. فدفع في صدر الحارث وانهزم ، وانهزمت قريش.

فلمّا قدموا مكّة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني فراركم (٣).

وقال علي بن عبّاس في قوله : ( مُسَوِّمِينَ ) (٤) أنّه كان عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم (٥).

وقال عروة : كانوا على خيل بلق وعليهم عمائم صفر (٦).

وقال الحسن وقتادة : كانوا قد أعلموا الصوف في نواصي الخيل وأذنابها.

عن ابن عبّاس رضي‌الله‌عنه أنّه سمع غفاري في سحابة حمحمة الخيل وقائل يقول : أقدم حيزوم (٧) ، وحيزوم اسم فرس جبرئيل.

عن البخاري : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر : هذا جبريل أخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب (٨).

__________________

(١) في نسخة الأصل : قال.

(٢) الجعاسيس : جمع الجعسوس بضم الجيم وهو القصير أو قبيح المنظر.

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٨٨.

(٤) آل عمران : ١٢٥.

(٥) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٨٨.

(٦) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٨٩.

(٧) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٨٩.

(٨) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٨٩.

١٥٣

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما : لم تقاتل الملائكة إلاّ يوم بدر ، وإنّما أتوا بالمدد في غيرها (١).

وكانت الراية في يوم بدر مع عليّ عليه‌السلام ، وكان لواؤه مع مصعب بن عمير ، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة (٢).

ولمّا أمسى يوم بدر والاسارى محبوسون في الوثاق بات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساهرا أوّل ليله ، فقال له أصحابه : مالك لا تنام؟ فقال : سمعت تضوّر العبّاس في وثاقه. فقاموا الى العبّاس فأطلقوه فنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

وكان الذي أسر العبّاس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة ، وكان مجموعا ، وكان العبّاس رجلا جسيما فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أبا اليسر كيف أسرت العبّاس. فقال : يا رسول الله أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده ، هيئة كذا وهيئة كذا. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد أعانك عليه ملك كريم.

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعبّاس حين انتهى به الى المدينة : أفد نفسك وابني أخيك عقيل بن ابي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمر بن حجدم أخا بني الحارث بن فهر فإنّك ذو مال فأفد نفسك.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخذ منه عشرين اوقية ذهبا. فقال العبّاس : يا رسول الله أحسبها لي فداي.

قال : لا ذاك شيء أعطاناه الله عزّ وجلّ منك.

قال : فإنّه ليس لي مال.

قال : وأين المال الذي وضعته بمكّة حين خرجت عند أمّ الفضل بنت الحارث ليس معكما أحد ثمّ قلت لها : إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا ولعبد الله كذا ولقثم كذا ولعبيد الله كذا؟

قال : والذي بعثك بالحقّ ما علم هذا أحد غيري وغيرها وأنّي لأعلم أنّك

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٨٩.

(٢) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٣٢٥.

(٣) البداية والنهاية : ج ٣ ص ٢٩٩.

١٥٤

رسول الله. ففدى العبّاس نفسه وابني أخيه وحليفه (١).

عائشة : لمّا بعث أهل مكّة في فداء اسرائهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فداء أبي العاص بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة عليها‌السلام أدخلتها بها الى أبي العاص حتّى بنى عليها. فلمّا رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رقّ لها رقّة شديدة وقال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردّوا عليها مالها فافعلوا.

فقالوا : نعم يا رسول الله ، ففعلوا (٢).

وناحت قريش على قتلاهم ، ثمّ قالت : لا تفعلوا فيبلغ ذلك محمّدا فيشمت بكم (٣).

وكان الأسود بن عبد يغوث قد اصيب بثلاثة من ولده : زمعة وعقيل والحارث بني الأسود ، وكان يحبّ أن يبكي عليهم ، فبينا هو كذلك إذ سمع نائحة في الليل ، فقال لغلام له وقد ذهب بصره : انظر هل احلّ النوح؟ هل بكت قريش على قتلاها لعلّي أبكي على أبي حكيمة يعني زمعة فإنّ جوفي قد احترق؟ فلمّا رجع الغلام قال : إنّما هي امرأة ، تبكي على بعير لها أضلّته ، فذلك حين يقول :

أتبكي أن يضلّ لها بعير

ويمنعها من النوم السهود

ولا نبكي على بكر ولكن

على بدر تقاصرت الجدود (٤)

وهتف من جبال مكّة يوم بدر :

أذلّ الحنيفون بدرا بوقعة

سينقضّ منها ملك كسرى وقيصرا (٥)

أصابت رجالا من لؤيّ وجردت

حرائر تضربن الجرائد حسّرا

الا ويح من أمسى عدوّ محمّد

لقد ذاق خزيا في الحياة وخسّرا

وأصبح في هام العجاج (٦) معفّرا

تناوله الطير الجياع وتنقرا (٧)

__________________

(١) البداية والنهاية : ج ٣ ص ٢٩٩ ، بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٢٧٣ ـ ٢٧٤ باب ١٠ ح ١٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٢٤١.

(٣) السيرة النبوية لابن هشام : ج ٢ ص ٣٠٢.

(٤) السيرة النبوية لابن هشام : ج ٢ ص ٣٠٢.

(٥) في البداية والنهاية : « أزار » بدل « أذل » و « ركن » بدل « ملك ».

(٦) العجاج : الغبار ( لسان العرب ٢ / ٣١٩ ).

(٧) البداية والنهاية : ج ٣ ص ٣٠٨ مع اختلاف.

١٥٥

[ غزوة ] احد

وكانت غزوة احد في شوّال ، وهو يوم المهراس (١).

قال ابن عبّاس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة والربيع والسدّي وابن إسحاق : نزل قوله تعالى : ( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ) (٢) وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام (٣).

وعن زيد بن وهب ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ ) (٤). فقال : لم انهزمنا وقد وعدنا بالنصر؟! فنزل : ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ ) (٥) (٦).

وعن ابن مسعود والصادق عليه‌السلام : لمّا قصد أبو سفيان في ثلاثة آلاف من قريش الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويقال في ألفين ، منهم مائتا فارس والباقون ركب ، ولهم سبعمائة درع ، وهند ترتجز وتقول :

نحن بنات طارق

نمشي على النمارق (٧)

والمسك في المفارق (٨)

والدر في المخانق (٩)

وكان قد استأجر أبو سفيان يوم احد ألفين من الأحابيش (١٠) يقاتل بهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزل : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) (١١). فرأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقاتل الرجال على أفواه السكك (١٢) والضعفاء من فوق

__________________

(١) المهراس : حجر منقور يتوضّأ منه ، وماء باحد.

(٢) آل عمران : ١١٧.

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٩١.

(٤) آل عمران : ١٤٩.

(٥) آل عمران : ١٤٥.

(٦) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٩١.

(٧) النمرق والنمرقة : الوسادة الصغيرة يتكأ عليها.

(٨) والمفارق : جمع مفرق وهو من الشعر موضع افتراقه.

(٩) والمخانق : جمع المخنقة : القلادة وما يخنق به.

(١٠) الأحابيش جمع الاحبوش : الجماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة.

(١١) الأنفال : ٣٦.

(١٢) السكّة : الطريقة المصطفّة من النخل ، ومنها قيل للأزقة سكك لاصطفاف الدور فيها. النهاية لابن الأثير : ج ٢ ص ٣٨٤.

١٥٦

البيوت. فأبوا إلاّ الخروج ، فلمّا صار على الطريق قالوا : نرجع. فقال عليه‌السلام : ما كان لنبيّ إذا قصد قوما أن يرجع عنهم. وكانوا ألف رجل ، ويقال سبعمائة.

فانعزل عنهم عبد الله بن ابي السلول بثلث الناس ، فهمّت بنو حارثة وبنو سلمة بالرجوع ، وهو قوله تعالى : ( إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ ) (١) قال الجبائي : همّا به ولم تفعلاه.

فنزلوا دون بني حارثة ، فأصبح وتجاوز يسيرا ، وجعل عليه‌السلام على راية المهاجرين عليّا ، وعلى راية الأنصار سعد بن عبادة ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اخرجوا إليهم على اسم الله. فخرجنا فصففنا لهم صفّا طويلا. وأقام على الشعب خمسين رجلا من الأنصار وأمّر عليهم رجلا منهم وقال : لا تبرحوا مكانكم هذا وإن قتلنا عن آخرنا فإنّما نؤتى من موضعكم.

فأقام أبو سفيان بإزائهم خالد بن الوليد ، وكان لواء المشركين مع طلحة بن أبي طلحة ، وكان يدعى كبش الكتيبة.

ودفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لواء المهاجرين الى عليّ عليه‌السلام.

وتقدّم طلحة وتقدّم عليّ ، فقال له عليّ : من أنت؟ قال : أنا طلحة بن أبي طلحة كبش الكتيبة ، فمن أنت؟ قال : أنا عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب. ثمّ تقاربا فاختلف بينهما ضربتان ، فضربه عليّ عليه‌السلام على مقدّم رأسه فندرت عيناه وصاح صيحة لم يسمع مثلها وسقط اللواء من يده ، فأخذه أخ له يقال له مصعب ، فرآه عاصم بن ثابت فقتله. ثم أخذ اللواء أخذ له يقال له عثمان ، فرماه عاصم أيضا بسهم فقتله. فأخذه عبد لهم يقال له صوّاب وكان من أشدّ الناس ، فضربه عليّ عليه‌السلام فسقط صريعا وانهزم القوم ، وأكبّ المسلمون على الغنائم.

فلمّا رأى أصحاب الشعب ذلك قالوا لرئيسهم عمرو بن حرب : نريد أن نغنم كما غنم الناس.

فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرني أن لا افارق موضعي هذا.

__________________

(١) آل عمران : ١١٨.

١٥٧

فقالوا له : انّه أمرك وهو لا يدري أنّ الأمر يبلغ الى حيث ترى. ومالوا الى الغنائم وتركوه ، ولم يبرح هو من موضعه ، فحمل عليه خالد بن الوليد فقتله.

وجاء من ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريده ، فنظر الى النبيّ عليه‌السلام في حفّ من أصحابه فقال لمن معه : دونكم هذا الذي تطلبون. فحملوا عليه حملة رجل واحد ضربا بالسيف وطعنا بالرمح ورميا بالنبل ورضخا بالحجارة.

وجعل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقاتلون عنه حتّى قتل منهم سبعون رجلا ، وثبت منهم أمير المؤمنين وأبو دجانة وسهل بن حنيف للقوم يدفعون عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكثر عليهم المشركون ففتح رسول الله عليه‌السلام عينه وكان قد اغمي عليه ممّا ناله ، فنظر الى عليّ فقال : يا عليّ ما فعل الناس؟

قال : نقضوا العهد وولّوا الدبر.

فقال له : اكفني هؤلاء الذين قصدوا قصدي. فحمل عليهم فكشفهم ، ثمّ عاد إليه وقد حملوا عليه من ناحية اخرى فكرّ عليهم فكشفهم. وأبو دجانة وسهل بن حنيف قائمان على رأسه بيد كلّ واحد منهما سيفه ليذبّ عنه.

وثاب إليه من أصحابه المنهزمين أربعة عشر رجلا ، منهم : طلحة بن عبيد الله ، وعاصم بن ثابت. وصغد الباقون الجبل ، وصاح صائح بالمدينة : قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخذ المنهزمون يمينا وشمالا.

وكانت هند بنت عتبة جعلت لوحشي جعلا على أن يقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أو حمزة رضي‌الله‌عنه. فقال لها : أمّا محمّد فلا حيلة لنا فيه لأنّ أصحابه يطيفون به ، وأمّا عليّ فانّه إذا قاتل كان أحذر من الذئب ، وأمّا حمزة فإنّني أطمع فيه لأنّه إذا غضب لم يبصر بين يديه. وكان حمزة قد أعلم يومئذ بريشة النعام في صدره (١).

فكمن له وحشي في أصل شجرة ، فرآه حمزة فبدر إليه بالسيف فضربه ضربة

__________________

(١) الإرشاد للمفيد : ص ٤٤ ـ ٤٥.

١٥٨

أخطأت رأسه ، فزرقه وحشيّ بالحربة فوق الثدي فسقط ، وشدّوا عليه فقتلوه ، فأخذ وحشيّ الكبد فشدّ بها الى هند ، فأخذتها فطرحتها في فيها ، فصارت مثل الداعصة ـ وهي العظم المدوّر الذي يتحرّك على رأس الركبة ـ فلفظتها ، ويقال : صارت حجرا. وأتت هند وجدعت أنف حمزة واذنه وجعلتها في مخنقتها بالذريرة (١) مدّة.

فلمّا رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمزة خنقته العبرة وقال : لامثّلنّ سبعين من قريش.

فنزل : ( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ ) (٢). فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل أصبر (٣).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشغولا عنه لا يعلم ما انتهى إليه الأمر (٤).

قال زيد بن وهب : قلت لابن مسعود : انهزم الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى لم يبق معه إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأبو دجانة وسهل بن حنيف.

قال ابن مسعود : انهزم الناس إلاّ عليّ بن أبي طالب وحده ، وثاب الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفر أوّلهم عاصم بن ثابت وأبو دجانة وسهل بن حنيف ، ولحقهم طلحة بن عبيد الله.

فقلت له : فأين كان أبو بكر وعمر؟

قال : كانا ممّن تنحّى.

قلت : فأين كان عثمان؟

قال : جاء بعد ثلاثة أيّام من الوقعة ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد ذهبت فيها عريضة.

قال : قلت له : فأين كنت أنت؟

قال : كنت ممّن تنحّى.

__________________

(١) الذريرة : فتات من قصب الطيب الذي يجاء به من بلد الهند يشبه قصب النّشاب ( لسان العرب ٤ / ٣٠٣ ).

(٢) النحل : ١٢٦.

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٩٣.

(٤) الإرشاد للمفيد : ص ٤٥.

١٥٩

قال : قلت له : فمن حدّثك بهذا؟

قال : عاصم بن ثابت وسهل بن حنيف.

قال : قلت له : إنّ ثبوت عليّ في ذلك المقام لعجب.

فقال : إن تعجّبت من ذلك لقد تعجّبت منه الملائكة ، أما علمت أنّ جبريل عليه‌السلام قال في ذلك اليوم وهو يعرج الى السماء : لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي.

فقلت له : فمن أين علم ذلك من جبرئيل عليه‌السلام؟

قال : سمع الناس صائحا يصيح في السماء بذلك ، فسألوا النبيّ عليه‌السلام عنه ، فقال : ذلك جبرئيل (١).

وفي حديث عمران بن حصين قال : لمّا تفرّق الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم احد جاء عليّ متقلّدا بسيفه حتّى وقف بين يديه ، فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأسه إليه ، فقال له : مالك ما تفرّ مع الناس؟ قال : يا رسول الله أرجع كافرا بعد إسلامي؟! فأشار له الى قوم انحدروا من الجبل ، فحمل عليهم فهزمهم ، ثمّ أشار الى قوم آخر فحمل عليهم فهزمهم ثمّ اشار له الى قوم آخر فحمل عليهم فهزمهم.

فجاء جبريل عليه‌السلام الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله لقد عجبت الملائكة وعجبنا معها من حسن مواساة عليّ لك بنفسه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وما يمنعه من ذلك ، هو منّي وأنا منه.

فقال جبريل عليه‌السلام : وأنا منكما (٢).

وقد روى محمّد بن مروان ، عن عمارة ، عن عكرمة : قال : سمعت عليّا عليه‌السلام يقول : لمّا انهزم الناس يوم احد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحقني من الجزع عليه ما لم أملك معه نفسي ، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه فرجعت أطلبه فلم أجده. فقلت : ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليفرّ وما رأيته في القتلى فأظنّه رفع من بيننا ، فكسرت جفن سيفي ، وقلت في نفسي : لاقاتلنّ به عنه حتّى اقتل ، وحملت على

__________________

(١) الإرشاد للمفيد : ص ٤٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ١٢٩ باب ١١ من تاريخ نبيّنا ٦ ذيل ح ٥٠.

١٦٠