الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي

الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

المؤلف:

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-064-3
الصفحات: ٨٣٢

بالبردة التي نشّفت بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاطمة ، وحنّطاني وسجّياني على سريري ، ثمّ انظرا حتى إذا ارتفع لكما مقدّم السرير فاحملا مؤخّره.

قالت : ففعلا كما أمرهما ، فلمّا ارتفع المقدّم حملا المؤخّر قالت : فخرجت اشيّع جنازة أبي حتى إذا كنّا بظهر الغري ركز المقدّم فوضعا المؤخّر ، ثمّ اتّزر الحسن عليه‌السلام بالبردة التي نشّف بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاطمة وأمير المؤمنين عليه‌السلام ، ثمّ أخذ المعول فضربه ضربة فانشقّ القبر عن ضريح فإذا هو بساجة مكتوب عليها سطران بالسريانية : بسم الله الرحمن الرحيم هذا قبر حفره نوح عليه‌السلام لعليّ وصيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الطوفان بسبعمائة عام.

قالت أمّ كلثوم : فانشقّ القبر ولا أدري انبسّ (١) سيّدي في الأرض أم اسري به الى السماء ، إذ سمعت ناطقا يقول لنا بالعربية : أحسن الله لكم العزاء في سيّدكم وحجّة الله على خلقه (٢).

حدّث عبد الله بن محمّد بن نهيك ، عن زياد بن مروان ، عن عبد الله بن سنان ومفضّل بن عمر ، جميعا عن أبي عبد الله ، عن أبيه عليهما‌السلام ، قال : قال عليّ بن الحسين عليهما‌السلام إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال للحسن والحسين عليهما‌السلام : إذا أنا متّ فكفّنوني في أثوابي التي ادميت فيها ، ثمّ ضعوني على سريري ، وخذوا بمؤخّر السرير تكفوا مقدّمه ، فامضوا ما مضى السرير ، فإذا وضع مقدّم السرير فضعوا مؤخّره ، ثمّ علّموا موضع قوائمه ثمّ نحّوه واحتفروا تجدوا ساجة أو خشبة وضعها نوح عليه‌السلام علامة لقبري ، فكان الذين قدّام السرير يقولون : سبحانك اللهمّ أنت عزيز في سلطانك وأنت لا إله إلاّ الله ، فصلّى عليه الحسن عليه‌السلام.

وحدّث موسى بن سنان الجرجاني ، عن أحمد بن عيّاش المقري ، قال : سمعت أمّ كلثوم بنت عليّ عليهما‌السلام تقول : إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا ضربه ابن ملجم

__________________

(١) انبس : أسرع ، يقال نبس إذا أسرع. انظر لسان العرب : ( ٦ / ٢٢٥ ) وفي فرحة الغري « أغار » وفي البحار « انبشّ » أي غار بدل « انبسّ ».

(٢) فرحة الغري : ص ٣٤ ـ ٣٥ ، بحار الأنوار : ج ٤٢ ص ٢١٦ باب ١٢٧ ح ١٧.

٤٢١

لعنه الله دعا ابنيه الحسن والحسين عليهما‌السلام وأوصى إليهما ، وسلّم الى الحسن خاتمه عليه‌السلام ، وسلّم إليه سيفه ذا الفقار ، وسلّم إليه الجفرين الأبيض والأحمر ، وسلّم إليه الجامعة ، وسلّم إليه مصحف فاطمة عليها‌السلام ، ودفع إليه صحيفة مختومة فيها عهد إليه ، وأمره أن يقوم بالأمر بعده ، وأن يوصّي عند موته الى أخيه الحسين عليه‌السلام ، وأن يسلّم ذلك كلّه إليه. فقبل الحسن ذلك كلّه منه. ثمّ استأذن عليه الناس وخرجت فلا أدري ما أوصاه به بعد ذلك.

حدّث عمرو بن اليسع ، عن صفوان ، قال : جاءني سعيد الاسكاف فقال : يا بني تحمل الحديث؟ فقلت له : نعم. فقال : حدّثني أبو عبد الله عليه‌السلام أنّه لمّا اصيب أمير المؤمنين عليه‌السلام قال للحسن والحسين عليهما‌السلام : غسّلاني وكفّناني وحنّطاني واجعلاني على سريري واحملا مؤخّره تكفيا مقدّمه فإنّكما تنتهيان الى قبر محفور ولحد ملحود ولبن موضوع فالحداني واشرجا (١) اللبن عليّ وارفعا لبنة ممّا يلي رأسي وانظرا ما تسمعان.

قال : فأخذا اللبنة من عند الرأس بعد ما شرجا عليه اللبن فإذا ليس في القبر شيء وإذا هاتف يهتف : إنّ أمير المؤمنين كان عبدا صالحا فألحقه الله بنبيّه وكذلك يفعل بالأوصياء بعد الأنبياء حتى لو أنّ نبيّا مات في المشرق ومات وصيّه في المغرب لألحق الوصيّ بالنبيّ (٢).

حدّث محمّد بن عيسى ، عن عليّ بن الحكم ، عن زياد بن أبي الحلال ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما من نبيّ أو وصيّ يبقى في الأرض أكثر من ثلاثة أيّام حتى يرفع بروحه وعظمه ولحمه الى السماء ، وإنّما يؤتى مواضع آثارهم ويبلّغونهم من بعيد السلام ويسمعونهم في وضع آثارهم من قريب (٣).

قال الحسن بن عليّ الوشّاء ، قال الرضا عليه‌السلام : من زار قبر أمير المؤمنين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) شر الحجارة واللبن : نضدها وضمّ بعضها على بعض.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤٢ ص ٢١٣ باب ١٢٧ ح ١٤.

(٣) بصائر الدرجات : ص ٤٤٥ الجزء التاسع باب ١٣ ح ٩.

٤٢٢

فليصلّ عند رأسه ستّ ركعات ؛ لأنّ في قبره عظام آدم وجسد نوح وأمير المؤمنين عليه‌السلام ، فمن زار قبر أمير المؤمنين فقد زار آدم ونوحا وأمير المؤمنين صلّى الله عليهم (١).

حدّث محمّد بن عيسى ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام ، عمّن رواه قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا بعدت لأحدكم الشقّة ونأت به الدار فليعل أعلى منزله وليصلّ ركعتين وليوم بالسلام الى قبورنا فانّ ذلك يصل إلينا (٢).

وقال عبد الله محمّد اليماني ، عن متبع بن الحجاج ، عن يونس ، عن أبي وهب البصري قال : دخلت المدينة فأتيت أبا عبد الله عليه‌السلام فقلت له : جعلت فداك أتيت ولم أزر قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام. قال : بئس ما صنعت ، لو لا أنّك من شيعتنا ما نظرت إليك إلاّ تزور من يزوره عزّ وجلّ مع الملائكة ويزوره ال قلت : جعلت فداك ما علمت ذلك. قال : فاعلم أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أفضل عند الله عزّ وجلّ من الامم كلّهم وله ثواب أعمالهم ، فعلى قدر أعمالهم فضّلوا (٣).

قال ابن بابويه رض الله عنه : معنى زيارة الله عزّ وجلّ هو النظر إليه والى زوّاره بالرحمة.

حدّث خلف بن حمّاد ، عن أبي الحسن العبدي ، عن سليمان بن مهران ، عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا سيّد النبيين والمرسلين وعليّ بن أبي طالب سيّد الوصيّين ، وهو إمام المسلمين ، وأمير المؤمنين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، ويعسوب المؤمنين ، قاتله أشقى الأوّلين والآخرين شقيق قذار عاقر ناقة ثمود.

ثمّ قال عليه‌السلام : معاشر الناس إنّ عليّا منّي ، روحه من روحي ، وطينته من طينتي ، من تبعه فقد تبعني ، ومن خالفه فقد خالفني ، ومن حاربه فقد حاربني ، ومن قاتله فقاتلني ، ومن برّه فقد برّني ، ومن جفاه فقد جفاني ، ومن وصله فقد وصلني ،

__________________

(١) انظر من لا يحضره الفقيه : ج ٢ ص ٥٩٤ قطعة من ح ٣١٩٩.

(٢) كامل الزيارات : ص ٢٨٦.

(٣) كامل الزيارات : ص ٣٨.

٤٢٣

ومن قطعه فقد قطعني ، ومن لمه فقد ظلمني ، ومن أنصفه فقد أنصفني ، ومن أطاعه فقد أطاعني ، ومن عصاه فقد عصاني.

وروي أنّ عليّا عليه‌السلام كان يفطر ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين وليلة عند عبد الله بن جعفر ، لا يزيد على ثلاث لقم ، ثمّ يقول : يأتيني أمر الله عزّ وجلّ وأنا خميص ، إنّما هي ليلة أو ليلتان (١).

حدّث أحمد بن النظر الحرار ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن دلدل بغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى من صارت بعد أمير المؤمنين فانّي لم أسمع لها كر؟ فقال عليه‌السلام : إنّه لمّا انصرف الحسن والحسين عليهما‌السلام من دفن أمير المؤمنين لم يجداها وأنّها فقدت مع وفاة أمير المؤمنين عليه‌السلام. قلت : جعلت فداك فهل يدرى أين توجّهت؟ : هي في روضة من رياض الجنّة مع ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العضباء يرعيان حتى توافيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليه‌السلام.

وكان عمره عليه‌السلام يوم قتل ثلاثا وستين سنة ، وكان مقامه مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة ثلاثا وعشرين سنة ، منها في ظهور رسالته ثلاث عشر سنة ، وأقام معه في المدينة عشر سنين ، وعاش بعده ثلاثين سنة ، قتله عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله ، وقبره بالغريّ من أرض النجف بظهر الكوفة.

وكنّاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا الحسن ، وأبا أبا شبّر ، وأبا شبير ، وأبا تراب ، وأبا النورين ، وأبا الريحانتين.

حدّث المأمون ، قال : حدّثني هارون الرشيد ، عن أبيه المهدي ، عن أبيه الهادي ، عن أبيه المنصور ، عن أبيه ، عن عكرمة مولى عبد الله بن عبّاس ، عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال لمّا قتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : اليوم مات ربّاني هذه الامّة.

وحدّث أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن خالد البرقي ، عن أحمد ابن يزيد النيسابوري ، قال : حدّثنا عمر بن إبراهيم الهاشمي ، عن عبد الملك

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤١ ص ٣٠٠ باب ١١٤ من تأريخ أمير المؤمنين عليه‌السلام ذيل ح ٣١.

٤٢٤

ابن عمير ، عن اسيد بن صفوان صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : لمّا كان اليوم الذي قبض فيه أمير المؤمنين عليه‌السلام ارتجّ الموضع بالبكاء ودهش الناس كيوم قبض فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وجاء رجل باك وهو مسرع مسترجع وهو يقول : اليوم انقطعت خلافة النبوّة حتى وقف على باب البيت الذي فيه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : رحمك الله أبا حسن كنت أوّل القوم إسلاما ، وأخلصهم إيمانا ، وأشدّهم يقينا ، وأحوطهم على رسول الله ، وآمنهم على أصحابه ، وأفضلهم مناقب ، وأكرمهم سوابق ، وأرفعهم درجة ، وأقربهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأشبههم به هديا وخلقا وسمتا وفعلا وأشرفهم منزلة ، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله وعن المسلمين خيرا. قويت حين ضعف أصحابه ، وبرزت حين استكانوا ، ونهضت حين وهنوا ، وألزمت منهاج رسوله إذ همّ أصحابه. كنت خليفة حقّا لم تنازع ولم تضرع (١) برغم المنافقين وغيظ الكافرين وكره الحاسدين وضغن الفاسقين ، فقمت بالأمر حين فشلوا ، ونطقت حين تتعتعوا ، ومضيت بنور الله إذا وقفوا ، فاتّبعوك فهدوا. وكنت أخفضهم صوتا وفرقا ، وأقلّهم كلاما ، وأصوبهم منطقا ، وأكثرهم رأيا ، وأشجعهم قلبا ، وأشدّهم نفسا ، وأحسنهم عملا ، وأعرفهم بالامور. وكنت والله للدين يعسوبا ، أوّلا حين تفرّق (٢) الناس وآخرا حين فشلوا. كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك عيالا ، فحملت أثقال ما عنه ضعفوا ، وحفظت ما أضاعوا ، ورعيت ما أهملوا ، وشمّرت إذ (٣) اختضعوا ، وعلوت إذ هلعوا ، وصبرت إذ جزعوا ، وأدركت إذ تخلّفوا ، ونالوا بك ما لم يحتسبوا. كنت للكافرين عذابا صبّا وللمؤمنين غيثا وخصبا ، فطرت والله نعماها ، وفزت بحناها ، وأحرزت سوابقها ، وذهبت بفضائها ، لم يقلل حجّتك ، ولم يزغ قلبك ، ولم تضعف بصيرتك ، ولم تجش نفسك ، ولم تجر. كنت كالجبل لا تحرّكه العواصف ولا يزيله العواصف ، وكنت كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضعيفا في بدنك ، قويا في أمر الله ، متواضعا في نفسك ، عظيما عند الله عزّ وجلّ ،

__________________

(١) في الأصل : لم ينازع ولم يضرع.

(٢) في الأصل : يفرّق.

(٣) في الأصل : إذا.

٤٢٥

كبيرا في الأرض ، جليلا عند المؤمنين. لم يكن لأحد فيك مهمز ، ولا لقائل فيك مغمز ، ولا لأحد فيك مطمع ، ولا لأحد عندك هوادة. الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ له بحقّه ، والقويّ العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحقّ ، والقريب والبعيد عندك سواء ، شأنك الحقّ والصدق والرفق ، وقولك حكم وحتم ، وأمرك حكم وحزم ، ورأيك علم وعزم ، فافلقت وقد نهج السبيل ، وسهل العسير ، واطفئت النيران ، واعتدل بك الدين ، وقوى بك الإيمان ، وثبتت بك الإسلام والمؤمنون ، وسبقت سبقا بعيدا ، وأتعبت من بعدك تعبا شديدا ، فحللت عن البكاء ، وعظمت رزيّتك في السماء ، وهدّت مصيبتك الأنام ، فإنا لله وإنّا إليه راجعون.

رضينا عن الله قضاء ، فو الله لن يصاب المسلمون بمثلك أبدا كنت للمؤمنين كهفا وحصنا ، وعلى الكافرين غلظة وغيظا ، فألحقك الله بنبيّه ، ولا يحرمنا أجرك ، ولا أضلّنا بعدك.

وسكت القوم حتى انقضى كلامه ، وبكى وأبكى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ طلبوه ولم يصادفوه (١).

ثعلبة الحماني قال : سمعت عليّا عليه‌السلام يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار ، وأشهد أنّه كان ممّا يشير إليّ أن قال : ليخضبنّ هذه من دم هذا ، يعني لحيته من دم رأسه.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : من أشقى الأوّلين؟ قال : عاقر الناقة. قال : فمن أشقى الآخرين؟ قال : الذي يضربك على هذا ، وأشار إلى رأسه (٢).

فكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : يا أهل العراق لوددت لو قد انبعث أشقاها فخضّب هذا من هذا ، ويشير إلى لحيته ورأسه.

وقالت أروى بنت الحارث بن عبد المطّلب ترثي عليّا عليه‌السلام ، وقيل : إنّها لأبي الأسود :

__________________

(١) الكافي : ج ١ ص ٤٥٤ باب مولد أمير المؤمنين ح ٤.

(٢) تذكرة الخواص : ص ١٧٢.

٤٢٦

ألا يا عين ويحك اسعدينا

ألا فابكي أمير المؤمنينا

رزينا خير من ركب المطايا

فارسها (١) ومن ركب السفينا

ومن لبس النعال ومن حذاها

ومن قرأ المثاني والمبينا

فلا والله لا أنسى عليّا

وحسن صلاته في الراكعينا

إذا استقبلت وجه أبي حسين

رأيت البدر داع (٢) الناظرينا

وفي شهر الصيام (٣) فجعتمونا

بخير الناس طرّا أجمعينا

فلا تشمت معاوية بن حرب (٤)

فلا قرّت عيون الشامتينا

مضى بعد النبيّ فدته نفسي (٥)

أبو حسن وخير الصالحينا

كأنّ الناس إذ فقدوا عليّا

نعام ظلّ (٦) في بلد سنينا

لقد علمت قريش حيث كانت

بأنّك خيرها حسبا ودينا (٧)

وقالت البراء اخرى ابنة صفوان ترثيه :

يا للرجال لعظم هول مصيبة

فدحت فليس مصابها بالباطل

الشمس كاسفة لفقد إمامنا

خير الخلائق والإمام العادل

يا خير من ركب المطي ومن مشى

فوق التراب بحافي أو ناعل

جاش النبيّ لقد هددت قوانا

فالحقّ أصبح خاضعا للباطل

وقالت أمّ سنان بنت خيثمة ترثيه :

أما هلكت أبا الحسين فلم تزل

بالحقّ تعرف هاديا مهديّا

فلأبكينّك ما حييت وما دعت

فوق الغصون حمامة قمريّا

قد كنت بعد محمد خلفا لنا

وأوصى إليك بنا فكنت حفيّا

__________________

(١) في المصدر : وحثحثها.

(٢) في المصدر : راق.

(٣) في المصدر : أفي الشهر الحرام.

(٤) في المصدر : ألا ابلغ معاوية بن حرب ، والصدر الموجود في المتن مذكور في آخر القصيدة وعجزه : فانّ بقية الخلفاء فينا.

(٥) في المصدر : ومن بعد النبي فخير نفس.

(٦) في المصدر : جال.

(٧) المناقب لابن شهرآشوب : ج ٣ ص ٣١٥ مع تقديم وتأخير وزيادة بيت ، وهي لأبي الأسود الدؤلي.

٤٢٧

فاليوم لا خلف يؤمّل بعده

هيهات يمدح بعده إنسيّا

وقالت الدارميّة الحجونيّة ترثيه أيضا :

صلّى الإله على جسم تضمّنه

قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحقّ لا يبغي به بدلا

فصار بالحقّ والإيمان مقرونا

فصل

في موضع قبره عليه‌السلام

روى عبيد الله بن محمّد ، عن ابن عائشة ، قال : حدّثني عبد الله بن حازم ، قال : خرجنا مع الرشيد من الكوفة نتصيّد فصرنا إلى ناحية الغريّين والثويّة ، فرأينا ظباء فرمينا عليها الصقور والكلاب فحاولوها ساعة ، ثمّ لجأت الظباء إلى أكمة فوقفت عليها فسقطت الصقور ناحية ورجعت الكلاب ، فعجب الرشيد من ذلك. ثمّ إنّ الظباء هبطن من الأكمة فعطفت الصقور والكلاب عليها ، فرجعت الظباء إلى الأكمة فرجعت عنها الصقور والكلاب ، ففعلت ذلك ثلاثا.

فقال الرشيد : اركضوا فمن وجدتم آتوني به. فأتيناه بشيخ من بني أسد.

فقال له هارون : أخبرني ما هذه الأكمة؟ قال : إن جعلت لي الأمان أخبرتك فقال له : لك عهد الله وميثاقه أن لا اهيّجك ولا اوذيك. فقال : حدّثني أبي عن آبائه أنّهم كانوا يقولون في هذه الأكمة قبر عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، جعله الله حرما لا يأوي إليه شيء إلاّ أمن. فنزل الرشيد ودعا بماء فتوضّأ وصلّى عند الأكمة وتمرّغ عليها وجعل يبكي ، ثمّ انصرفنا. قال محمّد بن عائشة : وكان قلبي لم يقبل ذلك ، فلمّا كان بعد مدّة حججت إلى مكّة فرأيت بها ياسرا من أصحاب الرشيد ، فكان يجلس معنا إذا طفنا ، فجرى الحديث يوما إلى أن قال : (١) قال لي الرشيد ليلة من الليالي وقد قدمنا من مكّة فنزلنا الكوفة : يا ياسر قل لعيسى بن جعفر فليركب.

__________________

(١) « قال » ليس في لأصل.

٤٢٨

فركبنا جميعا وركبت معهما حتى إذا صرنا إلى الغريّين ، فأمّا عيسى فطرح نفسه فنام ، وأمّا الرشيد فجاء إلى الأكمة وصلّى عندها ، فكلّما صلّى ركعتين دعا وبكى وتمرّغ على الأكمة فيقول : يا عمّ يا عمّ أنا والله أعرف فضلك وسابقتك ، بك والله جلست مجلسي الذي أنا فيه ، وأنت قلت ، ولكن ولدك يؤذونني ويخرجون عليّ ، ثمّ يقوم فيصلّي ثمّ يعيد هذا الكلام ويدعو ويبكي ، حتى إذا كان وقت السحر قال لي : يا ياسر أقم عيسى فأقمته. فقال له : يا عيسى قم صلّ عند قبر عمّك.

قال : وأي عمومتي هو؟ قال : هذا قبر عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. فتوضّأ عيسى وقام يصلّي ، فلم يزالا كذلك حتى طلع الفجر فقلت : يا أمير المؤمنين أدركك الصبح. فركبا ورجعا إلى الكوفة (١).

وروى منصور بن عمّار قال : سبحت على شط البحر فأتيت على دير ، وفي الدير صومعة ، وفيها راهب ، فناديته فأشرف عليّ ، فقلت له : من أين يأتيك طعامك؟ قال : من مسيرة شهر. قلت : حدّثني بأعجب ما رأيت من هذا البحر؟ قال : ترى تلك الصخرة ، وأومأ بيده إلى صخرة في وسط البحر. قلت : نعم. قال : يخرج من البحر في كلّ يوم طير مثل النعامة فيقع عليها ، فإذا استوى واقفا قاء رأسا ثم يدا ثمّ رجلا ثمّ يلتم الأعضاء بعضها إلى بعض ، ثمّ يستوي إنسانا قاعدا ، ثمّ يهمّ بالقيام ، فإذا همّ بالقيام نقر نقرة فأخذ رأسه ثمّ أخذ عضوا عضوا كما كان ، فلمّا إن طال عليّ ذلك ناديته يوما وقد استوى جالسا : من أنت؟ فالتفت وقال : هذا عبد الرحمن بن ملجم قاتل عليّ بن أبي طالب وكلّ الله تعالى به هذا الطير فهو يعذّبه إلى يوم القيامة (٢).

فصل

في ذكر أولاده عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام

ولد له عليه‌السلام من فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحسن والحسين وزينب وأمّ كلثوم.

__________________

(١) الإرشاد : ص ١٩ ـ ٢٠.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ٢ ص ٣٤٦.

٤٢٩

وكان له من خولة الحنفيّة : محمّد.

وكان له من أمّ البنين الكلابية : العبّاس وعبد الله وجعفر وعثمان.

وكان له من ليلى بنت مسعود الدارميّة : محمّد الأصغر المكنّى أبا بكر ، وعبد الله.

وكان له من أمّ حبيب التغلبيّة : عمر ورقيّة.

وكان له من أسماء بنت عميس الخثعميّة : يحيى وعون.

وكان له خديجة وأم هاني وميمونة وفاطمة لأمّ ولد.

وكان له من أمّ شعيب المخزوميّة : أمّ الحسن ، ورملة.

وأعقب لأمير المؤمنين عليه‌السلام من البنين خمسة : الحسن والحسين ومحمّد والعباس وعمر.

فأما الحسن والحسين عليهما‌السلام فيأتي ذكر كلّ واحد منهما منفردا في بابه ، ويذكر في هذا الموضوع محمّد والعباس وعمر.

ذكر محمّد بن الحنفيّة.

لمّا رأى عبد الله بن الزبير أنّه قد صفا له العراقان البصرة والكوفة بقتل المختار بن أبي عبيد وعبيد الله بن الحرّ أرسل إلى محمّد بن الحنفيّة بأخيه عروة بن الزبير أن هلمّ فبايع فقد قتل الله الكذّاب وابن الحرّ المرتاب والامّة قد استوسقت والبلاد قد افتتحت فادخل فيما دخل فيه الناس من أمر البيعة فالامناء قد بداوك.

قال : فغضب محمّد بن الحنفيّة من ذلك ، ثمّ أقبل على عروة بن الزبير فقال له : بؤسا لأخيك ما ألحّه في إسخاط الله تعالى وأغفله عن طاعة الله تعالى (١) ، أنا ابايع أخاك وعبد الملك بن مروان بالشام يرعد ويبرق.

قال : ثمّ وثب رجل من أصحابه إليه فقال له : جعلت فداك يا ابن أمير المؤمنين عليّ الرضي وابن عم النبيّ والله ما الرأي عندنا إلاّ أن نوثق هذا هذه الساعة

__________________

(١) الى هنا في أنساب الأشراف للبلاذري : ج ٣ ص ٢٨٨.

٤٣٠

في الحديد ونحبسه عندك فإن أمسك عنك أخوه وبعث إليك بالرضى وإلاّ قدّمت هذا وضربت عنقه.

فقال محمّد : سبحان الله أو يكون الذي ذكرت إلاّ من أعمال الجبّارين وأهل الغدر ، معاذ الله أن نقتل من لم يقتلنا أو أن نبدأ بقتال من لم يقاتلنا. ثمّ قال لعروة : قل لأخيك عنّي إنّك قد ذكرت أنّه قد استوسق لك الناس وفتحت لك البلاد وهذا عبد الملك بن مروان حيّ قائم يدعى له بالشامات كلّها وأرض مصر وفي يده مفاتيح الخلافة ، ولست أدري ما يكون من الحدثان ، فإذا علمت أنّه ليس أحد يناوئك في سلطانك بايعتك ودخلت في طاعتك والسلام.

قال : فرجع عروة إلى أخيه عبد الله وأخبره بذلك.

قال : ثمّ قام محمّد بن الحنفيّة في أصحابه خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وقال : أيّها الناس إنّ هذه الامّة قد ضلّت عن رسول ربّها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتاهت عن معالم دينها إلاّ قليلا منها ، منهم يرتعون في هذه الدنيا حتّى كأنّهم لها خلقوا ، وقد نسوا الآخرة حتّى كأنّهم بها لم يؤمروا ، فهم يقتلون على الدنيا أنفسهم ، ويقطعون فيها أرحامهم ، ويفرّطون بها عن سنّة نبيّكم ، ولا يبالون ما أتوه فيها من نقص دينهم إذا سلمت لهم دنياهم. اللهمّ فلا تنسنا ذكرك ، ولا تؤمنّا مكرك ، ولا تجعل الدنيا لنا همّا ، ولا تحرمنا مصاحبة الصالحين في دار السلام.

قال : ثمّ أقبل على أصحابه فقال لهم : إنّي أرى ما بكم من الجهد ولو كان عندي فضل لم أدّخره عنكم ، وقد تعلمون ما ألقى من هذا الرجل ، الذي قرّب داره وأساء جواره ، وظهرت عداوته ، واشتدّت صعدته ، يريد أن يثور إلينا في مكاننا هذا ، وقد أذنت لمن أحبّ منكم أن ينصرف الى بلاده فانّه لا لوم عليه منّي ، وأنا مقيم في هذا الحرم أبدا حتى يفتح الله لي وهو خير الفاتحين.

قال : فقام إليه أبو عبد الله الجدلي وكان من خيار أصحابه وقال : سبحان الله يا أبا القاسم نحن نفارقك على هذه الحالة وننصرف عنك ، لا والله ما سمعنا إذن ولا أبصرنا ، ولسنا مفارقيك ما نقلتنا أقدامنا وثبتت قوائم سيوفنا في أكفّنا وعقلنا عن الله أمرنا ونهينا.

٤٣١

قال : ثمّ وثب عبد الله بن سامع الهمداني فقال : ثكلتني امّي وعدمتني إن أنا فارقتك أو انصرفت عنك الى أحد من الناس هو خير منك أو شبيه بك ، والله ما نعلم مكان أحد أصلح منك في وقتنا هذا ، ولكن نصبر معك فإن نمت فسعداء وإن نقتل فشهداء ، والله لئن اقتل معك على بصيرة محتسبا لنفسي أحبّ إليّ من أن اوتي أجر عشرين شهيدا مع غيرك.

قال : ثمّ وثب محمّد بن يسير الشاكري فقال : يا بن خير الأخيار وابن أبرّ الأبرار ما خلى النبيين والمرسلين ، والله لئن آكل العظام المحرقة والجلود البالية والميتة والدم على حال الضرورة أحبّ إليّ من أن أبقى مع القوم الظالمين ، لأنّه قد ابتلى الصالحين من قبلنا فكانت تقطع أيديهم وأرجلهم وتسمل أعينهم ويصلبون على جذوع النخل أحيانا ، كما فعل ابن سميّة زياد ابن أبيه وابن مرجانة عبيد الله بن زياد الفاجر الفاسق اللعين بشيعتكم فكانوا يقتلون صبرا كما قتل حجر بن عدي وأصحابه ، مثل ذلك كانوا يقتلون وعلى ذلك كانوا يصبرون.

قال : فقال محمّد بن الحنفية رضي‌الله‌عنه : جزاكم الله من صحابة خير جزاء الصالحين الصابرين.

قال : وجدّ عبد الله بن الزبير بعداوة محمّد بن الحنفية كلّ ذلك ليبايع ، وهو يأبى عليه.

قال : وبلغ الخبر عبد الملك بن مروان فكتب الى محمّد بن الحنفية : أمّا بعد فقد بلغني ما به ابن الزبير ممّا ليس له بأهل وأنا عن قليل سائر إليه إن شاء الله ، ولا قوّة إلاّ بالله العظيم ، فانظر إذا قرأت كتابي هذا فسر الى ما قبلي ، أنت ومن معك من شيعتك ، وانزل من حيث أحببت من أرض الشام آمنا مطمئنا إلى أن يستقيم أمر الناس فتختار أيّ الخصال أحببت والسلام.

قال : فعندها عزم محمّد بن الحنفيّة على المسير الى الشام.

وكتب عبد الله بن عبّاس الى عبد الملك بن مروان : أمّا بعد فإنّه قد توجّه الى بلادك رجل منّا لا يبدأ بالسوء ولا يكافئ على الظلم ، لا بعجول ولا بجهول ، سميع

٤٣٢

الى الحقّ ، أضمّ (١) عن الباطل ، ينوي العدل ويعاف الحيف ، ومعه نفر من أهل بيته وعدّة رجال من شيعته ، لا يدخلون دارا إلاّ بإذن ، ولا يأكلون شيئا إلاّ بثمن ، رهبان الليل ليوث بالنهار ، فاحفظنا فيهم رحمك الله ، فإنّ ابن الزبير قد نابذنا بالعداوة ونابذناه. والسلام.

قال : فكتب إليه عبد الملك بن مروان : أمّا بعد فقد أتاني كتابك توصني فيه بمن توجّه إلي ما قبلي من أهل بيتك ، فما أسرّني بصلة رحمك وحفظ وصيّتك ، وكلّما هويت من ذلك فمفعول ومتّبع ، فانزل بي حوائجك رحمك الله كيف أحببت ، فلن أعرج عن حاجة عرضت لك قبلي فإنّك قد أصبحت عظيم الحقّ عليّ مكينا لديّ ، وفّقنا الله وإيّاك لأفضل الامور ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

قال : فعندها تجهّز محمّد بن الحنفيّة رضي‌الله‌عنه وخرج من مكّة فيمن اتّبعه من أهل بيته وأصحابه ، وسار حتى صار الى مدينة مدين ، وبها يومئذ عامل من قبل عبد الملك بن مروان يقال له مطهّر بن يحيى العتكي ، فلمّا نظر الى هؤلاء القوم أمر بباب المدينة فاغلق واتّقى من ناحيتهم. فناداهم أصحاب محمّد : يا أهل مدين لا تخافون فانّكم آمنون ، إنمّا نريد منكم أن تقيموا لنا السوق حتى نتسوّق منها ما نريد ، ونحن أصحاب محمّد بن عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام ، لسنا نزري (٢) أحدا شيئا ، ولا نأكل شيئا إلاّ بثمن.

قال : ففتح أهل مدين باب مدينتهم وأخرجوا لهم الأنزال (٣).

فقال محمّد لأصحابه : أيّها الناس إنّي قد وطئت بكم آثار الأولين وأريتكم ما فيه معتبر وبصيرة لكم إن كنتم تعقلون. ألم تروا إلى ديار عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين كانوا عمّار الأرض من قبلكم وسكّانها اعطوا من الأموال ما لم تعطوا واوتوا من الأعمار ما لم تؤتوا ، فأصبحوا في القبور رميما كأنّهم لم يعمّروا

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) أزرى به إزراء : قصد به وحقره وهوّنه ( لسان العرب ١٤ / ٣٥٦ ).

(٣) أنزال القوم : أرزاقهم ( لسان العرب ١١ / ٦٥٨ ).

٤٣٣

في الأرض طرفة عين ولم تكن الدنيا لهم بدار.

قال : ثمّ سار محمّد بن الحنفيّة بأصحابه حتى نزلوا مدينة إيلة فجعلوا يصومون النهار ويقومون الليل ، وجعل كلّ من قربهم وقدم إلى دمشق يحدّث عنهم ويقول : ما رأينا قطّ قوما خيرا من هؤلاء الذين قد دخلوا أرض الشام ، إنّما هم صيّام قيّام ، لا يظلمون أحدا ولا يؤذون مسلما ولا معاهدا ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

قال : فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان فندم على كتابه إلى محمّد وسؤاله إيّاه أن يقدم إلى بلاد الشام لمّا شاع في الناس من خيره وحسن الثناء عليه وعلى أصحابه ، وخشي أن يتداعى إليه الناس. فكتب إليه من دمشق : أمّا بعد فإنّك قدمت إلى بلادنا بإذن منّا ، وقد رأيت أن لا يكون في سلطاني رجل لم يبايعني ، فإن أنت بايعتني فهذه مراكب قد أقبلت من أرض مصر إلى إيلة فيها من الأطعمة والأمتعة والأشياء كذا وكذا فخذ ما فيها لك ، ومع ذلك ألف ألف درهم ، اعجّل لك منها مائتي ألف درهم ، ونؤخّر بقيتها إلى أن أفرغ من أمر ابن الزبير ويجتمع الناس على إمام واحد ، وإن أنت أبيت ولم تبايع فانصرف إلى بلد لا سلطان لنا بها والسلام.

قال : فكتب إليه محمّد بن الحنفيّة : أمّا بعد فإنّا قدمنا هذه البلاد بإذنك إذ كان موافقا لك ، ونحن راحلون عنها بأمرك إذ كنت كارها لجوارنا ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

قال : ثمّ خرج محمّد بن الحنفيّة من إيلة راجعا إلى مكّة ومعه أهل بيته وأصحابه وهم يتلون هذه الآية : ( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ ) (١).

__________________

(١) الأعراف : ٨٨ ـ ٨٩.

٤٣٤

قال : ثمّ سار محمّد حتى اذا صار الى مدين أقبل على أصحابه فقال : يا هؤلاء أنتم نعم الاخوان والأنصار ولو كان عندي ما يسعكم لأحببت ألاّ تفارقوني أبدا حتى تنجلي هذه الغمرات ، فإن أحببتم فانصرفوا إلى مصركم محمودين فإنّكم تتقدّمون على الناس وبهم إليكم حاجة وأنا سأقدم إلى مكّة إلى معاندة ابن الزبير ولا احبّ أن تكونوا مجهودين.

قال : فعندها ودّع أصحابه وانصرفوا إلى الكوفة وفيها يومئذ مصعب بن الزبير.

ومضى ابن الحنفيّة بمن تخلّف معه من أهل بيته ومواليه حتى نزل بشعب أبي طالب بمكّة. وبلغ ذلك عبد الله بن الزبير فأرسل إليه أن ارتحل من هذا الشعب أنت وأصحابك هؤلاء الذين معك وإلاّ فهلمّ فبايع.

فقال ابن الحنفيّة لرسوله : ارجع إليه وقل له : إنّ الله تعالى قد جعل هذا البلد آمنا وأنت تخيفني فيه ولست بشاخص عن مكاني هذا أبدا إلاّ أن يأذن الله لي في ذلك فاصنع ما أنت صانع.

قال : وجرى بينهما اختلاف شديد ، وبلغ ذلك من كان بالكوفة من أصحابه الذين فارقوه ، فرجعوا بأجمعهم حتى نزلوا في الشعب وقالوا : والله لا نفارقك أبدا أو لنموتنّ بين يديك.

قال : وأمسك ابن الزبير عن ابن الحنفيّة وكفّ عنه إلى أن حجّ الناس ، فلمّا كان يوم النفر أرسل إليه بأخيه عروة بن الزبير وعبد الله بن مطيع العدوي في رجال من قريش ، فأقبل القوم حتى دخلوا الشعب إلى ابن الحنفيّة فقالوا : إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن تتنحّى عن هذا الموضع الذي أنت نازل فيه فإنّه قد عزم انّك إن لم تفعل ولم تنتقل إلى موضع غيره أن يسير إليك حتى يناجزك ، فإن أردت الشخوص فهذا يوم النفر فقم فانفر مع الناس وامض إلى حيث شئت من البلاد.

قال : فسكت ابن الحنفيّة. وقام رجل من أصحابه يقال له معاذ بن هاني فقال له : أيّها المهديّ إنّ هذا البلد قد جعله الله عزّ وجلّ للناس سواء العاكف فيه والباد ، وليس أحد أحقّ به من أحد ، وهذا الرجل قد ألحد في هذا الحرم وسفك فيه الدم

٤٣٥

وقد بعث إليك مرّة بعد اخرى يأمرك بالتنحّي عنه ، فإن هو أبى إلاّ إشخاصك عنه تركا لأمر الله وجرأة عليه فقد بدأك بالظلم وبما لم تكن يستحلّه منه ، وقد اضطرّك وإيّانا إلى ما لا صبر لك عليه فخلّ بيننا وبينه ، والله إنّي لأرجو أن آتيك به سالما أو يقتل هؤلاء أصحابه الفسّاق عبيد الجبّارين وأعداء الصالحين ، وإنّما هو أعراب باليمامة وجهّال أهل مكّة ، ولو قد قاتلهم قوم ينوون بقتالهم رضوان الله وثواب الآخرة لما ثبتوا للطعان والضراب ولا يذعروا أولاد الحجل.

قال : فغضب عبد الله بن مطيع من ذلك ، ثمّ أقبل على ابن الحنفيّة فقال له : يا أبا القاسم لا يغرّنك عن نفسك قبيلة جاءتك من أهل اليمن هذا وأشباهه وانّي أعلم نفسه خير منك وبعده فرماه الله بك إن كان شرّا منك في الدين والدنيا.

قال : ثمّ خرج ابن عبّاس من عند ابن الزبير مغضبا وأقبل حتى جلس في الحجر واجتمع إليه قوم من أهل بيته ومواليه فقالوا : ما شأنك يا ابن العبّاس؟ فقال :

ما شأني أيظنّ ابن الزبير أنّي مساعده على بني عبد المطّلب ، والله إنّ الموت معهم أحبّ إليّ من الحياة معه ، أما والله إن كان ابن الحنفيّة شخصا ضعيفا كما يقول لكانت أنملته عندي أحبّ إليّ من ابن الزبير وآل الزبير ، وانّه والله عندي لأوفر عقلا من ابن الزبير ، وأفضل منه دينا ، وأصدق منه حياء وورعا.

قال : فقال له رجل من جلسائه : يا ابن العبّاس إنّه قد ندم على ما كان من كلامه لك ، وهو الذي بعثنا اعتذارا.

فقال ابن عبّاس : ليكفّ عن أهل بيتي فقد قال القائل : غثّك خير من سمين غيرك ، أما والله لو فتح لي من بصري لكان لي ولابن الزبير ولبني اميّة يوم عظيم.

قال : وبلغ ابن الزبير انّ ابن عبّاس يقول فيه ما يقول ، فخرج من منزله في عدّة من أصحابه حتى وقف في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيّها الناس إنّ فيكم رجلا أعمى الله قلبه كما أعمى بصره ، يزري على عائشة أمّ المؤمنين ويعيب طلحة والزبير حواري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحلّ المتعة فاجتنبوه جنّبه الله السداد.

٤٣٦

قال : وكان ابن عبّاس حاضرا يومئذ فلمّا سمع ذلك وثب قائما على قدميه ثمّ قال : يا ابن الزبير أمّا ما ذكرت من أمّ المؤمنين عائشة فإنّ أوّل من هتك عنها الحجاب أنت وأبوك وخالك ، وقد أمر الله تعالى أن تقرّ في بيتها ولم تفعل. وأمّا أبوك وأنت وخالك وطلحة وأشياعكم فلقد لقيناكم يوم الجمل وقاتلناكم فإن كنّا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم المؤمنين ، وإن كنّا كافرين فقد كفرتم بفراركم من الزحف. وأمّا ذكرك المتعة التي احلّها فإنّي إنّما كنت أفتيت الناس في خلافة عثمان وقلت إنّما هي كالميتة والدم ولحم الخنزير لمن اضطرّ إليها حتى نهاني عن ذلك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وقال : إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين رخّص فيها على حدّ الضرورة. وبعد فانّه قد كان يجب عليك أن لا تذكر المتعة فإنّك إنّما ولدت من المتعة ، وإذا نزلت عن منبرك هذا فصر الى امّك فسلها عن بردي عوسجة.

قال : فقال له ابن الزبير : اخرج عنّي لا تجاورني.

قال : إنّي والله لأخرجنّ خروج من يقلاك ويذمّك. ثمّ قال ابن عبّاس : اللهمّ إنّك قادر على خلقك ، وقائم على كلّ نفس بما كسبت ، اللهمّ إن هذا قد أبدى لنا العداوة والبغضاء فارمه منك بحاصب وسلّط عليه من لا يرحمه.

قال : ثمّ خرج ابن عبّاس من مكّة الى الطائف ومحمّد بن الحنفيّة في أصحابه ، وجعل ابن عبّاس يقول لمن معه : أيّها الناس إنّ الله تبارك وتعالى حرّم هذا الحرم منذ خلق السماوات والأرض ، وهؤلاء القوم قد أحلّوه ، ولكن انظروا متى يقمصهم الله تعالى ويغيّر ما بهم.

قال : فقيل له : يا ابن عبّاس أتعني ابن الزبير أم الحصين بن نمير السكوني؟ قال : بلى أعنيهما جميعا وأعني الأمير الشامي يزيد بن معاوية الذي بتر الله عمره وقبضه على سوء عمله.

قال : وسار القوم حتى نزلوا الطائف وأخلوا مكّة لعبد الله بن الزبير.

قال : وكان عبد الله بن عبّاس يقوم في أهل الطائف خطيبا فيذكر ابن الزبير

٤٣٧

بالقبيح ويذكر فعله بمحمّد بن الحنفيّة وسائر بني هاشم ، فلم يزل كذلك الى أن أدركته الوفاة ، فتوفي بالطائف ، وصلّى عليه محمّد بن الحنفيّة ودفنه هنالك ، فقبره بالطائف بوادي يقال له وادي وج ، رحمة الله عليه.

قال : وأقام محمّد بن الحنفيّة بالطائف لا يرى ابن الزبير ولا يذكره الى أن خرج الى اليمن ، فذكر شيعته الذين يقولون بالرجعة أنّه دخل شعبا يقال له رضوى في أربعين من أصحابه فلم ير له الى اليوم أثر.

وقيل : إنّ الحجّاج أخذ محمّد بن الحنفيّة رضي‌الله‌عنه بمبايعة عبد الملك بن مروان. فقال له محمّد : إذا اجتمع الناس كنت كأحدهم. قال : لأقتلنك. قال له محمّد : أو لا تدري؟

قال : وما لا أدري؟ قال : حدّثني أبي أنّ لله في كلّ يوم ثلاثمائة وستّين لحظة ، له في كلّ لحظة ثلاثمائة وستّون قضيّة ، فلعلّه يكفينيك في قضيّة من قضاياه ، فارتعد الحجّاج وانتفض وقال : لقد لحظك الله فاذهب حيث شئت. فكتب الحجّاج بحديثه الى عبد الملك بن مروان ، ووافى ذلك وصول كتاب ملك الروم إليه يتهدّده فيه ، فكتب عبد الملك الى قيصر بحديث محمّد. فكتب إليه قيصر : هيهات هيهات هذا كلام ما أنت بأبي عذرته ، هذا كلام لم يخرج إلاّ من نبيّ أو من أهل بيت نبوّة (١).

وأظنّ هذا الخبر غلط ، لأنّ محمّدا مات قبل أخذ عبد الملك مكّة وقتل ابن الزبير. وربما كان هذا الحديث عن ولده أبي هاشم ، والله أعلم.

وقد روي هذا الحديث عن زين العابدين عليه‌السلام (٢).

وقال المنافقون لمحمّد بن الحنفيّة رضي‌الله‌عنه : لم يغرّر بك أمير المؤمنين عليه‌السلام في الحرب ولا يغرّر بالحسن والحسين؟

قال : لأنّهما عيناه وأنا يمينه ، فهو يدفع بيمينه عن عينيه (٣).

__________________

(١) تذكرة الخواص : ص ٢٩٥ ـ ٢٩٦.

(٢) العقد الفريد : ج ٢ ص ٢٠٣ ، المناقب لابن شهرآشوب : ج ٤ ص ١٦١.

(٣) بحار الأنوار : ج ٤٢ ص ٩٩ باب ١٢٠ ذيل ح ٣١.

٤٣٨

وقيل له : من أشدّ الناس زهدا؟

قال : من لا يبالي الدنيا في يد من كانت.

وقيل له : من أخسر الناس صفقة؟

قال : من باع الباقي بالفاني.

وقيل له : من أعظم الناس قدرا؟

قال : من لا يرى الدنيا قدر نفسه.

وكان قويّا شديد الأيد ، وله في ذلك أحاديث :

منها : انّ أباه عليه‌السلام اشترى درعا فاستطالها ، فقبض محمّد بيده اليمنى على ذيلها وبالاخرى على فضلتها ثمّ جذبها فقطعها من الموضع الذي حدّه له عليه‌السلام.

وكان عبد الله بن الزبير إذا حدّث بذلك اعتراه أفكل (١) وغضب ، وكان يحسده.

وفي سنة ستّة وستّين من الهجرة حبس عبد الله بن الزبير محمّد بن الحنفيّة ومن كان معه من أهل بيته ووجوه أهل الكوفة بزمزم لكراهتهم بيعته وأعطى الله عهدا إن لم يبايعوه أن يقتلهم ويحرّقهم. فوجّه ابن الحنفيّة الى المختار يعلمه ذلك ، فوجّه إليه المختار مددا جماعة في أثر جماعة فدخلوا المسجد الحرام وهم ينادون يا لثارات الحسين حتى انتهوا الى زمزم ، وقد أعدّ ابن الزبير الحطب ليحرق محمّد بن عليّ عليه‌السلام وأصحابه ، وكان قد بقي من الأجل يومان ، ووجّه المختار الى محمّد بن عليّ عليه‌السلام بمال ، فخرج محمّد بن عليّ الى شعب عليّ عليه‌السلام وأصحابه يسبّون ابن الزبير ويستأذنونه في محاربته ، فأبى عليهم ذلك وكره القتال ، فاجتمع معه في الشعب أربعة آلاف ، فقسّم ذلك المال وتفرّق الناس عنه ، وكان من أمره مع ابن الزبير ما تقدّم ذكره ، ودخل رضوى وتوفي فيه رحمة الله عليه.

وخلّف من الولد : الحسن وعبد الله ـ وهو أبو هاشم ـ وجعفر الأكبر وحمزة وعليّا لأمّ ولد ، وجعفر الأصغر وعونا امّهما أمّ جعفر ، والقاسم وإبراهيم.

__________________

(١) الأفكل : الرعدة من برد أو خوف ( لسان العرب ١١ / ١٩ ).

٤٣٩

فأمّا أبو هاشم عبد الله فإنّه كان عظيم القدر ، وكانت الشيعة تعظّمه وترى طاعته ويتردّدون إليه. وفي سنة ثمان وتسعين قدم أبو هاشم عبد الله بن محمّد بن الحنفيّة على سليمان بن عبد الملك ، فأعجب به وقضى حوائجه وصرفه وضمّ إليه من يسمّه ، فلمّا سار الى السراة سمّ فلمّا علم بذلك قال لأصحابه : ميلوا بي الى ابن عمّي محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس ، وهو يومئذ بكراد من السراة من أرض دمشق. فلمّا صار إليه أوصى إليه وأعلمه أنّ الخلافة صائرة الى ولده ، وأفشى إليه سائر أخبار الدعوة ، وعرّف بينه وبين دعاته ، وقال له : إذا مضت مائة سنة فوجّه دعاتك واعلم أنّ الأمر يتمّ لابن الحارثيّة من ولدك.

وابتدأ الإمام محمّد بن عليّ في دعاء الناس ، فكان أوّل من استجاب له أربعة رهط من أهل الكوفة ، وهم : أبو رياح ميسرة النبّال ، وأبو عمرو راذان البزّاز ، والمنذر الهمداني ، ومصقلة الطحّان ، فأمرهم أن يدعوا إلى إمامته ، فاستجابوا له.

وتوفّي أبو هاشم وليس له عقب ، والعقب من ولد محمّد بن الحنفيّة من جعفر وعليّ وعون وإبراهيم شعرة.

وأمّا العبّاس بن عليّ عليه‌السلام فخلف من الولد : عبيد الله ، وامّه لبانة بنت عبيد الله بن العبّاس ، وحسن لأمّ ولد. وقتل العبّاس مع أخيه الحسين بن عليّ عليهم‌السلام بطفّ كربلاء.

والعقب من ولد العبّاس في رجل واحد وهو عبيد الله بن العبّاس ، ومنه في الحسن بن عبيد الله ، ومنه في خمسة رجال وهم : عبيد الله وفيه العدد والبيت ، والفضل ، وحمزة ، وإبراهيم ، والعبّاس.

وأمّا عمر بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فقد حمل الحديث وكان يرويه عن عمر بن الخطّاب ، وولد محمّد وأمّ موسى امّهما أسماء بنت عقيل بن أبي طالب. والعقب من ولد عمر بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في رجل واحد وهو محمّد بن عمر ، ومنه في أربعة نفر وهم : عبد الله بن محمّد وفيه العدد ، وعبيد الله بن محمّد ، وعمر بن محمّد ، وجعفر بن محمّد.

٤٤٠