الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي

الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم

المؤلف:

الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-064-3
الصفحات: ٨٣٢

قيل : هو عبد المطّلب بن هاشم ذهبت إبل له فأرسل ابن ابنه في طلبها ، ولم يرسله في حاجة قطّ إلاّ جاء بها ، وقد احتبس عليه.

قال : فما برحت أن جاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجاء بالإبل.

فقال له : يا بنيّ لقد حزنت عليك حزنا لا يفارقني أبدا (١).

وتوفّي عبد المطّلب وللنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمان سنين ، وكان خلف جنازة عبد المطّلب يبكي حتى دفن بالحجون ، وكان يومئذ للنبيّ عليه‌السلام ثمان سنين وشهران وعشرة أيّام ، فكفّله أبو طالب عمّه ، وكان أخا عبد الله لامّه وأبيه.

وقيل : إنّه لمّا كبر واستوى عليه‌السلام عاداه أبو جهل وجمع صبيان بني مخزوم وقال : أنا أميركم ، وانعقد صبيان بني هاشم وبني عبد المطّلب على النبيّ عليه‌السلام وقالوا له : أنت الأمير.

قالت فاطمة بنت أسد رضي الله عنها : وكان في صحن داري نخلة قد يبست وخاست ولها زمان يابسة ، فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما الى النخلة فمسّها بكفّه فصارت من وقتها وساعتها خضراء ، وحملت ، فكنت في كلّ يوم أجمع له الرطب في دوخلّة (٢) ، فإذا كان وقت ضاحي النهار يدخل فيقول : يا امّاه أعطيني ديوان العسكر. وكان يأخذ الدوخلّة ثمّ يخرج يقسم الرطب على صبيان بني هاشم.

فلمّا كان بعض الأيّام دخل وقال : يا امّاه أعطيني ديوان العسكر. فقلت : يا ولدي اعلم أنّ النخلة ما أعطتنا اليوم شيئا. قالت : فو حقّ نور وجهه لقد رأيته وقد تقدّم نحو النخلة وتكلّم بكلمات ، وإذا بالنخلة قد انحنت حتى صار رأسها عنده ، فأخذ من الرطب ما أراد ثمّ عادت النخلة الى ما كانت ، فمن ذلك اليوم قلت : اللهمّ ربّ السماء والأرض ارزقني ولدا ذكرا يكون أخا لمحمّد ، فصار لي عليّ ، فما كان يقرب صنما ولا يسجد لوثن ، كلّ ذلك ببركة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) وكان من وقاية

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٣٤ نقلا بالمعنى.

(٢) الدوخلّة : بتشديد اللام : سقيفة من خوص كالزبيل والقوصرة يترك فيها التمر وغيره ، والواو زائدة. النهاية لابن الأثير : ج ٢ ص ١٣٨ مادة « دوخل ».

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٣٧ ـ ٣٨.

٨١

ابي طالب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه عزم على الخروج في ركب من قريش الى الشام تاجرا سنة ثمان من مولده عليه‌السلام ، وفي رواية أنّه كان عمره اثني عشرة سنة وشهرين وعشرة أيّام أخذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزمام ناقة أبي طالب وقال له : يا عمّ على من تخلّفني ولا أب لي ولا أمّ لي؟ وكان قد قيل له : ما تفعل به في هذا الحرّ وهو غلام صغير؟

فقال : والله لأخرجنّ به ولا افارقه أبدا (١).

وفي رواية الطبري : ضبّ به رسول الله ، أي لزمه ، فرقّ له أبو طالب فأمر فحشيت له حشية وكانوا ركبانا كثيرا ، فكان يقول : والله البعير الذي كان عليه محمّد أمامي لا يفارقني ويسبق الركب كلّهم ، وكانت سحابة بيضاء مثل الثلج تظلّه ، وربما مطرت علينا أنواع الفواكه ، وكان يكثر الماء ويخضر الأرض ، وكان وقفت جمال قوم فمشى إليها ومسح عليها فسارت ، فلمّا قربنا من بصرى إذا نحن بصومعة تمشي كما تمشي الدابّة السريعة حتّى إذا قربت منّا وقفت ، فإذا فيها راهب ، فلمّا نظر الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إن كان أحد فأنت أنت.

قال : فنزلنا تحت شجرة عظيمة قليلة الأغصان ليس لها حمل ، فاهتزّت الشجرة وألقت أغصانها عليه وحملت ثلاثة أنواع : فاكهتان للصيف وفاكهة للشتاء ، فجاء بحيرا بطعام يكفي النبيّ عليه‌السلام وقال : من يتولّى أمر هذا الغلام؟ فقلت : أنا.

فقال : أيّ شيء تكون منه؟

قلت : أنا عمّه.

فقال : له أعمام كثيرة فأيّهم أنت؟

قلت : أنا أخو أبيه من أمّ واحدة.

قال : أشهد أنّه هو وإلاّ فلست بحيرا ، فأذن في تقريب الطعام.

فقلت : رجل أحبّ أن يكرمك فكل.

فقال : هل هو لي دون أصحابي؟

قال : فهو لك خاصّة.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٥ ص ٤٠٨.

٨٢

فقال : إنّي لا آكل دون هؤلاء.

فقال : إنّه لم يكن عندي أكثر من هذا.

قال : أفتأذن أن يأكلوا معي قال : بلى.

قال : كلوا بسم الله. فأكل وأكلنا معه ، فو الله لقد كنّا مائة وسبعين رجلا فأكل كلّ واحد منّا حتى شبع وتجشّأ ، وبحيرا على رأسه يذبّ عنه عليه‌السلام ويتعجّب من كثرة الرجال وقلّة الطعام ، وفي كلّ ساعة يقبّل يافوخه ويقول : هو هو وربّ المسيح.

فقالوا له : إنّ لك لشأنا.

فقال : وإنّي لأرى ما لا ترون ، وأعلم ما لا تعلمون ، وأنّ تحت هذه الشجرة لغلاما لو أنتم تعلمون منه ما أعلم لحملتموه على أعناقكم حتى تردّوه الى وطنه ، ولقد رأيت له وقد أقبل نورا أمامه ما بين السماء والأرض ، ولقد رأيت رجالا في أيديهم مراوح الياقوت والزبرجد يروّحونه ، وآخرين ينثرون عليه أنواع الفواكه ، ثمّ هذه السحابة لا تفارقه ، ثمّ صومعتي مشت إليه كما تمشي الدابّة على رجلها ، ثمّ هذه الشجرة لم تزل يابسة قليلة الأغصان وقد كثرت أغصانها واهتزّت وحملت ثلاثة أنواع من الفاكهة ، ثمّ هذه الحياض قد فاضت بعد ما غارت في أيّام الحواريّين.

ثمّ قال : يا غلام أسألك باللات والعزّى عن ثلاث.

فقال : والله ما أبغضت شيئا كبغضي إيّاها.

فسأله بالله من حاله ونومه وهيبته ، ثمّ نظر الى خاتم النبوة فجعل يقبّل رجليه (١).

وفي رواية : أنّه قال لأبي طالب : ما هو منك؟ قال : ابني.

قال : ما هو بابنك ، ولا ينبغي أن يكون أبوه حيّا.

فقال : إنّه ابن أخي مات أبوه وهو صغير.

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٣٨ ـ ٣٩.

٨٣

فقال : صدقت الآن فارجع به الى بلده واحذر عليه اليهود ، والله لئن عرفوا منه ما عرفت ليقتلنه ، وانّ لابن أخيك لشأنا عظيما.

فقال : إن كان الأمر كما وصفت فهو في حصن الله.

وفي ذلك يقول أبو طالب وقد أوردها محمّد بن إسحاق :

إنّ ابن آمنة النبيّ محمّد

عندي بمثل منازل الأولاد

لمّا تعلّق بالزمام رحمته

والعيس قد قلّصن بالأزواد

فارفضّ من عينيّ دمع ذارف

مثل الجمان مفرّد الأفراد

راعيت فيه قرابة موصولة

وحفظت فيه وصيّة الأجداد

وأمرته بالسير بين عمومة

بيض الوجوه مصالت الأنجاد

حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا

لاقوا على شرف من المرصاد

خبرا فأخبرهم حديثا صادقا

عنه وردّ معاشر الحسّاد (١)

حدّث الشيخ الجليل أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين رحمه‌الله ، قال : حدّثنا علي بن أحمد : قال : حدثنا أحمد بن يحيى ، قال : حدّثنا محمّد بن اسماعيل ، عن عبد الله بن أحمد ... (٢) قال : حدّثني أبي ، عن ابن شبرة ، عن عبد الحميد بن سهل ، عن صفيّة بنت شيبة ، عن آمنة بنت أبي سعيد السهميّ.

قالت : امتنع أبو طالب من إتيان اللات والعزّى بعد رجوعه من الشام في المرّة الاولى ، حتى وقع بينه وبين قريش كلام كثير ، فقال لهم أبو طالب : إنّي لا يمكنني أن افارق هذا الغلام ولا مخالفته ، وأنّه يأبى أن يصير إليهما ولا يسمع بذكرهما ، ويكره أن آتيهما أنا.

قالوا : فلا تدعه وأدّبه حتى يفعل ويعتاد عبادتهما.

فقال أبو طالب : هيهات ما أظنّكم تجدونه ولا ترونه يفعل هذا أبدا.

قالوا : ولم ذاك؟

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٣٩ ـ ٤٠. وفيه حبرا.

(٢) هنا كلمة مطموسة.

٨٤

قال : لأنّي سمعت بالشام جميع الرهبان يقولون : هلاك الأصنام على يدي هذا الغلام.

قالوا : فهل رأيت يا أبا طالب منه شيئا غير هذا الذي تحكيه عن الرهبان فإنّه غير كائن أبدا أو نهلك جميعا.

قال : نعم نزلنا تحت شجرة يابسة فاخضرّت وأثمرت ، فلمّا ارتحلنا وسرنا اهتزّت ونثرت على رأسه جميع ثمرها ، ونطقت فما رأيت شجرة قطّ تنطق قبلها ، وهي تقول : يا أطيب الناس فرعا وأزكاهم عودا ، امسح بيديك المباركتين عليّ لأبقى خضراء الى يوم القيامة.

قال : فمسح يده عليها فازدادت الضعف نورا وخضرة.

قال : فلمّا رجعنا للانصراف ومررنا عليها ونزلنا تحتها فإذا كلّ طير على ظهر الأرض له فيها عشّ وفرخ ، ولها بعدد كلّ صنف من الطير أغصان كأعظم الأشجار على ظهور الأرضين.

قال : فما بقي طير إلاّ استقبله يمدّ بجناحه على رأسه.

قال : فسمعت صوتا من فوقها وهو يقول : ببركتك يا سيّد النبيّين والمرسلين قد صارت هذه الشجرة لنا مأوى. فهذا ما رأيت.

فضحكت قريش في وجهه وهم يقولون : أترى يطمع أبو طالب أن يكون ابن أخيه ملك هذا الزمان (١).

وبهذا الإسناد عن عبد الله بن محمّد ، قال : حدّثنا أبي ، عن الضحّاك بن عثمان ، عن يحيى بن عروة ، عن أبيه ، عن حكيم بن حزام ، قال : سمعت أبي يحكي عن أبي طالب قال : لمّا انصرفت من الشام وكان بيننا وبين مكّة منزل رأيت سحابة بيضاء جاءت حتى وقفت على رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تنثر عليه أشياء والله ما أدري ما كانت ، لأنّه كان كلّما وقع عليه غاب ولا ندري أين ذهب ، فلم نزل معه لا نفارقه

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٥ ص ٣٥٧ ـ ٣٥٨ باب ٤ ح ١٤ نقلا عن كتاب العدد للشيخ الصدوق ( مخطوط ).

٨٥

حتى نزلنا مكّة ، ولقد رأيت طائرين قد ألفاه لا يفارقانه ، فلمّا كان عند رجوعنا ونزلنا سمعتهما يقولان : انزل في حفظ الله وكنفه ، والله لقد همّت بك اليهود ليغتالوك فلو فعلوا لمسحت أعينهم ، ثمّ غابا (١).

وروي عن ابن عبّاس ، عن أبيه ، عن أبي طالب أنّ بحيرا الراهب قال للنبيّ عليه‌السلام : يا من بهاء نور الدنيا من نوره ، يا من بذكره تعمر المساجد ، كأنّي بك وقد قدت الأجناد والخيل وقد تبعك العرب والعجم طوعا وكرها ، وكأنّ اللاّت والعزّى قد كسرتهما ، وقد صار البيت العتيق لا يملكه غيرك تضع مفاتيحه حيث تريد ، كم من بطل من قريش والعرب تصرعه ، وأنت مفتاح الجنان ، ومعك الذبح الأكبر وهلاك الأصنام ، أنت الذي لا تقوم الساعة حتى تدخل الملوك كلّها في دينك صاغرة قميئة (٢). فلم يزل يقبّل رجليه مرّة ويديه مرّة ويقول : إن أدركت زمانك لأضربن بين يديك بالسيف ضرب الزند بالزند ، أنت سيّد ولد آدم ، وسيّد المرسلين ، وإمام المتّقين ، وخاتم النبيّين ، والله لقد بكت البيع والأصنام والشياطين فهي باكية الى يوم القيامة. أنت دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ، أنت المقدّس المطهّر من أنجاس الجاهلية.

وقال لأبي طالب : أرى لك أن تردّه الى بلده عن هذا الوجه ، فإنّه ما بقي على وجه الأرض يهودي ولا نصراني ولا صاحب كتاب إلاّ وقد علم بولادة هذا الغلام ، ولئن عرفوا منه ما عرفت أنا منه لابتغوه شرّا ، أكثر ذلك هؤلاء اليهود.

فقال أبو طالب : ولم ذاك؟

قال : لأنّه كائن لابن أخيك ـ هذا ـ النبوّة والرسالة ، ويأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى بن عمران وعيسى بن مريم.

قال أبو طالب : كلاّ لم يكن الله ليضيّعه.

قال : ثمّ خرجنا الى الشام (٣).

__________________

(١) كتاب العدد ( مخطوط ).

(٢) قميئة : أي ذليلة.

(٣) كمال الدين وتمام النعمة : ج ١ ص ١٨٥ ـ ١٨٦ ذيل ح ٣٣.

٨٦

وحدّث خالد بن اسيد بن أبي العاص وطليق بن أبي سفيان بن اميّة أنّهما كانا مع النبيّ عليه‌السلام ، قالا : لمّا قربنا من الشام رأينا والله قصور الشامات كلّها قد اهتزّت وعلا منها نور أعظم من نور الشمس ، فلمّا توسّطنا الشام ما قدرنا أن نجوز السوق من ازدحام الناس ينظرون الى النبيّ عليه‌السلام ، فجاء حبر عظيم اسمه نسطورا ، فجلس بحذائه ينظر إليه. فقال لأبي طالب : ما اسمه؟

قال : محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب.

فتغيّر لونه. ثمّ قال له : اكشف ظهره. فلمّا كشفه رأى الخاتم فانكبّ عليه يقبّله ويبكي ، وقال : اسرع بردّه الى موضعه ، فما أكثر عدوّه في أرضنا. فلم يزل يتعاهدنا في كلّ يوم وأتاه بقميص فلم يقبله ، فأخذه أبو طالب مخافة أن يغتمّ الرجل (١).

وقال أبو طالب : فعجلت به حتى رددته الى مكّة ، فو الله ما بقي بمكّة يومئذ امرأة ولا كهل ولا شابّ ولا صغير ولا كبير إلاّ استقبلوه شوقا إليه ما خلا أبا جهل بن هشام لعنه الله فانّه كان فاتكا ماجنا قد ثمل من السكر (٢).

وقيل : إنّ نساء قريش كنّ يجتمعن في عيد لهم في المسجد فإذا هنّ بيهوديّ يقول : يوشك أن يبعث فيكنّ نبيّ فأيّكنّ استطاعت أن يكون له أرض يطأها فلتفعل فحصبنه ، وقرّ ذلك القول في قلب خديجة (٣).

وكان النبيّ عليه‌السلام قد استأجرته خديجة على أن تعطيه بكرين ، فلمّا مرّ في سفره نزل تحت شجرة لم ينزل تحتها إلاّ نبيّ ، فرآه راهب يقال له نسطورا فاستقبله وقبّل يديه ورجليه ، وقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله ، ثمّ قال لميسرة : طاوعه في أوامره ونواهيه فإنّه نبيّ ، والله ما جلس في هذا المجلس بعد عيسى أحد غيره ، ولقد بشّر به عيسى عليه‌السلام ( وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (٤) وهو يملك الأرض بأسرها.

فقال ميسرة : يا محمّد لقد اجتزنا في ليلة عقبات كنّا نجوزها بأيّام كثيرة ،

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٤٠.

(٢) كمال الدين وتمام النعمة : ج ١ ص ١٨٦.

(٣) كمال الدين وتمام النعمة : ج ١ ص ١٨٦.

(٤) الصف : ٦.

٨٧

وربحنا في هذه السفرة ما لم نربح في أربعين سنة ببركتك يا محمّد.

فاستقبل خديجة وبشّرها بربحنا ، وكانت حينئذ جالسة على منظرة لها وهو يوم صائف تنتظر ميسرة ، إذ طلع رجل من عقبة المدينة والسماء ليس فيها سحاب إلاّ قطعة قدر ما تظلّ ذلك الرجل ، فلمّا رأته قد طلع من العقبة رأت على رأسه سحابة وعلى يمينه ملكا مصلتا سيفه ، وفي السحابة قنديل معلّق من زبرجدة خضراء وحوله قبّة من ياقوتة حمراء ، فقالت : إن كان ما يقول اليهودي حقّا فما ذلك الرجل إلاّ هو ، وقالت : اللهمّ إليّ والى داري ، فلمّا أتى كان محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبشّرها بالأرباح.

فقالت : وأين ميسرة؟

قال : يقفو على أثري.

قالت : فارجع إليه وكن معينه. ومقصودها لتتيقّن حال السحابة ، فرجعت السحابة معه ، فأقبل ميسرة الى خديجة وأخبرها بحاله وقال لها : إنّي كنت آكل معه حتى يشبع ويبقى الطعام كما هو ، وكنت أرى وقت الهاجرة ملكين يظلاّنه.

فدعت خديجة بطبق عليه رطب ودعت رجالا ودعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأكلوا وشبعوا ولم ينقص شيئا. فأعتقت ميسرة وأولاده وأعطته عشرة ألف درهم لتلك البشارة ورتّبت الخطبة من عمرو بن أسد عمّها (١).

قال النسوي في تأريخه : أنكحه إيّاها أبوها خويلد بن أسد ، وكان عمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ خمسا وعشرين سنة وشهرين وعشرة أيّام ، فحضر أبو طالب ومعه بنو هاشم ورؤساء مضر ، فخطب أبو طالب وقال : الحمد لله الذي جعلنا من ذرّيّة إبراهيم ، وزرع إسماعيل ، وضئضئ (٢) معد ، وعنصر مضر ، وجعلنا سدنة بيته ، وسوّاس حرمه ، وجعل لنا بيتا محجوجا ، وحرما آمنا ، وجعلنا الحكّام على

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٤٠ ـ ٤١.

(٢) الضئضئي ـ كجرجر وضيئضىء كجيرجير وضؤ ضؤ كهدهد : الأصل والمعدن أو كثرة النسل وبركته.

٨٨

الناس ، ثمّ إنّ ابن أخي هذا محمّد بن عبد الله لا يوزن به رجل إلاّ رجّح وإن كان في المال قلّ ، فإنّ المال ظلّ زائل وأمر حائل ، ومحمّد من قد عرفتم قرابته ، وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من مالي ، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم ، وخطب جليل (١).

فلمّا تزوّجها بقيت عنده قبل الوحي خمس عشرة سنة ، فأولدها ستة : القاسم وبه كان يكنّى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والطاهر ويقال اسمه عبد الله ، وفاطمة وهي خير ولده ، وزينب ورقيّة وأمّ كلثوم.

وروي أنّه قال بعض قريش : يا عجبا ليمهر النساء الرجال. فغضب أبو طالب وقال : إذا كان الرجال مثل ابن أخي هذا طلبوا بأغلى الأثمان ، وإذا كانوا أمثالكم لم يزوّجوا إلاّ بالمهر الغال. فقال رجل من قريش يقال له عبد الله بن غنم :

هنيئا مريئا يا خديجة قد جرت

لك الطير فيما كان منك بأسعد

تزوّجته خير البريّة كلّها

ومن ذا الذي في الناس مثل محمّد

وبشّر به المرءان : عيسى بن مريم

وموسى بن عمران فيا قرب موعد

اقرّت به الكتّاب قدما بأنّه

رسول من البطحاء هاد ومهتدي (٢)

حدّث قيس بن سعد الدئلي (٣) ، عن عبد الله بن بحير ، عن بكر بن عبد الله الأشجعي ، عن آبائه قالوا : خرج سنة خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى الشام عبد مناة بن كنانة ونوفل بن معاوية بن عروة تجّارا الى الشام ، فلقيهما أبو المويهب الراهب فقال لهما : من أنتما؟

قالا : نحن تجّار من أهل الحرم من قريش.

فقال لهما : من أيّ قريش؟ فأخبراه.

فقال لهما : هل قدم معكما من قريش غيركما؟

قالا : نعم شابّ من بني هاشم اسمه محمّد.

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٤٢ مع اختلاف يسير.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٤٢.

(٣) في نسخة كمال الدين : الديلمي.

٨٩

فقال أبو المويهب : إيّاه والله أردت.

فقالا : والله ما في قريش خمل ذكرا منه ، إنّما يسمّونه يتيم قريش وهو أجير لا مرأة منّا يقال لها خديجة ، فما حاجتك إليه؟

فأخذ يحرّك رأسه ويقول : هو هو. فقال لهما : تدلاّني عليه؟

فقالا : تركناه في سوق بصرى.

فبينما هم في الكلام إذ طلع عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : هو هذا ، فخلا به ساعة يناجيه ويكلّمه ، ثمّ أخذ يقبّل بين عينيه ، وأخرج شيئا من كمّه لا ندري ما هو ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأبى أن يقبله.

فلمّا فارقه قال لنا : تسمعان منّي ، هذا والله نبيّ هذا الزمان ، سيخرج عن قريب يدعو الناس الى شهادة أن لا إله إلاّ الله ، فإذا رأيتم ذلك فاتّبعوه.

ثمّ قال : هل له ولد لعمّه أبي طالب ولد يقال له علي؟ فقلنا : لا.

فقال : أما أن يكون قد ولد أو يولد في سنته هو أوّل من يؤمن به ، نعرفه وإنّا لنجد صفته عندنا بالوصيّة كما نجد صفة محمّد بالنبوّة ، وأنّه سيّد العرب وربّانيها وذو قرنيها ، يعطي السيف حقّه ، اسمه في الملأ الأعلى علي ، هو أعلى الأنبياء يوم القيامة بعد الأنبياء ذكرا ، وتسمّيه الملائكة « البطل الأزهر المفلح » لا يتوجّه الى وجه إلاّ أفلح وظفر ، والله لهو أعرف من بين أصحابه في السماوات من الشمس الطالعة (١).

عن عبد الله بن محمّد ، قال : حدّثني أبي ، عن أحمد بن عبد الله الزرقي ، عن نساف ، عن إبراهيم بن عمرو الأسدي قال : سمعنا ابن عبّاس يحدّث عن أبيه العبّاس بن عبد المطّلب وهو يحكي عن أبي طالب قال : قال أبو طالب : يا عبّاس ألا اخبرك عن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما رأيت منه. قلت : بلى.

قال : إنّي ضممته إليّ فلم افارقه في ليل ولا نهار ، وكنت انوّمه في فراشي

__________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة : ج ١ ص ١٩٠ ح ٣٧.

٩٠

وآمره أن يخلع ثيابه وينام معي ، فرأيت في وجهه الكراهة ، وكره أن يخالفني ، فقال : يا عمّاه اصرف وجهك عنّي حتى أخلع ثيابي وأدخل فراشي.

قلت له : ولم ذلك؟

قال : لا ينبغي لأحد من الناس أن ينظر الى جسدي.

قال : فعجبت من ذلك وصرفت بصري عنه حتّى دخل فراشه ، فلمّا دخلت أنا الفراش إذا بيني وبينه ثوب ألين ثوب ما مسسته قطّ ثمّ شممته ، فإذا كأنّه قد غمس في المسك ، فكنت إذا أصبحت افتقدت الثوب فلم أجده ، فكان هذا دأبي ودأبه ، فجهدت وتعمّدت أن انظر الى جسده فو الله ما رأيت له جسدا ، ولقد كنت كثيرا ما أسمع إذا ذهب من الليل شيء كلاما يعجبني ، وكنت ربّما أتيته غفلة فأرى من لدن رأسه نورا ممدودا قد بلغ السماء ، فهذا ما رأيت يا عبّاس (١).

وبهذا الإسناد ، عن عبد الله بن محمّد ، قال : حدّثني أبي ، عن سعيد بن منصور التميمي ، عن ليث بن أبي نعيم ، قال : حدّثني أبي ، عن جدّي بلغ به أبا طالب ، قال :

كنّا لا نسمّي على الطعام ولا على الشراب ولا ندري ما هو حتى ضممت محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليّ فأوّل ما سمعته يقول : « بسم الله الأحد » ثمّ يأكل ، فإذا فرغ من طعامه قال « الحمد لله كثيرا » فتعجّبنا منه.

وكان يقول : ما رأيت جسد محمّد قطّ ، وكان لا يفارقني الليل والنهار ، وكان لا ينام معي في فراشي فأفقده من فراشه ، فإذا قمت لأطلبه بادرني من فراشه فيقول : ها أنا يا عمّ ارجع الى مكانك.

ولقد رأيت ذئبا يوما قد جاءه وشمّه وبصبص حوله ثمّ ربض بين يديه ، ثمّ انصرف عنه.

ولقد دخل ليلا البيت فأضاء ما حوله ، ولم أر منه كذبة قطّ ، ولا رأيته يضحك في غير موضع الضحك ، ولا وقف مع صبيان في لعب ، ولا التفت إليهم ، وكان

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٥ ص ٣٦٠ ذيل ح ١٦ بحذف الإسناد نقلا عن كتاب العدد للشيخ الصدوق ( مخطوط ).

٩١

الوحدة أحبّ إليه والتواضع ، ولقد كنت أرى أحيانا رجلا أحسن الناس وجها يجيء حتى يمسح على رأسه ويدعو له ثمّ يغيب.

ولقد رأيت رؤيا في أمره ما رأيتها قطّ ، رأيته وكأنّ الدنيا قد سيقت إليه وجميع الناس يذكرونه ، ورأيته وقد رفع فوق الناس كلّهم وهو يدخل في السماء.

ولقد غاب عنّي يوما فذهبت في طلبه فإذا أنا به يجيء ومعه رجل لم أر مثله قطّ ، فقلت له : يا بنيّ أليس قد نهيتك أن لا تفارقني؟

فقال الرجل : إذا فارقك كنت أنا معه أحفظه. فلم أر منه في كلّ يوم إلاّ ما احبّ حتى شبّ وخرج يدعو الى الدين (١).

* * *

فصل

في ذكر مبعثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

روي عن ابن عبّاس وأنس بن مالك أنّهما قالا : أوحى الله عزّ وجلّ إليه يوم الاثنين السابع والعشرين من رجب ، وله أربعون سنة (٢).

ابن مسعود : أحد وأربعون سنة (٣).

وقيل : بعث في شهر رمضان لقوله تعالى : ( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) (٤).

أي ابتدأ إنزاله للسابع عشر أو الثامن عشر (٥).

وروي أنّ جبرئيل عليه‌السلام أخرج له قطعة ديباج فيها خطّ فقال : اقرأ. قلت :

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٥ ص ٣٦٠ ـ ٣٦١ ذيل ح ١٦ بحذف الإسناد نقلا عن كتاب العدد للصدوق ( مخطوط ).

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٣.

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٣.

(٤) البقرة : ١٨٥.

(٥) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ١٧٣.

٩٢

وكيف أقرأ ولست بقارئ؟ الى ثلاث مرّات ، فقال في المرّة الرابعة : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) الى قوله : ( ما لَمْ يَعْلَمْ ). ثمّ نزل جبرئيل وميكائيل عليهما‌السلام ومع كلّ واحد منهما سبعون ألف ملك ، واتي بالكراسي ووضع تاج على رأس محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واعطي لواء الحمد بيده ، فقالا له : اصعد على الكرسي واحمد الله.

فلمّا نزل من الكرسيّ توجّه الى خديجة ، وكان كلّ شيء يراه يسجد له ويقول بلسان فصيح : السلام عليك يا نبيّ الله ، فلمّا دخل الدار صارت الدار منوّرة. فقالت خديجة : ما هذا النور؟

قال : هذا نور النبوّة ، قولي : لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله.

فقالت : طالما قد عرفت ذلك ، ثمّ أسلمت.

فقال : يا خديجة إنّي لأجد بردا ، فدثّرت عليه فنام ، فنودي : ( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) الآية ، فقام وجعل اصبعه في اذنه وقال : الله اكبر الله اكبر ، فكان كلّ موجود يسمعه يوافقه (١).

وكان لبني عذرة صنم يقال له حمام ، فلمّا بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمع من جوفه قائل يقول :

يا بني هند بن حرام (٢)

ظهر الحقّ وأودى حمام

رفع الشرك الإسلام

ثمّ نادى بعد أيّام لطارق يقول : يا طارق يا طارق بعث النبيّ الصادق ، جاء بوحي ناطق ، صدع صادع بتهامة ، لناصريه السلامة ، ولخاذليه الندامة ، هذا الوداع منّي الى القيامة.

ثمّ وقع الصنم لوجهه فتكسّر.

قال زمل (٣) بن ربيعة : فأتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرته بذلك ، فقال : كلام الجنّ المؤمنين ، فدعانا الى الإسلام (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٨ ص ١٩٦ ـ ١٩٧ ذيل ح ٣٠.

(٢) في نسخة المناقب : خرام.

(٣) في نسخة المناقب : زيد.

(٤) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٨٧.

٩٣

تاريخ الطبري : إنّه روى الزهريّ في حديث جبير بن مطعم عن أبيه قال : كنّا جلوسا قبل أن يبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهر وقد نحرنا جزورا ، فإذا صائح يصيح من جوف الصنم : اسمعوا العجب ، ذهب استراق الوحي ، ويرمى بالشهب ، لنبيّ بمكّة اسمه محمّد ، مهاجرته الى يثرب (١).

ودخل العبّاس بن مرداس على وثن يقال له الضمير فكنس ما حوله ومسحه وقبّله ، فإذا صائح يصيح : يا عبّاس بن مرداس :

قل للقبائل من سليم كلّها

هلك الضمير وفاز ربّ المسجد

هلك الضمير وكان يعبد مرّة

قبل الكتاب الى النبيّ محمّد

إنّ الذي جاء بالنبوّة والهدى

بعد ابن مريم من قريش مهتدي

فخرج في ثلاثمائة راكب من قومه الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رآه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبسّم ثمّ قال : يا عبّاس بن مرداس كيف كان إسلامك؟ فقصّ عليه القصّة.

فقال له : صدقت وسرّ بذلك (٢).

وتكلّم شيطان من جوف هبل بهذه الأبيات :

قاتل الله رهط كعب بن فهر

ما أضلّ العقول والأحلاما (٣)

جاءنا تائه يعيب علينا

رهط آبائنا الحماة الكراما (٤)

فسجدوا كلّهم له وتنقّصوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : هلمّوا غدا نسمع أيضا.

فحزن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك ، فأتاه جنّي مؤمن وقال : يا رسول الله أنا قتلت مسعر الشيطان المتكلّم في الأوثان فأحضر الجمع لاجيبهم.

فلمّا اجتمعوا ودخل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرّت الأصنام على وجوهها فنصبوها وقالوا : تكلّمي ، فقال :

أنا الذي سمّاني المطهّرا

أنا قتلت ذا الفجور مسعرا

إذا طغى لمّا طغى واستكبرا

وأنكر الحقّ ورام المنكرا

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٤٦.

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٨٨.

(٣) في نسخة الأصل : والاحلام.

(٤) في نسخة الأصل : الكرام.

٩٤

بشتمه نبيّنا المطهّرا

قد أنزل الله عليه السورا

من بعد موسى فاتّبعنا الأثرا

فقالوا : إنّ محمّدا يخادع اللات كما خادعنا (١).

وقال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : كنت أخرج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى أسفل مكّة وأشجارها ، فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلاّ قالت : السلام عليك يا رسول الله ، وأنا اسمع (٢).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مارّا في بطحاء مكّة فرماه أبو جهل بحصاة فوقفت الحصاة معلّقة سبعة أيّام ولياليها. فقالوا : من يرفعها؟ قال : يرفعها الذي رفع السماء بغير عمد ترونها (٣).

استغاثت قريش الى معمر بن يزيد وكان أشجع الناس ومطاعا في بني كنانة ، فقال لقريش : أنا اريحكم منه فعندي عشرون ألف مدجّج فلا أرى هذا الحيّ من بني هاشم يقدرون على حربي ، فإن سألوني الدية أعطيتهم عشر ديات ، ففي مالي سعة. وكان يتقلّد بسيف طوله عشرة أشبار في عرض شبر. فأهوى الى النبيّ عليه‌السلام بسيفه وهو ساجد في الحجر ، فلمّا قرب منه عثر بدرعه فوقع ثمّ قام وقد أدمى وجهه بالحجارة وهو يعدو أشدّ العدو حتى بلغ البطحاء ، فاجتمعوا إليه وغسلوا الدم عن وجهه وقالوا : ما ذا أصابك؟ فقال : والله المغرور من غررتموه.

قالوا : ما شأنك؟ قال : دعوني تعد إليّ نفسي ، ما رأيت كاليوم! قالوا : ما ذا أصابك؟ قال : لمّا دنوت منه وثب إليّ من عند رأسه شجاعان أقرعان ينفخان بالنيران (٤).

وروى محمّد بن كعب وعائشة أنّ أوّل ما بدأ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة ، وكان يرى الرؤيا فتأتيه مثل فلق الصبح ، ثمّ حبّب إليه الخلاء ، فكان يخلو بحراء في غار ، فسمع نداء : يا محمّد ، فغشي عليه. فلمّا كان اليوم الثاني

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٨٩ ..

(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٩٠ ..

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٧٢ ..

(٤) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٧٦.

٩٥

سمع مثله نداء : فرجع الى خديجة ، فقال : زمّلوني زمّلوني ، فو الله لقد خشيت على عقلي.

قالت : كلاّ والله لا يخزيك الله أبدا ، إنّك لتصل الرحم ، وتحمل الكلّ ، وتكسب المعدم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحقّ.

فانطلقت خديجة حتى أتت ورقاء بن نوفل ، وحكت له.

فقال ورقاء : هذا والله الناموس الذي أنزل الله على موسى وعيسى ، وإنّي أرى في المنام ثلاث ليال انّ الله أرسل في مكّة رسولا اسمه محمّد ، وقد قرب وقته ، ولست أرى في الناس رجلا أفضل منه.

فخرج عليه‌السلام الى حراء فرأى كرسيّا من ياقوتة حمراء مرقاة من زبرجد ومرقاة من لؤلؤ ، فلمّا رأى ذلك غشي عليه.

فقال ورقاء : يا خديجة إذا أتته الحالة فاكشفي عن رأسك ، فإن خرج فهو ملك ، وإن بقي فهو شيطان.

فنزعت خمارها فخرج الجائي ، فلمّا اختمرت عاد.

فسأله ورقاء عن صفة الجائي ، فلمّا حكاه قام وقبّل رأسه وقال : ذاك الناموس الأكبر الذي نزل على موسى وعيسى.

ثمّ قال : ابشر إنّك أنت النبيّ الذي بشّر موسى وعيسى وإنّك نبيّ مرسل ستؤمر بالجهاد ، ثمّ توجّه نحوها وأنشأ يقول :

فإن يك حقّا يا خديجة فاعلمي

حديثك إيّانا فأحمد مرسل

وجبريل يأتيه وميكال معهما

من الله وحي يشرح الصدر منزل

يفوز به من فاز عزّا لدينه

ويشقى به الغاوي الشقيّ المضلّل

فريقان منهم فرقة في جنانه

واخرى بأغلال الجحيم تغلل (١).

وقد كان قال خزيمة بن حكيم النهدي قبل ذلك :

ويعلو أمره حتى تراه

يشير إليه أعظم ما مشير

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٤٤ ـ ٤٥.

٩٦

وهذا عمّه سيذبّ عنه

وينصره بمشحوذ بتور

ويخرجه قريش بعد هذا

إذا ما العمّ صار الى القبور

وينصره بيثرب كلّ قوم

بنو أوس وخزرج الأثير

سيقتل من قريش كلّ قرم

وكبشهم سينحر كالجزور

وهو الذي قال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مرحبا بالمهاجر الأوّل (١).

ولبعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم درجات :

أوّلها : الرؤيا الصادقة.

والثانية : ما رواه الشعبي وداود بن عامر أنّ الله تعالى قرن جبرئيل بنبوّة رسوله ثلاث سنين يسمع حسّه ولا يرى شخصه ، ويعلّمه الشيء بعد الشيء ولا ينزل عليه القرآن ، فكان في هذه المدّة مبشّرا بالنبوّة غير مبعوث الى الامّة.

والثالثة : حديث خديجة وورقاء بن نوفل (٢) فاذن له في ذكره دون إنذاره قوله تعالى : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) (٣) أي بما جاءك من النبوّة.

والرابعة : حين نزل عليه القرآن بالأمر والنهي فصار به مبعوثا ولم يؤمر بالجهر ، ونزل : ( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) (٤) فأسلم عليّ وخديجة ، ثمّ زيد ، ثمّ جعفر.

والخامسة : امر بأن يعمّ بالإنذار بعد خصوصه ، ويجهر بذلك ، ونزل : ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) (٥).

قال ابن إسحاق : وذلك بعد ثلاث سنين من مبعثه ، ونزل قوله تعالى : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (٦) فنادى يا صباحاه (٧).

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٤٨.

(٢) وفي نسخة المناقب : « والرابعة أمره بتحديث النعم فأذن له ... » ويسرد الترتيب الى الدرجة السابعة.

(٣) الضحى : ١١.

(٤) المدّثر : ١.

(٥) الحجر : ٩٤.

(٦) الشعراء : ٢١٤.

(٧) وفي هامش الأصل : « يا صاحباه » نسخة بدل.

٩٧

والسادسة : العبادات لم يشرع منها مدّة مقامه بمكّة إلاّ الطهارة والصلاة ، وكانت فرضا عليه وسنّة لامّته ، ثمّ فرضت الصلوات الخمس بعد إسرائه ، وذلك في السنة التاسعة من نبوّته (١).

وروي عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن ابي عمير ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بينا أنا نائم بالأبطح ، جعفر عن يميني وعلي عن يساري وحمزة بين يدي إذا أنا بحفيف أجنحة الملائكة وقائل يقول : الى أيّهم بعثت ، فأشار إليّ وقال : الى هذا وهو سيّد ولد آدم ، وهذا عمّه سيّد الشهداء ، وهذا ابن عمّه جعفر له جناحان يطير بهما في الجنّة مع الملائكة وحيث يشاء ، وهذا أخوه ووزيره وخليفته في امّته عليّ ، دعه فلتنم عيناه وتسمع اذناه ويعي قلبه وأضربوا له مثلا : ملك بنى دارا واتّخذ مأدبة وبعث داعيا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الله : الملك ، والدار : الدنيا ، والمأدبة : الجنّة ، والداعي : أنا.

وفي رواية عبد الله بن عبدان بن محمّد بن عبدان في الجزء الأوّل من كتاب المعجزات عن أنس بن مالك أنّه جاء الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة اسري به من مسجد الكعبة ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام ، فقال أوّلهم : أيّهم هو؟ فقال : أوسطهم هو خيرهم ، فقال أحدهم : خذوا خيرهم. فكانت تلك ، فلم يرهم حتى جاءوا ليلة اخرى والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نائمة عيناه ولا ينام قلبه ـ وكذلك الأنبياء عليهم‌السلام تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم ـ فلم يكلّموه حتى احتملوه فوضعوه عند زمزم.

وقيل : اسري به بعد النبوّة بسنتين ، وقالوا : بسنة وستّة أشهر بعد رجوعه من الطائف (٢).

* * *

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٤٢ ـ ٤٣.

(٢) كتاب المعجزات : غير موجود.

٩٨

فصل

في ذكر الإسراء والمعراج

روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتاه جبرئيل بالبراق فحمله عليه‌السلام عليه بين يديه ثمّ جعل يسير به ، فإذا بلغ مكانا متطأطئا طالت يداه وقصرت رجلاه ، واذا بلغ مكانا مرتفعا قصرت يداه وطالت رجلاه حتّى يستوى ، ثمّ عرض له رجل عن يمين الطريق فجعل يناديه : يا محمّد الى الطريق الى الطريق ، فقال له جبرئيل عليه‌السلام : امض لا تكلّمه. ثمّ عرض له رجل عن يسار الطريق فجعل ينادي : يا محمّد الى الطريق ، فقال له جبريل : امض لا تكلّمه ، ثمّ عرضت له امرأة حسناء جميلة.

فقال له جبرئيل : هل تدري ما الرجل الذي دعاك عن يمين الطريق؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا. قال : تلك اليهود دعتك الى دينها.

ثمّ قال : هل تدري من الرجل الذي دعاك عن يسار الطريق؟ قال : لا. قال : تلك النصارى دعتك الى دينها.

ثمّ قال : هل تدري ما المرأة الحسناء؟ قال : لا. قال : تلك الدنيا تدعوك الى نفسها.

ثمّ انطلقا حتّى أتيا البيت المقدس فإذا بنفر جلوس ، فقال له جبريل حين أبصروه : مرحبا بمحمّد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا في النفر الجلوس شيخ ، فقال محمّد :

من هذا يا جبريل؟ قال : هذا ابوك إبراهيم عليه‌السلام ، ثمّ سأله عن آخر فقال : من هذا يا جبريل؟ قال : هذا موسى عليه‌السلام ، ثمّ سأله عن آخر فقال : من هذا يا جبرئيل؟ قال : هذا عيسى عليه‌السلام.

ثمّ اقيمت الصلاة تدافعوا حتّى قدّموا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصلّى بهم. ثمّ اتي بإناءين فاختار محمّد اللبن ، فقال له جبرئيل : أصبت الفطرة.

فقام ثمّ جاء فقال له جبرئيل عليه‌السلام : ما ذا صنعت؟ قال : فرض عليّ خمسون صلاة قال له موسى عليه‌السلام : ارجع الى ربّك فاسأله التخفيف لامّتك فإنّ أمّتك لا تطيق

٩٩

هذا. فرجع ثمّ جاء فقال له موسى عليه‌السلام : ما صنعت؟ قال : ردّها الى خمسة وعشرين صلاة. فقال له موسى عليه‌السلام : ارجع الى ربّك فاسأله التخفيف لامّتك لأنّ أمّتك لا تطيق هذا. فرجع ثمّ جاء ، فقال له موسى عليه‌السلام : ما صنعت؟ قال : ردّها الى اثنتي عشرة. قال له موسى عليه‌السلام : ارجع الى ربّك واسأله التخفيف لامّتك لأنّ أمّتك لا تطيق هذا. فرجع ثمّ جاء ، فقال له موسى : ما صنعت؟ قال : ردّها الى خمس. فقال له موسى عليه‌السلام : ارجع الى ربّك فاسأله التخفيف لامّتك فإنّ أمّتك لا تطيق هذا.

فقال : قد استحييت من ربّي فما اراجعه وقد قال لي : إنّ لك بكلّ ردّة رددتها مسألة اعطيكها (١).

وروي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لمّا كان ليلة اسري بي وأصبحت بمكّة ضقت بأمري ذرعا وعرفت أنّ الناس مكذّبي.

قال : فقعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معتزلا حزينا ، فمرّ به أبو جهل بن هشام لعنه الله فجلس إليه كالمستهزئ به [ فقال ] : هل كان من شيء؟ قال : نعم. قال : ما هو؟ قال : اسري بي الليلة. قال : الى أين؟ قال : الى بيت المقدس. قال : ثمّ أصبحت بين ظهرينا؟ قال : نعم. قال : فلم ير أن يكذّبه مخافة أن يجحد الحديث إن دعا قومه إليه ، وقال : تحدّث قومك ما حدّثتني به إن دعوتهم إليك؟ قال : نعم.

قال : هيّا يا معشر بني كعب بن لؤيّ هلمّوا. قال : فتنقّضت المجالس فجاؤوا حتى جلسوا إليهما. فقال : حدّث قومك بما حدّثتني فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي اسري بي الليلة. قالوا : الى أين؟ قال : الى بيت المقدس قالوا : ثمّ أصبحت بين ظهرينا؟ قال : نعم قال : فمن بين مصفّق وبين واضع يده على رأسه متعجّبا الكذب.

وقالوا : تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فذهبت أنعت لهم ، فما زلت أنعت وأنعت حتى التبس عليّ بعض النعت. قال : فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو دار عقال فنعته وانا أنعته. فقال القوم : أمّا النعت والله قد أصاب.

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ١٨ ص ٣١٩ ح ٣٤.

١٠٠