تفسير المراغي - ج ١

أحمد مصطفى المراغي

ولا أدلّ على حكمة الله من جعل الإنسان الذي اختصّ بهذه المواهب خليفة فى الأرض يظهر عجائب صنعه وأسرار خليقته.

(قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) أي أتجعل من يقتل النفوس المحرمة بغير حق خليفة في الأرض؟

(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي أتستخلف من هذه صفته ونحن المعصومون؟

(قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي قال لهم ربهم : إنى أعلم من المصلحة في استخلافه ما هو خفىّ عليكم ، وفي هذا إرشاد للملائكة أن يعلموا أن أفعاله تعالى كلها بالغة غاية الحكمة والكمال وإن عمّى ذلك عليهم.

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣))

تفسير المفردات

الأسماء : واحدها اسم ، وهو في اللغة ما به يعلم الشيء ، والإنباء : الإخبار ، وقد يستعمل فى الإخبار بما فيه فائدة عظيمة وهو المراد هنا ، إيذانا برفعة شأن الأسماء وعظيم خطرها ، سبحانك : أي تقديسا وتنزيها لك ، والعليم : هو الذي لا تخفى عليه خافية ، والحكيم : هو المحكم لمبتدعاته ، الذي لا يفعل إلا ما فيه الحكمة البالغة.

٨١

المعنى الجملي

قد علمت مما سبق أن هذه المراجعات والمناظرات إما أن نفوّض أمر معرفتها إلى الله كما هو رأى السلف ، وإما أن نلجأ فيها إلى التأويل ، وأحسن طرقه أن يكون الكلام ضربا من التمثيل بإبراز المعاني المعقولة بالصور المحسوسة تقريبا للأفهام.

وبهذا القصص نعرف ما امتاز به النوع الإنسانى عن غيره من المخلوقات ، وأنه مستعدّ لبلوغ الكمال العلمي إلى أقصى الغايات ، دون الملائكة ، ومن ثمّ كان أجدر بالخلافة منهم.

الإيضاح

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) اسم الله هو ما به عرفناه في أذهاننا بحيث يقال إنا نؤمن بوجوده ، وهو بهذا الإطلاق هو الذي يتقدس ويتبارك ويتعالى كما جاء في قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ـ (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).

أو يقال المراد من الأسماء المسميات ، وعبر بها عنها للصلة الوثيقة بين الدالّ والمدلول وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الآخر ، وأيّا كان فإن العلم الحقيقي إنما هو إدراك المعلومات ، أما الألفاظ الدالة عليها فهى تختلف باختلاف اللغات التي تجرى بالمواضعة والاصطلاح.

والله تعالى علم آدم الأجناس التي خلقها ، وألهمه معرفة ذواتها وخواصها وصفاتها وأسمائها ، ولا فارق بين أن يكون هذا العلم في آن واحد أو آنات متعددة ، فالله قادر على كل شىء ، وإن كان لفظ (علّم) يشعر بالتدريج كما يشهد له نظائره من نحو : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) ـ (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) إلى نحو ذلك من الآيات التي فيها لفظ التعليم ، لكن المتبادر هنا أنه كان دفعة واحدة.

٨٢

(ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) أي ثم أطلعهم على مجموعة تلك الأشياء إطلاعا إجماليا بالإلهام أو غيره مما يليق بحالهم ، وربما كان بعرض نماذج من كل نوع يتعرف منها أحوال البقية وأحكامها.

والحكمة في التعليم والعرض تشريف آدم واصطفاؤه ، كى لا يكون للملائكة مفخرة عليه بعلومهم ومعارفهم ، وإظهار الأسرار والعلوم المكنونة في غيب علمه تعالى على لسان من يشاء من عباده.

(فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) أمر الملائكة بهذا الإنباء إظهارا لعجزهم عن معرفتها ، وإشارة إلى أن الخلافة في الكون والتصرف فيه وتدبير شؤونه وإقامة العدل فيه تكون بعد الوقوف على مراتب الاستعداد ومعرفة من يكون أهلا للخلافة.

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كان هناك مجال للدهشة في كون الخليفة من البشر ، وفي أن ما اختلج في خواطركم من الشبهة أصاب الصواب ، وحلّ محله من القبول ، فأنبئونى بأسماء ما عرضته عليكم.

وإنا لنسترشد بهذه الآية إلى أن المدّعى لشىء يطالب بالحجة والبرهان تأييدا لما ادّعى ، فالملائكة قد بحثوا عن سرّ الغيب فقرعوا بالعيان ، فكأنه قيل لهم : أنتم لا تعلمون أسرار ما تعاينون ، فكيف تتكلمون في أسرار ما لا تعاينون؟.

وفي قوله (هؤلاء) إشارة إلى أنه سمى الأشياء التي وقع عليها حسه كالطيور والبهائم وأنواع الحيوان التي أمامه.

(قالُوا سُبْحانَكَ) أي نقدسك عما لا يليق بك من قصور العلم فتخلق الخليفة عبثا خاليا من الحكمة والفائدة ، أو تسألنا عن شىء نفيده ، وأنت تعلم أن علمنا لا يحيط به ولا نقدر على الإنباء به.

وكلمة (سبحانك) تقدّم في معرض التوبة كما قال موسى عليه السلام : (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) وقال يونس : (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).

٨٣

(لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) وهو علم محدود لا يتناول جميع الأشياء ، ولا يحيط بكل المسميات ، وهذا منهم اعتراف بالعجز عما كلّفوه ، وإشعار بأن سؤالهم كان سؤال مستفسر لا سؤال معترض ، وفيه ثناء على الله بما أفاض عليهم من العلم مع تواضع وأدب ، فكأنهم قالوا لا علم لنا إلا ما علمتنا بحسب استعدادنا ، ولو كنا مستعدين لأكثر من ذلك لأفضت علينا.

ثم أكدوا ما تقدم بقولهم :

(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) وفي هذا الجواب منهم إيذان بأنهم رجعوا إلى ما كان يجب عليهم ألا يغفلوا عن مثله ، من التفويض لواسع علم الله وعظيم حكمته ، بعد أن تبين لهم ما تبين ، وإيماء إلى أن الإنسان ينبغى له ألا يغفل عن نقصانه ، وعن فضل الله عليه وإحسانه ، ولا يأنف أن يقول لا أعلم إذا لم يكن يعلم ، ولا يكتم الشيء الذي يعلم.

(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) أي أعلمهم بأسمائهم التي عجزوا عن علمها ، واعترفوا بالقصور عن بلوغ مرتبتها.

وقال «أنبئهم» دون أنبئنى ، للإشارة إلى أن علمه عليه السلام بها ظاهر لا يحتاج إلى ما يجرى مجرى الامتحان ، وإلى أنه جدير أن يعلّم غيره ، فتكون له منّة المعلم المفيد ، ولهم مقام المتعلم المستفيد ، ولئلا تستولى عليه الهيبة ، فإن إنباء العالم ليس كإنباء غيره.

(فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي فلما أنبأهم بأسمائهم وبين لهم أحوال كل منهم وخواصه وأحكامه ، قال تعالى للملائكة : قد قلت لكم إنى أعلم ما غاب في السموات والأرض فلا أخلق شيئا سدى ، ولا أجعل الخليفة في الأرض عبثا وأعلم ما تظهرون من نحو قولكم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) وما كنتم تكتمون من نحو قولكم : لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا ، فنحن أحقاء بالخلافة في الأرض.

٨٤

وفي هذه الآيات دلالة على شرف الإنسان على غيره من المخلوقات ، وعلى فضل العلم على العبادة ، فإن الملائكة أكثر عبادة من آدم ولم يكونوا أهلا لاستحقاق الخلافة ، وعلى أن شرط الخلافة العلم بل هو العمدة فيها ، وعلى أن آدم أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه أعلم منهم ، والأفضل هو الأعلم بدليل قوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

وفي استخلاف آدم في الأرض معنى سام من الحكمة الإلهية خفى على الملائكة ، فإنه لو استخلفهم فيها لما عرفوا أسرار هذا الكون وما أودع فيه من الخواص ، فإنهم ليسوا بحاجة إلى شىء مما في الأرض ، إذ هم على حال يخالف حال الإنسان ، فما كانت الأرض لتزرع بمختلف الزروع ، ولا تستخرج المعادن من باطنها ، ولا تعرف خواصها الكيمائية والطبيعية ، ولا تعرف الأجرام الفلكية ولا المستحدثات الطبية ، ولا شىء من العلوم التي تفنى السنون ولا يدرك الإنسان لها غاية.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤))

المعنى الجملي

بعد أن أعلم الله تعالى الملائكة مكانة آدم وأنه جعله خليفة في الأرض ، أمرهم بالسجود له سجود خضوع لا سجود عبادة اعترافا بفضله ، واعتذارا عما قالوه في شأنه ، من قولهم : «أتجعل فيها من يفسد فيها».

الإيضاح

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) السجود لغة الخضوع والانقياد ، ومن أعظم مظاهره وضع الجبهة على التراب ، وكان تحية للملوك عند بعض القدماء كما ورد من سجود يعقوب وأولاده ليوسف.

٨٥

والسجود لله قسمان : سجود العقلاء تعبدا على الوجه المعروف شرعا ، وسجود المخلوقات كلها بانقيادها وخضوعها لمقتضى إرادته كما قال : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) وقال : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً).

والملائكة من عالم الغيب لا نعرف حقيقتهم ، والكتاب الكريم يرشد إلى أنهم أصناف ، لكل صنف عمل ، وقد جاء في لسان الشرع إسناد إلهام الحق والخير إلى الملائكة كما يستفاد من خطابهم لمريم عليها السلام ، وإسناد الوسوسة إلى الشياطين وهو مشهور في الكتاب والسنة ، فقد روى الترمذي «إن للشيطان لمّة بابن آدم ، وللملك لمة ، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ، فليحمد الله على ذلك ، ومن وجد الآخر فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ)» واللمة : الإلمام والإصابة.

فالملائكة والشياطين أرواح لها اتصال بأرواح الناس لا نعرف حقيقته ، بل نؤمن بما ورد فيه ولا نزيد عليه شيئا آخر.

ويرى بعض المفسرين أن ما ورد من أن الملائكة موكلون بالأعمال من إنماء نبات وخلق حيوان وحفظ إنسان ، فمعناه أن هذا النموّ في النبات إنما هو بروح خاص نفخه الله في البذرة فكانت به هذه الحياة المخصوصة ، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان.

فكل شىء قائم بنظام خاص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده ، فإنما قوامه بروح إلهى سمى في لسان الشرع ملكا ، ومن لا يعترف بالغيب يسميه قوة طبيعية أو ناموسا طبيعيا ؛ فالمؤمن بالغيب يرى للأرواح وجودا لا يدرك كنهه ، والذي لا يؤمن به يقول أعرف قوة لا أفهم حقيقتها ، وإذا فلا خلاف بين الناس في وجود شىء غير ما يرى ويحسّ ، لا يفهم حق الفهم ولا يصل العقل إلى إدراك كنهه.

٨٦

وكلنا نشعر إذا هممنا بأمر فيه وجه للحق أو للخير ، ووجه للباطل أو للشر ، بأن فى نفوسنا تنازعا وكأنّ الأمر قد عرض على مجلس للشّورى ، فواحد يقول افعل وآخر يقول لا تفعل حتى ينتصر أحد الطرفين على الآخر ، فهذا الذي أودع في نفوسنا ونسميه قوة وفكرا هو في الحقيقة معنى لا ندرك كنهه ، ولا يبعد أن نسميه أو نسمى سببه ملكا ، انتهى كلامه ملخصا.

قال الأستاذ الإمام محمد عبده : فإذا جرينا على هذا التفسير فليس ببعيد أن تكون فى الآية إشارة إلى أن الله لما خلق الأرض ودبّرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها ، وجعل كل صنف من القوى مخصوصا بنوع من المخلوقات لا يتعداه ، خلق الإنسان وأعطاه قوة بها يتصرف في جميع القوى ويسخّرها في عمارة الأرض ، وهذا التسخير هو المعبر عنه بالسجود الذي يفيد معنى الخضوع ، وبهذه القوة التي لاحد لها جعله الله خليفة في أرضه ، لأنه أكمل الموجودات ، واستثنى من هذه القوى قوّة واحدة تميل بالكامل إلى النقص ، وتصده عن عمل الخير ، وتنازع الإنسان في صرف قواه إلى المنافع والمصالح التي تتم بها خلافته ، تلك القوة ضلّلت آثارها قوما فزعموا أن فى العالم إلها يسمى إله الشر ، وما هى بإله ولكنها محنة إله لا يعلم أسرار حكمته إلا هو ، تلك القوة هى المعبر عنها بإبليس.

ولو أن نفسا مالت إلى قبول هذا التأويل لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك ، والعمدة على اطمئنان القلب وركون النفس إلى ما أبصرت من الحق ، انتهى كلامه رحمه الله (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) أي سجد الملائكة جميعا إلا إبليس.

وللعلماء في حقيقة إبليس رأيان :

أحدهما أنه كان جنيّا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم متصفا بصفاتهم ، ودليل ذلك قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا

٨٧

إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) ولأن الملائكة لا يستكبرون ، وهو قد استكبر ، وهو قد خلق مما خلق منه الجن ، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).

ثانيهما : أنه كان من الملائكة ، لأن خطاب السجود كان مع الملائكة ، ولأن الظاهر من هذه الآية وأمثالها أنه منهم ، قال البغوي وهو الأصح ، وقال في التيسير : إن وصف الملائكة بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم دليل على تصور العصيان منهم ، ولولا ذلك ما مدحوا به ، لكن طاعتهم طبع وعصيانهم تكلف ، وطاعة البشر تكلف ومتابعة الهوى منهم طبع ، ولا يستنكر من الملائكة تصوّر العصيان ، فقد ذكر عن هاروت وماروت ما ذكر ، وليس هناك دليل على أن بين الملائكة والجن فروقا جوهرية بها يمتاز أحدهما من الآخر ، بل هى فروق في الأوصاف فقط ، والجميع من عالم الغيب لا نعلم حقائقها ولا نضيف إليها شيئا إلا إذا ورد به نص عن المعصوم.

(أَبى وَاسْتَكْبَرَ) أي امتنع عما أمر به من السجود ، وأظهر كبره وترفع عن الحق زعما منه أنه خير من الخليفة عنصرا ، وأزكى جوهرا كما قص ذلك عنه (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فهو الأحق بالرياسة.

(وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي وصار من الكافرين برفض الإذعان لأمر الله لزعمه أنه أفضل منه ، والأفضل لا يحسن أن يخضع لمن دونه.

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧))

٨٨

تفسير المفردات

الرغد : الهنيء الذي لاعناء فيه ، أو الواسع ؛ يقال رغد عيش القوم إذا كانوا في رزق واسع كثير ، وأرغد القوم : أخصبوا وصاروا في رغد من العيش ، والزلل : السقوط يقال زلّ في طين أو منطق يزل بالكسر زليلا ، وقال الفراء : زلّ يزلّ بالفتح زللا ، والهبوط كما قال الراغب الانحدار على سبيل القهر ، ولا يبعد أن تكون تلك الجنة في ربوة فسمى الخروج منها هبوطا أو سمى بذلك لأن ما انتقلوا إليه دون ما كانوا فيه ، أو هو كما يقال هبط من بلد إلى بلد كقوله لبنى إسرائيل (اهْبِطُوا مِصْراً) والعدو : هو المجاوز حده في مكروه صاحبه وهو يصلح للواحد والجمع ، ومن ثم لم يقل أعداء ، والمستقر : الاستقرار والبقاء ، والمتاع : الانتفاع الذي يمتد وقته ، والحين : مقدار من الزمن قصيرا كان أو طويلا ، وتلقى الكلمات : هو أخذها بالقبول والعمل بها حين علمها.

المعنى الجملي

علمت مما سلف أن الحكمة الإلهية اقتضت إيجاد النوع الإنساني في الأرض واستخلافه فيها ، وأن الملائكة فهموا أنه يفسد نظامها ويسفك الدماء ، فأعلمهم المولى بأن علمهم لا يرقى إلى الإحاطة بمعرفة حكمته ، وأن الله أوجد آدم وفضله بتعليم الأسماء كلها ، وأنه تعالى أخضع له الملائكة إلا إبليس فقد أبي واستكبر عن السجود ، لما فى طبيعته من الاستعداد للعصيان ، وهنا ذكر أنه تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتع بما فيها ونهاهما أن يأكلا من شجرة معينة ، وأعلمهما أن القرب منها ظلم لأنفسهما وأن الشيطان أزلهما عنها فأخرجهما من ذلك النعيم ، وأن آدم أناب إلى الله من معصيته فقبل توبته ، وقد سيقت هذه القصة تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم عما يلاقى من الإنكار ، ليعلم أن المعصية من شأن البشر ، فالضعف غريزة فيهم ينتهى إلى أول سلف

٨٩

منهم وهو أبوهم آدم عليه السلام ، فقد تغلبت عليه الوساوس ، فلا تأس أيها الرسول الكريم على القوم الكافرين ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.

الإيضاح

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) أي وقلنا له : اتخذ الجنة مسكنا لك ولزوجك. واختلفت آراء العلماء في الجنة المرادة هنا ، فمن قائل إنها دار الثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة ، لسبق ذكرها في هذه السورة ، وفي ظواهر السنة ما يدلّ عليه ، فهي إذا في السماء حيث شاء الله منها.

ومن قائل إنها جنة أخرى خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه السلام ، وكانت بستانا فى الأرض بين فارس وكرمان ، وقيل بفلسطين وليست هى الجنة المعروفة ، وعلى هذا جرى أبو حنيفة وتبعه أبو منصور الماتريدى في تفسيره المسمى بالتأويلات ، فقال : نحن نعتقد أن هذه الجنة بستان من البساتين ، أو غيضة من الغياض كان آدم وزوجه منعمين فيها ، وليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها ، وهذا هو مذهب السلف ولا دليل لمن خاض في تعيين مكانها من أهل السنة وغيرهم ا ه.

قال الآلوسى في تفسيره روح المعاني : ومما يؤيد هذا الرأى :

(١) أن الله خلق آدم في الأرض ليكون خليفة فيها هو وذريته ، فالخلافة منهم مقصودة بالذات ، فلا يصح أن يكون وجودهم فيها عقوبة عارضة.

(٢) أنه تعالى لم يذكر أنه بعد خلق آدم في الأرض عرج به إلى السماء ، ولو حصل لذكر لأنه أمر عظيم.

(٣) أن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلا المتقون المؤمنون ، فكيف دخلها الشيطان الكافر للوسوسة.

(٤) أنها دار للنعيم والراحة ، لا دار للتكليف ، وقد كلف آدم وزوجه ألا يأكلا من الشجرة.

٩٠

(٥) أنه لا يمنع من فيها من التمتع بما يريد منها.

(٦) أنه لا يقع فيها العصيان والمخالفة لأنها دار طهر ، لا دار رجس.

وعلى الجملة فالأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها ، ومنها أن عطاءها غير مجذوذ ولا مقطوع لا تنطبق على جنة آدم ا ه.

(وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) أي كلا منها أكلا هنيئا من أي مكان شئتما.

وأباح لهما الأكل كذلك إزاحة للعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها التي لا حصر لها.

(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) لم يبين لنا ربنا هذه الشجرة ، فلا نستطيع أن نعيّنها من تلقاء أنفسنا بلا دليل قاطع ، ولأن المقصود يحصل بدون التعيين ، ولكنا نقول إن النهى كان لحكمة كأن يكون في أكلها ضرر أو يكون ذلك ابتلاء من الله لآدم واختبارا له ، ليظهر به ما في استعداد الإنسان من الميل إلى معرفة الأشياء واختبارها ، ولو كان في ذلك معصية يترتب عليها ضرر.

وقوله : من الظالمين ، أي لأنفسكما بالوقوع فيما يترتب على الأكل منها من المعصية ، أو بنقصان حظوظكما بفعل ما يمنع الكرامة والنعيم ، أو بتعدي حدود الله.

وقد علق النهى بالقرب منها وهو مقدمة الأكل ، تنبيها إلى أن القرب من الشيء يورث ميلا إليه يلهى القلب عما يوجبه العقل والشرع.

(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) أي حملهما على الزلة بسبب الشجرة ، وقد وسوس لهما بقوله : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) وقوله : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) وقسمه لهما : (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ).

(فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) أي من الجنة أو من النعيم الذي كانا فيه ، فاتصلت العقوبة بالذنب اتصال المسبّب بسببه المباشر.

٩١

(وَقُلْنَا اهْبِطُوا) المأمور بالهبوط آدم وزوجه وإبليس ، وهو المأثور عن ابن عباس ومجاهد وكثير من السلف ، ويشهد له قوله «بعضكم لبعض عدو» إذ العداوة بين الشيطان والإنسان.

(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي اهبطوا متعادين يبغى بعضكم على بعض بتضليله.

(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي إن استقراركم في الأرض وتمتعكم فيها ينتهيان إلى وقت محدود وليسا بدائمين كما زعم إبليس حين وسوس لآدم ، وسمى الشجرة المنهىّ عنها شجرة الخلد.

وفي هذا إشارة إلى أن الإخراج من جنة الراحة إلى الأرض للعمل فيها لا للفناء ولا للمعاقبة بالحرمان من التمتع بخيراتها ولا للخلود فيها.

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) أي إن الله تعالى ألهمه كلمات فعمل بها فأناب إليه ـ وهى كما روى عن ابن عباس : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) وروى عن ابن مسعود أنها : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله إلا أنت ، ظلمت نفسى ، فاغفرلى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

(فَتابَ عَلَيْهِ) التوب الرجوع ، فإذا وصف به العبد كان رجوعا عن المعصية إلى الطاعة ، وإذا وصف به الباري تعالى أريد به الرجوع عن العقوبة إلى المغفرة.

ولا تكون التوبة مقبولة من العبد إلا بالندم على ما كان ، وبترك الذنب الآن وبالعزم على ألا يعود إليه في مستأنف الزمان ، وبردّ مظالم العباد ، وبإرضاء الخصم بإيصال حقه إليه والاعتذار له باللسان.

والخلاصة ـ إنه تعالى قبل توبته وعاد إليه بفضله ورحمته.

(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التواب هو الذي يقبل التوبة عن عباده كثيرا ، فمهما اقترف العبد من الذنوب وندم على ما فرط منه وتاب تاب الله عليه ، والرّحيم هو الذي يحفّ عباده برحمته إذا هم أساءوا ورجعوا إليه تائبين.

٩٢

وقد جمع بين الوصفين (التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) للإشارة إلى عدة الله تعالى للعبد التائب بالإحسان إليه مع العفو عنه والمغفرة له.

وهاهنا مسائل ثلاث أطال المفسرون الكلام فيها ، ونحن نوجز القول فيها.

(ا) ما أوردوه في هبوط آدم وحواء من الجنة ووصف ذلك ، وقد نقلوا أكثره من الإسرائيليات التي لا يصح شىء منها عند النقدة من أهل العلم ورجال الدين.

(ب) خلق حوّاء من ضلع آدم أخذا بظاهر قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) وقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) ومن حديث أبى هريرة في الصحيحين من قوله. صلى الله عليه وسلم : «واستوصوا بالنساء خيرا فإنهنّ خلقن من ضلع أعوج» ومما ورد في سفر التكوين في التوراة مبينا خلق آدم وحوّاء.

وجوابنا عن ذلك :

(١) أن كثيرا من المفسرين قالوا إن المراد في الآيتين بقوله «منها» أي من جنسها ليوافق قوله في سورة الروم : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) إذ المراد دون شك أنه خلق أزواجا من جنسكم ، لا أنه خلق كل زوجة من بدن زوجها.

(٢) أن الحديث قد جاء على طريق تمثيل حال المرأة واعوجاج أخلاقها ، باعوجاج الضلوع ، ويؤيد هذا قوله آخر الحديث : «وإن أعوج شىء في الضّلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء خيرا» فهو على حدّ قوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ).

(ح) عصيان آدم ثم توبته ، مع أن الأنبياء معصومون من ارتكاب الذنوب ، ولنا في الجواب عن هذه المسألة ثلاث طرق :

٩٣

(١) أن المخالفة التي صدرت منه كانت قبل النبوة ، والعصمة إنما تكون عن مخالفة الأوامر بعدها.

(٢) أن الذي وقع منه كان نسيانا ، فسمى عصيانا تعظيما لأمره ، والنسيان والسهو لا ينافيان العصمة.

(٣) أن ذلك من المتشابه كسائر ما جاء في القصة ، مما لا يمكن حمله على ظاهره ، ويجب تفويض أمره إلى الله كما هو رأى سلف الأمة ، أو هو من باب التمثيل كما هو رأى الخلف.

وقد أجاد الأستاذ الإمام محمد عبده بيانه قال :

إن إخباز الله تعالى الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها ويكون به كمال الوجود في هذه الأرض ، وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض لأنه يعمل باختياره ويعطى استعدادا في العلم والعمل لا حدّ لهما ، تصوير لما في استعداد الإنسان لذلك ، وتمهيد لبيان أنه لا ينافى خلافته في الأرض ، وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شىء في الأرض وانتفاعه به فى استعمارها ، وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب ، تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبّرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته ، وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتفع بها فى ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك ، وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هى مثار التنازع والتخاصم والتعدي والإفساد في الأرض ، ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون أفراده فيه كالملائكة ، بل أعظم أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشرى ، ويراد بالجنة الراحة والنعيم ، فإن من شأن الإنسان أن يجد في الجنة التي هى الحديقة ما يلذ له

٩٤

من مأكول ومشروب ، ومشموم ومسموع في ظل ظليل ، وهواء عليل. وماء سلسبيل ؛ ويراد بآدم نوع الإنسان كما يطلق اسم أبي القبيلة الأكبر على القبيلة فيقال : كلب فعلت كذا ويراد قبيلة كلب ، ويراد بالشجرة معنى الشر والمخالفة كما عبر الله تعالى فى مقام التمثيل عن الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة ، وفسرت بكلمة التوحيد ؛ وعن الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة وفسرت بكلمة الكفر.

والمعنى على هذا ـ إن الله تعالى كوّن النوع البشرى في أطوار ثلاثة :

(١) طور الطفولة وهو طور لا همّ فيه ولا كدر ، بل هو لهو ولعب كأنه في جنة ملتفة الأشجار يانعة الثمار.

(٢) طور التمييز الناقص ، وفيه يكون الإنسان عرضة لاتباع الهوى بوسوسة الشيطان.

(٣) طور الرشد ، وهو الذي يعتبر فيه المرء بنتائج الحوادث ، ويلتجئ فيه حين الشدة إلى القوة الغيبية العليا التي منها كل شىء وإليها يرجع الأمر كله.

والإنسان في أفراده مثال للإنسان في مجموعه ، فقد كان الإنسان في ابتداء حياته الاجتماعية ابتداء ساذجا سليم الفطرة ، مقتصرا في طلب حاجاته على القصد والعدل متعاونا على دفع ما عساه يصيبه من مزعجات الكون ، وهذا هو العصر الذي يذكره جميع طوائف البشر ويسمونه بالعصر الذهبي.

ولكن لم يكفه هذا النعيم العظيم ، فمد بعض أفراده أيديهم إلى تناول ما ليس لهم طاعة للشهوة وميلا مع خيال اللذة ، وتنبه من ذلك ما كان نائما في نفوس سائرهم ، فثار النزاع وعظم الخلاف ، وهذا هو الطور الثاني المعروف في تاريخ الأمم.

ثم جاء الطور الثالث وهو طور العقل والتدبر ، ووزن الخير والشر بميزان النظر والفكر ، وتحديد حدود للأعمال تنتهى إليها نزعات الشهوات ، ويقف عندها سير الرغبات ، وهو طور التوبة والهداية إن شاء الله.

٩٥

وبقي طور آخر أعلى من هذه الأطوار ، وهو منتهى الكمال ، وهو طور الدين الإلهىّ والوحى السماوىّ الذي به كمال الهداية الإنسانية. انتهي كلامه ملخصا.

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

تفسير المفردات

الهدى : الرشد بإرسال رسول بشريعة يأتي بها ، وكتاب ينزله ويبلغه لكم ، الخوف : ألم الإنسان مما قد يصيبه من مكروه ، أو حرمانه من محبوب يتمتع به أو يطلبه ، والحزن : ألم يلمّ به إذا فقد ما يحب ، والآيات : واحدتها آية وهى العلامة الظاهرة ، والمراد بها كل ما يدل على وجود الخالق ووحدانيته مما أودعه في الكون ونشاهده في الأنفس ، وتطلق على كل قسم من أقسام القرآن التي تتألف منها سور القرآن ، ويقف القارئ عندها في تلاوته ، والعمدة في معرفة ذلك على التوقيف المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وسميت بذلك لأنها دلائل لفظية على الأحكام والآداب التي شرعها الله لعباده ، وأصحاب النار : ملازموها فكأنهم ملكوها فصاروا أصحابها ، والخلود : الدوام.

المعنى الجملي

أمر الله تعالى آدم وحواء وإبليس بالهبوط مرتين ، الأولى للإشارة إلى أنهم يهبطون من الجنة إلى دار بلاء وشقاء ، وتعاد واستقرار في الأرض إلى حين للتمتع بخيراتها ، والثانية لبيان حالهم من حيث الطاعة والمعصية ، وأنهم ينقسمون فريقين : فريق يهتدى بهدى الله الذي أنزله وبلّغه للناس على لسان رسله ، وأولئك هم الفائزون

٩٦

ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وفريق سار في طريق الضلال وكذّب بالآيات ، وأولئك جزاؤهم جهنم خالدين فيها أبدا.

الإيضاح

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) هذا الأمر لبيان أن طور النعيم والراحة قد انتهى وجاء طور العمل ، وفيه طريقان : هدى وإيمان ، وكفر وخسران.

(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) الخطاب لآدم وزوجه وإبليس ، والمراد ذريته.

(فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) أي فمن استمسكوا بالشرائع التي أتى بها الرسل ، وراعوا ما يحكم العقل بصحته بعد النظر في الأدلة التي في الآفاق والأنفس.

(فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن المهتدين بهدى الله لا يخافون مما هو آت ، ولا يحزنون على ما فات ، فإن من سلك سبيل الهدى سهل عليه كل ما أصابه أو فقده ، لأنه موقن بأن الصبر والتسليم مما يرضى ربه ، ويوجب مثوبته ، فيكون له من ذلك خير عوض عما فاته ، وأحسن عزاء عما فقده ، فمثله مثل التاجر الذي يكدّ ويسعى وتنسيه لذة الربح آلام التعب.

والأديان قد حرّمت بعض اللذات التي كان في استطاعة الإنسان أن يتمتع بها ، لضررها إما بالشخص أو بالمجتمع ، فمن تمثلت له المضارّ التي تعقب اللذة المحرّمة وتصور ما لها من تأثير في نفسه أو في الأمة فرّ منها فرار السليم من الأجرب ، إلى أن المؤمن بالله واليوم الآخر ، يرى في انتهاك حرمات الدين ما يدنّس النفس ويبعدها عن الكرامة ، يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه.

والخلاصة ـ إن من جاءه الهدى على لسان رسول بلغه إياه واتبعه ، فقد فاز بالنجاة وبعد عنه الحزن والخوف يوم الحساب والجزاء والعرض على الملك الديان ، يوم يقوم الناس لربّ العالمين.

٩٧

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وأما الذين لم يتبعوا هداى وهم الذين كفروا بآياتنا اعتقادا وكذّبوا بها لسانا ، فجزاؤهم الخلود فى النار بسبب جحودهم بها وإنكارهم إياها اتباعا لوسوسة الشيطان ، وهذا مقابل قوله قبل «فمن تبع هداى» إلخ.

والتكذيب كفر سواء كان عن اعتقاد بعدم صدق الرسول ، أو مع اعتقاد صدقه وهو تكذيب الجحود والعناد ، وفي مثلهم يقول الله تعالى لنبيه : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) وقد يوجد الكفر بالقلب مع تصديق اللسان كما هى حال المنافقين.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))

تفسير المفردات

إسرائيل : لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، ومعناه صفىّ الله ، وقيل الأمير المجاهد ، وبنوه : ذريته وهم الأسباط الاثنا عشر ، والذكر (بالضم) بمعنى الحفظ الذي هو ضد النسيان ويكون القلب خاصة ، و (بالكسر) يقع على الذكر باللسان وبالقلب. وعهد الله نوعان : عهد نظرى ، وهو الذي أخذه على جميع البشر ، وهو وزن الأمور بميزان

٩٨

العقل والتدبر ، والنظر المؤدى إلى جلاء الحقائق توصلا إلى معرفة الخالق ، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى). وعهد دينىّ وهو أن يعبدوا الله وحده لا شريك له وأن يعملوا بشرائعه وأحكامه ، وأن يؤمنوا برسله متى قامت الأدلة على صدقهم ، والرهبة : خوف مع التحرز من الفعل ، والآيات : هى الأدلة التي أيد الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأعظمها القرآن الكريم ، واللبس بالفتح : الخلط ، والزكاة لغة : الطهارة ، إذ فيها تطهير المال من الخبث والنفس من الشح والبخل.

المعنى الجملي

بدأ سبحانه هذه السورة بذكر الكتاب وأنه لا ريب فيه ، ثم ثنى بذكر اختلاف الناس فيه : من مؤمن به ، وكافر بهديه ، ومنافق مذبذب بين ذلك ، ثم طالب الناس بعبادته ، ثم أقام الدليل على أن الكتاب منزل من عند الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ، وتحدّى المرتابين بما أعجزهم وحذرهم وأنذرهم ، ثم حاجّ الكافرين وجاءهم بأوضح البراهين ، وهو إحياؤهم مرتين وإماتتهم مرتين ، ثم ذكر خلق السموات والأرض لمنافعهم وخلق الإنسان في أطواره المختلفة ، وهنا خاطب الشعوب والأمم التي ظهرت بينها النبوة ، فبدأ بذكر اليهود لأنهم أقدم الشعوب الحاملة للكتب السماوية ، ولأنهم كانوا أشد الناس ضغنا للمؤمنين ، ولأن دخولهم في الإسلام حجة قوية على النصارى وغيرهم ، لأنهم أقدم منهم عهدا.

الإيضاح

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي احفظوا بقلوبكم نعمى بالتفكر في شكرها باللسان.

وفي هذا إشارة إلى أنهم نسوها ولم يخطروها ببالهم ، ولم تعين الآية هذه النعمة أراد بها نعمة النبوة التي اصطفاهم بها زمانا طويلا ، حتى كانوا يسمّون شعب الله.

٩٩

وهذه المكرمة التي أوتوها ، والنعمة التي اختصّوا بها وكانوا مفضلين على الأمم والشعوب تقتضى ذكرها وشكرها ، ومن شكرها الإيمان بكل نبىّ يرسله الله لهداية البشر ، لكنهم جعلوا هذه النعمة حجة للإعراض عن النبي صلى الله عليه وسلم والازدراء به ، زعما منهم أن فضل الله محصور فيهم ، فلا يبعث الله نبيا إلا منهم.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) لو نظر بنو إسرائيل إلى العهد العام أو إلى العهود الخاصة المعروفة في كتابهم الذي أنزل إليهم ، ومنها أنه سيرسل إليهم نبيا من بنى إخوتهم «إسماعيل» يقيم شعبا جديدا لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، واتبعوا النور الذي أنزل معه وكانوا من الفائزين.

أما عهد الله لهم فأن يمكّن لهم في الأرض المقدسة ، ويرفع من شأنهم ، ويخفض لهم العيش فيها ، وينصرهم على أعدائهم الكفرة ، ويكتب لهم السعادة في الآخرة.

ولما كان من موانع الوفاء بالعهد خوف بعضهم من بعض ، ذكر هنا أن الخوف يجب أن يكون من الله وحده فقال :

(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي لا ترهبوا ولا تخافوا إلا من بيده مقاليد الأمور كلها وهو الله الذي أنعم عليكم بتلك النعمة الكبرى ، وهو القادر على سلبها منكم ، وعلى عقوبتكم على ترك الشكر عليها ، ولا يرهب بعضكم بعضا خوف فوت بعض المنافع ونزول بعض الأضرار إذا أنتم اتبعتم الحق ، وخالفتم غيركم من الرؤساء.

وبعد أن ذكر الوفاء بالعهد العام انتقل إلى العهد الخاص المقصود من السياق فقال :

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) أمرهم بالإيمان بالقرآن مع دخوله في قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) إشارة إلى أن الوفاء به أهمّ إذ هو العمدة القصوى والمقصد الأول ، وهو قد نزل مصدقا لما جاء في التوراة وما قبلها من كتب الأنبياء ؛ فالأوامر التي جاء بها : من الدعوة إلى التوحيد وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، إلى نحو ذلك مما يوصّل إلى السعادة في الدنيا والآخرة ، هى مثل ما دعاكم

١٠٠