تفسير المراغي - ج ١

أحمد مصطفى المراغي

ولمثل هذا تأثير في إثارة الوهم دلت التجربة على وجوده ، وهو يغنى منتحل السحر عن توجيه همته وتأثير إرادته فيمن يعمل له السحر.

(وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) فى الملكين قراءتان فتح اللام وكسرها ، وهما رجلان شبها ؛ إما بالملائكة لانفرادهما بصفات محمودة ، وقد جرت العادة أن يقولوا هذا ملك وليس بإنسان ، وإما بالملوك كما يقال لمن كان سيدا عزيزا يظهر الغنى عن الناس : هذا من الملوك ، وكان الناس في عهد هاروت وماروت كحالهم اليوم لا يقصدون للفصل في شئونهم الروحية إلا أهل السمت والوقار الذين يلبسون لباس أهل الصلاح والتقوى.

وظاهر الآية يدل على أن ما أنزل على الملكين غير السحر لكنه من جنسه ، وقد ألهماه واهتديا إليه بلا أستاذ ولا معلم ، وقد يسمى مثل هذا وحيا كما في قوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) وقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ).

(وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) أي وما يعلم الملكان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له : إنما نحن ابتلاء من الله عزّ اسمه ، فمن تعلم منا وعمل به كفر ، ومن تعلم ولم يعمل به ثبت على الإيمان ، فلا تكفر باعتقاده وجواز العمل به. وفي هذا إيماء إلى أن تعلم السحر وكل ما لا يجوز اتباعه والعمل به ليس محظورا ، وإنما الذي يحظر ويمنع هو العمل به فحسب.

وإنما كانا يقولان ذلك إبقاء على حسن اعتقاد الناس فيهما ، إذ كانا يقولان إنهما ملكان ، كما نسمع الآن من الدجالين الذين يحترفون مثل ذلك لمن يعلمونهم الكتابة للحب والبغض. نوصيك بألا تكتب هذا لجلب امرأة إلى حبّ غير زوجها ولا تكتب لأحد الزوجين أن يبغض الآخر ، بل تجعل ذلك للمصلحة العامة كالحبّ بين الزوجين ، والتفريق بين عاشقين فاسقين ، وهذا منهم إيهام بأن علومهم إلهية وصناعتهم روحية.

١٨١

(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) أي كانوا يتعلمون منهما ما وضع لأجل التفريق بين الزوجين ، مما يسمى الآن (كتاب البغضة).

والآية لا ترشد إلى حقيقة ما يتعلمونه من السحر ـ أمؤثر بطبعه أو بسبب خفىّ أو بخارق من خوارق العادات ، أم غير مؤثّر؟ كما أنها لم تبين نوع ما يتعلمونه ، أتمائم وكتابة هو ، أم تلاوة رقى وعزائم ، أم أساليب سعاية ، أم دسائس تنفير ونكاية ، أم تأثير نفسانى ، أم وسواس شيطانى؟ فأى ذلك أثبته العلم كان تفصيلا لما أجمله القرآن ولا نتحكم في حمله على نوع منها ، ولو علم الله الخير في بيانه لبينه ، ولكنه وكل ذلك إلى بحوث الناس وارتقائهم في العلم ، فهو الذي يجلّى الغامض ، ويكشف الحقائق.

(وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي إن هذين لم يعطيا شيئا من القوى الغيبية فوق ما أعطى سائر الناس ، بل هى أسباب ربط الله بها مسبباتها ، فإذا أصيب أحد بضرر بعمل من أعمالهم ، فإنما ذلك بإذنه تعالى ، فهو الذي يوجد المسببات حين حصول الأسباب :

(وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) من قبل أنه سبب في إضرار الناس ، وهذا مما يعاقب الله عليه ، ومن عرف بإيذاء الناس أبغضوه واجتنبوه ولا نفع لهم فيه ، فإنا نرى منتحلى هذه المهن من أفقر الناس وأحقرهم ، وذلك حالهم في الدنيا ، فما بالك بهم فى الآخرة يوم يجزى كل عامل بما عمل.

(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي إنهم عالمون بأن من اختار هذا وقدّمه على العلم بأصول الدين وأحكام الشريعة التي توصل إلى السعادة فى الدارين فليس له حظ في الآخرة ، لأنه قد خالف حكم التوراة التي حظرت تعلم السحر ، وجعلت عقوبة من اتبع الجنّ والشياطين والكهان ، كعقوبة عابدى الأصنام والأوثان.

(وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي ولبئس ما باعوا به أنفسهم

١٨٢

السحر ، وعبر عن بيع الإيمان ببيع النفس ، لأنها إنما خلقت لمعرفة الدين والعمل به ، أي أنهم لو كانوا يعلمون حرمة السحر علما يصدر عن اعتقاد له أثر في النفس ويصدقون بما توعد به مرتكبه من العقوبة ـ لما ارتكبوه ولا أصرّوا عليه ، لكنهم خانهم هذا النوع من العلم واكتفوا بعلم مبهم لا أثر له في النفس ، فتسرب إليهم كثير من التأويل والتحريف لنصوص التوراة.

وهذا هو ما يفعل مثله بعض المسلمين اليوم ، إذ ينتهكون بعض حرمات الدين بمثل تلك التأويلات ، فيمنعون الزكاة بحيلة ، ويأكلون أموال الناس بحيلة أخرى ، ويشهدون الزور بحيلة ثالثة وهكذا.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) أي ولو أنهم آمنوا الإيمان الحق بكتابهم ، وفيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه ، واتقوا الله بالمحافظة على أوامره واجتناب نواهيه ـ لكان هذا الثواب العظيم الذي ينتظرونه من الله جزاء على أعمالهم الصالحة خيرا لهم من كل ما يتوقعون من المنافع والمصالح الدنيوية.

(لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي إنهم ليسوا على شىء من العلم الصحيح ، إذ لو كان كذلك لظهرت نتائجه في أعمالهم ، ولآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واتبعوه وصاروا من المفلحين لكنهم يتبعون الظن ويعتمدون على التقليد ، ومن جرّاء هذا خالفوا الكتاب وساروا وراء أهوائهم وشهواتهم فوقعوا في الضلال البعيد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥))

١٨٣

تفسير المفردات

راعنا : أي راعنا سمعك أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه ، وانظرنا : أي وأمهلنا وانتظر ما يكون من شأننا ، والمودّة : محبة الشيء وتمنى حصوله.

المعنى الجملي

هذا خطاب وجه إلى المؤمنين في شأن له اتصال باليهود ، وبه انتقل من الأحاديث الخاصة بهم إلى حديث مشترك بينهم وبين المؤمنين والنصارى في أمر من أمور الدين.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا ، وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا) نهى سبحانه الصحابة عن كلمة كانت تدور على ألسنتهم ، حين خطابهم النبي صلى الله عليه وسلم وهى كلمة (راعِنا) ومعناها راعنا سمعك : أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه ونراجعك القول لنفهمه عنك ، وانظرنا : أي راقبنا وانتظر ما يكون من شأننا في حفظ ما تلقيه علينا وفهمه.

وسبب نهيهم عنها أن اليهود لما سمعوها افترصوها وصاروا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم لاوين بها ألسنتهم لموافقة جرسها العربي لكلمة (راعينو) العبرية التي معناها (شرير) فأرشد الله نبيه الكريم لذلك ، وأمر أصحابه أن يقولوا (انْظُرْنا) وهى خير منها وأخفّ لفظا ، وتفيد معنى الإنظار والإمهال ، كما تفيد معنى المراقبة التي تستفاد من النظر بالعين ، إذ تقول : نظرت الشيء ونظرت إليه إذا وجهت إليه بصرك ورأيته.

(وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) الكافرون هنا هم اليهود ، وفي التعبير به إيماء إلى

١٨٤

أن ما صدر منهم من سوء الأدب في خطابه صلى الله عليه وسلم كفر لا شكّ فيه ، لأن من يصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شرّير ، فقد أنكر نبوّته وأنه موحى إليه من قبل ربه ، ومتى فعل ذلك فقد كفر واستحق العذاب الأليم.

قال الأستاذ الإمام : إن هذا التأديب ليس خاصا بمن كان في عصره من المؤمنين بل يعم من جاء بعدهم أيضا ، فهذا كتاب الله الذي كان يتلوه عليهم وكان يجب عليهم الاستماع له والإنصات لتدبره ـ هو الذي يتلى علينا بعينه لم يذهب منه شىء ، وهو كلام الله الذي به كان الرسول رسولا تجب طاعته والاهتداء بهديه ـ فما هذا الأدب الذي يقابله به الأكثرون؟ إنهم يلغطون في مجلس القرآن فلا يستمعون ولا ينصتون ومن أنصت واستمع فإنما ينصت طربا بالصوت واستلذاذا بتوقيع نغمات القارئ ، وإنهم ليقولون في استحسان ذلك واستجادته ما يقولون في مجالس الغناء ، ويهتزون للتلاوة ويصوّتون بأصوات مخصوصة كما يفعلون عند سماع الغناء لا فرق ، ولا يلتفتون إلى شىء من معانيه إلا ما يرونه مدعاة لسرورهم في مثل قصة يوسف عليه السلام ، مع الغفلة عما فيها من العبرة وإعلاء شأن الفضيلة ، ولا سيما العفة والأمانة ، أليس هذا أقرب إلى الاستهانة بالقرآن منه بالأدب اللائق الذي ترشد إليه هذه الآية الكريمة وأمثالها؟ (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) ا ه.

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي إن الذين عرفتم شأنهم مع أنبيائهم من أهل الكتاب حسدة لكم لا يودون أن ينزل عليكم خير من ربكم ، والكتاب الكريم أعظم الخيرات فهو الهداية العظمى ، به جمع الله شملكم ووحّد شعوبكم وقبائلكم ، وطهّر عقولكم من زيغ الوثنية ، وأقامكم على سنن الفطرة ، وكذلك المشركون إذ يرون في نزول القرآن على طريق التتابع الوقت بعد الوقت قوة للإسلام ورسوخا لقواعده ، وتثبيتا لأركانه

١٨٥

وانتشارا لهديه ، وهم يودون أن تدور عليكم الدوائر ، وينتهى أمركم ويزول دينكم من صفحة الوجود.

(وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي إن حسد الحاسد يدل على أنه ساخط على ربه معترض عليه ، لأنه أنعم على المحسود بما أنعم ، والله لا يصيره سخط الساخطين ، ولا يحوّل مجارى نعمته حسد الحاسدين ، فهو يختصّ من يشاء برحمته متى شاء ، وهو ذو الفضل العظيم على من اختاره للنبوة ، وهو صاحب الإحسان والمنّة وكل عباده غارق في بحار نعمته ، فلا ينبغى لأحد أن يحسد أحدا على خير أصابه ، وفضل أوتيه من عند ربه.

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨))

تفسير المفردات

النسخ في اللغة الإزالة ، يقال نسخت الشمس الظل : أي أزالته ، والإنساء : إذهاب الآية من ذاكرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد تبليغها إياه ، والولي : القريب والصديق ، والنصير : المعين ، والفارق بينهما أن الولي قد يضعف عن النصرة ، والنصير : قد يكون أجنبيا عمن ينصره ، والسؤال : الاقتراح المقصود به التعنت ، وبدل وتبدل واستبدل جعل شيئا موضع آخر ، وضلّ : عدل وجار ، والسواء : من كل شىء الوسط ، ومنه قوله : (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) والسبيل : الطريق.

١٨٦

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه حقيقة الوحى ورد كلام الكارهين له جملة ـ بين سر نسخه وأبطل مقال الطاعنين فيه ، بأنه تعالى يأمر بالشيء لما يعلم فيه من المصلحة ، ثم ينهى عنه لما يرى فى ذلك من الخير حينئذ ، فأطيعوا أمره واتبعوا رسله في تصديق ما به أخبروا ، وترك ما عنه زجروا.

روى أن هذه الآيات نزلت حين قال المشركون أو اليهود ، ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا ، فقد أمر فى حد الزاني بإيذاء الزانيين باللسان حيث قال : (فَآذُوهُما) ثم غيّره وأمر بإمساكهنّ في البيوت حيث قال : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) ثم غيّره بقوله : (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ).

فما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه ، يناقض بعضه بعضا ؛ ومقصدهم من ذلك الطعن في الدين ليضعفوا عزيمة من يريد الدخول فيه وينضوى تحت لوائه.

الإيضاح

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) النسخ في لسان الشرع : بيان انتهاء الحكم المستفاد من الآية المتلوة ، وحكمته أن الأحكام ما شرعت إلا لمصلحة الناس ، وهى تختلف باختلاف الزمان والمكان ، فإذا شرع حكم في وقت كانت الحاجة إليه ماسة ، ثم زالت الحاجة فمن الحكمة نسخه وتبديله بحكم يوافق الوقت الآخر فيكون خيرا من الأول أو مثله في فائدته للعباد ، وما مثل ذلك إلا مثل الطبيب الذي يغير الأغذية والأدوية باختلاف الأزمنة والأمزجة ، والأنبياء صلوات الله عليهم هم مصلحو النفوس ، يغيرون الأعمال الشرعية ، والأحكام الخلقية ، التي هى للنفوس بمثابة العقاقير والأدوية للأبدان ، فما يكون منها مصلحة في وقت قد يكون مفسدة في وقت آخر.

١٨٧

وخلاصة المعنى ـ ما نغيّر حكم آية أو ننسيكه إلا أتينا بما هو خير منه لمصلحة العباد بكثرة الثواب أو مثله فيه.

قال الأستاذ الإمام : والمعنى الصحيح الذي يلتئم مع السياق أن الآية هنا ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم ، أي ما ننسخ من آية نقيمها دليلا على نبوّة نبى من الأنبياء أي نزيلها ونترك تأييد نبى آخر بها ، أو ننسها الناس لطول العهد بمن جاء بها ، فإنا بما لنا من القدرة الكاملة والتصرف في الملك نأتي بخير منها في قوّة الإقناع وإثبات النبوّة أو مثلها في ذلك ، ومن كان هذا شأنه في قدرته وسعة ملكه فلا يتقيد بآية مخصوصة يمنحها جميع أنبيائه ا ه وقد سبقه إلى مثله محيى الدين بن العربي فى تفسيره.

ونسخ الحكم إما أن يكون بأيسر منه في العمل ، كما نسخت عدة المتوفى عنها زوجها من الحول إلى أربعة أشهر وعشر ، وإما بمساوله كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة عند الصلاة ، وإما بأشقّ منه ويكون ثوابه أكثر ، كما نسخ ترك القتال بإيجابه على المسلمين.

ثم أقام الدليل على إمكان النسخ فقال :

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم ، والمراد غيره من المؤمنين الذين ربما كان يؤذيهم ما كان يعترض به اليهود وغيرهم على النسخ ، وضعيف الإيمان يؤثر في نفسه أن يعاب ما يأخذ به ، فيخشى عليه من الركون إلى الشبهة أو تدخل في قلبه الحيرة ، فجاء ذلك تثبيتا لهم وتقوية لإيمانهم ، ببيان أن القادر على كل شىء لا يستنكر عليه نسخ الأحكام ، لأنها مما تتناولها قدرته ، ثم أقام دليلا آخر فقال :

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إن الله تعالى له ملك السموات والأرض وهما تحت قبضته والعباد أهل مملكته وطاعته ، عليهم السمع والطاعة لأمره

١٨٨

ونهيه ، فله أن ينسخ ما شاء من الأحكام ، ويقرر ما شاء منها بحسب ما يرى من الفائدة.

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي ناصركم ومعينكم هو الله وحده فلا تبالوا بمن ينكر النسخ أو يعيبكم به ، وليس في استطاعته أن يلحق بكم أذى.

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) أي أتريدون أن تسألوا رسولكم أن يجيئكم بآيات بينات فوق ما جاءكم به ، فيكون مثلكم مثل اليهود الذين سألوا موسى ما لا يجوز سؤاله تبرما وتعنتا كقولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً).

وفي هذا نصح للمسلمين أن يعملوا بما يأمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وينتهوا عما نهاهم عنه ولا يطلبوا منه غير ما جاءهم به.

ثم أتبع التحذير بالوعيد فقال :

(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي ومن يترك الثقة بالآيات البينة المنزّلة بحسب المصالح ويطلب غيرها تعنتا وعنادا للنبى صلى الله عليه وسلم ، فقد اختار الكفر على الإيمان ، واستحبّ العمى على الهدى ، وبعد عن الحق والخير ، ومن حاد عن الحق وقع في الضلال (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ).

وسبب نزول هذه الآية أن رافع بن خزيمة ووهب بن زيد قالا للنبى صلى الله عليه وسلم : ائتنا بكتاب من السماء نقرؤه ، وفجّر الأنهار نتبعك.

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠))

١٨٩

تفسير المفردات

العفو : ترك العقاب على الذنب كما قال : (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً) والصفح : الإعراض عن المذنب بصفحة الوجه ، وهو يشمل ترك العقاب وترك اللوم والتثريب ، وأمر الله : نصره ومعونته.

المعنى الجملي

بعد أن نهى عز اسمه المؤمنين في الآيات السالفة عن الاستماع لنصح اليهود وعدم قبول آرائهم في شىء من أمور دينهم ـ ذكر هنا وجه العلة في ذلك ، وهى أن كثيرا منهم يودون لو ترجعون كفارا حسدا لكم ولنبيّكم ، فهم لا يكتفون بكفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم والكيد له بنقض ما عاهدهم عليه ، بل يحسدونكم على نعمة الإسلام ويتمنون أن تحرموا منها.

وقد كان لأهل الكتاب حيل في تشكيك المسلمين في دينهم ، فقد طلب بعضهم من بعض أن يؤمنوا أوّل النهار ويكفروا آخره كى يتأسى بهم بعض ضعاف الإيمان من المسلمين ، وكانوا يلقون بعض الشبه على المؤمنين ليشكّكوهم في دينهم.

الإيضاح

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) أي تمنى كثير من اليهود والنصارى أن يصرفوكم عن توحيد الله والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويرجعوكم كفارا كما كنتم ، حسدا لكم.

وفي هذا إشارة إلى أن النصح الذي يشيرون به منشؤه الحسد وخبث النفوس وسوء الطويّة والجمود على الباطل ـ لا الغيرة على الحق وصرف الهمة في الدفاع عنه.

(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) أي من بعد أن ظهر لهم بساطع الأدلة أن محمدا

١٩٠

على الحق بما جاء به من الآيات التي تنطبق على ما يحفظونه من بشارات كتبهم بنبي يأتي آخر الزمان.

(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) أي فعاملوهم بأحاسن الأخلاق من العفو عن مذنبهم بترك عقابه ، والصفح عنه بترك لومه وتعنيفه حتى يأتى نصر الله لكم بمعونته وتأييده.

وقد يكون المعنى ـ حتى يأتى أمر الله ونصره ، وقد تحقق ذلك بقتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير من المدينة بعد أن غدروا ونقضوا العهد بموالاة المشركين بعد أن عفا عنهم وصفح مرات كثيرات.

وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة ، لأن الصفح لا يكون إلا من القادر ، فكأنه يقول لهم : لا تغرّنّكم كثرة أهل الكتاب مع باطلهم ، فأنتم على قلتكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق ، وأهل الحق مؤيدون بعناية الله ، ولهم العزة ما ثبتوا عليه.

ثم أكد الوعد السابق بالنصرة بقوله :

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي فالله هو القادر على أن يهبكم من القوة ما تتضاءل دونه جميع القوى ، ويثبتكم بما أنتم عليه من الحق فتتغلبوا على من يناوئكم ويظهر لكم العدوان اغترارا بكثرته ، واعتزازا بقوته : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

ثم ذكر سبحانه بعض الوسائل التي تحقق النصر الذي وعدوا به فقال :

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) لما في الصلاة من توثيق عرا الإيمان ، وإعلاء الهمة ، ورفعة النفس بمناجاة الله ، وتأليف قلوب المؤمنين حين الاجتماع لأدائها ، وتعارفهم فى المساجد ، وبهذا ينمو الإيمان ، وتقوى الثقة بالله ، وتتنزه النفس أن تأتى الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وتكون أقوى نفاذا في الحق ، فتكون جديرة بالنصر.

١٩١

ولما في الزكاة من توكيد الصلة بين الأغنياء والفقراء ، فتتحقق وحدة الأمة وتكون كالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تألم باقى الأعضاء بالحمى والسهر.

وقد جرت سنة القرآن أن يقرن الزكاة بالصلاة ، لما في الصلاة من إصلاح حال الفرد ، ولما في الزكاة من إصلاح حال المجتمع ، إلى أن المال شقيق الروح ، فمن جاد به ابتغاء مرضاة الله سهل عليه بذل نفسه في سبيل الله تأييدا لدينه وإعلاء لكلمته.

وبعد أن أبان أن الصلاة والزكاة من أسباب النصر في الدنيا أردف هذا ببيان أنهما من أسباب السعادة في الآخرة أيضا فقال :

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) أي وما تعملوا من خير تجدوا جزاءه عند ربكم يوم توفى كل نفس جزاء عملها بالقسطاس المستقيم.

ونحو الآية قوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ).

ونسب الوجود إلى العمل والذي يوجد هو جزاؤه ، لما للعمل من أثر في نفس العامل ، فكأن الجزاء بمثابة العمل نفسه.

ثم ختم الآية بما يحثّ المرء على الإحسان في العمل فقال :

(إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فهو عالم بجميع أعمالكم كثيرها وقليلها ، لا تخفى عليه خافية من أمركم ، خيرا كانت أو شرّا وهو مجازيكم عليها.

ولا يخفى ما في هذا من الترغيب والترهيب.

ومن مواعظ على كرم الله وجهه أنه كان إذا دخل المقبرة قال : السلام عليكم أهل هذه الديار الموحشة ، والمحالّ المقفرة ، من المؤمنين والمؤمنات ـ ثم قال : أما المنازل فقد سكنت ، وأما الأموال فقد قسمت ، وأما الأزواج فقد نكحت ، فهذا خبر ما عندنا ، فليت شعرى ما عندكم؟ والذي نفسى بيده لو أن لهم في الكلام لقالوا : إن خير الزاد التقوى.

وفي الحديث الصحيح : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة

١٩٢

جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعوله) والأول يشمل بناء المساجد ومعاهد العلم والمستشفيات والملاجئ ، والأحباس على المعوزين والمحتاجين ، والثاني : ينضوى تحته ما يخلفه الإنسان من تصنيف نافع ، أو تعليم للعلوم الدينية.

وقيد الولد بكونه صالحا ، لأن الأجر لا يحصل من غيره ، أما الوزر فلا يلحق الأب سيئة ابنه.

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣))

تفسير المفردات

الأمانىّ : واحدها أمنية وهى ما يتمناه المرء ولا يدركه ، والعرب تسمى كل ما لا حجة عليه ولا برهان له تمنيا وغرورا ، وضلالا وأحلاما ؛ وإسلام الوجه لله هو الانقياد والإخلاص له في العمل بحيث لا يجعل العبد بينه وبين ربه وسطاء يقربونه إليه زلفى ، ويقال فلان ليس على شىء من كذا : أي ليس على شىء منه يعتدّ به ويؤبه به.

المعنى الجملي

ذكر عزّ اسمه في هذه الآية حالين من أحوال اليهود ، أولاهما : تضليل من عداهم وادعاؤهم أن الحق لا يعدوهم ، وأن النبوة مقصورة عليهم ، وثانيتهما : تضليل اليهود

١٩٣

للنصارى وتضليل النصارى لهم كذلك ، مع أن كتاب اليهود أصل لكتاب النصارى ، وكتاب النصارى متمم لكتاب اليهود.

والعبرة من هذا القصص ـ أنهم قد صاروا إلى حال من اتباع الأهواء لا يعتدّ معها بقول أحد منهم لا في نفسه ولا في غيره ، فطعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عن الإيمان به لا يثبت دعواهم في أنه مخالف للحق ، فاليهود قد كفروا بعيسى وقد كانوا ينتظرونه ، والنصارى كفروا بموسى ورفضوا التوراة وهى حجتهم على دينهم ، فكيف بعدئذ يعتدّ برأيهم في محمد صلى الله عليه وسلم وهو من غير شعبهم ، وجاء بشريعة نسخت شرائعهم.

وسبب نزول الآيات أن يهود المدينة تماروا مع وفد نصارى نجران عند النبي صلى الله عليه وسلم وكذب بعضهم بعضا ، فقال اليهود لبنى نجران : لن يدخل الجنة إلا اليهود ، وقالت بنو نجران لليهود : لن يدخل الجنة إلا النصارى ـ وسواء أصحت هذه الرواية أم لم تصح ـ فعقيدة كل من الفريقين في الآخر كذلك.

الإيضاح

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) أي وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى كذلك ، وهذه آراء الفريقين إلى يومنا هذا.

(تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) أي هذه الأمنية السالفة التي تشمل أمانىّ كثيرة ، كنجاتهم من العذاب ووقوع أعدائهم فيه ، وحرمانهم من النعيم.

(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي قل لكلا الفريقين هاتوا البرهان على ما تزعمون ، وهذا وإن كان ظاهره طلب الدليل على صدق المدّعى ، فهو في عرف التخاطب تكذيب له ، لأنه لا برهان لهم عليه.

١٩٤

وفي هذا إيماء إلى أنه لا يقبل من أحد قول لا برهان عليه ، والقرآن ملىء بالاستدلال على القدرة والإرادة والوحدانية بالآيات الكونية والأدلة العقلية ، كقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)

(بلى) كلمة تذكر جوابا لإثبات نفى سابق ، وردّا لما زعموه فهى مبطلة لقولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) أي بلى إنه يدخلها من لم يكن هودا ولا نصارى ، إذ رحمة الله لا تختصّ بشعب دون شعب ، بل كل من عمل لها وأخلص فى عمله ، فهو من أهلها.

(مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي كل من انقاد لله وأخلص فى عمله ، فله الجزاء على ذلك عند ربه الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا.

والآية ترشد إلى أن الإيمان الخالص لا يكفى وحده للنجاة ، بل لا بد أن يقرن بإحسان العمل ، وقد جرت سنة القرآن إذا ذكر الإيمان أردفه عمل الصالحات كقوله :

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) وقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ).

(وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن الذين أسلموا وجوههم لله وأحسنوا العمل لا تساور نفوسهم مخاوف ولا أحزان ، كما تختلج صدور الذين أشرب قلوبهم حبّ الوثنية ، وأعرضوا عن الهداية ، إذ من طبيعة المؤمن أنه إذا أصابه مكروه بحث عن سببه واجتهد في تلافيه ، فإن لم يمكنه دفعه فوّض أمره إلى ربه ، ولم يضطرب ولم تهن له عزيمة ، علما منه بأنه قد ركن إلى القوة القادرة على دفع كل مكروه ، وتوكل على من بيده دفع كل محظور.

أما عابدو الأوثان والأصنام فهم في خوف مما يستقبلهم ، وحزن مما ينزل بهم ، فإذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم داخلهم الهلع ولم يستطيعوا صبرا على البأساء ،

١٩٥

وهم يستخذون للدجّالين والمشعوزين ، ويعتقدون بسلطة غيبية لكل من يعمل عملا لا يهتدون إلى معرفة سببه.

ثم ذكر مقال كل من الفريقين في الآخر :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) أي ليسوا على شىء من الدين يعتدّ به ، فهم قد كفروا بالمسيح مع أنهم يتلون التوراة التي تبشر به وتذكر من الأوصاف ما لا ينطبق إلا عليه ، ولا يزالون إلى اليوم يدّعون أن المسيح المبشر به فيها لمّا يأت بعد ، وينتظرون ظهوره وإعادته الملك إلى شعب إسرائيل.

(وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) أي ليسوا على شىء من الدين الصحيح ، ومن ثم أنكروا نبوّة المسيح المتمم لشريعتهم.

(وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) أي قالوا ذلك وكتاب كل من الفريقين ينطق بغير ما يعتقدون ، فالتوراة تبشر برسول منهم يأتى بعد موسى ، لكنهم خالفوها ولم يؤمنوا به ، والإنجيل يقول : إنه (المسيح) جاء متمما لناموس موسى لا ناقضا له ، وهم قد نقضوه.

والخلاصة ـ إن دينهم واحد ترك بعضهم أوّله ، وبعضهم آخره ولم يؤمن به كله أحد منهم ، والكتاب الذي يتلونه حجة عليهم شاهد على كذبهم.

ثم بين أنهم ليسوا ببدع فيما يقولون ، بل قبلهم أمم قالت مثل مقالتهم.

(كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أي مثل هذا القول الذي لم يبن على برهان ، قال الجهلة من عبدة الأوثان لأهل كل دين : لستم على شىء ؛ والحق وراء هذه المزاعم ، فهو إيمان خالص وعمل صالح لو عرفه الناس حقّ المعرفة لما تفرقوا ولا اختلفوا فى أصوله ، لكنهم تعصبوا لأهوائهم فاختلفوا فيه وتفرّقوا طرائق قددا.

(فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فهو العليم بما عليه كل فريق

١٩٦

من حقّ أو باطل ، فيحقّ الحق ويجعل أهله في النعيم ويبطل الباطل ، ويلقى أهله فى سواء الجحيم.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧))

تفسير المفردات

الاستفهام هنا للإنكار ويفيد النفي ، والظلم : وضع الشيء في غير موضعه كما تقدم ، والمسجد : موضع العبادة لله تعالى ، والمراد بخزي الدنيا الهوان والذلّ فيها ، والوجه :

الجهة ، فثمّ : أي هناك ، واسع : أي لا يحصر ولا يتحدّد ، سبحان : كلمة تفيد التنزيه والتعجب مما يقوله أولئك الجاهلون ، والقنوت : الخضوع والانقياد ، والبديع : بمعنى المبدع ، والإبداع : هو إيجاد الشيء بصورة مخترعة على غير مثال سابق.

المعنى الجملي

يشير سبحانه في هذه الآيات إلى ما وقع من تيطس الرومانى إذ دخل بيت المقدس بعد موت المسيح بنحو سبعين سنة وخربها حتى لم يبق منها حجرا على حجر ، وهدم هيكل سليمان عليه السلام حتى لم يترك إلا بعض جدران مبعثرة وأحرق بعض نسخ

١٩٧

التوراة ، وكان المسيح قد أنذر اليهود بذلك ، وكان هذا بإيعاز وتحريض من المسيحيين انتقاما منهم إذ أخرجوهم من ديارهم ، وتحقيقا لوعيد المسيح ، فتسللوا لواذا على قلتهم حتى وصلوا إلى رومية ، فحرّضوا تيطس على غزوهم في بلادهم وكان له هوى في ذلك ، فأجابهم إلى ما طلبوا وكان منه ما علمت.

الإيضاح

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها) أي وأىّ امرئ أشدّ تعديا وجراءة على الله ومخالفة لأمره ، من امرئ منع من العبادة في المساجد ، وسعى في خرابها بهدمها أو تعطيل شعائر الدين فيها ، لما في ذلك من انتهاك حرمة الأديان المؤدّى إلى نسيان الخالق ، وفشوّ المنكرات بين الناس ، ونشر الفساد فى الأرض.

(أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) أي أولئك المانعون ما كان ينبغى لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخضوع ، فكيف بهم دخلوها مفسدين ومخرّبين ، فما كانت عبادة الله إلا نافعة للبشر ، وما كان تركها إلا ضارّا لهم.

وقد توعدهم الله على ظلمهم بقوله :

(لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) فخزى الدنيا بما يعقبه الظلم من الفساد المؤدّى إلى الذل والهوان ، ولا ظلم أكبر من إبطال العبادة من المساجد والسعى فى خرابها ، وقد تحقق ما أوعد به الله فحلّ بالرومانيين الخزي في الدنيا فتقسمت دولتهم ، وتشتت ملكهم ، ولحقهم الذلّ والهوان على يد غيرهم من الأمم القوية الفاتحة ؛ وعذاب الآخرة هو ما أعدّه الله للفجار في جهنم وبئس القرار.

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي له هاتان الجهتان المعلومتان لكل أحد ، والمراد ربّ الأرض كلها ، فهو كقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ).

١٩٨

(فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أي أىّ مكان تستقبلونه في صلاتكم ، فهناك القبلة التي يرضاها الله لكم ويأمركم بالتوجه إليها ، فأينما توجه المصلى في صلاته فهو متوجه إلى الله لا يقصد بصلاته غيره ، والله تعالى راض عنه مقبل عليه.

والحكمة في استقبال القبلة ـ أنه لما كان من شأن العابد أن يستقبل وجه المعبود ، وهو بهذه الطريقة محال على الله ـ شرع للناس مكانا مخصوصا يستقبلونه في عبادتهم إياه ، وجعل استقباله كاستقبال وجهه تعالى.

(إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى لا يحصر ولا يتحدد ، فيصح ان يتوجه إليه فى كل مكان ، وهو عليم بالمتوجه إليه أينما كان ، فاعبدوه حيثما كنتم ، وتوجهوا إليه أينما حللتم ، ولا تتقيدوا بالأمكنة ، والمعبود غير مقيد.

وقد نزلت هذه الآية قبل الأمر بالتوجه إلى استقبال الكعبة في الصلاة ، وفيها إبطال لما كان يعتقده أرباب الملل السابقة من أن العبادة لا تصح إلا في الهياكل والمعابد ، وإزالة لما قد يتوهم من أن الوعيد إنما كان على إبطالها في الأماكن المخصوصة ، فأبان بها أن الوعيد إنما كان لإبطالها مطلقا ، لأن الله لا تحدده الجهات ، ولا تحصره الأمكنة.

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) فقالت اليهود : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقال المشركون : الملائكة بنات الله ، ولا فارق بين أن يكون هذا القول قد صدر من جميع أفراد الأمة أو من بعضها ، فإن أفرادها متكافلون في كل ما يعملون وما يقولون ، مما يعود أثره من خير أو شر إلى الجميع.

(سبحانه) تنزيها له تعالى أن يكون له ولد ، إذ هذا الولد إما من العالم العلوي وهو السماء أو من العالم السفلى وهو الأرض ، وليس شىء منهما بمجانس له عز اسمه ؛ إلى أن السبب المقتضى للولد هو الاحتياج إلى المعونة في الحياة والقيام مقامه بعد الموت والله منزه عن ذلك.

١٩٩

(بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي ليس الأمر كما زعموا ، بل جميع ما في السموات والأرض ملك له قانت لعزته ، خاضع لسلطانه ، منقاد لإرادته ، فما وجه مخصيص واحد منهم بالانتساب إليه وجعله ولدا مجانسا له : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً).

نعم إن الله يختص من يشاء من عباده بما شاء من الفضل كالأنبياء صلوات الله عليهم ولكن هذا لا يرتقى بالمخلوق إلى أن يصل إلى مرتبة الخالق.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي موجدهما اختراعا وابتكارا لا على مثال سابق ، وإذا كان هو المبدع لهما والموجد لجميع من فيهما فكيف يصح أن ينسب إليه شىء منهما على أنه مجانس له ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

(وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي وإذا أراد إحداث أمر وإيجاده فإنما يأمره أن يكون موجودا فيكون ، والكلام تمثيل وتشبيه لتعلق إرادته بإيجاد الشيء فيعقبه وجوده ، بأمر يصدر فيعقبه الامتثال.

والإيجاد والتكوين من أسرار الألوهية عبر عنهما بما يقربهما من الفهم وهو أن يقول للشىء كن فيكون.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠))

٢٠٠