تفسير المراغي - ج ١

أحمد مصطفى المراغي

اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣))

تفسير المفردات

البقرة : اسم الأنثى ، والثور : اسم الذكر ، والهزؤ : السخرية ، والجهل : هنا فعل ما لا ينبغى أن يفعل ، وقد يطلق على اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه ، والفارض : المسنّة التي انقطعت ولادتها ، والبكر : الصغيرة التي لم تحمل بعد ، والعوان : النصف فى السن من النساء والبهائم ، والذلول : الريّض الذي زالت صعوبته ، يقال دابة ذلول : بيّنة الذّل (بالكسر) ورجل ذلول بين الذل (بالضم) والإثارة : قلب الأرض للزراعة ، والحرث : الأرض المهيأة للزرع ، والمسلّمة : التي سلمت من العيوب ، والشّية : العلامة أي لا لون فيها يخالف لونها ، من وشى الثوب يشيه إذا زيّنه بخطوط مختلفة الألوان ، والآيات : هى الإحياء وما اشتمل عليه من الأمور الغريبة ، وادّارأتم : أي تدارأتم من الدرء وهو الدفع ، ويقال عقلت نفسي عن كذا : أي منعتها منه.

المعنى الجملي

في هذا القصص بيان نوع آخر من مساويهم لنعتبر به ونتعظ ، وفيه من وجوه العبرة :

(١) أن التنطع في الدين والإلحاف في السؤال مما يقضى التشديد في الأحكام ، ومن ثم نهينا عن ذلك بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) وبما جاء في صحيح الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم : «وكره لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال».

(٢) أنهم أمروا بذبح بقرة دون غيرها من الحيوان ، لأنها من جنس ما عبدوه

١٤١

وهو العجل ليهون عندهم ما كانوا يرون من تعظيمه ، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من حبّ عبادته.

(٣) استهزاؤهم بأوامر الأنبياء.

(٤) أن يحيا القتيل بقتل حىّ فيكون أظهر لقدرته تعالى في اختراع الأشياء من أضدادها.

وأول القصة معنى قوله : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) إلخ إذ هى المخالفة التي صدرت منهم ؛ ثم ذكر المنة في الخلاص منها في قوله : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) إلخ وقدم على ذلك وسيلة الخلاص منها وهى ذبح البقرة.

وهذا الأسلوب أدعى لتشويق السامع وأبعث له على البحث عن معرفة السبب فى ذبح البقرة والمفاجأة بحكاية ما كان من الجدل بين موسى وقومه ، فإن الحكمة فى أمر الله أمة بأن تذبح بقرة قد تخفى فيحرص السامع على طلبها.

والكتاب الكريم لا يراعى ترتيب المؤرخين في تنسيق الكلام بحسب الوقائع ، وإنما ينسق الكلام على الطريق الذي يستثير اللبّ ، ويأخذ بمجامع القلب ، ويستوحى شغف السامع بما يدور حوله الحديث.

الإيضاح

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) روى في سبب الذبح أنه كان في بنى إسرائيل شيخ موسر قتله بنو عمه طمعا في ميراثه ، وحملوه إلى قرية أخرى وألقوه بفنائها ، ثم جاءوا يطالبون بديته وادعوا على ناس منهم أنهم قتلوه ، فسألهم موسى فجحدوا فاشتبه الأمر ، فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم ما خفى من أمر القاتل ، فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها فيحيا ويخبر بقاتله.

(قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟) أي قالوا : أتجعلنا موضع سخرية وتهزأ بنا؟ نسألك عن أمر القتيل فتأمرنا بذبح بقرة ؛ وهذا غاية في الغرابة ، وبعيد كل البعد عما نريد ،

١٤٢

وقد كان الواجب عليهم أن يتمثلوا أمره ويقابلوه بالتجلة والاحترام ، ثم ينظروا ما يحدث بعد ، فهذا القول منهم دليل على السفه وخفّة الأحلام ، وجفاء الطبع والجهل بقدرة الله تعالى.

(قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي ألتجئ إلى الله من الهزؤ والسخرية بالناس ، إذ هو في مقام تبليغ أحكام الله دليل السفه والجهل.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) أي سله لأجلنا أن يكشف لنا عن الصفات المميزة لها ، وقد سألوا عن صفتها لما قرع أسماعهم بما لم يعهدوه ، فإن بقرة ميتة يضرب بها ميت فيحيا موضع العجب والغرابة والحيرة والدهشة ، ومن ثم أكثروا من الأسئلة فأجيبوا بأجوبة فيها تغليظ عليهم.

(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي ليست بالكبيرة ولا بالصغيرة ، بل هى وسط بينهما.

(فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) أي فامتثلوا الأمر ولا تتوانوا في نفاذه ، ولا يخفى ما في هذا من التحذير والتنبيه على ترك التعنت ، وكان يجب عليهم الاكتفاء به والمبادرة إلى الامتثال ، لكنهم أبوا إلا تنطّعا واستقصاء فأعادوا الطلب.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها ، قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) سألوا عن لونها فأجيبوا بما فيه الكفاية في بيان مميزاتها ، لكنهم ما قنعوا بهذا ، بل زادوا في الإلحاف وإعادة السؤال مرة أخرى.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) هذا سؤال لطلب إيضاح زيادة على ما تقدم ككونها عاملة أو سائمة ، وإظهار ، لأنه لم يحصل لهم تمام البيان.

ثم ذكروا السبب في إعادة السؤال.

(إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) أي لأن وجوه البقر تتشابه ، وفي الحديث إنه ذكر فتنا كقطع الليل تأتي كوجوه البقر ـ أي يشبه بعضها بعضا.

١٤٣

(وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) إلى البقرة المأمور بذبحها ، أو لما خفى من أمر القاتل ، أو إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا ، وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال : «لو لم يستثنوا ويقولوا إن شاء الله لما تبينت لهم آخر الأبد».

(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) أي إنها بقرة لم تذلّل بالعمل في الحراثة والسقي ، وهى سالمة من العيوب ، ولا لون فيها غير الصفرة الفاقعة.

(قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) أي إنك الآن أظهرت حقيقة ما أمرنا به بعد ذكر هذه المميزات التي ذكرتها لنا.

(فَذَبَحُوها) أي فطلبوا البقرة الحاوية لكل الأوصاف السالفة ، حتى وجدوها فذبحوها.

(وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) وما قاربوا أن يذبحوها إلا بعد أن انتهت أسئلتهم ، وانقطع ما كان من تنطعهم وتعنتهم.

والخلاصة ـ فذبحوها بعد توقف وبطء ، روى ابن جرير عن ابن عباس : «لو ذبحوا أىّ بقرة أرادوا لأجزأتهم ، ولكن شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم».

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) هذا مؤخر لفظا مقدم معنى ، لأنه أول القصة ـ أي وإذ قتلتم نفسا وأتيتم موسى وسألتموه أن يدعو الله تعالى ، فقال موسى إن الله يأمركم إلى آخر الآيات ولم يقدم لفظا ، لأن الغرض إنما هو ذبح البقرة للكشف عن القاتل ، وأسند القتل إلى اليهود المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم لأنهم سلائل أولئك ، وهم راضون بفعلهم ، كما أسنده إلى الأمة والقاتل واحد ، لأن الأمة في مجموعها كالشخص الواحد ، فيؤخذ المجموع بجريرة الواحد كما قال أبو الطيب :

وجرم جرّه سفهاء قوم

فحلّ بغير جارمه العقاب

١٤٤

(فَادَّارَأْتُمْ فِيها) أي تدافعتم وتخاصمتم في شأنها ، وكل واحد يدرأ عن نفسه ويدّعى البراءة ويتهم سواه.

(وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي والله مظهر لا محالة ما كتمتم وسترتم من أمر القتل ، فمن كان يعرف أمره يكتمه لهوى في نفسه وأغراض تبعد عنه الضغن والعداوة.

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) أي اضربوا المقتول ببعض البقرة ، أىّ بعض كان ، وقيل بلسانها ، وقيل بفخذها.

(كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) أي فضربوه فحيى ، وقلنا : كذلك يحيى الله الموتى ، أي مثل ذلك الإحياء العجيب يحيى الله الموتى يوم القيامة ، وقد روى أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دما ، وقال قتلنى فلان وفلان وهما ابنا عمه ، ثم سقط ميتا فأخذا وقتلا.

وإنما أمرهم بالضرب ولم يضرب بنفسه نفيا للتهمة ، كيلا ينسب إلى السحر والشعوذة.

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) وهى الإحياء وما اشتمل عليه من الأمور البديعة من ترتب الحياة على الضرب بعضو ميت ، وإخبار الميت بقاتله ، مما ترتب عليه الفصل في الخصومة وإزالة أسباب الفتن والعداوة.

(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لعلكم تفقهون أسرار الشريعة وفائدة الخضوع لها ، وتمنعون أنفسكم من اتباع أهوائها ، وتطيعون الله فيما يأمركم به.

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))

١٤٥

تفسير المفردات

القسوة : اليبس والصلابة ، يتفجر : يتفتح ويتشقق بكثرة وسعة ، ويهبط : يتردّى وينزل ، والخشية : الخوف.

المعنى الجملي

وصف الله حال بنى إسرائيل بعد أن رأوا من آياته التي آتاها موسى عليه السلام ما رأوا ، كانفجار الماء ورفع الجبل ، ومسخهم قردة وخنازير ، وإحياء القتيل إلى نحو ذلك ـ وصفهم بقساوة القلوب ، وضعف الوازع الديني فيها ، حتى أصبحت كالصمّ الصلاد ، بل أشدّ منها قسوة ، فلا أثر فيها لعاطفة عبرة ، ولا شعور لها بعظة ، فقد فقدت التأثر والانفعال ، وكأنّ أصحابها هبطوا من درجة الحيوان إلى دركات الجماد كالحجارة ، بل نزلوا إلى ما دونها ؛ فإن من الحجارة ما يتأثر فيشقّه الماء العذب الزّلال الذي يسيل أنهارا وجداول وعيونا يستقى منها الإنسان والحيوان ، ويحيى الأرض ، وينفع النبات ؛ ومنها ما ينحطّ من أعلى الجبل ، أو من أثنائه بحادث من حوادث الكون الهائلة كالبرا كين والزلازل والصواعق التي تدكّ الصخور وتدمّر الحصون.

أما هذه القلوب فلم تتأثر بالعظات والعبر ، ولم تستطع تلك النذر أن تشقها وتنفذ إلى أعماق الوجدان فيها ، وصارت لا تهزّها الآيات الكونية الرهيبة التي أظهرها الله على يد نبيه ، فقد كانوا مع كل ما يرونه لا يزدادون إلا عنادا ، وعتوّا في الأرض وفسادا.

الإيضاح

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) أي إن قلوبكم صلبت بعد إذ رأيتم الحق وعرفتموه ، واستكبرت عن الخضوع والإذعان لأمر الدين ، فهى كالحجارة صلابة ويبسا ، بل أشد منها.

١٤٦

والسر في تشبيه القلوب بالحجارة دون غيرها من نحو الحديد والصّفر ، أن كلا منهما يسيل بالإحماء بالنار بخلاف الحجر.

(وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ. وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي إن هذه الحجارة تارة تتأثر تأثرا يعود بمنفعة عظيمة على الناس والحيوان والزرع بخروج الأنهار منها ، وأخرى تتأثر تأثرا ضعيفا يترتب عليه منفعه قليلة فتنبع منه العيون والآبار ، وحينا تتأثر بالتردي والسقوط بلا منفعة للناس ؛ وقلوب هؤلاء لا تتأثر بحال ، فلا تجدى فيها الحكم والمواعظ التي من شأنها أن تنفذ في الوجدان وتصل إلى الجنان.

(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي إن الله لكم بالمرصاد ، فهو حافظ لأعمالكم ومحصيها عليكم ثم يجازيكم بها ، وهو يربّيكم بصنوف النقم إذا لم تجد فيكم ضروب النعم ، ولا يخفى ما في هذا من شديد التهديد والوعيد.

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩))

١٤٧

المعنى الجملي

كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شديدى الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد ، طامعين في انضوائهم تحت لوائه ، لأن دينهم أقرب الأديان إلى دينهم فى تعاليمه ومبادئه وأغراضه ، فهم يشركونهم في الاعتقاد بالتوحيد والتصديق بالبعث والنشور ، وكتابهم مصدّق لما معهم.

فقصّ الله في هذه الآيات على المؤمنين من أنبائهم ما أزال به أطماعهم ، وأيأسهم من إيمانهم بذكر ما كان يحدث من أسلافهم مع نبيهم موسى صلوات الله عليه بين آن وآخر من تمرد وعناد ، وجحود وإنكار ، فتأتيهم الآية تلو الآية ، ويحلّ بهم من العقاب ما هم له أهل ، فيطلبون من موسى أن يدعو الله ليرفع عنهم العذاب ، ويستجيبوا لدعوته ، حتى إذا ما رفعه عنهم عادوا سيرتهم الأولى معاندين جاحدين ، وقد بلغ من عنادهم أن قالوا له : لا نصدق بك ولا نطيع أوامرك ، حتى نسمع كلام الله ومناجاته إياك ، فاختار موسى بأمر الله سبعين رجلا منهم لسماع الوحى ، ومصاحبته إلى حيث يناجى ربه ، فسمعوا كلامه بطريق نحن لا نعرفها ولا ندرك كنهها ، واستيقنوا مناجاته ربه وسمعوا أوامره ونواهيه ـ ثم كان منهم أن حرّفوا كلام الله الذي حضروا وحيه وصرفوه عن وجهه بالتأويل والتحريف ، وهذا مثبت عندهم في التوراة ، وهى كتابهم المقدس.

فلا عجب إذا في إعراض الحاضرين عن هدى الله الذي جئت به ، فالمعارضة والاستكبار دأبهم ورثوهما من أسلافهم الذين كانوا يحرّفون ويبدلون ويكابرون وهم يشاهدون الدلائل الحسية تترى بين يدى موسي عليه السلام ، فأحر بهم أن يجحدوا دينا دلائله عقلية وآيته الكبرى معنوية ، وهى القرآن الكريم بما اشتمل عليه من تشريع فيه سهولة وتيسير للناس ، وفيه فصاحة أعجزت فصحاء العرب عن محاكاته ، لجأوا إلى

١٤٨

السيف والسّنان بعد أن أعجزتهم الحجة والبرهان ؛ ثم ذكر حالا أخرى لهم هى أن علماءهم وقعوا في الحيرة والاضطراب حين مجيء الدين الجديد ، أيتبعونه ولكن ربما خذله أتباعه ، أم يحتفظون بالقديم ولكن ربما كسدت سوقه وقلّ أنصاره ، وقالوا من الخير كل الخير أن نوافق كل حزب نخلو به ، ونعتذر إلى الحزب الآخر إذا عرف ما كان منا حتى يتبين اتجاه ربح السفينة.

أما عامتهم فلا علم لهم بشىء من الكتاب ، وما عندهم من الدين إلا ظنون أخذوها عن أسلافهم دون أن يكون لديهم دليل على صحتها أو فسادها ، ومثل هذا لا يسمى علما ، إنما العلم ما كان عن حجة وبرهان ، ولا يقبل الله إلا العلم الصحيح في عقائد الأديان.

الإيضاح

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الطمع تعلق النفس بإدراك ما تحب تعلقا قويا ، وهو أشد من الرجاء ، أن يؤمنوا لكم ، أي أن يؤمنوا لأجل دعوتكم إياهم ، والفريق الجماعة لا واحد له من لفظه ، من بعد ما عقلوه : أي ضبطوه وفهموه ولم تشتبه عليهم صحته ، وفي ذلك إيماء إلى تعمدهم وسوء قصدهم ، وإبطال لما عساه أن يعتذر لهم به من سوء الفهم ، وقوله : وهم يعلمون ، أي وكانوا في حال العلم بالصواب لا ناسين ولا ذاهلين ، وفي هذين الوصفين نعى عليهم وتسجيل لتعمق الفسوق والعصيان فيهم.

وخلاصة المعنى ـ استبعاد الطمع في إيمان هؤلاء ، فقد كان لهم سلف من الأحبار والرؤساء على تلك الحال الشنيعة من تحريف لكلام الله بعد سماعه وتأويله بحسب ما يشاءون ، وليس هؤلاء بأحسن حالا من أولئك.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) أي وإذا لقى اليهود أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال المنافقون منهم : إنا آمنا كإيمانكم وإن محمدا هو الرسول المبشر به.

١٤٩

(وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ؟) قوله : فتح الله عليكم ، أي بيّنه لكم خاصة في التوراة من الأحكام والبشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والتعبير عنه بالفتح للإشارة إلى أنه سر مكتوم وباب مغلق لا يقف عليه أحد ، وقوله : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ) أي ليحتجوا عليكم به فيقطعوكم بالحجة ويبكتوكم وقوله : (عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي في حكمه وكتابه ، وقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تعقلون هذا الخطأ الفاحش وأن ذلك يكون حجة عليكم.

أي إذا اجتمع بعض ممن لم ينافق إلى بعض ممن نافق ، قال الأولون عاتبين على الآخرين من المنافقين وعاذلين لهم على الإفضاء إلى المؤمنين بما بينت لهم التوراة من الإيمان بالنبي الذي يجىء مصدقا لما معهم كى يقيموا عليهم الحجة من كتاب ربهم ، من قبل أن ما حدّثوا به موافق لما في القرآن ، ولو لا أن محمدا نبىّ لما علم بهذا الذي حكاه عنهم.

(أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي أيقول اللائمون ما قالوا ، ويكتمون من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ما كتموا. ويحرّفون من كتابهم ما حرّفوا؟ ولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون من كفر وكيد ، وما يعلنون من إظهار إيمان وودّ ، فإن كانوا يؤمنون بأن الله محيط بكل شىء علما ، فلم لا يخشون بأسه ، وهو المطّلع على الظاهر ، والعالم بما يجول في الضمائر ، والمجازى على ذلك بالخزي في الدنيا والعذاب المهين فى الآخرة؟

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) الأميون واحدهم أمي ، وهو من لا يقرأ ولا يكتب ، أي إنه يكون كما ولدته أمه ، ومنه الحديث : «إنّا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب» ، والأمانى : واحدها أمنية وهى التلاوة كما قال كعب ابن زهير :

تمنّى كتاب الله أوّل ليلة

وآخره لاقى حمام المقادر

١٥٠

أي إنه لا حظ لهم من الكتاب إلا قراءة الألفاظ من غير فهم للمعنى ولا تدبر له بحيث يظهر أثرهما في العمل ، وهذا على حدّ قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً).

(وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي وما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظنّ من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم المبنى على البرهان القاطع الذي لا شكّ فيه.

وقد كانوا أكثر الناس جدلا ومراء في الحق وإن كان بيّنا ظاهرا ، وأشدّهم كذبا وغرورا وأكلا لأموال غيرهم بالباطل من ربا فاحش وغشّ وتدليس ، وهم مع ذلك يعتقدون أنهم أفضل الناس كما يعتقد أشباههم في هذا الزمان.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) الويل كلمة يقولها من يقع في هلكة ، وهى دعاء على النفس بالعذاب كما جاء في قوله تعالى حكاية عن الكافرين (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ).

أي هلاك عظيم لأولئك العلماء الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون لعوامّهم.

هذا المحرّف من عند الله في التوراة.

(لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي ليأخذوا لأنفسهم في مقابلة هذا المحرّف ثمنا وهى الرّشى التي كانوا يأخذونها جزاء ما صنعوا ، ووصف الثمن بالقلة وقد يكون كثيرا ، لأن كل ما يباع به الحق ويترك لأجله فهو قليل ، لأن الحق أثمن الأشياء وأغلاها.

وقد روى أن الآية نزلت في أحبار اليهود الذين خافوا أن تذهب رياستهم بإبقاء صفة النبي في التوراة فغيّروها.

ثم كرر الوعيد فقال :

(فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) أي فلهم عقوبة عظيمة من أجل كتابتهم هذا المحرّف ، وويل لهم من أخذهم الرشوة وفعلهم للمعاصي.

١٥١

وقد جنى اليهود الكاتبون ثلاث جنايات : تغيير صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، والافتراء على الله ، وأخذ الرشوة ، فهدّدوا على كل جناية بالويل والثبور.

قال الأستاذ الإمام محمد عبده : من شاء أن يرى نسخة مما كان عليه اليهود من قبل فلينظر فيما بين يديه فانه يراها واضحة جلية ، يرى كتبا ألّفت في عقائد الدين وأحكامه ، حرّفت فيها مقاصده وحوّلت إلى ما يغرّ الناس ويمنيهم ويفسد عليهم دينهم ويقولون هى من عند الله وما هى من عند الله ، وإنما هى صادّة عن النظر في كتاب الله والاهتداء به ـ ولا يعمل هذا إلا أحد رجلين : رجل مارق من الدين يتعمد إفساده ، ويتوخى إضلال أهله ، فيلبس لباس الدين ويظهر بمظهر أهل الصلاح ، يخادع الناس بذلك ليقبلوا ما يكتب ويقول ، ورجل يتحرى التأويل ويستنبط الحيل ، ليسهل على الناس مخالفة الشريعة ابتغاء المال والجاه ا ه.

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢))

تفسير المفردات

المسّ واللمس بمعنى ، والمراد بالنار نار الآخرة ، والمعدودة : المحصورة القليلة ، والعرب تقول : شىء معدود ، أي قليل ، وغير معدود : أي كثير ، والعهد : الوحى وخبر الله الصادق ، بلى : لفظ يجاب به بعد كلام منفى سابق ومعناه إبطاله وإنكاره ، والكسب : جلب النفع ، فاستعماله في السيئة من باب التهكم ، والسيئة : الفاحشة الموجبة للنار ، والإحاطة الشمول كأن السيئة تحصر صاحبها وتأخذ جوانب قلبه.

١٥٢

المعنى الجملي

ذكر سبحانه في هذه الآيات ضربا من ضروب غرورهم وصلفهم وادعائهم أنهم شعب الله المختار ، وأنهم أبناء الله وأحباؤه ، فهؤلاء يعذبهم دوما بل يعذبهم تعذيب الأب ابنه والحبيب حبيبه وقتا قصيرا ثم يرضى عنهم.

الإيضاح

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) أكثر اليهود على أن النار تمسهم سبعة أيام ، لأن عمر الدنيا عندهم سبعة آلاف سنة ، فمن لم تدركه النجاة ويلحقه الفوز والسعادة يمكث في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة يوم ، وقيل إنها تمسهم أربعين يوما ، وهى المدة التي عبدوا فيها العجل.

(قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) أي أعهد إليكم ربكم بذلك ووعدكم به وعدا حقّا؟ إن كان كما تقولون فلن يخلف الله وعده.

(أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أم أنتم تقولون على الله شيئا لا علم لكم به ، فإن مثله لا يكون إلا بوحي يبلّغه الرسل عنه ، وبدون هذا يكون افتياتا على الله وجراءة عليه ، لأنه قول بلا علم فهو كفر صراح.

وخلاصة هذا ـ إن مثل ذلك القول لا يصدر إلا عن أحد أمرين : إما اتخاذ عهد من الله ، وإما افتراء وتقوّل عليه ، وإذ كان اتخاذ العهد لم يحصل فأنتم كاذبون فى دعواكم ، مفترون بأنسابكم حين تدّعون أنكم أبناء الله وأحباؤه.

(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي ليس الأمر كما ذكرتم ، بل تمسّكم النار وتمسّ غيركم دهرا طويلا ، فكل من أحاطت به خطيئاته وأخذت بجوانب إحساسه ووجدانه واسترسل في شهواته ، وأصبح

١٥٣

سجين آثامه ، فجزاؤه النار خالدا فيها أبدا لما اقترف من أسبابها بانغماسه في الشهوات التي استوجبت ذلك العقاب.

والمراد بالسيئة هنا الشرك بالله ، وصاحبه مخلد في النار ، وبعض العلماء حمل السيئة على معناها العام ، وقال إن الخلود هنا المكث الطويل بمقدار ما يشاء الله ، فالعاصى مرتكب الكبائر يمكث فيها ردحا من الزمان ثم يخرج منها متى أراد الله تعالى ، وإذا أحدث المرء لكل سيئة توبة نصوحا ، وإقلاعا صحيحا عن الذنب فلا تحيط به الخطايا ، ولا ترين على قلبه السيئات ، روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكر الله في القرآن : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)».

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وأما الذين صدّقوا الله ورسله ، وآمنوا باليوم الآخر وعملوا صالح الأعمال فأدّوا الواجبات ، وانتهوا عن المعاصي فأولئك جديرون بدخول الجنة جزاء وفاقا على إخباتهم لربهم وإنابتهم إليه وإخلاصهم له في السرّ والعلن.

وفي هذا دليل على أن دخول الجنة منوط بالإيمان الصحيح والعمل الصالح معا ، كما

روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسفيان بن عبد الله الثقفي ، وقد قال له يا رسول الله. قل لى في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك ، قال : قل آمنت بالله ، ثم استقم» رواه مسلم.

وقد جرت سنة الله في القرآن أن يشفع الوعد بالوعيد مراعاة لما تقتضيه الحكمة ، وإرشاد العباد من الترغيب مرة والترهيب أخرى ، والتبشير طورا والإنذار طورا آخر ، إذ باللطف والقهر يرقى الإنسان إلى درجة الكمال ، ويفوز برضوان الله وحسن توفيقه (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ).

١٥٤

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣))

تفسير المفردات

الميثاق : العهد الشديد المؤكد ، وهو قسمان : عهد خلقة وفطرة ، وعهد نبوة ورسالة وهو المراد هنا ، وهذا العهد أخذ عليهم على لسان موسى وغيره من أنبيائهم ، واليتيم :

من الحيوان ما لا أمّ له ، ومن الإنسان من لا أب له ، وأصل المادة يفيد الانفراد ، ومنه الدرّة اليتيمة لانفرادها في العقد ، والمسكين : هو العاجز عن الكسب.

المعنى الجملي

ذكّر سبحانه في الآيات السابقة بنى إسرائيل الذين كانوا في عصر التنزيل بما أنعم الله به على آبائهم من النعم كتفضيلهم على العالمين ، وإنجائهم من الغرق وإنزال المنّ والسلوى عليهم ، ثم ما كان يحصل إثر كل نعمة من مخالفة ، فحلول عقوبة ، فتوبة من الذنب بعد ذلك.

وفي هذه الآية ذكّرهم بأهمّ ما أمر به أسلافهم من عبادات ومعاملات ، ثم ما كان منهم من إهمالها وترك اتباعها ، وسيعاد الكلام فيها أيضا بعد ، لأن المقام يحتاج إلى الإطناب والبسط ، ولأن القلوب مستحجرة لا ينفذ شعاع الحق في أكنافها ، وأذهانهم كليلة فهى في حاجة إلى التكرار بين آن وآخر ، لعلها ترجع إلى رشدها.

وقد خوطب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بهذا ليؤديهم التأمل في أحوالهم ، إلى قطع الطمع في إيمانهم ، لأن قبائح أسلافهم تمنعهم من الهدى والرشاد كما قال :

إذا طاب أصل المرء طابت فروعه

١٥٥

الإيضاح

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي واذكر أيها الرسول حين أخذنا عليهم الميثاق.

ثم بين هذا الميثاق فقال :

(لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) يقال أخذت عليك عهدا تفعل كذا ، وأن تفعل كذا ، ويرد مثل هذا الخبر في كلامهم متضمنا معنى النهى أو الأمر كما تقول : تذهب إلى فلان وتقول له كيت وكيت ، على معنى اذهب وقل له ، وفيه مبالغة وتوكيد كأن المخاطب سيمتثل النهى حتما ويسارع إلى الترك فيخبر به الناهي ، أي لا تعبدوا إلا الله.

وقد نهوا عن عبادتهم غير الله مع أنهم كانوا يعبدون الله خوفا من أن يشركوا به سواه من ملك أو بشر أو صنم بدعاء أو غيره من أنواع العبادات.

ودين الله على ألسنة الرسل جميعا فيه الحث على عبادة الله وعدم الشرك بعبادة أحد سواه (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) فالتوحيد عماده الأمران معا.

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي أحسنوا إليهما ، بأن تعطفوا عليهما وترعوهما حق الرعاية ، وتنزلوا عند أمرهما فيما لا يخالف أوامر الله ، وقد جاء في التوراة أن من يسبّ والديه يقتل.

والحكمة في البرّ بهما أنهما قد بذلا للولد وهو صغير كل عناية وعطف بتربيته والقيام بشئونه ، حين كان عاجزا ضعيفا لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا ، مع الشفقة التي لا مزيد عليها ، أفلا يجب عليه بعدئذ مكافأتهما جزاء وفاقا لما صنعا؟ (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ).

ولحب الوالدين لولدهما أسباب :

(١) الحنان الفطري الذي أودعه الله فيهما إتماما لحكمته في بقاء الأنواع إلى الأمد الذي قدره في سابق علمه.

١٥٦

(٢) التفاخر بالأبناء كما قال ابن الرومي :

وكم أب قد علا بابن ذرا شرف

كما علت برسول الله عدنان

(٣) الأمل في الاستفادة منهما مالا وعونا على المعيشة.

وهذا الحب لا يحتاج إلى ما يقوّيه ويوثّق صلته ، ومن ثم ترك القرآن النص عليه.

(وَذِي الْقُرْبى) لأن الإحسان إليهم مما يقوّى الروابط بينهم.

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسان

فما الأمة إلا مجموعة الأسر والبيوت ، فصلاحها بصلاحها وفسادها بفسادها ، ومن لا بيت له لا أمّة له ، ومن قطع لحمة النسب فكيف يصل ما دونها ، وكيف يكون جزاء من الأمة ، يسره ما يسرها ويؤلمه ما يؤلمها ، ويرى في منفعتها منفعته ، وفي مضرتها مضرته.

ونظام الفطرة قاض بأن صلة القرابة أمتن الصلات ، وجاء الدين حاثا عليها مؤكدا لأواصرها ، مقويا لأركانها ، مقدما لحقوقها على سائر الحقوق بحسب درجات القرابة.

(وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) فالإحسان إلى اليتيم بحسن تربيته وحفظ حقوقه من الضياع ، والكتاب والسنة مليئان بالوصية به ، وحسبك من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» وأشار بالسبّابة الوسطى.

والسر في هذا أن اليتيم لا يجد في الغالب من تبعثه العاطفة على تربيته والقيام بشئونه وحفظ أمواله ، والأم وإن وجدت تكون في الغالب عاجزة عن تنشئته وتربيته التربية المثلى ، إلى أن الأيتام أعضاء في جسم الأمة ، فإذا فسددت أخلاقهم وساءت أحوالهم ، تسرّب الفساد إلى الأمة جمعاء ، إذ يصبحون قدوة سيئة بين نشئها ، فيدبّ فيها الفساد ويتطرّق إليها الانحلال ، وتأخذ في الفناء.

والإحسان إلى المساكين يكون بالصدقة عليهم ومواساتهم حين البأساء والضراء ، روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «الساعي على الأرملة

١٥٧

والمسكين كالمجاهد في سبيل الله (وأحسبه قال) وكالقائم لا يفتر ، والصائم لا يفطر».

وقد اليتيم على المسكين ، لأن هذا يمكنه أن يسعي بنفسه للحصول على قوته ، بخلاف الأول فإن الصغر مانع له من ذلك.

(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) أمر الله أولا بالإحسان بالمال لأقوام مخصوصين ، وهم الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين ، إذ لا يمكن الشخص أن يحسن به إلى الناس جميعا ، لأنه لا يسع كل الأمة ، ومن ثم اكتفى في حقوق سائر أفرادها بحسن العشرة والقول الجميل ، والأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ونحو ذلك مما هو نافع لهم فى الدين والدنيا.

وفي القيام بهذه الفرائض إصلاح لحال المجتمع وسعى في رقيه وتقدمه حتى يبلغ ذروة المجد والشرف.

وبعد أن أمرهم سبحانه بعبادته وحده على سبيل الإجمال ، فصّل بعضا من ذلك مما لا يهتدى إليه إلا بهدى إلهى ووحي سماوى فقال :

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) لأن الصلاة هى التي تصلح النفوس وتنقيها من أدران الرذائل ، وتحليها بأنواع الفضائل ، وروحها هو الإخلاص لله والخشوع لعظمته وسلطانه ، فإن فقدته كانت صورا ورسوما لا تغنى فتيلا ، وهم ما تولّوا ولا أعرضوا عن تلك الصور والرسوم إلى عصر التنزيل ، بل إلى يومنا هذا.

ثم الزكاة لما فيها من إصلاح شئون المجتمع ، وقد كان لهم ضروب من الزكاة منها مال خاص يؤدى لآل هارون ، وهو إلى الآن في اللاويين (سبط من أسباطهم) ومنها مال للمساكين ، ومنها ما يؤخذ من ثمرات الأرض ، ومنها سبت الأرض وهو تركها في كل سبع سنين مرة بلا حرث ولا زرع ، وكل ما يخرج منها في تلك السنة فهو صدقة.

(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) أي ثم كان من أمركم أن توليتم عن العمل بالميثاق ورفضتموه وأنتم في حال الإعراض عنه وعدم الاهتمام بشأنه.

١٥٨

وفي قوله : (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) مبالغة في الترك المستفاد من التولي ، لأن الإنسان قد يتولى عن شىء وهو عازم على أن يعود إليه ويؤدى ما يجب له ، فليس كل من تولّى عن شىء يكون معرضا عنه.

وقد كان من توليهم وإعراضهم أن اتخذوا الأحبار والرهبان أربابا مشرّعين يحلّون ويحرّمون ، ويبيحون ويحظرون ، ويزيدون ما شاءوا من الشعائر والمناسك الدينية ، فكأنهم شركاء لله يشرّعون لهم ما لم يأذن به الله ، كما كان من توليهم أن بخلوا بالمال في الواجبات الدينية كالنفقة على ذوى القربي وأداء الزكاة ، وتركوا النهى عن المنكر إلى نحو ذلك مما يدل على الاستهتار بأمور الدين ، وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) أخرج بعض من كانوا في عهد موسى عليه السلام ممن أقام اليهودية على وجهها ، ومن كان في عصر التنزيل أو بعده وأسلم كعبد الله بن سلام وأضرابه من المخلصين المحافظين على الحق بقدر الطاقة ، وفائدة ذكره عدم بخس العاملين حقهم ، والإشادة بذكرهم ، والإشارة إلى أن وجود القليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب إذا فشا فيها الفساد وعمّ البلاء ، وقد جرت سنة الله بأن بقاء الأمة عزيزة مرهوبة الجانب ذات سطوة وبأس ، إنما يكون بمحافظة السواد الأعظم فيها على الأخلاق الفاضلة والدأب على العمل الذي به تستحق العزّ والشرف.

بعد هذا لا عجب فيما ترى من حلول الكرب والبلاء بالمسلمين الذين فتنوا في دينهم ودنياهم وهم غافلون لا هون ، لا يعتبرون ولا يذّكرون.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ

١٥٩

بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))

تفسير المفردات

السفك : الصبّ والإراقة ، والتظاهر : التعاون ، والإثم : هو الفعل الذي يستحق فاعله الذمّ واللوم ، والعدوان : تجاوز الحد في الظلم.

المعنى الجملي

ذكّر الله بنى إسرائيل في الآية السابقة بأهمّ ما أمروا به من إفراده تعالى بالعبادة والإحسان إلى الوالدين وذوى القربى ، ثم بين أنهم لم يأتمروا بذلك.

وفي هذه الآيات ذكّرهم بأهم المنهيات التي أخذ عليهم العهد باجتنابها ، ثم نقضوا الميثاق ولم ينتهوا ، والخطاب هناك للذين كانوا في عصر موسى عليه السلام ، وهو هنا للحاضرين في عصر التنزيل ، إرشادا إلى أن الأمة كالفرد يصيب خلفها أثر ما كان عليه سلفها ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر ما داموا على سنتهم ، يحتذون حذوهم ويجرون على نهجهم ، كما أن ما يفعله الشخص حين الصغر يؤثر في قواه العقلية وأخلاقه النفسية حين الكبر ، والمشاهدة أكبر برهان على ذلك.

الإيضاح

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي وإذ أخذنا عليكم العهد : لا يريق بعضكم دم بعض ، ولا يخرج بعضكم بعضا من ديارهم

١٦٠