تفسير المراغي - ج ١

أحمد مصطفى المراغي

العجل : لن نصدّقك في قولك إن هذا كتاب الله ، وإنك سمعت كلامه ، وإن الله أمر بقبوله والعمل به حتى نرى الله عيانا لا ساتر بيننا وبينه ، فيكون كالجهر في الوضوح «والجهر في المسموعات كالمعاينة في المبصرات».

(فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي فأخذت الصاعقة من قال ذلك ، والباقون ينظرون بأعينهم ، وقد فصل ذلك في سورة الأعراف ؛ وفي التوراة : إن طائفة منهم قالوا لما ذا اختص موسى وهارون بكلام الله من دوننا ، وشاع ذلك في بنى إسرائيل وقالوا لموسى بعد موت هارون : إن نعمة الله على شعب إسرائيل لأجل إبراهيم وإسحاق فتعمّ الشعب جميعه ، وأنت لست أفضل منه ، فلا يحق لك أن تسودنا بلا مزية ، وإنا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فأخذهم إلى خيمة العهد فانشقت الأرض وابتلعت طائفة منهم وجاءت نار من الجانب الآخر فأخذت الباقين.

وهكذا كان حال بنى إسرائيل مع موسى يتمردون ويعاندون ، وسوط العذاب يصبّ عليهم صبّا ، فأصيبوا بالأوبئة وأنواع الأمراض وسلطت عليهم هوامّ الأرض وحشراتها حتى فتكت بالعدد العديد والخلق الكثير ، فليس ببدع منهم أن يجحدوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ويعاندوها.

(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يرى بعض المفسرين أن الله أحياهم بعد أن وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم ، وكانت تلك الموتة لهم كالسكتة القلبية لغيرهم. ويرى آخرون أن المراد بالبعث كثرة النسل ، أي إنه بعد أن وقع فيهم الموت بشتى الأسباب وظنّ أنهم سينقرضون ، بارك الله في نسلهم ليعدّ الشعب بالبلاء السابق للقيام بحق الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حلّ بهم العذاب بكفرهم لها.

وإنما قص الله علينا هذا القصص ووجهه إلى من كان من اليهود في عصر التنزيل لبيان وحدة الأمة ، وأن ما يبلوها به من الحسنات والسيئات وما يجازيها به من النعم

١٢١

والنقم إنما هو لمعنى فيها يسوغ أن يخاطب اللاحق منها بما كان للسابق كأنه وقع منه ، ليعلم الناس أن الأمم متكافلة ، سعادة الفرد منها مرتبطة بسعادة سائر الأفراد ، وشقاؤه بشقائهم ، ويتوقع نزول العقوبة به إذا فشت الذنوب في الأمة وإن لم يفعلها هو كما قال : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).

وفي هذا التكافل رقىّ الأمة وتقدمها في المدنية والحضارة ، إذ يحملها على التعاون البأساء والضراء فتحوز قصب السبق بين الأمم.

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) ذاك أنهم حين خرجوا من مصر وجاوزوا البحر ، وقعوا فى صحراء فأصابهم حر شديد ، فشكوا إلى موسى فأرسل الله إليهم الغمام يظللهم حتى دخلوا أرض الميعاد.

(وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) ما منحه الله لعباده يسمى إيجاده إنزالا كما جاء فى قوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) وقد قالوا إن المنّ كان ينزل عليهم نزول الضباب من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وتأتيهم السّمانى فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه إلى الغد.

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي وقلنا لهم كلوا من ذلك الرزق الطيب ، وفي سفر الخروج ـ أنهم أكلوا المنّ أربعين سنة وأن طعمه كالرّقاق بالعسل ، وكان لهم بدل الخبز إذ كانوا محرومين من البقول والخضر.

(وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي فكفروا تلك النعم الجزيلة ، وما عاد ضرر ذلك إلا عليهم باستيجابهم عذابى وانقطاع ذلك الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مئونة ولا مشقة.

وفي هذا إيماء إلى أن كل ما يطلبه الله من عباده فإنما نفعه لهم ، وما ينهاهم عنه فإنما ذلك لدفع ضرّ يقع عليهم ، وقد جاء في الحديث القدسي : «فكل عمل ابن آدم له

١٢٢

أو عليه» وهو بمعنى قوله : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» وقوله : «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى».

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩))

تفسير المفردات

القرية لغة : مجتمع الناس ومسكن النمل ، ثم غلب استعمالها في البلاد الصغيرة ، وليس ذلك بالمراد هنا بل المراد المدينة الكبيرة ، لأن الرغد لا يتسنى إلا فيها ، والرغد : الهنيء ذو السعة ، والباب هو أحد أبواب بيت المقدس ويدعى الآن (باب حطّة) ، وسجدا : أي ناكسى الرءوس ، والمحسن : من فعل ما يجمل في نظر العقل ويحمد في لسان الشرع ، وتقول بدّلت قولا غير الذي قيل : أي جئت بذلك القول مكان القول الأول ، والرجز : العذاب.

المعنى الجملي

ذكر سبحانه في هاتين الآيتين بعض ما اجترحوه من السيئات ، فقد أمرهم أن يدخلوا قرية من القرى خاشعين لله ، فعصى بعضهم وخالف أمر ربه ، فأنزل عليهم عذابا من السماء جزاء ما ارتكبوه من المعاصي واقترفوه من الآثام.

١٢٣

الإيضاح

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) لم يعين الكتاب الكريم هذه القرية فلا حاجة إلى تعيينها ، وهم قد دخلوا بلادا كثيرة ، وإن كان المروي عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة وغيرهم أنها بيت المقدس.

(فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) أي فكلوا منها أكلا هنيئا ذا سعة في أي مكان شئتم.

(وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي وادخلوا باب حطة خشّعا ناكسى الرءوس تواضعا لله ، وقد يكون المعنى : إذا دخلتم الباب فاسجدوا لله شكرا على ما أنعم عليكم ، إذ أخرجكم من التيه ، ونصركم على عدوكم ، وأعادكم إلى ما تحبون ، وقولوا نسألك ربنا أن تحط عنا ذنوبنا وخطايانا التي من أهمها كفران النعم.

(نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) أي إذا فعلتم ما ذكر استجبنا دعاءكم وكفّرنا خطاياكم.

(وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) أي وسنزيد المحسنين ثوابا من فضلنا ، وقد أمرهم بشيئين : عمل يسير ، وقول صغير ، ووعدهم بغفران السيئات ، وزيادة الحسنات.

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أي فخالفوا الأمر ولم يتبعوه ، وجعل المخالفة تبديلا إشارة إلى أن الذي يؤمر بالشيء فيخالفه كأنه أنكر أنه أمر به وادعى أنه أمر بغيره ، وليس المراد أنهم أمروا بحركة يأتونها وكلمة يقولونها على سبيل التعبد ، وجعل ذلك سببا لغفران الذنوب عنهم ، فقالوا غيرها وخالفوا الأمر وكانوا من الفاسقين ، فما أسهل الكلام على الناس يحركون به ألسنتهم ، وإنما يعصى العاصي ربه إذا كلّف ما يثقل عليه ، وحمّل غير ما اعتاد ، لما في ذلك من ترك النفس ما ألفت ، واستيحاشها من غير ما عرفت.

(فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) لم يعين الكتاب

١٢٤

هذا الرجز فنتركه مبهما ، وإن كان كثير من المفسرين قالوا إنه الطاعون ، وقد ابتلى الله بنى إسرائيل بضروب من النقم عقب كل نوع من أنواع الفسوق والظلم ، فأصيبوا بالطاعون كثيرا ، وسلّط عليهم أعداؤهم ، وقوله بما كانوا يفسقون : أي بسبب تكرار فسقهم وعصيانهم ومخالفتهم أوامر دينهم.

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠))

تفسير المفردات

استسقى : طلب السّقيا عند عدم الماء أو قلّته ، قال أبو طالب يمدح النبي صلى الله عليه وسلم.

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

والانفجار ، والانبجاس ، والسكب بمعنى ، والمشرب مكان الشرب ، والعثى : مجاوزة الحد في كل شىء ثم غلب استعماله في الفساد.

المعنى الجملي

ذكر سبحانه في هذه الآية نعمة أخرى آتاها بنى إسرائيل فكفروا بها ، ذاك أنهم حين خرجوا من مصر إلى التيه أصابهم ظمأ من لفح الشمس ، فاستغاثوا بموسى ، فدعا ربه أن يسقيهم فأجاب دعوته.

وقد كان من دأب بنى إسرائيل أن يعودوا باللوم على موسى إذا أصابهم الضيق ، ويمنّون عليه بالخروج معه من مصر ، ويصارحونه بالندم على ما فعلوا ، فقد روى أنهم

١٢٥

قالوا من لنا بحرّ الشمس؟ فظلّل عليهم الغمام ، وقالوا من لنا بالطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ والسّلوى ، وقالوا من لنا بالماء؟ فأمر موسى بضرب الحجر.

الإيضاح

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) أي طلب لهم السّقيا من الله تعالى بأن يسعفهم بماء يكفيهم حاجاتهم في هذه الصحراء المحرقة.

(فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) أي فأجبناه إلى ما طلب ، وأوحينا إليه أن اضرب الحجر بعصاك ، وقد أمره أن يضرب بعصاه التي ضرب بها البحر حجرا من أحجار الصحراء ، قال الحسن لم يكن حجرا معينا ، بل أىّ حجر ضربه انفجر منه الماء ، وهذا أظهر في حجة موسى عليه السلام ، وأدلّ على قدرة الله تعالى وقد سماه في سفر الخروج الصخرة.

(فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) أي فضرب فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بقدر عدد الأسباط ، فاختصّ كل منهم بعين حتى لا تقع بينهم الشحناء ، كما يرشد إلى ذلك قوله.

(قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) أي قد صار لكل سبط منهم مشرب يعرفه ، لا يتعداه إلى مشرب غيره.

قال النّطاسى البارع المرحوم عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه : (الإسلام والطب الحديث) ما خلاصته :

إن الله تعالى كان قادرا على تفجير الماء وفلق البحر بلا ضرب عصا ، ولكنه جلّت قدرته أراد أن يعلم عباده ربط المسببات بأسبابها ليسعوا في الحصول على تلك الأسباب بقدر الطاقة.

إلى أنه تعالى خلق الإنسان محدود الإدراك والحواس ، لا يفهم إلا ما كان في متناول يده ويقع تحت إدراكه وحسه ، فإن رأى شيئا فوق طاقته اجتهد في رده إلى ما يعرف ،

١٢٦

فإذا لم يستقم له ذلك وقف حائرا مدهوشا ، ولا سيما إذا تكرر ذلك أمامه ، فكان من لطف الله بعباده أن تظهر المعجزات على يد الأنبياء على طريق التدرّج حتى لا تصطدم بها عقول معاصريها دفعة واحدة.

حكى القرآن في معجزات عيسى عليه السلام قوله : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ).

كان الله قديرا على أن يخلق الطير من الطين ومن غير الطين سواء كان في شكل الطير أم لم يكن ، وكذلك لم يكن هناك من داع للنفخ ، لأن طريق القدرة (كُنْ فَيَكُونُ).

ولكن شاء الله أن تظهر قدرته بطريق التدرج ، لأن الطين إذا كان على شكل الطير يشتبه بالطير الحقيقي ولا يكون بينهما فارق إلا بالحياة ، وعملية النفخ تجعل الرائي ينتظر تغييرا في الجسم كما يحدث ذلك في الكرة ونحوها إذا نفخ فيها ، فإذا وجدت الروح في هذا الهيكل الطيني تكون حدّة الصدمة قد خفّت ، لأن النفس كانت ترقب ما حدث ، وجميع المقدمات لا دخل لها مطلقا في وجود الحياة والروح.

وكذلك خلق عيسى من نطفة الأم فقط ، مع أن الحيوان في عالمنا لا يخلق إلا من نطفتى الأب والأم ، ونظام الكائنات يجرى على سنن واحد إلا حيث يريد الله.

وقد لطف الله بمريم فأراها ملكا في صورة بشر ، وقال لها سأهب لك غلاما زكيا ، فأجابته : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) فرؤية الملك والأحوال التي أحاطت به أوجدت عندها بعض الشك في أنها ربما حملت بطريق غير عادى ، وبهذا تهيأ احتمالها صدمة الحمل عند ما حصل.

١٢٧

وكان الله تعالى جعل النفخ يأخذ مكان نطفة الرجل ، وكان تمثل الملك بصورة البشر كتمثل الطين بصورة الطير ، والنفخ في مريم كالنفخ في الطين ، وكل ذلك تقريب لفهم المعجزة ، وإلا فعيسى خلق من نطفة مريم ، والجزء الآخر بإذن الله وقدرته (كُنْ فَيَكُونُ) وسنن الله التي أوجدها في الكون وكفل لها الاستمرار وعدم التبدل والتي قام عليها نظام العالم (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) قد بدّلت في المعجزات بالقدرة الإلهية التي تضع جميع السنن ، وكأنّ المعجزة سنة جديدة.

والخلاصة ـ إن المعجزات كلها من صنع الله ، وهى سنة جديدة غير ما نشاهد كل يوم ، فحركة الشمس وطلوعها من المشرق مع عظمها لا تحدث دهشة لتعوّدنا إياها ، ولكن إن طلعت من المغرب دون المشرق كان معجزة وأحدث غرابة ودهشة مع أن الحركتين من صنع الله لا فارق بينهما ، ولكى لا تحدث الصدمة حين حصول المعجزة يهيئ الله الظروف لتحمّلها ، ويهيئ النبي لقبولها ، ويهيئ الحاضرين لمشاهدتها وقبولها ، فأمر الله موسى بإدخال يده في جيبه وإخراجها بيضاء تهيئة لمعجزاته الأخرى ، وليس للعقل أن يحكم أن أىّ المعجزات أعظم من الأخرى ، لأنه يتكلم عن مجهول هو من صنع الله لا يعرفه ، فلا يمكن الإنسان مهما ارتقى عقله أن يصل إلى صنعها ، بل هى فوق قدرته.

أما المخترعات العلمية فهى مبنية على السنن العلمية ، مهما ظهرت مدهشة كالكهرباء والمسرّة (التليفون) وغاية ما هناك أن العلماء سخروها لأغراضهم ، فالذى يتكلم فى أوربا ويسمع صوته في مصر بوساطة (الراديو) إنما استطاع ذلك ، لأنه قد استخدم الهواء الذي يحمل أمواج الصوت إلى العالم كله ، وهكذا حال سائر المخترعات ، إنما هى كشف لناموس إلهى يتكرر دائما على يد كل إنسان ، لكن المعجزات تجرى على طراز آخر ، فهى خلق سنة جديدة في الكون ، ولا تتكرر إلا بإذن الله ، ولا يعرف الإنسان لها قاعدة ولا يدرك طريقا لصنعها ا ه كلامه رحمه الله.

١٢٨

(كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) أي وقلنا لهم كلوا مما رزقناكم من المنّ والسلوى واشربوا مما فجرنا لكم من الماء من الحجر الصّلد ، وقد عبر عن الحال الماضية بالأمر ليستحضر السامع صورة أولئك القوم في ذهنه مرة أخرى حتى كأنهم حاضرون الآن والخطاب موجه إليهم.

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي ولا تنشروا فسادكم في الأرض وتكونوا قدوة لغيركم فيه ، وقد جاء هذا النهى عقب الإنعام عليهم بطيّب المأكل والمشرب خيفة أن ينشأ الفساد بزيادة التبسط فيهما ، ولئلا يقابلوا النعم بالكفران.

وقد أراد موسى أن يجتثّ أصول الشرك التي تغلغلت جذورها في نفوس قومه ، ويربأبهم عن الذل الذي ألفته نفوسهم بتقادم العهد واستعباد المصريين إياهم ، ويعوّدهم العزة والشمم والإباء بعبادة الله وحده.

وكانوا لا يخطون خطوة إلا اجترحوا خطيئة ، وكلما عرض لهم شىء من مشاقّ السفر برموا بموسى وتحسروا على فراق مصر وتمنّوا الرجوع إليها ، واستبطئوا وعد الله فطلبوا منه أن يجعل لهم إلها غير الله ، وصنعوا عجلا وعبدوه.

وحينما أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة التي وعدوا بها ، اعتذروا بالخوف من أهلها الجبارين ، كما قصه الله علينا : (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) فضرب الله عليهم التيه أربعين سنة حتى ينقرض ذلك الجيل الذي تأصلت فيه جذور الوثنية ، ويخرج جيل جديد يتربى على العقائد الحقة وفضائل الأخلاق ، فتاهوا هذه المدة ، وقضى الله أمرا كان مفعولا.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ

١٢٩

ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١))

تفسير المفردات

الصبر : حبس النفس وكفها عن الشيء ، والطعام : هو المنّ والسلوى وجعلوهما طعاما واحدا ، لأنهما طعام كل يوم ، والعرب تقول لمن يجعل على مائدته كل يوم ألوانا من الطعام لا تتغير : إنه يأكل من طعام واحد ، والبقل : النبات الرّطب مما يأكله الناس والأنعام ، والمراد به هنا ما يطعمه الإنسان من أطايب الخضر كالكرفس والنّعناع ونحوهما ، والقثّاء : ما تسميه العامة (القتّة) والفوم : الحنطة ، وقال جماعة منهم الكسائي إنه الثّوم ويرجّح هذا ذكر العدس والبصل. والاستبدال : طلب شىء بدلا من آخر ، وأصل الأدنى الأقرب ثم استعمل للأخس الدّون ، والهبوط : الانحدار والنزول ، والمصر :

البلد العظيم ، وضربت : أي أحاطت بهم كما تحيط القبّة بمن ضربت عليه أو ألصقت بهم كما تطبع الطّغرى على السّكّة ، والذلة : الذل والهوان ، والمسكنة : الفقر ، وسمى الفقير مسكينا لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة ، والمراد بها هنا فقر النفس وشحها ، وباءوا بغضب : أي استحقوا الغضب ، يعتدون : أي يتعدّون حدود الله.

المعنى الجملي

ذكر هنا جرما آخر من جرائم أسلافهم التي تدل على كفرانهم بأنعم الله ، وترشد إلى أنهم دأبوا على إعنات موسى ، وأنهم أكثروا من الطلب فيما يستطاع وما لا يستطاع حتى ييأس منهم ويرتدّ بهم إلى مصر حيث ألفوا الذلة ، ومع صادق وعده لهم بأن يمكّن لهم الدخول في الأرض الموعودة ، ويرفع عنهم الخسف الذي كانوا فيه ، ومع

١٣٠

كثرة ما شاهدوا من الآيات الدالة على صدقه ، كانوا في ريب من تحقيق ما قال لهم ، ويظنون أنه خدعهم حين أخرجهم من مصر وجاء بهم إلى البريّة.

وقد بلغ من إعناتهم له أن قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) وأن قالوا : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) وهم يريدون بذلك أنه لا أمل لك في بقائنا معك على هذه الحال من التزام طعام واحد ، وربما لم يكن صدر منهم هذا القول عن سأم وكراهية لوحدة الطعام ، بل صدر عن بطر وطلب للخلاص مما يخشون.

الإيضاح

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) أي وإذ قال أسلافكم من قبل إعناتا لموسى وبطرا بما هم فيه ، لن نصبر على أن يكون طعامنا الذي لا يتغير أبدا هو المنّ والسلوى.

(فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها) أي سل ربك لأجلنا بدعائك إياه أن يخرج لنا كذا وكذا ، وإنما سألوه أن يدعولهم ، لأن دعاء الأنبياء أقرب إلى الإجابة من دعاء غيرهم ، وقالوا ربك ولم يقولوا ربنا لأنه اختصه بما لم يعط مثله لهم ، من مناجاته وتكليمه وإيتائه التوراة ، فكأنهم قالوا ادع لنا من أحسن إليك بما لم يحسن به إلينا ، فكما أحسن إليك من قبل ، نرجو أن يحسن إليك بإجابة هذا الدعاء.

(قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؟) أي قال لهم موسى على سبيل التوبيخ والاستهجان : أتطلبون هذه الأنواع الخسيسة بدل ما هو خير منها وهو المنّ الذي فيه حلاوة تألفها الطباع ، والسلوى الذي هو أطيب لحوم الطير ، وهما غذاء كامل لذيذ وليس فيما طلبوا ما يساويهما؟

(اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) أمرهم موسى أن ينزلوا من التيه ويسكنوا

١٣١

مصرا من الأمصار إن كانوا يريدون ما سألوه ، لأن هذه الأرض التي كتب الله عليهم أن يقيموا فيها إلى أجل محدود ليس من شأنها أن تنبت هذه البقول ، والله تعالى لم يقض عليهم بالبقاء فيها إلا لضعف عزائمهم وخور هممهم عن أن يغالبوا من سواهم من أهل الأمصار ، فهم الذين قضوا على أنفسهم بأكل هذا الطعام الواحد ، ولا سبيل للخلاص مما كرهوا إلا بالإقدام على محاربة من يليهم من سكان الأرض الموعودة ، والله كفيل بنصرهم ، فليطلبوا ما فيه الفوز والفلاح لهم.

(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أي إن الله عاقبهم على كفران تلك النعم بالذل الذي يهوّن على النفس قبول الضيم والاستكانة والخضوع في القول والعمل ، وتظهر آثار ذلك في البدن ، فالذليل يستخذى ويسكن إذا طاف بخياله يد تمتد إليه ، أو قوة قاهرة تريد أن تستذلّه وتقهره ، وترى الذل والصغار يبدو في أوضاع أعضائه وعلى ظاهر وجهه.

(وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي واستحقوا غضب الله بما حلّ بهم من البلاء والنقم فى الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي إن ما حلّ بهم من ضروب الذلة والمسكنة واستحقاق الغضب الإلهى ، كان بسبب ما استمرأته نفوسهم من الكفر بآيات الله التي آتاها موسى وهى معجزاته الباهرة التي شاهدوها ، فإن إعناتهم له ، وإحراجهم إياه دليل على أنه لا أثر للآيات في نفوسهم ، فهم لها جاحدون منكرون.

(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) فهم قتلوا أشعيا وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق : أي بغير شبهة عندهم تسوّغ هذا القتل ، فإن من يأتي الباطل قد يعتقد أنه حق لشبهة تعنّ له ، وكتابهم يحرّم عليهم قتل غير الأنبياء فضلا عن الأنبياء إلا بحق يوجب ذلك.

وفي قوله : بغير الحق مع أن قتل النبيين لا يكون إلا كذلك ، مزيد تشنيع بهم ،

١٣٢

وتصريح بأنهم ما كانوا مخطئين في الفهم ولا متأولين للحكم ، بل هم ارتكبوه عامدين مخالفين لما شرع الله لهم في دينهم.

(ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي إن كفرهم بآيات الله وجرأتهم على النبيين بالقتل ، إنما كانا بسبب عصيانهم وتعديهم حدود دينهم ، فإن للدين هيبة في النفس تجعل المتديّن به يحذر مخالفة أمره ، حتى إذا تعدى حدوده مرّة ضعف ذلك السلطان الديني في نفسه ، وكلما عاد إلى المخالفة كان ضعفه أشد ، إلى أن تصير المخالفة طبعا وعادة وكأنه ينسى حدود الدين ورسومه ، ولا يصبح للدين ذلك الأثر العميق الذي كان متغلغلا في قرارة نفسه.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))

المعنى الجملي

بعد أن أنحى باللائمة على اليهود في الآيات السالفة ، وبيّن ما حاق بهم من الذل والمسكنة ، وما نالهم من غضب الله جزاء ما اجترحوه من السيئات من كفر بآيات الله ، وقتل للنبيين ، وعصيان لأوامر الدين ، وترك لحدوده ، ومخالفة لشرائعه ، ذكر هنا حال المستمسكين بحبل الدين المتين من كل أمة وكل شعب ممن اهتدى بهدى نبى سابق ، وانتسب إلى شريعة من الشرائع الماضية ، وصدق في الإيمان بالله واليوم الآخر ، وسطع على قلبه نور اليقين ، وأرشد إلى أنهم الفائزون بخيرى الدنيا والآخرة.

١٣٣

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي إن المصدقين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أتاهم به من الحق من عند الله.

(وَالَّذِينَ هادُوا) أي والذين دخلوا في اليهودية ، يقال هاد القوم يهودون هودا وهادة : صاروا يهودا.

(وَالنَّصارى) واحدهم نصران ، وسموا بذلك من أجل أن مريم نزلت بعيسى في قرية يقال لها الناصرة.

(وَالصَّابِئِينَ) هم قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم ويقرون ببعض الأنبياء.

(مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) أي من تحلى منهم بالإيمان الخالص بالله والبعث والنشور وعمل صالح الأعمال.

(فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال يوم القيامة ، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم من الدنيا وزينتها إذا عاينوا ما أعد الله لهم من نعيم مقيم عنده.

والخلاصة ـ إن المؤمن إذا ثبت على إيمانه ولم يبدله ، واليهودي والنصراني والصائبى إذا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به وباليوم الآخر وعملوا صالحا ولم يغيروا حتى ماتوا على ذلك ، فلهم ثواب عملهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم ولا يعتريهم حزن ، فمدار الفلاح هو الإيمان الصحيح الذي له سلطان على النفوس والعمل الصالح الذي به تتم سعادتها ويكتب لها به الفوز في الدنيا والآخرة. قال الإمام الغزالي : إن الناس في شأن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أصناف ثلاثة :

(١) من لم يعلم بها بالمرة ، وهذا ناج حتما.

١٣٤

(٢) من بلغته الدعوة على وجهها ولم ينظر في أدلتها إهمالا أو عنادا واستكبارا ، وهذا مؤاخذ حتما.

(٣) صنف ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبلغهم نعته ووصفه ، بل سمعوا منذ الصبا أن كذابا مدلّسا اسمه محمد ادعى النبوة كما سمع صبياننا أن كذّابا يقال له المقفّع تحدّى بالنبوة كاذبا ، فهؤلاء عندى في معنى الصنف الأول ، فإن أولئك مع أنهم لم يسمعوا اسمه لم يسمعوا ضد أوصافه ، وهؤلاء سمعوا ضد أوصافه وهذا لا يحرك داعية النظر في الطلب ا ه.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤))

تفسير المفردات

الطور : هو الجبل المعروف الذي ناجى فيه الله موسى عليه السلام ، ورفعه قد فسره فى سورة الأعراف فقال : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) والنتق : الهزّ والزعزعة والجذب ، فالنتق : فى الجبل كان بما يشبه الزلزال فيه ، والخسران : ذهاب رأس المال أو نقصه.

المعنى الجملي

ذكر سبحانه في هاتين الآيتين جناية أخرى حدثت من أسلاف المخاطبين وقت التنزيل ، ذاك أنه بعد أن أخذ الله عليهم المواثيق التي ذكرها بقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) إلخ فقبلوها وأراهم من

١٣٥

الآيات ما فيه مقنع لهم ، رفع الجبل فوقهم كالظلة حتي ظنوا أنه واقع بهم ، وطلب إليهم التمسك بالكتاب والعمل بما فيه بالجدّ والنشاط ، كى يعدّوا أنفسهم لتقوى الله ورضوانه ، ثم كان منهم أن أعرضوا عن ذلك وانصرفوا عن طاعته ، ولو لا لطف الله بهم لاستحقوا العقاب في الدنيا وخسروا سعادة الآخرة وهى خير ثوابا وخير أملا ، لكن وفّقهم الله بعد ذلك فتابوا ورحمهم فقبل توبتهم.

الإيضاح

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) أي واذكروا يا بنى إسرائيل رفت أخذنا العهد على أسلافكم بالعمل بما في التوراة وقبولهم ذلك.

(وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) وكانت هذه الآية بعد أخذ الميثاق لكى يأخذوا ما أوتوه من الكتاب بقوة واجتهاد ، لأن رؤية ذلك مما يقوّى الإيمان ويحرّك الشعور والوجدان.

ثمّ بين الميثاق فقال :

(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي وقلنا لهم خذوا الكتاب وهو التوراة بجدّ وعزيمة ، ومواظبة على العمل بما فيه.

(وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) أي وادّارسوه ولا تنسوا تدبر معانيه واعملوا بما فيه من الأحكام فإن العمل هو الذي يجعل العلم راسخا في النفس مستقرا عندها ، كما أثر عن على أنه قال : يهتف العلم بالعمل ، فإن أجابه وإلا ارتحل.

فحال التارك للشريعة المضيع لأحكامها أشبه بحال الجاحد المعاند لها ، وهو جدير بأن يحشره الله يوم القيامة أعمى عن طريق الفلاح والسعادة حتى إذا لقى ربه (قالَ : رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) فالجاحد للشريعة والناسي لها المضيع لأحكامها ، لا يكون لها أثر في نفوسهما لا ظاهرا ولا باطنا.

١٣٦

ومن ذلك تعلم أن الحجة قائمة على من ليس لهم حظ من القرآن إلا التغنّى بألفاظه وأفئدتهم هواء من عظاته ، وأعمالهم لا تنطبق على ما جاء به ، فما المقصد من الكتب الإلهية إلا العمل بما فيها لا تلاوتها باللسان وترتيلها بالأنغام ، فإن ذلك نبذلها ، قال الغزالي : وما مثل ذلك إلا مثل ملك أرسل كتابا إلى أحد أمرائه ، وأمره أن يبنى له قصرا في ناحبة من مملكته ، فلم يكن حظ الكتاب منه إلا أن يقرأه كل يوم دون أن يبنى القصر ، أفلا يستحق هذا الأمير بعدئذ العقاب من الملك الذي أرسل به إليه؟.

ثم ذكر لهم فائدة ذكره فقال :

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي ليعدّ نفوسكم لتقوى الله عزّ وجل : ذاك أن المواظبة على العمل تطبع في النفس سجيّة المراقبة لله ، وبها تصير تقية نقية من أدران الرذائل راضية مرضية عند ربها (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى).

(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي ثم أعرضتم وانصرفتم عن الطاعة بعد أن أخذ عليكم الميثاق وأراكم من الآيات ما فيه عبرة لمن ادّكر.

(فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ، لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي فلولا لطف الله بكم وإمهاله إياكم إذ لم يعاملكم بما تستحقون ، لكنتم من الهالكين بالانهماك فى المعاصي.

والخلاصة ـ إنكم بتوليكم استحققتم العقاب ، ولكن فضل الله عليكم ورحمته أبعده عنكم ، ولو لا ذلك لخسرتم سعادتى الدنيا والآخرة.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦))

١٣٧

تفسير المفردات

الاعتداء : تجاوز الحد في كل شىء ، وواحد القردة قرد ، وواحد الخاسئين خاسى وهو المبعد المطرود من رحمة الله ، والنكال ما يفعل بشخص من إيذاء وإهانة ليعتبر غيره ، والموعظة : ما يلقى من الكلام لاستشعار الخوف من الله بذكر ثوابه وعقابه.

المعنى الجملي

فى هاتين الآيتين وما يتلوهما بعد ـ تعداد لنكث العهود والمواثيق التي أخذت على بنى إسرائيل الذين كانوا في عهد موسى عليه السلام ، وحلّ بهم جزاء ما عملوا من مسخهم قردة وخنازير ، فأجدر بسلائلهم الذين كانوا في عصر التنزيل تتخلل دورهم دور الأنصار ألا يجحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وألا يصرّوا على كفرهم وعدم التصديق بما جاء به ، خوفا من أن يحلّ بهم ما حلّ بأسلافهم مما لا قبل لهم به من غضب الله.

فمن عهودهم التي نكثوها أنهم اعتدوا يوم السبت ، ذاك أن موسى عليه السلام حظر عليهم العمل في هذا اليوم ، وفرض عليهم فيه طاعة ربهم والاجتهاد في الأعمال الدينية ، إحياء لسلطان الدين في نفوسهم ، وإضعافا لشرههم في التكالب على جمع حطام الدنيا وادّخاره ، وأباح لهم العمل في ستة الأيام الأخرى.

لكنهم عصوا أمره ، وتجاوزوا حدود الدين ، واعتدوا في السبت ، فجازاهم الله بأشد أنواع الجزاء ، فخرج بهم من محيط النوع الإنساني وأنزلهم أسفل الدركات ، فجعلهم يرتعون في مراتع البهائم ، وليتهم كانوا في خيارها ، بل جعلهم في أخس أنواعها ، فهم كالقردة في نزواتها ، والخنازير في شهواتها ، مبعدين من الفضائل الإنسانية ، يأتون

١٣٨

المنكرات جهارا عيانا بلا خجل ولا حياء ، حتى احتقرهم كرام الناس ، ولم يروهم أهلا لمعاشرة ولا معاملة.

الإيضاح

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) أي ولقد عرفتم نبأ الذين تجاوزوا منكم الحدّ الذي رسمه لهم الكتاب ، وركبوا ما نهاهم عنه من ترك العمل الدنيوي ، والتفرغ للعمل الأخروى يوم السبت ، وسيأتى إيضاح هذا في سورة الأعراف.

(فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أي فصيرناهم مبعدين عن الخير أذلاء صاغرين ، روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال : ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم ، فلا تقبل وعظا ، ولا تغى زجرا.

وقد مثّل الله حالهم بحال القردة كما مثّلوا بالحمار في قوله : «(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) (لم يعملوا بما فيها) (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)».

وذهب جمهور العلماء إلى أنهم مسخت صورهم فصارت صور القردة ، وروى أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) الطاغوت : الشيطان.

قال الأستاذ الإمام : والآية ليست نصا في رأى الجمهور ولم يبق إلا النقل ، ولو صح ما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة ، لأنهم يعلمون بالمشاهدة أن الله لا يمسخ كل عاص فيخرجه عن نوع الإنسان ، إذ ليس ذلك من سنته في خلقه ، وإنما العبرة الكبرى فى العلم بأن من سنن الله في الذين خلوا من قبل ـ أن من يفسق عن أمره ويتنكّب الصراط الذي شرعه له ينزله عن مرتبة الإنسان ويلحقه بعجماوات الحيوان ، وسنة الله واحدة ، فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية ا ه.

١٣٩

وفي هذا تأييد لرأى مجاهد وتفضيل له على رأى الجمهور.

قال ابن كثير : والصحيح أن المسخ معنوى كما قال مجاهد لا صورى كما قال غيره.

(فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي فجعلنا هذه العقوبة عبرة ينكل من يعلم بها أي يمتنع من الاعتداء على حدود الله ، سواء منهم من وقعت فى زمانه أو من بعدهم إلى يوم القيامة.

وهى أيضا موعظة للمتقين ، لأن المتقى يتّعظ بها ويتباعد عن الحدود التي يخشى اعتداءها كما قال : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها) فيتعظ بها غيره أيضا ، ولن يتم الاتعاظ بها وتكون عقوبة للمتقدم والمتأخر إلا إذا جرت على سنن الله المطردة في تهذيب النفوس وتربية الشعوب ، فرأى مجاهد أحرى بالقبول ولا سيما أنه ليس في الآية نصّ على كون المسخ في الصور والأجساد.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا

١٤٠