تفسير المراغي - ج ١

أحمد مصطفى المراغي

وأوطانهم ، وقد جعل غير الرجل كأنه نفسه ، ودمه كأنه دمه إذا اتصل به دينا أو نسبا ، إشارة إلى وحدة الأمة وتضامنها ، وأن ما يصيب واحدا منها فكأنما يصيب الأمة جمعاء ، فيجب أن يشعر كل فرد منها بأن نفسه نفس الآخرين ودمه دمهم ، فالروح الذي يحيا به والدم الذي ينبض في عرقه هو كدم الآخرين وأرواحهم ، لا فرق بينهم فى الشريعة التي وحّدت بينهما في المصالح العامة ، وهذا ما يومئ إليه الحديث : «إنما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».

وقد يجوز أن يكون المعنى لا ترتكبوا من الجرائم ما تجازون عليه بالقتل قصاصا ، أو بالإخراج من الديار فتكونون كأنكم قد قتلتم أنفسكم ، لأنكم فعلتم ما تستحقون به القتل ، كما يقول الرجل لآخر قد فعل ما يستحق به العقوبة : أنت الذي جنى على نفسه.

(ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أي ثم أقررتم بهذا الميثاق أيها الحاضرون المخاطبون واعترفتم به ولم تنكروه بألسنتكم ، بل شهدتم به وأعلنتموه ، فالحجة عليكم قائمة ـ وقد يراد ـ وأنتم أيها الحاضرون تشهدون على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق وقبوله ، وشهودهم الوحى الذي نزل به على موسى عليه السلام.

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي ثم أنتم بعد ذلك التوكيد في الميثاق تنقضون العهد فتقتلون أنفسكم : أي يقتل بعضكم بعضا كما كان يفعل من قبلكم ، مع أنكم معترفون بأن الميثاق أخذ عليكم كما أخذ عليهم.

ومن حديث ذلك أن بنى قينقاع من اليهود كانوا حلفاء الأوس وأعداء لإخوانهم فى الدين بنى قريظة ، كما كان بنو النضير حلفاء الخزرج ، وكان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء يقتتلون ، ومع كل حلفاؤه ، وهذا مانعاه الله على اليهود بقوله : (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ).

١٦١

(وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) كان كل من اليهود يظاهر حلفاءه من العرب ويعاونهم على إخوانه من اليهود بالإثم كالقتل والسلب ، والعدوان كالإخراج من الديار.

(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) أي وكانوا إذا أسر بعض العرب وحلفاؤهم من اليهود بعضا من اليهود أعدائهم واتفقوا على فداء الأسرى ، يفدى كل فريق من اليهود أسرى أبناء جنسه وإن كانوا من أعدائه ، ثم يعتذرون عن هذا بأن الكتاب أمرهم بفداء أسرى ذلك الشعب المقدس ، فإن كانوا مؤمنين حقّا بما يقولون ، فلم قاتلوهم وأخرجوهم من ديارهم والكتاب ينهاهم عن ذلك؟ أفليس هذا إلا لعبا واستهزاء بالدين؟

(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟) أي أتفعلون ما ذكر فتؤمنون إلخ وذلك أن الله أخذ على بنى إسرائيل العهد في التوراة ألا يقتل بعضهم بعضا ، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم ، وقال : أيّما عبد أو أمة وجدتموه من بنى إسرائيل فاشتروه وأعتقوه ـ لكنهم قتلوا وأخرجوا من الديار مخالفين العهد ، وافتدوا الأسرى على مقتضى العهد ، أفليس هذا إلا إيمانا ببعض الكتاب ، وكفرا ببعضه الآخر؟ وذلك منتهى ما يكون من الجماقة ، فإن الإيمان لا يتجزأ ، فالكفر ببعضه كالكفر بكله.

قال الأستاذ الإمام : فى التعبير عن المخالفة والمعصية بالكفر دليل على أن من يقدم على الذنب لا يتألم ولا يندم بعد وقوعه ، بل يسترسل فيه بلا مبالاة بنهي الله عنه وتحريمه له فهو كافر به ، وهذا هو الوجه في الأحاديث الصحيحة ، نحو : «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن» ا ه.

ثم توعدهم على نقضهم الميثاق الذي جعلهم أمة واحدة ، ذات شريعة هى رباط وحدتهم بخزي عاجل في هذه الحياة ، وعذاب آجل في الآخرة فقال :

١٦٢

(فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) فقد دلت المشاهدة على أن كل أمة تفسق عن أمر ربها وتطرح أوامر دينها وراءها ظهريّا يتفرق شملها ، وينزل بها عذاب الهون جزاء فساد أخلاقها وكثرة شرورها.

أما من استقاموا على الطريقة ، وزكت نفوسهم وصلحت أحوالهم فلهم عند ربهم نعيم مقيم ، يرشد إلى ذلك قوله : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها».

ثم زاد في الوعيد والتهديد والزجر الشديد فقال :

(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فهو مجازيكم على ما اجترحتم من السيئات.

ثم أكد عظيم حماقتهم وسيىء إجرامهم ، ثم شديد نكالهم على ما اجترحوا فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي أولئك الذين آثروا الحياة الدنيا واستبدلوها بالآخرة ، فقدّموا حظوظهم في هذه الحياة على حظوظهم في الحياة الأخرى ، بما أهملوا من الشرائع ، وتركوا من أوامرها التي يعرفونها كما يعرفون أبناءهم كالانتصار للحليف المشرك ، ومظاهرته على قومه الذين تجمعهم وإياه رابطة الدين والنسب ، وإخراج أهله من دياره ابتغاء مرضاته.

(فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) يوم القيامة (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لأن أعمالهم قد سجلت عليهم الشقاء ، وأحاطت بهم الخطايا من كل جانب ، فسدّت عليهم باب الرحمة ، وقطعت عنهم الفيض الإلهي ، فلا يجدون شافعا ينصرهم ، ولا وليّا يدفع عنهم ما حلّ بهم من النكال والوبال في جهنم وبئس القرار.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما

١٦٣

لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨))

تفسير المفردات

قفاه به : إذا أتبعه إياه ، وعيسى بالسريانية : يسوع ومعناه السيد أو المبارك ، ومريم بالعبرية : الخادم لأن أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس ، والبينات : الحجج الواضحة التي أوتيها عليه السلام من المعجزات ، وأيدناه : أي قويناه ، وروح القدس : أي الروح المقدس المطهر ، وهو جبريل عليه السلام الذي ينزل على الأنبياء ويقدّس نفوسهم ويزكّيها ، ويطلق عليه الروح الأمين كما قال : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) والغلف : واحدها أغلف وهو الذي لا يفقه ما يقال له.

المعنى الجملي

جرت سنة الله في البشر أنه إذا طال عليهم الأمد بعد أن تأتيهم الرسل تقسو منهم القلوب ، ويذهب أثر الموعظة من الصدور ، ويفسقون عن أمر ربهم ، ويحرفون ما جاءهم من الشرائع بضروب من التأويل ، وينسون ما أنذروا به من قبل ، يرشد إلى هذا قوله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ، وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ).

من أجل هذا كان سبحانه يرسل الرسل بعضهم إثر بعض حتى لا يطول الإنذار فتقسو القلوب ، وقد كان الشعب الإسرائيلى أكثر الشعوب حظا في عدد الرسل الذين أرسلوا إليهم ، فليس لهم من العذر ما يسوّغ نسيان الشرائع أو تحريفها وتأويلها ،

١٦٤

ولكن كانوا يطيعون أهواءهم ، ويتبعون شهواتهم ، ويعصون رسلهم ، فمنهم من كذّبوه ، ومنهم من قتلوه.

الإيضاح

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أي ولقد أعطينا موسى الكتاب المقدس وهى التوراة ، ثم أتبعنا من بعده رسولا بعد رسول مقتفين أثره ، فلم يمض زمن إلا كان فيه نبىّ أو أنبياء يأمرون وينهون ، فلا عذر لهم في نسيان الشرائع أو تحريفها وتغيير أوضاعها.

ثم خصّ من أولئك الرسل عيسى عليه السلام فقال :

(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي وأعطينا عيسى المعجزات الباهرة التي تدل على صدق نبوته وأنه موحى إليه من ربه ، وأيدناه بروح الوحى الذي يؤيد الله تعالى به أنبياءه في عقولهم ومعارفهم كما قال : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) الآية ، وأرسلناه بعد ظهور كثير من الرسل ولم يكن حظه بينهم أحسن من حظ سابقيه.

ثم بيّن ماذا كان حظ الرسل من بنى إسرائيل فقال :

(أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ؟) أي أبلغ الأمر بكم أنكم كلما جاءكم رسول من رسلى بغير الذي تهوى نفوسكم استكبرتم عليه تجبرا وبغيا فى الأرض؟

(فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) أي فبعضا منهم تكذبون كعيسى ومحمد عليهما السلام ، وبعضا تقتلون كزكريا ويحيى عليهما السلام ، فلا عجب بعد هذا إن لم تؤمنوا بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن العناد والجحود من طبعكم ، وسجية عرفت عنكم ، ولا غرابة في صدور ما صدر منكم.

١٦٥

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي وقالوا قلوبنا مغطاة بأغشية خلقية مانعة من تفهم ما جئت به ، ونحو هذا قولهم : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) القائلون هم الذين كانوا منهم عصر التنزيل.

ثم رد عليهم وكذبهم فيما زعموا فقال :

(بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي ليس الأمر كما يدّعون ، بل قلوبهم خلقت مستعدة بحسب الفطرة للنظر الذي يوصل إلى الحق ، لكن الله أبعدهم من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء السابقين ، وبالكتاب الذي تركوا العمل به وحرفوه اتباعا لأهوائهم.

وقد ذكر اللعن وعلته جريا على سنة الله في ربط المسببات بأسبابها ، وبيان أن الله لم يظلمهم بهذا ، بل هم ظلموا أنفسهم بالتمادى في الكفر والعصيان.

ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سبق فقال :

(فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) أي فهم يؤمنون إيمانا قليلا ، وهو إيمانهم ببعض الكتاب وتحريف بعضه الآخر أو ترك العمل به ، والذي آمنوا به كان قولا باللسان تكذبه الأعمال إذ لم يكن للإيمان سلطان على قلوبهم ، فيكون هو المحرّك لإرادتهم ، وإنما يحركها الهوى والشهوة ، ويصرفها عامل اللذة.

وقد يكون المعنى كما قال ابن جرير : إنه لا يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به إلا القليل منهم ، فالمخالفة لم تغمر كل الشعب ، بل غمرت الأكثر منهم ونجا نفر قليل.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى

١٦٦

غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١))

تفسير المفردات

يستفتحون : أي يستنصرون ، وشرى واشترى يستعملان حينا بمعنى باع ، وأخرى منى ابتاع وأخذ ، والمراد هنا المعنى الأول ، والبغي في الأصل : الفساد من قولهم بغى الجرح إذا فسد ، ثم أطلق على مجاوزة الحد في كل شىء ، وباء : رجع ، ومهين : أي فيه إهانة وإذلال ، ووراء بمعنى سوى كما يقول الرجل لمن يتكلم بجيد الكلام : ما وراء هذا الكلام شىء.

الإيضاح

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ، فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) هذا مرتبط معنى بقوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي وقالوا قلوبنا غلف وكذبوا لما جاءهم كتاب إلخ وقوله : (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) أي موافق له في التوحيد وأصول الدين ومقاصده ، وقوله : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وكانوا يستنصرون به على مشركى العرب وكفار مكة ويقولون إن كتابه سينصر التوحيد الذي جاء به موسى ، ويخذل الوثنية التي تنتحلونها.

روى ابن جرير عن قتادة الأنصاري عن شيوخ منهم أنهم قالوا فينا وفيهم (فى الأنصار واليهود) نزلت هذه القصة ، كنا علوناهم دهرا في الجاهلية ونحن أهل

١٦٧

الشرك وهم أهل الكتاب ، وكانوا يقولون إن نبيّا الآن مبعثه قد أظل زمانه ، يقتلكم قتل عاد وإرم ، فلما بعث رسول الله اتبعناه وكفروا به.

وسبب هذا أنهم حسدوا العرب على أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم من بينهم فحملهم ذلك على الكفر به جحودا وعنادا ، فسجّل الله عليهم الطرد والإبعاد من رحمته ، لجحودهم بالحق بعد أن تبين لهم.

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) أي بئس الشيء الذي باعوا به أنفسهم وبذلوها ـ الكفر بما أنزل الله ، وهو الكتاب المصدّق لما معهم ، أي إنهم اختاروا الكفر على الإيمان وبذلوا أنفسهم فيه ، وكأنهم فقدوها كما يفقد البائع المبيع.

ثم بين علة ذلك فقال :

(بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي إنهم كفروا لمحض العناد الذي هو نتيجة الحسد ، وكراهة أن ينزل الله الوحي من فضله على من يختاره من عباده ، ولا بغى أقبح من بغى من يريد الحجر على الله ، فلا يرضى أن يجعل الوحى في آل إسماعيل كما جعله من قبل في آل إسحاق.

ثم ذكر مقدار ما نالهم من غضبه فقال :

(فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) أي فرجعوا وهم مستوجبون لغضبين : غضب الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فوق الغضب الذي استحقوه من قبل بإعنات موسى عليه السلام والكفر به.

ثم بين عاقبة أمرهم فقال :

(وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) أي ولهم بسبب كفرهم عذاب يصحبه إهانة وإذلال فى الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فما يصيبهم من الخزي والنكال وسوء الحال ، ليكونوا عبرة لمن يخلفهم من بعدهم ، وأما في الآخرة فبخلودهم في جهنم وبئس المصير.

١٦٨

ثم ذكر ما يكون منهم لدى الحوار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليهود المدينة وما حولها : آمنوا بالقرآن الذي أنزله الله قالوا نحن دائبون على الإيمان بما أنزل على أنبياء بنى إسرائيل كالتوراة وغيرها.

(وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) أي وهم يكفرون بما سوى التوراة وهو القرآن الذي جاء مصدقا لها ، وهو الحق الذي لا شكّ فيه ، وكيف يكفرون به وهو مؤيد عندهم بالعقل والنقل؟

(قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؟) أي قل لهم إلزاما للحجة بعد ما اقترفوا من فحش المخالفة لما أنزل إليهم والفسوق عنه : إن كنتم صادقين حقا فى اتباعكم ما أنزل الله على أنبيائكم ، فلم قتلتموهم؟ وليس في دينكم الأمر بالقتل ، بل فيه شديد العقاب على القتل مطلقا ، فضلا عن قتل الأنبياء ، فما هذا منكم إلا تناقض بين الأقوال والأفعال.

وقد نسب القتل إليهم والقاتل أسلافهم لما تقدم غير مرة من أن مثل هذا يقصد به بيان وحدة الأمة وتكافلها ، وأنها في الطبائع والأخلاق المشتركة كالشخص الواحد ، فما يصيبها من حسنة أو سيئة ، فإنما مصدره الأخلاق الغالبة عليها ، فما حدث منهم كان عن أخلاق راسخة في الشعب تبع فيها الآخرون الأولين : إما بالعمل بها ، وإما بترك الإنكار لها ؛ فالحجة تقوم على الحاضرين بأن أسلافهم الغائرين قتلوا الأنبياء ؛ فأقروهم على ذلك ولم يعدوه خروجا من الدين ، ولا رفضا للشريعة ، وفاعل الكفر ومجيزه سواء.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا

١٦٩

ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦))

تفسير المفردات

البينات : هى الآيات والدلائل التي تدل على صدق النبي والمعجزات التي تؤيد نبوّته كالعصا واليد ، العجل : هو الذي صنعه لهم السامرىّ من حليّهم وجعلوه إلها وعبدوه ، وأشرب قلبه كذا : أي حلّ محل الشراب كأن الشيء المحبوب شراب يساغ فهو يسرى فى قلب المحبّ ويمازجه كما يسرى الشراب العذب البارد في اللهات ، وحقيقة أشربه كذا : جعله شاربا له ، والمراد من الدار الآخرة ثوابها ونعيمها ، خالصة : أي خاصة بكم ، تمنوا الموت : أي تشوفوا له واجعلوا نفوسكم ترتاح إليه وتود المصير إليه ، بمزحزحه أي بمنجيه من العذاب ، والبصير العالم بكنه الشيء الخبير به.

المعنى الجملي

عدد سبحانه في الآيات السالفة ما أنعم به على بنى إسرائيل من النعم ، وذكر ما قابلوها به من الكفران ، وهنا ذكر أن الآيات البينات الدالة على صدق دعوة موسى

١٧٠

ووحدانية الله وعظيم قدرته لم تزدهم إلا انهماكا في الشرك وتوغلا في ضروب الوثنية ؛ فالنعم التي أسبغها عليهم لم يكن لها من شكر إلا اتخاذ العجل إلها يعبدونه من دون الله ، فكيف يعتذرون عن عدم الإيمان بمحمد بأنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل إليهم؟.

وهذا دليل على قسوة قلوبهم وفساد عقولهم ، فلا أمل فيهم لهداية ، ولا مطمع لفكر وتأمل بعد أن اختلّ الوجدان ، وضعف الجنان. وهذه الآيات البينات التي ذكرت هنا كانت في مصر قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة ، وما ذكر من النعم هناك كان فى أرض الميعاد.

الإيضاح

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ، ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) أي ومن عظيم كفرانكم للنعم أن موسى قد جاء بالأدلة القاطعة والبراهين الناصعة على توحيد الله وعظيم قدرته ، فخالفتم ذلك وعصيتم أمره وعبدتم عجل السامري من بعد ذلك ، فهذا ظلم ووضع للشىء في غير موضعه اللائق به ، وأىّ ظلم أعظم من الإشراك بالله بعبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا؟.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) قد سبق شرح مثل هذا من قبل سوى أنه قال هناك : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) وهنا قال : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) فأمرهم هناك بالحفظ ، وأمرهم هنا بالفهم والطاعة ، والعبارتان متقاربتان في المراد.

(قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) أي إنهم قبلوا الميثاق وفهموه ، لكنهم لم يعملوا به وخالفوه ، وليس المراد أنهم نطقوا بقولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) بل كانوا بمثابة من قال ذلك ، والعرب تعبّر عن حال الإنسان وغيره من الحيوان والجماد بقول تحكيه عنه يومئ إلى ما يجول فى قرارة نفسه ويدور يخلده فيكون هذا القول ترجمانا عنه.

١٧١

(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) أي صار حبّ العجل نافذا فيهم نفوذ الماء فيما يدخل فيه ، وقوله : بكفرهم ؛ أي إن سبب هذا الحب الشديد لعبادة العجل هو ما كانوا عليه من الوثنية في مصر ، فرسخ الكفر في قلوبهم بتمادي الأيام وورثه الخلف عن السلف.

(قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي قل توبيخا لليهود الحاضرين ، بعد أن علموا أحوال رؤسائهم السالفين الذين يقتدون بهم ، ويحتذون حذوهم في كل ما يأتون وما يذرون : إن كنتم مؤمنين بالتوراة حقا ، فبئس هذا الإيمان الذي يأمر بهذه الأعمال التي أنتم تفعلونها كعبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق ، فهذه دعوى لا تقبل منكم ، بل يجب القطع بعدم وجودها ، بدليل ما يصدر عنكم من الأعمال التي يستحيل أن تكون أثرا للإيمان.

وقد سيقت هاتان الآيتان ردّا على اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وزعموا أنهم مؤمنون بشريعة لا يطالبهم الله بالإيمان بغيرها ، فهى حجة عليهم تشرح طبيعة الإيمان وأثره في المؤمن.

ثم أمر رسوله أن يتحداهم في ادعائهم صادق الإيمان وكامل اليقين فقال :

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن صدق قولكم ، وصحت دعواكم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا ، وفي أنكم شعب الله المختار ، وأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودات ، فتمنوا الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم الخالص الدائم الذي لا ينازعكم فيه أحد ، إذ لا يرغب الإنسان عن السعادة ويختار الشقاء. وقد روى عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم تمنى الموت عند القتال معبّرين بألسنتهم عما يجول في صدورهم من صدق الإيمان بما أعد الله للمؤمنين في الدار الاخرة ، فقد جاء في الأخبار أن عبد الله بن رواحة كان ينشد وهو يقاتل الروم :

يا حبّذا الجنة واقترابها

طيبة وبارد شرابها

١٧٢

وأن عمّار بن ياسر في حرب صفّين قال :

غدا نلقى الأحبّه

محمدا وصحبه

فإن لم تتمنوه ، بل كنتم شديدى الحرص على هذه الحياة ، فما أنتم بصادقى الإيمان.

وهذه حجة تنطبق على الناس عامة ، فيجب على المسلمين أن يجعلوها ميزانا يزنون به دعواهم اليقين بالإيمان والقيام بحقوق الله ، فإن ارتاحت نفوسهم لبذل أرواحهم فى سبيل الله والذّود عن الدين كانوا مؤمنين حقا ، وإن ضنّوا بها وكانوا شديدى الحرص على الحياة إذا جدّ الحدّ ودعا الداعي كانوا بعكس ما يدّعون.

(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي ولن يقع منهم هذا التمني بحال ، لأنهم يعرفون ما اجترحته أنفسهم من المعاصي والذنوب التي يستحقون بها العقوبة كتحريف التوراة ، والكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم مع البشارة به في كتابهم.

والعرب تسند الفعل إلى الأيدى لأن أكثر الأعمال تزاول بها ، ويجعلون المراد بها الشخص.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي والله يعلم أنهم ظالمون في حكمهم بأن الدار الآخرة خالصة لهم ، وأن غيرهم من الشعوب محروم منها.

ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد.

(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) أي إنهم يحبون الإخلاد إلى الأرض ، ويعملون كل ما يوصلهم إلى البقاء فيها. فلا ثقة لهم بأنفسهم فيما يزعمون ، وتلك سيرتهم فى كل زمان وإن كان الكلام مع من كان في عصر التنزيل.

وهكذا القرآن يرسل عليهم سيلا من الحجاج ، فيشاغبون ويعاندون ، اعتزازا بشعبهم ، واغترارا بكتابهم.

(وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي إنهم أحرص من جميع الناس حتى من الذين أشركوا ، وفي هذا توبيخ وإيلام عظيم لهم ، إذ أن المشركين لا يؤمنون ببعث ولا يعرفون إلا هذه

١٧٣

الحياة ، فحرصهم عليها ليس بالغريب ، أما من يؤمن بكتاب ويقرّ بالجزاء فمن حقه ألا يكون شديد الحرص عليها.

(يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) أي يتمنى كل منهم أن يبقى على قيد الحياة ألف سنة أو أكثر ، لأنه يتوقع سخط الله وعقابه ، فيرى أن الدنيا على ما فيها من الآلام والأكدار خير له مما يستيقن وقوعه في الآخرة ، والعرب تضرب الألف مثلا للمبالغة في الكثرة.

(وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) أي وما بقاؤه فيها بمنجيه ولا بمبعده من العذاب المعدّ له ، فإن العمر مهما طال فهو منته لا محالة.

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي والله عليم بخفيات أعمالهم ، وبجميع ما يصدر منهم وهو مجازيهم به ، فطول العمر لا يخرجهم من قبضته ، ولا ينجيهم من عقابه ، فالمرجع إليه ، والأمر كله بيديه.

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠))

تفسير المفردات

العدوّ : صد الصديق يستوى فيه المذكر والمؤنث والواحد والمثنى والجمع ، والنبذ : طرح الشيء وإلقاؤه ، والفريق : العدد القليل.

١٧٤

المعنى الجملي

ذكر قبل هذه الآيات معاذير لليهود اعتذروا بها عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الآيات البينات ، كقولهم إنهم مؤمنون بكتاب من ربهم ، فلا حاجة لهم بهداية غيره ، فنقض دعواهم وألزمهم الحجة ، وقولهم إنهم ناجون حتما في الآخرة ، لأنهم شعب الله وأبناؤه فأبطل مزاعمهم ودحض حججهم.

وهنا ذكر تعلّة أخرى هى أعجب من كل ما تقدم وفنّدها كما فنّد ما قبلها ، تلك هى قولهم : إن جبريل الذي ينزل على محمد بالوحى عدوهم ، فلا يؤمنون بما يجىء به منه ، وقد أثر عنهم عدة روايات تشرح هذه المقالة.

منها أن أحد علمائهم وهو عبد الله بن صوريا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الملك الذي ينزل عليه بالوحى ، فقال : هو جبريل ، فقال ابن صوريا : هو عدو اليهود لأنه أنذرهم بخراب بيت المقدس فكان ما أنذر به.

ومنها أن عمر بن الخطاب دخل مدراسهم فذكر جبريل فقالوا ذاك عدوّنا ، يطلع محمدا على أسرارنا ، وأنه صاحب كل خسف وعذاب ، وأن ميكائيل ملك الرحمة ينزل بالغيث والرخاء.

ولا شك أن هذا منهم دليل على خطل الرأى وعدم التدبر ، وإنما ذكره الكتاب الكريم ليستبين للناس حجج أهل الكتاب ويعرفوا مقدار مرائهم وسخفهم في جدلهم وأنهم ضعاف الأحلام قليلو التبصر في عواقب ما يقولون.

الإيضاح

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) أي قل لهم أيها النبي حاكيا لهم عن الله : من كان عدوّا لجبريل ، فإن من أحوال جبريل أنه نزّل القرآن على قلبك ، أي فهو عدو لوحى الله الذي يشمل التوراة وغيرها ، ولهدى الله لخلقه ،

١٧٥

ولبشراه للمؤمنين ، وقوله : بإذن الله يرشد إلى أن مناجاته لروحك ومخاطبته قلبك ، إنما كان بأمر الله لا افتياتا منه ، فعداوته لا تمنع من الإيمان بك ، ولا تصلح أن تكون عذرا لهم ، إذ القرآن من عند الله لا من عنده.

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي هو موافق للكتب التي تقدمته فيما يدعو إليه من توحيد الله والسير على السنن القويم.

(وَهُدىً) أي أنزله الله هاديا من الضلالات والبدع التي طرأت على الأديان.

(وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إنه بشرى لمن آمن به ، فليس لكم أن تتركوها لأجل أن جبريل جاء منذرا بخراب بيت المقدس ، لأنه إنما أنذر المفسدين.

وكل هذه حجج أقامها لبيان سخفهم وكمال حمقهم ، وللإرشاد إلى أنها لا تصلح أن تكون مانعة من الإيمان بكتاب أنزله الله جامع لكل هذه الصفات الشريفة.

(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) عداوة لله مخالفة أوامره وعدم القيام بطاعته ، والكفر بما ينزله لهداية الناس على لسان رسله

(وَمَلائِكَتِهِ) بكراهة العمل بما يعهد به إليهم ربهم من رسالات يبلغونها للناس.

(وَرُسُلِهِ) بتكذيبهم في دعوى الرسالة مع قيام الأدلة على صدقها ، أو بقتل بعضهم كما فعلوا مع زكريا ويحيى.

(وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) بادّعاء أن الأول يأتي بالآيات والنذر ، ومن عاداه فقد عادى ميكائيل ، لأن الداعي إلى محبتهم وعداوتهم واحد.

(فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) أي من عادى الله وعادى هؤلاء المقربين عنده ، فالله عدوّ له ، لأنه كافر به ومعاد له ، وهو الظالم لنفسه حين دعاه فلم يجب.

وفي هذا من شديد الوعيد ما لا يخفى ، إذ فيه تصريح بأنهم أعداء الحق وأعداء كل من يدعو إليه ، ومعاداة القرآن كمعاداة سائر الكتب السماوية ، لأن المقصد من الجميع واحد وهو هداية الناس وإرشادهم إلى سبل الخير ، ومعاداة محمد صلى الله عليه وسلم كمعاداة سائر الأنبياء ، لأن رسالتهم واحدة والمقصد منها متحد.

١٧٦

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) لاقتران نظرياتها الاعتقادية بأدلتها ، وأحكامها العملية بوجوه منافعها ، فلا تحتاج إلى دليل آخر يوضحها ، فهى كالنور يظهر الأشياء وهو ظاهر بنفسه لا يحتاج إلى ما يظهره.

(وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) الذين ظهر لهم الحق فاستحبوا العمى على الهدى حسدا لمن ظهر الحق على يديه ، وعنادا ومكابرة منهم.

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ؟) العهود هنا هى عهودهم للنبى صلى الله عليه وسلم ، ولما كان لفظ الفريق يوهم قلة العدد مع أن الناقضين للعهدهم الأكثر أضرب عنه وقال :

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لأنهم لا عهود لهم ، وهذا من أخبار الغيب ، إذ أن أكثر اليهود ما آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولن يؤمنوا به ، فمثل هذا الحكم لا يصدر إلا ممن يعلم خفيّات الأمور.

والخلاصة ـ إن الله سبحانه بين في هذه الآية حالين لأهل الكتاب : أولاهما أنه لا يوثق بهم في شىء ، لما عرف عن كثير منهم من نقض العهود في كل زمان ، ثانيتهما أنه لا يرجى إيمان أكثرهم ، لأن الضلال قد استحوذ عليهم وجعلهم فى طغيانهم يعمهون.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ

١٧٧

فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣))

تفسير المفردات

كفر : أي سحر ، والسحر : لغة كل ما لطف مأخذه وخفى سببه ، وسحره : خدعه ، وجاء في كلامهم : عين ساحرة وعيون سواحر ، وفي الحديث : «إن من البيان لسحرا» والإنزال : الإلهام ، وسمى بذلك لأنهما ألهماه واهتديا إليه من غير معلم ، والملكان : رجلان صاحبا هيبة ووقار يجلهما الناس ويحترمونهما ، وبابل : بلد بالعراق لها شهرة تاريخية قديمة ، والخلاق : النصيب والحظ ، وشروا : أي باعوا.

المعنى الجملي

بين سبحانه في هذه الآيات حالا من أحوالهم هى علة ما يصدر عنهم من جحود وعناد ومعاداة للنبى صلى الله عليه وسلم ، هى أن فريقا منهم نبذوا كتاب الله الذي به يفخرون ، حين جاء الرسول بكتاب مصدق لما بين أيديهم ، فإن ما في كتابهم من البشارة بنبي يجىء من ولد إسماعيل لا ينطبق إلا على هذا النبي الكريم.

وليس المراد أنهم نبذوا الكتاب جملة وتفصيلا ، بل نبذوا منه ما يبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم ويبين صفاته وما يأمرهم بالإيمان به واتباعه ، ولا شك أن ترك بعضه كترك كله ، إذ أنه يذهب باحترام الوحى ويفتح الباب لترك الباقي.

١٧٨

وهذا الجحود لم يكن بضائر للنبى صلى الله عليه وسلم ولا لدعوته فقد قبلها واهتدى بها كثير من اليهود ومن غيرهم.

وحين نبذوه اشتغلوا بصناعات وأعمال صادّة عن الأديان من صنع شياطين الإنس والجن ، فاشتغلوا بالسحر والشعوذة والطّلّسمات التي نسبوها إلى سليمان وزعموا أن ملكه كان قائما عليها.

وهذه أباطيل منهم وسوسوا بها إلى بعض المسلمين فصدقوهم فيما زعموا منها ، وكذبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر ، ولا يزال حال الدجالين من المسلمين إلى اليوم يتلون العزائم ويخطون خطوطا ويعملون طلسمات يسمونها خاتم سليمان ، وعهودا يزعمون أنها تحفظ من يحملها من اعتداء الجن ومسّ العفاريت.

وإنما قصّ القرآن علينا هذا القصص للذكرى ، وليبين لنا ما افتراه أهل الأهواء على سليمان من أمر السحر فكان صادا عن العمل بالدين وأحكامه لدى اليهود ، ومن ثم لم يهتدوا بالنبي الذي بشر به كتابهم.

الإيضاح

(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إنه حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب مصدّق للتوراة التي بين أيديهم بما فيه من أصول التوحيد ، وقواعد التشريع ، وروائع الحكم والمواعظ ، وأخبار الأمم الغابرة ـ نبذ فريق من اليهود كتابهم وهو التوراة ، لأنهم حين كفروا بالرسول المصدّق لما معهم فقد نبذوا التوراة التي فيها أن محمدا رسول الله ، وأهملوها إهمالا تاما كأنهم لا يعلمون أنها من عند الله.

وقد جعل تركهم إياها وإنكارهم لها إلقاء لها وراء الظهر ، لأن من يلقى الشيء وراء ظهره لا يراه فلا يتذكره.

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي واتبع فريق من أحبار اليهود

١٧٩

وعلمائهم الذين نبذوا التوراة تجاهلا منهم بما هم به عالمون ـ اتبعوا السحر الذي تلته الشياطين في عهد سليمان بن داود وعملوا به ، وذلك هو الخسران المبين.

وقد زعموا أن سليمان هو الذي جمع كتب السحر من الناس ودفنها تحت كرسيه ثم استخرجها الناس وتناقلوها ، وهذا من مفتريات أهل الأهواء نسبوها إليه كذبا وبهتانا.

(وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) أي وما سحر ، لأنه لو فعل ذلك فقد كفر ، إذ كونه نبيّا ينافى كونه ساحرا ، فالسحر خداع وتمويه ، والأنبياء مبرءون من ذلك.

(وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) أي ولكن الشياطين من الإنس والجن الذين نسبوا إليه ما انتحلوه من السحر ودوّنوه وعلموه الناس هم الذين كفروا.

(يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) قد جاء ذكر السحر في القرآن في مواضع كثيرة ولا سيما فى قصص موسى وفرعون ، ووصفه بأنه خداع وتخييل للأعين حتى ترى ما ليس بكائن كائنا كما قال : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) وقال في آية أخرى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ).

والآية نص صريح على أن السحر كان يعلّم ويلقّن ، والتاريخ يؤيد هذا.

والسحر إما حيلة وشعوذة ، وإما صناعة وعلم خفىّ يعرفه بعض الناس ويجهله الكثير منهم ، ومن ثم يسمون العمل به سحرا لخفاء سببه عليهم. وقد روى المؤرخون أن سحرة فرعون استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصىّ بصور الحيات والثعابين حتى خيّل إلى الناس أنها تسعى.

وقد اعتاد الذين اتخذوه صناعة للمعاش أن يتكلموا بأسماء غريبة وألفاظ مبهمة ، اشتهر بين الناس أنها من أسماء الشياطين وملوك الجن ، ليوهموهم أن الجنّ يستجيبون دعاءهم ويسخّرون لهم ، وهذا هو منشأ اعتقاد العامة أن السحر عمل يستعان عليه بالشياطين وأرواح الكواكب.

١٨٠