تفسير المراغي - ج ١

أحمد مصطفى المراغي

إليه موسى والأنبياء قبله ، إذ مقصد الجميع واحد ، وهو تقرير الحق ، وهداية الخلق ، وإزالة ما طرأ على العقائد من الضلال.

(وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أي ولا تسارعوا إلى الكفر به ، مع أن الأجدر بكم أن تكونوا أوّل من يؤمن به ، إذ أنتم تعرفون حقيقته مما معكم من الكتب الإلهية وقد كنتم تبشرون بزمانه ، وقد جاء في كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فكذبه يهودها ، ثم بنو قريظة ، وبنو النّضير ، ثم خيبر ، ثم تتابعت على ذلك سائر اليهود.

(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) أي ولا تعرضوا عن التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به وتستبدلوا بهدايته هذا الثمن القليل الذي يستفيده الرؤساء من مرءوسيهم من مال وجاه ، ويرجوه المرءوسون من الحظوة باتباع الرؤساء ويخشونه من سطوتهم إذا هم خالفوهم.

وسمى هذا البدل قليلا لأن صاحبه يخسر رضوان الله وتحل به عقوبته في الدنيا والآخرة ، ويخسر عزّ الحق ، ويخسر عقله لإعراضه عن واضح البراهين وبيّن الآيات.

(وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) بالإيمان واتباع الحق ، والإعراض عن لذات الدنيا متى شغلت عن أعمال الآخرة.

وليس في هذا تكرار مع قوله : وإياى فارهبون ، لأن استبدال الباطل بالحق إنما كان لاتقاء الرئيس خوف منفعة تفوته من المرءوس ، واتقاء المرءوس خوف غضب الرئيس ، فطلب إليهم أن يتقوا الله وحده ، إذ بيده الخير كله وهو على كل شىء قدير ، وإليه المصير.

(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ولا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه حتى لا يتميزا ، ولا تكتموا الحق الذي

١٠١

تعرفونه ، فالنهى الأوّل عن التغيير ، والنهى الثاني عن الكتمان وقد أبانت الآية طريقهم في الغواية والإغواء ، فقد جاء في كتبهم :

(١) التحذير من أنبياء كذبة يبعثون فيهم ، وتكون لهم عجائب وأفاعيل تدهش الألباب.

(٢) أن الله يبعث فيهم نبيا من ولد إسماعيل يقيم به أمة ، وأنه يكون من ولد الجارية (هاجر) وبين علامات واضحة له لا لبس فيها ولا اشتباه.

فأخذ الأحبار والرهبان يلبسون على العامة الحق بالباطل ، ويوهمونهم أن النبي صلى الله عليه وسلم من أولئك الأنبياء الذين وصفوا في التوراة بالكذب ، ويكتمون ما يعرفونه من أوصاف لا تنطبق إلا عليه ، وما يعرفونه من نعوت الأنبياء الصادقين وسبيل دعوتهم إلى الله ، إلى أنهم كانوا يصدونهم عن السبيل القويم بعدم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم بزيادات يستحدثونها ، وتقاليد يبتدعونها بضروب من التأويل والاستنباط من كلام بعض سلفهم وأفعالهم ويحكّمونها في الدين ويحتجون بأن الأقدمين كانوا أعلم بكلام الأنبياء وأشد اتباعا لهم ، فعلى من بعدهم أن يأخذ بكلامهم دون كلام الأنبياء الذي يصعب علينا فهمه بزعمهم.

لكن هذه المعذرة لم يتقبلها الله منهم ، ونسب إليهم اللبس والكتمان للحق الذي في التوراة إلى يومنا هذا ، كما لم يتقبل ممن بعدهم من العلماء في أي شريعة ودين أن يتركوا كتابه ويتبعوا كلام العلماء بتلك الحجة عينها ، فكل ما يعلم من كتاب الله يجب علينا أن نعمل به ، وما لا يعلم يسأل عنه أهل الذكر ، ومتى فهمناه وعلمناه عملنا به.

قال في التيسير : ويجوز صرف الخطاب إلى المسلمين وإلى كل صنف منهم ، وبيانه أن يقال : أيها السلاطين لا تخلطوا العدل بالجوز ، ويا أيها القضاة لا تخلطوا الحكم بالرشوة ، وهكذا كل فريق. فهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل

١٠٢

فهى تتناول من فعل فعلهم ، فمن أخذ رشوة على تغيير حق وإبطاله ، أو امتنع من تعليم ما وجب عليه ، أو أداء ما علمه ، وقد تعين عليه أداؤه حتى يأخذ عليه أجرا ، فقد دخل في حكم الآية ا ه.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) تقدم أن قلنا إن في الصلاة إظهار الحاجة إلى المعبود ، والافتقار إليه بالقول أو بالفعل أو بكليهما ، وإقامتها هى التوجه إلى الله بقلب خاشع والإخلاص له في الدعاء ، وهذا هو روح الصلاة الذي شرعت لأجله ، أما الصورة فليست مقصودة لذاتها ، ومن ثم اختلفت في الشرائع بحسب الأديان والأزمان ، ولكن الروح لا تغيير فيه ولا تبديل باختلاف الأنبياء.

والخلاصة ـ إنه بعد أن دعا بنى إسرائيل إلى الإيمان أمرهم بصالح العمل على الوجه المقبول عند الله ، فطلب إليهم إقامة الصلاة لتطهر نفوسهم كما طلب إليهم إيتاء الزكاة التي هى مظهر شكر الله على نعمه والصلة العظيمة بين الناس ، لما فيها من بذل المال لمواساة عيال الله وهم الفقراء ، ولما بين الناس من تكافل عام في هذه الحياة ، فالغنى في حاجة إلى الفقير ، والفقير في حاجة إلى الغنى كما ورد في الحديث : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا».

وبعدئذ أمرهم بالركوع مع الراكعين ، أي أن يكونوا في جماعة المسلمين ويصلوا صلاتهم ، وقد حثّ على صلاة الجماعة لما فيها من تظاهر النفوس عند مناجاة الله ، وإيجاد الألفة بين المؤمنين ، ولأنه عند اجتماعهم يتشاورون في دفع ما ينزل بهم من البأساء أو يجلب لهم السراء ، ومن ثم جاء في الخبر : «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة».

وعبر عن الصلاة بالركوع ليبعدهم عن الصلاة التي كانوا يصلونها قبلا ، إذ لا ركوع فيها.

١٠٣

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦))

تفسير المفردات

البرّ : سعة الخير ، ومنه البرّ والبرّيّة للفضاء الواسع ، والصبر : حبس النفس على ما تكره ، أو هو احتمال المكروه بنوع من الرضى والاختيار والتسليم ، كبيرة : أي ثقيلة شديدة الوقع ، والخاشعين : هم المخبتون الخائفون المتطامنة جوارحهم وقلوبهم لله تعالى ، يظنون : أي يستيقنون ، ولقاء الله : هو الحشر إليه ، والرجوع إليه : هو المجازاة ثوابا أو عقابا.

المعنى الجملي

الخطاب هنا لبنى إسرائيل كما كان فيما قبله ، وقد وبّخهم على اعوجاج سيرتهم وفساد أعمالهم ، وهداهم إلى المخرج من هذه الضلالات ، ذاك أن اليهود كانوا يدّعون الإيمان بكتابهم والعمل به والمحافظة عليه وتلاوته ، ولكنهم ما كانوا يتلونه حق تلاوته ، إذ حق تلاوته هو الإيمان به على الوجه الذي يرضاه الله تعالى ، ولكن الأحبار والرهبان وكانوا الآمرين الناهين لا يذكرون من الحق إلا ما يوافق أهواءهم ، ولا يعملون بما فيه من الأحكام إذا عارض شهواتهم.

فقد جاء في التوراة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم : «أنه يقيم من إخوتهم نبيّا يقيم الحق» وجاء في سفر تثنية الاشتراع (١٧) قال لى الرب : أحسنوا فيما تكلموا. (١٨) سوف أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامى في فمه فيكلمهم

١٠٤

بكل ما أوصيه به (١٩) ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامى الذي يتكلم به باسمي ، أنا أكون المنتقم منه.

فحرفوا هذه البشارة به وأولوها بما يوافق أهواءهم.

وكانت لهم مواسم دينية تذكرهم بنعم الله عليهم ، وتكون باعثا على إقامة الدين والعمل به ، لكن طول العهد جعل القلوب قاسية فخرجت عن تعاليم الدين ، واتباع الخير وسلوك طريق الرشاد ، واستمسك الأحبار بالظواهر وقلدهم في ذلك العامة ، فما كانوا يعرفون من الدين إلا العبادات العامة ، والمراسم الدينية ، وما عدا ذلك مما لا فائدة لهم فيه ولا هوى ، يلجئون فيه إلى التأويل والتحريف حتى لا يصادم أهواءهم وشهواتهم.

الإيضاح

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) الخطاب موجه إلى حملة الكتاب من الأحبار والرهبان ، فقد روى عن ابن عباس أن الآية نزلت في أحبار المدينة ، كانوا يأمرون من نصحوه سرّا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا يؤمنون به ، وقال السّدى : إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله تعالى وينهونهم عن معصيته وهم يفعلون ما ينهون عنه.

والمراد من النسيان هنا الترك ، لأن من شأن الإنسان ألا ينسى نفسه من الخير ولا يحب أن يسبقه أحد إلى السعادة ، وعبر به عنه للمبالغة في عدم المبالاة والغفلة عما ينبغى أن يفعله ، أي إذا كنتم موقنين بوعد الكتاب على البرّ ووعيده على تركه فكيف نسيتم أنفسكم؟

ولا يخفى ما في هذا الأسلوب من التوبيخ والتأنيب الذي ليس بعده زيادة لمستزيد ، فإن الآمر بما لا يأتمر به تكون الحجة عليه قائمة بلسانه.

١٠٥

(وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) فتعرفون منه ما لا يعرفه من تأمرونهم باتباعه ، والفرق عظيم بين من يفعل وينقصه العلم بفوائد ما يفعل ، ومن يترك وهو عليم بمزايا ما يترك.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا عقل لكم يحبسكم عن هذا السفه ، ويحذركم وخامة عاقبته ، فإن من عنده أدنى مسكة من العقل لا يدّعى كمال العلم بالكتاب ، ويقوم بالإرشاد إلى هديه ، ويبين للناس سبيل السعادة باتباعه ، ثم هو بعد لا يعمل به ولا يستمسك بأوامره ونواهيه.

وهذا الخطاب وإن كان موجها إلى اليهود فهو عبرة لغيرهم ، فلتنظر كل أمة أفرادا وجماعات في أحوالها ، ثم لتحذر أن يكون حالها كحال أولئك القوم فيكون حكمها عند الله حكمهم ، فالجزاء إنما هو على أعمال القلوب والجوارح لا على صنف خاص من الشعوب والأفراد.

وبعد أن بين سبحانه سوء حالهم وذكر أن العقل لم ينفعهم والكتاب لم يذكّرهم ، أرشدهم إلى الطريق المثلى ، وهى الاستعانة بالصبر والصلاة فقال :

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) الصبر الحقيقي إنما يكون بتذكر وعد الله بحسن الجزاء لمن صبر عن الشهوات المحرمة التي تميل إليها النفس ، وعمل أنواع الطاعات التي تشقّ عليها ، والتفكر في أن المصايب بقضاء الله وقدره ، فيجب الخضوع له والتسليم لأمره ، والاستعانة به تكون باتباع الأوامر واجتناب النواهي بقمع النفس عن شهواتها وحرمانها لذاتها ، وتكون بالصلاة لما فيها من النهى عن الفحشاء والمنكر ، ولما فيها من مراقبة الله في السر والنجوى ، وناهيك بعبادة يناجى فيها العبد ربه في اليوم خمس مرات ، وقد روى أحمد رضى الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، وروى أن ابن عباس نعيت له بنت وهو في سفر فاسترجع ثم تنحى عن الطريق وصلّى ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ : «واستعينوا بالصبر والصلاة».

(وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) أي وإن الصلاة لشاقة صعبة الاحتمال إلا على

١٠٦

المخبتين لله الخائفين من شديد عقابه ، وإنما لم تثقل على هؤلاء ، لأنهم مستغرقون فى مناجاة ربهم فلا يشعرون بشىء من المتاعب والمشاق ، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم : «وقرّة عينى في الصلاة» لأن اشتغاله بها كان راحة له ، وكان غيرها من أعمال الدنيا تعبا له ولأنهم مترقبون ما ادّخروا من الثواب فتهون عليهم المشاقّ ، ومن ثم قيل للربيع ابن خيثم وقد أطال صلاته : أتعبت نفسك ، قال راحتها أطلب ؛ وقيل : من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل ، ومن أيقن بالخلف جاد بالعطية.

ثم وصف الخاشعين بأوصاف تقربهم إلى ربهم وتدعوهم للإخبات إليه. فقال : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) أي لا تثقل الصلاة على الخاشعين الذين يتوقعون لقاء ربهم يوم الحساب والجزاء ، وأنهم راجعون إليه بعد البعث فيجازيهم بما قدموا من صالح العمل.

وعبر بالظن للإشارة إلى أن من ظن اللقاء لا تشق عليه الصلاة ، فما ظنك بمن يتيقنه ، ومن ثم كان الاكتفاء بالظن أبلغ في التقريع والتوبيخ ، فكأن هؤلاء الذين يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم لم يصل إيمانهم بكتابهم إلى درجة الظن الذي يأخذ صاحبه بالأحوط في أعماله.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨))

تفسير المفردات

الشفاعة : من الشفع ضد الوتر ، لأن الشفيع ينضم إلى الطالب في تحصيل ما يطلب فيصير معه شفعا بعد أن كان وترا ، والعدل الفدية ، وأصل العدل (بالفتح) ما يساوى

١٠٧

الشيء قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه ، (وبالكسر) المساوى في الجنس والحجم ، والنصرة : أخصّ من المعونة لأنها مختصة بدفع الضرر.

المعنى الجملي

كرر تذكيرهم بالنعم لكمال غفلتهم عما يجب عليهم من شكرها ، وقد ذكرت فيما سبق مقترنة بوعد الله لهم بالنصر على الأعداء وسكنى الأرض المقدسة ، واقترنت هنا بالوعيد ، واتقاء عقاب الله في ذلك اليوم الشديد الهول الذي لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا ، فكأنه قد قيل لهم إن لم تطيعوا الله لنعمه السالفة فأطيعوه للخوف من عقابه اللاحق.

وفي هذا التقريع والتوبيخ ما يدل على قساوة قلوبهم ، فإن من شعر بقدر نفسه إذا خلا ونفسه وتذكر أنه ألمّ بنقيصة يتألم ، ولم ير من اللائق به أن يدنسها مرّة أخرى برذيلة.

الإيضاح

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) هذا تأكيد لما تقدم وتمهيد لما عطفه عليه من التذكير بالتفضيل الذي هو من أجلّ النعم.

(وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي وأعطيتكم الفضل والزيادة على غيركم من الشعوب حتى الأمم ذات الحضارة والمدنية كالمصريين وسكان الأراضى المقدسة.

وقد ناداهم باسم أبيهم لأنه منشأ فخارهم وأصل عزهم ، وأسند النعمة والفضل إليهم جميعا لشمولهما إياهم ، والتفضيل إنما أتاهم لتمسكهم بالفضائل وتركهم للرذائل ، إذ من يرى نفسه مفضلا شريفا يترفع عن الدنايا.

وذكّرهم بهذا الفضل لينبههم إلى أن الذي فضلهم على غيرهم له أن يفضل غيرهم كمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، وإلى أنهم أجدر من جميع الشعوب بالتأمل فيما

١٠٨

أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات ، فإن المفضّل أولى بالسبق إلى الفضائل ممن فضّل عليه.

وهذا الفضل إن كان بكثرة الأنبياء فلا مزاحم لهم فيه ، ولا تقتضى هذه الفضيلة أن يكون كل فرد منهم أفضل من كل فرد من غيرهم ، ولا تمنع أن يفضلهم أخسّ الشعوب إذا انحرفوا عن جادّة الحق وتركوا سنة أنبيائهم واهتدى بهديها غيرهم ، وإن كان بالقرب من الله باتباع شرائعه ، فذلك إنما يتحقق في أولئك الأنبياء والمهتدين من أهل زمانهم ومن تبعهم بإحسان ماداموا على الاستقامة وسلكوا الطريق الذي استحقوا به التفضيل.

(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) أي واخشوا يوما يقع فيه من الأهوال ما لا قدرة لكم على دفعه ، ولا منجاة لكم منه إلا بتقوى الله في السر والعلن ، يوم لا تحمل نفس أوزار نفس أخرى كما قال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وقال : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) وقال : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) وقال : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

(وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) أي إنها إذا جاءت بشفاعة شفيع لم تقبل منها.

(وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أي ولا يؤخذ منها فداء إن هى استطاعت أن تأتى بذلك.

(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي يمنعون من العذاب.

والخلاصة ـ إن ذلك يوم تتقطع فيه الأسباب ، وتبطل منفعة الأنساب ، وتتحول فيه سنة الحياة الدنيا من دفع المكروه عن النفس بالفداء أو بشفاعة الشافعين ، عند الأمراء والسلاطين ، أو بأنصار ينصرونها بالحق والباطل على سواها ، وتضمحلّ فيه

١٠٩

جميع الوسائل إلا ما كان من إخلاص في العمل قبل حلول الأجل ، ولا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الله.

وقد كان اليهود كغيرهم من الأمم الوثنية يقيسون أمور الآخرة على أمور الدنيا ، فيتوهمون أنه يمكن تخليص المجرمين من العذاب بفداء يدفع ، أو بشفاعة بعض المقربين إلى الحاكم فيغير رأيه وينقض ما عزم عليه.

فجاء الإسلام ومحا هذه العقيدة ليعلم المؤمنون أنه لا ينفع في ذلك اليوم إلا مرضاة الله بالعمل الصالح والإيمان الذي يبلغ قرارة النفس ويتجلى في أعمال الجوارح.

[تنبيه] : هناك مسألة كثر خوض الناس فيها وأطالوا الجدل والأخذ والرد ، وهى مسألة الشفاعة العظمى ، شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة وهاك بيانها :

جاء في القرآن الكريم آيات تفيد نفيها مطلقا ، ومن ذلك قوله تعالى في وصف يوم القيامة (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) وآيات تفيد ثبوتها متى أذن الله ، ومن ذلك قوله : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى).

من أجل هذا افترق العلماء فرقتين : أولاهما تثبت الشفاعة وتحمل ما جاء من الآيات فى نفيها مطلقا على ما جاء منها مقيدا فلا تكون شفاعة إلا إذا أذن الله. وثانيتهما تنفيها مطلقا وتقول إن معنى (إلا بإذنه) هنا النفي ، وهذا أسلوب معروف لدى العرب في النفي القطعي كقوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) وقوله : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ).

وإذا فليس في القرآن الكريم نصّ قاطع في ثبوتها ، ولكن جاء في السنة الصحيحة ما يؤيد وقوعها كقوله صلى الله عليه وسلم : «شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى ، فمن كذب بها لم ينلها».

١١٠

فيجب علينا أن نحدد معناها والمراد منها ، وهل تكون في الآخرة كما هى فى الدنيا.

الشفاعة المعروفة في دنيانا أن يحمل الشفيع من يشفع عنده على فعل أو ترك كان يريد غيره ، فلا تتحقق فائدة الشفاعة إلا بترك ما أراده المشفوع لديه ، وفسخ ما عزم عليه لأجل الشفيع ، والحاكم العادل لا يقبل الشفاعة بهذا المعنى ، ولكن يقبلها الحاكم الظالم المستبد فيقضى بما يعلم أنه ظلم وأن العدل خلافه ، ويفضل ارتباطه بأواصر القربى أو الصداقة للشافع على العدالة ، ومثل هذا محال في الآخرة على المولى جلّ وعلا ، لأن إرادته بحسب علمه الأزلى الذي لا تغيير فيه ولا تبديل ، وإذا فما ورد من الأحاديث يكون من المتشابه الذي يرى السلف تفويض الأمر فيه إلى الله دون أن نحيط بحقيقته ونكشف المراد منه وننزه الله عن الشفاعة التي نشاهد مثالها في الحياة الدنيا ، وغاية ما نستطيع أن نقول : إنها مزية يختص الله بها من يشاء من عباده عبر عنها بلفظ (الشفاعة) ولا ندرك حقيقتها.

ويرى المتأخرون ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية ، أنها دعاء يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم فيستجيبه المولى جلّ وعلا كما يفهم من رواية الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم يسجد يوم القيامة ويثنى على الله بثناء يلهمه يومئذ ، فيقال له ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفّع ، وليس في الشفاعة بهذا المعنى رجوع المولى عن إرادته لأجل الشافع ، وإنما هى إظهار كرامة للشافع بتنفيذ ما أراده الله أزلا عقب دعائه ، فليس فيها ما يسدّ نهم المغرورين الذين يتهاونون في أوامر الدين ونواهيه اعتمادا منهم على الشفاعة كما قال : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ).

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ

١١١

يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩))

تفسير المفردات

النجو : المكان العالي من الأرض ، لأن من صار إليه يخلص وينجو ، ثم سمى كل فائز ناجيا لخروجه من الضيق إلى السعة ، والآل : من آل يئول بمعنى رجع ، لأنه يرجع إليك في قرابة أو رأى أو مذهب ، ولا يضاف إلا لذوى القدر والخطر ، وفرعون : لقب لمن ملك مصر قبل البطالسة ككسرى لملك الفرس ، وقيصر لملك الروم ، وخاقان لملك الترك ، وتبّع لملك اليمن ، والنجاشي لملك الحبشة ، وسامه : كلفه ، والسوء : السيء القبيح ، وسوء العذاب : أشده وأفظعه ، والبلاء : الاختبار والامتحان وهو تارة يكون بما يسّر ليشكر العبد ربه ، وتارة بما يضر ليصبر ، وتارة بهما ليرغب ويرهب.

المعنى الجملي

فصل في هذه الآية نعمة مما أنعم به على هذا الشعب العظيم ، ذكر فيها ما حلّ بهم من العذاب والبلاء جزاء ما صنعوا من جرائم وارتكبوا من آثام. ثم ما كان من لطف الله بهم ، إذ رفع عنهم البلاء ليتوبوا ويعرفوا قدر نعمته عليهم كما قال : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

وقد امتنّ على اليهود الذين كانوا عصر التنزيل بنعمة كانت لآبائهم ، لأن الإنعام على أمة إنعام شامل لأفرادها سواء منهم من أصابه ذلك ومن لم يصبه ، لما يكون له من الأثر في مجموع الأفراد يرثه الخلف عن السلف ، فصنوف البلاء التي ذكّر بها اليهود فى القرآن كانت للشعب من جراء جرائم وقعت من مجموعه.

١١٢

وقد روى المؤرخون أن أول من دخل مصر من بنى إسرائيل يوسف عليه السلام وانضم إليه إخوته بعد ، وتكاثر نسلهم حتى بلغوا في مدى أربعمائة سنة نحو ستمائة ألف حين خرجوا من مصر باضطهاد فرعون وقومه لهم ، إذ قد رأى تبسط اليهود في البلاد ومزاحمتهم للمصريين ، فراح يستذلهم ويكلفهم شاقّ الأعمال في مختلف المهن والصناعات ، وهم مع ذلك يزدادون نسلا ، ويحافظون على عاداتهم وتقاليدهم لا يشركون المصريين في شىء ولا يندمجون في غمارهم ، إلى مالهم من أنانية وإباء وترفع على سواهم ، اعتقادا منهم بأنهم شعب الله وأفضل خلقه ، فهال المصريين ما رأوا وخافوا إذا هم كثروا أن يغلبوهم على بلادهم ، ويستأثروا بخيراتها وينتزعوها من بين أيديهم ، وهمّ ذلك الشعب النشيط المجدّ العامل المفكر ، فعملوا على انقراضهم بقتل ذكرانهم واستحياء بناتهم ، فأمر فرعون القوابل أن يقتلن كل ذكر إسرائيلى حين ولادته.

والعبرة من هذا القصص أنه كما أنعم على اليهود ، ثم اجترحوا الآثام فعاقبهم بصنوف البلاء ، ثم تاب عليهم وأنجاهم ، أنعم على الأمة الإسلامية بضروب من النعم ، فقد كانوا أعداء فألّف بين قلوبهم وأصبحوا بنعمته إخوانا ، وكانوا مستضعفين فى الأرض ، فمكّن لهم وأورثهم أرض الشعوب القوية ، وجعل لهم فيها السلطان والقوة ، وجعلهم أمة وسطا لا تفريط لديها ولا إفراط ، ليكونوا شهداء على من أفرطوا أو قصروا.

ثم لما كفروا بهذه النعم أذاقهم الله ألوانا من العذاب على يد التتار في بغداد ، وفي الحروب الصليبية ؛ إذ جاس الغربيون خلال الديار الإسلامية ، ولا يزالون يتنقصون بلادهم من أطرافها ويصبّون عليهم العذاب وهم لاهون ساهون ، وكلما حلّت بهم كارثة أو أصابتهم جائحة أحالوا الأمر فيها على القضاء والقدر دون أن يتعرفوا أسبابها ويبادروا إلى علاجها ، ويكونوا يدا واحدة على رفع ما يحلّ بهم من النكبات وبدهمهم من الويلات.

١١٣

الإيضاح

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي واذكروا وقت تنجيتنا إياكم أي تنجية آبائكم ، وتنجيتهم تنجية لأعقابهم ، وهو استعمال تعهده العرب في كلامها ، يقولون قتلناكم يوم عكاظ أي قتل آباؤنا آباءكم.

(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي يكلفونكم ما يسوءكم ويذلكم من العذاب.

ثم فصل هذا العذاب بقوله :

(يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي يقتلون الذكور ويستبقون البنات إذلالا لكم حتى ينقرض شعبكم من البلاد.

(وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي وفي ذلكم العذاب والتنجية منه امتحان عظيم من ربكم كما قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) وقوله : من ربكم : أي من جهته تعالى بتسليطهم عليكم ، وبعث موسى وتوفيقه لخلاصكم.

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣))

تفسير المفردات

الفرق : الفصل بين الشيئين ، والبحر : هو بحر القلزم فرقه الله اثنتي عشرة فرقة بعدد أسباط بنى إسرائيل ، والسبط : ولد الولد ، وهو من بنى إسرائيل كالقبائل

١١٤

من العرب ، والعفو : محو الجريمة بالتوبة ، والكتاب : التوراة ، والفرقان : الآيات التي أيّد الله بها موسى ودلت على صدق نبوته ، وبها يفرق بين الحق والباطل ، والشكر يكون لمن فوقك بطاعته ، ولنظيرك بالمكافأة ، ولمن دونك بالإحسان إليه.

المعنى الجملي

فى الآية الأولى تفصيل لمجمل ما ذكر في الآية السالفة من الإنجاء ، وتصوير لحصوله وعظيم هوله ، وكونه من خوارق العادات ، وفي تضاعيف ذلك ذكر لهم نعمة أخرى وهى هلاك عدوهم فرعون وقومه وهم ينظرون ، ثم ذكر النعمة التي تلتها وهى العدة بإعطاء التوراة وكفرهم بها باتخاذهم عجلا من ذهب وعبادتهم إياه ، ثم عفوه عنهم بعد ذلك ، ثم قفّى على ذلك بذكر إيتائهم الكتاب وهى المنة الكبرى مع الآيات التي أيّد بها موسى لتصديق نبوّته.

روى المؤرخون أن الله لما أرسل موسى إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الإيمان به ويطلب إليهم إطلاق الشعب الإسرائيلى ، وترك تعذيبه والعسف به ، زاد فرعون فى تعذيبهم وسامهم الخسف ، وشدّد عليهم النكال والتعذيب.

ويؤيد هذا ما جاء في سفر الخروج من التوراة : إن الله تعالى أنبأ موسى بأنه سيجعل قلب فرعون قاسيا على بنى إسرائيل ، ويزيد في النكال بهم ولا يرسلهم مع موسى حتى يريه آياته.

فبعد أن دعاه موسى إلى الإيمان زاد ظلما وعتوّا ، فأمر الذين كانوا يسخّرون بنى إسرائيل في الأعمال الشاقة أن يزيدوا في القسوة عليهم ، وأن يمنعوهم التبن الذي كانوا يعطونهم إياه لعمل اللبن (الطوب) ويكلفوهم أن يجمعوه ويعملوا كل ما يعملونه من اللبن لا يخفف عنهم منه شىء.

فأعطى الله موسى وأخاه هارون الآيات ، فحاول فرعون معارضتها بسحر السحرة ،

١١٥

فلما آمن السحرة بربّ العالمين ربّ موسى وهارون ، ورأى من الآيات ما رأى سمح بخروج بنى إسرائيل بل طردهم طردا.

وفي سفر الخروج أنهم خرجوا في شهر أبيب بعد أن أقاموا بمصر ثلاثين وأربعمائة سنة من عهد يوسف عليه السلام ، ثم أتبعهم فرعون وجنوده فغشيهم من اليمّ ما غشيهم وأنجى الله بنى إسرائيل وأغرق فرعون ومن معه.

وقد كان فرق البحر من معجزات موسى عليه السلام كمعجزات سائر الأنبياء التي يظهرها الله تعالى على أيديهم لترشد الناس إلى أن السنن والنواميس الكونية لا تحكم على واضعها ومدبرها ، بل هو الحاكم المتصرف فيها ، وهى أيضا سنة أخرى فى الكون يخلقها الله متى شاء على يد من يصطفيه من عباده.

وزعم بعض الناس أن عبور بنى إسرائيل البحر كان وقت الجزر ، وفي بحر القلزم (البحر الأحمر) رقارق يتيسر للإنسان أن يعبر بها البحر إذا كان الجزر شديدا ، وكانوا لاستعحالهم واتصال بعضهم ببعض ، قد جعلوا الماء الرقارق فرقين عظيمين ممتدين كالطود العظيم ، يرشد إلى ذلك قوله : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) ولم يقل فرقنا لكم البحر.

وقوله : (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) تشبيه معروف معهود مثله فى مقام المبالغة كقوله : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) ألا ترى أن الأمواج والسفن الجواري لا تكون كشواهق الجبال ، لكنه يراد بمثل هذا التعبير زيادة البيان ، وإرادة التأثير فى نفس السامع.

ولما أتبعهم فرعون وجنوده ورآهم قد عبروا البحر مشى إثرهم ، وكان المد قد بدأ ، ولم يتم خروج بنى إسرائيل إلا وقد علا المدّ ، وطغى حتى أغرق المصريين جميعا ، وتحققت نعمة الله على بنى إسرائيل ، وتمّ لهم التوفيق ولعدوهم الخذلان ، ونعم الله

١١٦

بغير طريق المعجزات أتمّ وأكثر ، فليس بلازم أن نجعل الامتنان في كونه معجزة لموسى عليه السلام ا ه.

ومثل هذا التأويل ليس بضائر إذا كان أربابه يثبتون صدور خوارق العادات على يد الأنبياء تأييدا من الله لهم ، أما إذا أنكروها فلا حاجة إلى الكلام معهم ، إذ لا بد أن نثبت لهم قدرة الله وإرادته ، ثم نثبت لهم إمكان الوحى وإرسال الرسل وتأييدهم بالمعجزات.

الإيضاح

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) أي واذكروا من نعمتنا عليكم نعمة فرق البحر بكم وجعلنا لكم فيه طرقا تسلكونها حين هربكم من فرعون.

(فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي فأنجيناكم من الغرق وأخرجناكم إلى الشاطئ الآخر ، وأغرقنا فرعون ومن معه حين عبروا وراءكم ، وأنتم تشاهدون ذلك بأبصاركم ولا تشكّون في حصوله ، ولو لا ذلك لكان لكم وجه للريبة والشك في وقوعه ، والفائدة من قوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) بيان تمام النعمة ، فإن هلاك العدوّ نعمة ، ومشاهدة هلاكه نعمة أخرى فيها سرور لا يقدر قدره.

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) أي واذكروا نعمة أخرى كفرتم بها وظلمتم أنفسكم ، ذاك أنهم بعد أن اجتازوا البحر سألوا موسى أن يأتيهم بكتاب من ربهم ، فواعده ربه أن يعطيه التوراة وضرب له ميقاتا لذلك ، يقولون إنه ذو القعدة وعشر ذى الحجة ، فاستبطئوه واتخذوا عجلا من ذهب ، له خوار فعبدوه وظلموا أنفسهم بإشراكهم ووضعهم للشىء في غير موضعه بعبادة العجل بدل عبادة خالقهم وخالقه.

وفي ذكر هذا تعجيب من حالهم ، فإن مواعدة الله موسى بإنزال التوراة إليه نعمة وفضيلة لبنى إسرائيل قابلوها بأقبح أنواع الكفر والجهل.

١١٧

(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ثم محونا تلك الجريمة بقبول التوبة ولم نعاجلكم بالإهلاك ، بل أمهلناكم حتى جاءكم موسى وأخبركم بكفارة ذنوبكم ، ليعدّكم بهذا العفو للاستمرار على الشكر ، فإن الإنعام يوجب الشكر على النعم.

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي واذكروا نعمة إيتاء التوراة والآيات التي أيدنا بها موسى ، لتهتدوا بالتدبر فيها ، والعمل بما تحويه من الشرائع ليعدّكم للاسترشاد بها حتى لا تقعوا في وثنية أخرى.

وإن من كمال الاستعداد لفهم الكتاب أن تعرفوا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم دليل على صحة نبوته ، فتؤمنوا به وتهتدوا بهديه وتتبعوا سبيل الرشاد الذي سلكه.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧))

تفسير المفردات

برأه : ذرأه وأوجده ، والصاعقة نار محرقة تنزل من السماء ، وسببها اتحاد كهربية

١١٨

السحاب المختلفة النوع سالبها بموجبها ، أو اتحادها مع كهربية الأرض السالبة ، بعثناكم : أي أكثرنا نسلكم ، والمنّ : مادة حلوة لزجة تشبه العسل تقع على الحجر وورق الشجر وتنزل سائلة كالندى ، ثم تجمد وتجفّ فيجمعها الناس ، والسلوى : السّمانى (السمان) الطائر المعروف.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة أنواعا من النعم التي آتاها بنى إسرائيل ، كلها مصدر فخار لهم ، ولها تهتز أعطافهم خيلاء وكبرا ، لما فيها من الشهادة بعناية الله بهم ، فبيّن في أولاها كبرى سيئاتهم التي بها كفروا أنعم ربهم وهى اتخاذهم العجل إلها ، ثم ختمها بذكر العفو عنهم ، ثم قفى على ذلك بذكر سيئة أخرى لهم ابتدعوها تعنتا وتجبرا وطغيانا ، وهى طلبهم من موسى أن يريهم الله عيانا حتى يؤمنوا به ، فأخذتهم الصاعقة وهم يرون ذلك رأى العين ، ثم أردف ذلك ذكر نعمتين أخريين كفروا بهما. أولاهما تظليل الغمام لهم في التيه إلى أن دخلوا الأرض المقدسة ، وإنزال المنّ والسلوى عليهم مدة أربعين سنة.

وفي ذكر النعمة يتخللها سوق ما يفرط من أصحابها من السيئات ما يجعل النفوس قلقة مضطربة يتجاذبها عاملان : عامل الاعتراف لها بالشرف ، وعامل رميها بالظلم والسّرف ، وهذا مما يورث في النفوس المخاوف ، وتتملكها منه الوساوس.

الإيضاح

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) أي واذكر أيها الرسول الكريم فيما تلقيه على بنى إسرائيل وغيرهم من العظات قول موسى لقومه الذين عبدوا العجل حين كان يناجى ربه : يا قوم إنكم باتخاذكم العجل إلها قد أضررتم

١١٩

بأنفسكم وأنقصتم مالها من الأجر والثواب عند ربكم لو أنكم أقمتم على عهدى واتبعتم شريعتى ، وقد فصّلت هذه القصة في سورتي الأعراف وطه.

(فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي فاعزموا على التوبة إلى من خلقكم وميّز بعضكم من بعض بصور وهيئات مختلفة ، وفي قوله إلى بارئكم إيماء إلى أنهم بلغوا غاية الجهل ، إذ تركوا عبادة البارئ وعبدوا أغبى الحيوان وهو البقر ، وليقتل البريء منكم المجرم ، وإنما جعلهم أنفسهم للإشارة إلى أن المؤمنين إخوة ، فأخو الرجل كأنه نفسه كما قال تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا تغتابوا إخوانكم من المسلمين.

وقصة القتل مذكورة في التوراة التي يتدارسونها إلى اليوم ، ففيها دعا موسى : من للرّبّ فإلىّ ، فأجابه بنو لاوى ، فأمرهم أن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضا ففعلوا ، فقتل في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل ، والعبرة من القصة لا تتوقف على عدد معين فلنمسك عنه ما دام القرآن لم يتعرض له.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) أي ما ذكر من التوبة والقتل أنفع لكم عند الله من العصيان والإصرار على الذنوب لما فيه من العذاب ، إذ أن القتل يطهركم من الرجس الذي دنّستم به أنفسكم ويجعلكم أهلا للثواب.

(فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي ففعلتم ما أمركم به موسى فقبل توبتكم وتجاوز عن سيئاتكم.

(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إنه هو الذي يكثر توفيق المذنبين للتوبة ويقبلها منهم ، وهو الرّحيم بمن ينيب إليه ويرجع ، ولو لا ذلك لعجل بإهلاككم على ما اجترحتم من عظيم الآثام.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) أي واذكروا قول السبعين من أسلافكم الذين اختارهم موسى حين ذهبوا معه إلى الطور ، للاعتذار عن عبادة

١٢٠