تفسير المراغي - ج ١

أحمد مصطفى المراغي

وعقاب الآخرة يتّقى بالإيمان الخالص والتوحيد والعمل الصالح واجتناب ما يضاد ذلك من الشرك واجتناب المعاصي والآثام التي تضر المرء أو تضر المجتمع.

والمتقون فى هذه الآية هم الذين سمت نفوسهم ، فأصابت ضربا من الهداية واستعدادا لتلقى نور الحق ، والسعى فى مرضاة الله بقدر ما يصل إليه إدراكهم ويبلغ إليه اجتهادهم.

وقد كان من هؤلاء ناس فى الجاهلية ، كرهوا عبادة الأصنام ، وأدركوا أن خالق الكون لا يرضى بعبادتها ، كذلك كان من أهل الكتاب ناس يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون فى الخيرات وأولئك من الصالحين.

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣))

الإيضاح

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) الإيمان تصديق جازم يقترن بإذعان النفس واستسلامها.

وأمارته العمل بما يقتضيه الإيمان ، وهو يختلف باختلاف مراتب المؤمنين فى اليقين.

والغيب ما غاب عنهم علمه كذات الله وملائكته والدار الآخرة وما فيها من البعث والنشور والحساب.

والإيمان بالغيب هو اعتقاد بموجود وراء المحسّات متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم ، ومن يعتقد بهذا يسهل عليه التصديق بوجود خالق للسموات والأرض منزه عن المادة وتوابعها ، وإذا وصف له الرسول العوالم التي استأثر الله بعلمها كعالم الملائكة ، أو وصف له اليوم الآخر لم يصعب عليه التصديق به بعد أن يستيقن صدق النبي الذي جاء به.

أما من لا يعرف إلا ما يدركه الحس فإنه يصعب إقناعه ، وقلما تجد الدعوة إلى الحق من نفسه سبيلا.

٤١

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) الصلاة فى اللغة الدعاء كما قال تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) ودعاء المعبود بالقول أو بالفعل أو بكليهما يشعر العابد بالحاجة إليه استدرارا للنعمة أو دفعا للنقمة.

والصلاة على النحو الذي شرعه الإسلام من أفضل ما يعبّر عن الشعور بعظمة المعبود وشديد الحاجة إليه لو أقيمت على وجهها. أما إذا خلت من الخشوع والخضوع فإنها تكون صلاة لا روح فيها ، وإن كانت قد وجدت صورتها وهى الكيفيات المخصوصة ؛ ولا يقال للمصلى حينئذ إنه امتثل أمر ربه فأقام الصلاة ، لأن الإقامة مأخوذة من أقام العود إذا سواه وأزال اعوجاجه ، فلا بد فيها من حضور القلب فى جميع أجزائها واستشعار الخشية ومراقبة الخالق كأنك تنظر إليه كما ورد فى الحديث «اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

ولما للصلاة من خطر فى تهذيب النفوس والسموّ بها إلى الملكوت الأعلى أبان الله تعالى عظيم آثارها بقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم عماد الدين فقال : «الصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الإسلام».

وقد أمر الله بإقامتها بقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) وبالمحافظة عليها وإدامتها بقوله : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) وبأدائها فى أوقاتها بقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) وبأدائها فى جماعة بقوله : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) وبالخشوع فيها بقوله : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ).

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) الرزق فى اللغة العطاء ، ثم شاع استعماله فيما ينتفع به الحيوان وجمهرة المسلمين على أن كل ما ينتفع به حلالا كان أو حراما فهو رزق ، وخصه جماعة بالحلال فقط.

والإنفاق والإنفاد أخوان ، خلا أن فى الثاني معنى الإذهاب التام دون الأول ، والمراد بالإنفاق هنا ما يشمل النقمة الواجبة على الأهل والولد وذوى القربى ، وصدقة التطوع.

وفى قوله : مما رزقناهم إيماء إلى أن النفقة المشروعة تكون بعض ما يملك الإنسان ،

٤٢

لا كل ما يملك ، وإلى تعليم الإنسان مبادئ الاقتصاد وحبّ ادّخار المال.

وإن من يجد فى نفسه ميلا إلى بذل أحب الأشياء إليه ، وهو ماله ابتغاء رضوان الله ، وقياما بشكره على أنعمه ، رحمة لأهل البؤس والعوز ـ كان من المتقين المستعدين لهدى القرآن ، وكثير من الناس يصلون ويصومون ، ولكن إذا عرض لهم ما يدعو إلى إنفاق شىء من المال فى سبيل الله ، كأن تدعو الحاجة إلى إنفاقه في مصلحة من مصالح المسلمين أو منفعة عامة لا تقوم إلا بالبذل ـ أعرضوا ونأوا ولم تطاوعهم أنفسهم على بذل شىء منه.

وإنما كان القرآن هدى للمتقين الذين هذه أوصافهم ، لأن الإيمان بالله والإيمان بحياة أخرى بعد هذه الحياة يوفّى فيها كل عامل جزاء عمله ـ يهيّئ النفوس لقبول هديه والاقتباس من أنواره.

وبين ذلك بعضهم بقوله : لأن فى الإيمان النجاة ، وفى الصلاة المناجاة ، وفى لإنفاق زيادة الدرجات ، وبعضهم بقوله : لأن فى الإيمان البشارة ، وفى الصلاة الكفارة ، وفى الإنفاق الطهارة.

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤))

الإيضاح

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) روى ابن جرير عن ابن عباس أن المراد بالمؤمنين هنا من يؤمنون بالنبي والقرآن من أهل الكتاب ، وبالمؤمنين فيما قبلها من يؤمنون من مشركى العرب.

(بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) هو القرآن الذي يتلى ، والوحى الذي لا يتلى ، وهو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من أعداد الركعات فى الصلاة ، ومقادير الزكاة ، وحدود الجنايات ،

٤٣

قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وقال : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).

ولا بد من معرفة ذلك تفصيلا ، فلا يسع المؤمن جهل ما علم من الدين بالضرورة.

والإنزال هنا بمعنى الوحى ، وسمى إنزالا لما فى جانب الألوهية من علو الخالق على المخلوق ، أو لإنزال جبريل له على النبي صلى الله عليه وسلم لتبليغه للخلق كما قال : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ).

(وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) هو التوراة والإنجيل وسائر الكتب السالفة ، فيؤمنون بها إيمانا إجماليا لا تفصيليا.

(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الدار الآخرة هى دار الجزاء على الأعمال ـ والإيمان بها يتضمن الإيمان بكل ما ورد فبها بالنصوص المتواترة كالحساب والميزان والصراط ، والجنة والنار.

واليقين : هو التصديق الجازم الذي لا شبهة فيه ولا تردد ، ويعرف اليقين بالله واليوم الآخر بآثاره فى الأعمال ، فمن يشهد الزور أو يشرب الخمر أو يأكل حقوق الناس يكن إيمانه بهما خيالا يلوح فى الذهن لا إيمانا يقوم على اليقين ، إذ لم تظهر آثاره فى الجوارح واللسان ، وهو لا يكون إيمانا حقا إلا إذا كان مالكا لزمام النفس مصرفا لها فى أعمالها.

والإيمان على الوجه الصحيح يحصل من أحد طريقين :

(١) البحث والتأمل فيما يحتاج إلى ذلك كالعلم بوجود الله ورسالة الرسل.

(٢) خبر الرسول بعد أن تقوم الدلائل على صدقه فيما يبلغ عن ربه ، أو خبر من سمع منه بطريق لا تحتمل ريبا ولا شكا وهى طريق التواتر ، كالعلم بأخبار الآخرة وأحوالها ، والعالم العلوي وأوصافه ، وعلينا أن نقف عند ذلك فلا نزيد فيه شيئا ولا نخلطه بغيره مما جاء عن طريق أهل الكتاب ، أو عن بعض السلف بدون تمحيص

٤٤

ولا تثبت من صحته ، وقد دوّنه المفسرون فى كتبهم وجعلوه من صلب الدين ، وهو ليس منه فى شىء.

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

الإيضاح

الفلح : الشق والقطع ، ومنه سمى الزارع فلّاحا لأنه يشق الأرض ، والمفلح : الفائز بالبغية بعد سعى فى الحصول عليها ، واجتهاد فى إدراكها ، كأنه انفتحت له وجوه النظر ولم تستغلق عليه.

والمشار إليه بأولئك فى الموضعين واحد وهم المؤمنون من غير أهل الكتاب والمؤمنون منهم ، وكرر الإشارة للدلالة على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضى نيل كل واحدة من هاتين الفضيلتين الهدى والفلاح ، وأن كلا منهما كاف فى تميزهم به عن سواهم ، فكيف بهما إذا اجتمعتا.

والتعبير بقوله (على هدى) يفيد التمكن من الهدى وكمال الرسوخ فيه ، كما يتمكن الراكب على الدابة ويستقر عليها ، وقد جاء فى كلامهم : ركب هواه ، وجعل الغواية مركبا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

تفسير المفردات

الكفر : ستر الشيء وتغطيته ، وقد وصف به الليل كقوله «فى ليلة كفر النجوم غمامها»

٤٥

والزراع كقوله تعالى : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) من قبل أنهم يغطون الحب بالتراب ، ثم استعمل فى كفر النعم بعدم شكرها ، وفى الكفر بالله ووحدانيته وصفاته وكتبه ورسله.

الختم والطبع والرّين بمعنى واحد : وهو تغطية الشيء ، مع إبعاد ما من شأنه أن يدخله ويمسه ، والمراد بالقلوب العقول ، وبالسمع الأسماع ، وبالأبصار العيون التي تدرك المبصرات من أشكال وألوان ، والغشاوة : الغطاء.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه حال المتقين الذين يؤمنون بالغيب ، وبما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله ، وبين ما آل إليه أمرهم من الهداية والفلاح ، أعقب هذا بشرح طائفة ثانية وهم الكفرة الفجرة ، وأبان أنه قد بلغ من أمرهم فى الغواية والضلال ألا يجدى فيهم الإنذار والتبشير ، وألا تؤثّر فيهم العظة والتذكير ، فهم عن الصراط السوىّ ناكبون ، وعن الحق معرضون ، فالإنذار وعدمه سيان ، فماذا ينفع النور مهما سطع ، والضوء مهما ارتفع ، مع من أغمض عينيه حتى لا يراه بغضا له ، وعداوة لمن دعا إليه ، لأن الجهل أفسد وجدانه ، فأصبح لا يميز بين نور وظلمة ، ولا بين نافع وضارّ.

وقد جرت سنة الله فى مثل هؤلاء الذين مرنوا على الكفر أن يختم على قلوبهم فلا يبقى فيها استعدادا لغير الكفر ، ويختم على سمعهم فلا يسمعون إلا أصواتا لا ينفذ منها إلى القلب شىء ينتفع به ، ويجعل على أبصارهم غشاوة ، إذ هم لما لم ينظروا إلى ما فى الكون من آيات وعبر ، ولم يبصروا ما به يتقون الخطر ، فكأنهم لا يبصرون شيئا ، وكأنه قد ضرب على أبصارهم بغشاوة.

وقد حكم الله عليهم بالعذاب الأليم فى العقبى ، وفقد العز والسلطان والخزي في الدنيا كما قال : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

٤٦

الإيضاح

المراد بالذين كفروا هنا : من علم الله أن الكفر قد رسخ في قلوبهم حتى أصبحوا غير مستعدين للإيمان ، بجحودهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به بعد أن بلغتهم رسالته بلاغا صحيحا وعرضت عليهم الدلائل على صحتها للنظر والبحث ، فأعرضوا عنها عنادا واستهزاء.

وسبب كفرهم :

(١) إما عناد للحق بعد معرفته ؛ وقد كان من هذا الصنف جماعة من المشركين واليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كأبى لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود.

(٢) وإما إعراض عن معرفته واستكبار عن النظر فيه.

والمعرضون عن الحق يوجدون في كل زمان ومكان ، وهؤلاء إذا طاف بهم طائفه الحق لوّوا رءوسهم واستكبروا وهم معرضون ، وفيهم يقول تبارك وتعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ).

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ؟) سواء اسم بمعنى مستو كما قال تعالى : (إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) والإنذار إخبار بشىء مع التخويف بما يترتب على فعله إن كان مذموما أو تركه إن كان محمودا ، ويراد به هنا التخويف من عذاب الله وعقابه على فعل المعاصي.

(لا يُؤْمِنُونَ) جملة موضحة لتساوى الإنذار وعدمه في حقهم لا في حقه صلى الله عليه وسلم ، ولا في حق الدعاة إلى دينه ، إذ هم يدعون كل كافر إلى الدين الحق ، لا فرق بين المستعد للإيمان وغير المستعد.

٤٧

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) ضرب الله مثلا لحال قلوب أولئك القوم ، وقد تمكن الكفر فيها حتى امتنع أن يصل إليها شىء من الأمور الدينية النافعة لها في معاشها ومعادها ، وحيل بينها وبينه ـ بحال بيوت معدة لحلول ما يأتي إليها مما فيه مصالح مهمة للناس ، لكنه منع ذلك بالختم عليها ، وحيل بينها وبين ما أعدّت لأجله ـ فقد حدث في كل منهما امتناع دخول شىء بسبب مانع قوى ؛ وكذلك حدث مثل هذا في الأسماع فلا تسمع آيات الله المنزلة سماع تأمل وتدبر ، وجعل على الأبصار غشاوة ، فلا تدرك آيات الله المبصرة في الآفاق والأنفس الدالة على الإيمان ؛ ومن ثم لا يرجى تغيير حالهم ولا أن يدخل الإيمان في قلوبهم.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠))

المعنى الجملي

ذكر سبحانه أوّلا من أخلص دينه لله ووافق سرّه علنه وفعله قوله ، ثم ثنى بذكر من محّضوا الكفر ظاهرا وباطنا. وهنا ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وهم أخبث الكفرة ، لأنهم ضموا إلى الكفر استهزاء وخداعا وتمويها وتدليسا وفيهم نزل قوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) وقوله : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ).

وقد وصف الله حال الذين كفروا في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية ، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم ، وفضحهم ، واستجهلهم ، واستهزأ بهم ، وتهكم بفعلهم ، ودعاهم صما بكما عميا ، وضرب لهم شنيع الأمثال.

٤٨

فنعى عليهم خبثهم في قوله : ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ، ونفى عليهم مكرهم في قوله : يخادعون الله والذين آمنوا : وفضجهم في قوله : وما هم بمؤمنين ، وفي قوله. وما يخدعون إلا أنفسهم ، وفي قوله : في قلوبهم مرض ، واستجهلهم في قوله :

وما يشعرون ، وفي قوله : ولكن لا يشعرون ، وفي قوله : ولكن لا يعلمون ، وتهكّم بفعلهم فى قوله : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ، ودعاهم صما بكما عميا في قوله : صم بكم عمى فهم لا يرجعون ، وضرب لهم شنيع الأمثال في قوله : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا إلخ وفي قوله : أو كصيب من السماء إلخ.

الإيضاح

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أصل ناس أناس ويشهد له إنسان وإنسى ، وسموا بذلك لظهورهم وتعلق الإيناس بهم ، كما سمى الجن جنّا لاجتنانهم واختفائهم.

من يقول إلخ هم أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل كعبد الله ابن أبيّ بن سلول وأصحابه وأكثرهم من اليهود ، ولهم نظراء في كل عصر ومصر.

واليوم الآخر ـ هو من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى ، أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، وخصّوا بالذكر الإيمان بهما ، إشارة إلى أنهم أحاطوا بجانبي الإيمان أوله وآخره ، وهم لم يكونوا كذلك ، إذا كانوا مشركين بالله لأنهم يقولون عزير ابن الله ، وجاحدين باليوم الآخر ، إذ قالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ، وقد حكى الله عبارتهم ليبين كمال خبثهم ، لأن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق مع ما هم عليه لم يكن ذلك إيمانا لاتخاذهم الولد واعتقادهم أن الجنة لا يدخلها غيرهم ، فما بالك بهم وهم قالوه تمويها على المؤمنين واستهزاء بهم.

(وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) أي وما هم بداخلين في عداد المؤمنين الصادقين الذين يشعرون

٤٩

تعظيم سلطان الله ، ويعلمون أنه مطّلع على سرهم ونجواهم ، إذ هم كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات ، ظنا منهم أن ذلك يرضى ربهم ، ثم هم بعد ذلك منغمسون في الشرور والمآثم من كذب وغشّ ، وخيانة وطمع إلى نحو ذلك مما حكاه الكتاب الكريم عنهم ونقله الرواة أجمعون.

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الخدع : أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه لتحول بينه وبين ما يريد ، وأصله من قولهم : خدع الضبّ إذا توارى في جحره ، وضب خادع إذا أوهم حارسه الإقبال عليه ثم خرج من باب آخر.

والخدع هنا من جانب المنافقين لله وللمؤمنين ، والتعبير بصيغة المخادعة للدلالة على المبالغة في حصول الفعل وهو الخدع ، أو للدلالة على حصوله مرّة بعد أخرى ، كما يقال مارست الشيء وزاولته ، إذ هم كانوا مداومين على الخدع ، إذ أعمالهم الظاهرة لا تصدقها بواطنهم ، وهذا لا يكون إلا من مخادع ، لا من تائب خاشع.

وخداعهم للمؤمنين بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر ، للاطلاع على أسرارهم وإذاعتها إلى أعدائهم من المشركين واليهود ، ودفع الأذى عن أنفسهم.

(وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إذ ضرر عملهم لا حقّ بهم ، فهم يغرّون أنفسهم بالأكاذيب ويلقونها في مهاوى الهلاك والردى.

(وَما يَشْعُرُونَ) يقال شعر به يشعر شعورا : علم به وفطن ، والفطنة إنما تتعلق بخفايا الأمور ، فالشعور لا يكون إلا في إدراك ما دقّ وخفى من شىء حسى أو عقلى.

وقد نفى الشعور عنهم في مخادعتهم لله ، لأنهم لم يحاسبوا أنفسهم على أقوالهم ولم يراقبوه في أفعالهم ، ولم يفكروا فيما يرضيه ، بل جروا في ريائهم على ما ألفوا وتعوّدوا فهم يعملون عمل المخادعين وما يشعرون ، فإذا عرض لهم زاجر من الدين يحول بينهم وبين ما يشتهون ـ وجدوا لهم من المعاذير ما يسهل أمره ، إما بأمل في المغفرة ، أو تحريف في أوامر الكتاب ، لما رسخ في نفوسهم من عقائد الزيغ التي يسمونها إيمانا ، وهم في الحقيقة مخدوعون ، وعن الصراط السوىّ ناكبون.

٥٠

والمشاهد أن الإنسان إذا همّ بعمل وناجى نفسه ، وجد كأن في قلبه خصمين مختصمين ، أحدهما يميل به إلى اللذة ويسير به في طريق الضلال والغواية ، وثانيهما يأمره بالسير في الطريق القويم وينهاه عن اتباع النفس والهوى ، ولقد جاء في كلامهم عن المتردد «فلان يشاور نفسيه».

ولا يترجح عنده جانب الشر إلا إذا خدع نفسه وصرفها عن الحق ، وزين لها اتباع الباطل ، وإنما يكون ذلك بعد مشاورة ومذاكرة تجول في الخاطر وتهجس فى النفس ، ربما لا يلتفت إليها الإنسان ولا يشعر بما يجول بين جنبيه.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) القلوب هنا العقول ، وهو تعبير معروف عند العرب ، كأنهم لاحظوا أن القلب يظهر فيه أثر الوجدان الذي هو السائق إلى الأعمال كاضطرا به حين الخوف أو اشتداد الفرح.

ومرضها ما يطرأ عليها مما يضعف إدراكها وتعقلها لفهم الدين ومعرفة أسراره وحكمه ، وفقدان هذا الإدراك هو الذي عبّر عنه القرآن بقوله : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها).

ومن أسباب ذلك الجهل والنفاق والشك والارتياب والحسد والضغينة إلى غير ذلك مما يفسد الاعتقاد والأخلاق ويجعل أحكام العقل في اضطراب.

وقد وجد هذا المرض عند هؤلاء المنافقين حين كانوا في فترة من الرسل فلم يكن لهم حظ من قراءة كتب الدين إلا تلاوتها ، ولا من أعماله إلا إقامة صورها دون أن تنفذ أسرارها إلى القلوب ، فتهذب النفوس وتسمو بها إلى فضائل الأخلاق والتفقه فى الدين.

(فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) بعد أن جاء النذير البشير ومعه البرهان القاطع ، والنور الساطع ، وأبوا أن يتبعوه ، وزاد تمسكهم بما كانوا عليه ، فكان ذلك النور عمى في أعينهم ، ومرضا في قلوبهم ، وتحرّقت قلوبهم حسرة على ما فاتهم من الرياسة ، وحسدا على ما يرونه من ثبات أمر الرسول وعلوّ شأنه يوما بعد يوم.

٥١

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أليم ، من ألم يألم فهو أليم بمعنى مؤلم (بفتح اللام) إذ يصل ألمه إلى القلوب ، وصف به العذاب نفسه لبيان أن الألم بلغ الغاية حتى سرى من المعذّب (بفتح اللام) إلى العذاب المتعلق به.

(بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي بسبب كذبهم في دعواهم الإيمان بالله واليوم الآخر ، فهم لم يصدّقوا بأعمالهم ما يزعمونه من حالهم ، وقد جعل العذاب جزاء الكذب دون سائر موجباته الأخرى كالكفر وغيره من أعمال السوء ، للتحذير منه وبيان فظاعته وعظم جرمه ، وللإشعار بأن الكفر من محتوياته ، وإليه ينتهى في حدوده وغاياته ، ومن ثمّ حذّر منه القرآن أتمّ التحذير ، فما فشا في أمة إلا كثرت فيها الجرائم ، وشاعت فيها الرذائل ، فهو مصدر كل رذيلة ، ومنشأ كل كبيرة ، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إياكم والكذب فإنه مجانب للإيمان».

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

تفسير المفردات

الفساد : خروج الشيء عن حد الاعتدال ، والصلاح ضده ، والفساد في الأرض :

هيج الحروب والفتن التي تؤدى إلى اختلال أمر المعاش والمعاد ، والسفه : خفة في العقل وفساد في الرأى ، ومنه قيل ثوب سفيه : أي ردىء النسج.

٥٢

المعنى الجملي

عدد الله في هذه الآيات الثلاث بعض شناعاتهم المترتبة على كفرهم ونفاقهم ، ففصل بعض خبائثهم وجناياتهم ، وذكر بعض هفواتهم ، ثم أظهر فسادها وأبان بطلانها ، فحكى ما أسداه المؤمنون إليهم من النصائح حين طلبوا منهم ترك الرذائل التي تؤدى إلى الفتنة والفساد ، والتمسك بأهداب الفضائل واتباع ذوى الأحلام الراجحة ، والعقول الناضجة ، ثم ما أجابوا به مما دل على عظيم جهلهم وتماديهم في سفههم وغفلتهم.

الإيضاح

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) المنهي عنه هنا الأسباب المؤدية إلى الفساد من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار وإغرائهم بالمؤمنين ، وتنفيرهم من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والأخذ بما جاء به من الإصلاح ، إلى نحو أولئك من فنون الشر وصنوف الفتن ، كما يقول إنسان لآخر : لا تقتل نفسك بيدك ، ولا تلق بيديك إلى التهلكة ، إذا أقدم على ما هذه عاقبته.

(قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي لا شأن لنا إلا الإصلاح ، فنحن بعيدون عن شوائب الإفساد باتباعنا رؤساءنا الذين استنبطوا تعاليمهم من الأنبياء ، فكيف ندع ما تلقيناه منهم ونعتنق دينا جديدا لا عهد لنا به من قبل؟

وهكذا شأن المفسدين في كل زمان يدّعون في إفسادهم أنه هو الإصلاح بعينه ، فإن كانوا على بينة من إفسادهم وضلالهم ، فهم يدّعون ذلك ليبرئوا أنفسهم من وصمة الإفساد بالتمويه والخداع ، وإن كانوا مسوقين إليه تقليدا للرؤساء ، فهم يدّعونه عن اعتقاد ، وإن كان السير على منهاجه مفسدا للأمة في الحقيقة والواقع ، إذ هم عطّلوا وسائل البحث التي تميز الإصلاح من الإفساد ، فهم بصدهم عن سبيل الإسلام الداعي

٥٣

إلى الوحدة والالتئام ، يدعون إلى الفرقة والانفصام ، وأىّ إفساد في الأرض أعظم من التنفير من اتباع الحق ، والسير على منهاج الباطل ومؤازرة أهله.

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) أي هم وحدهم هم المفسدون دون من أو مأوا إليهم ، لأن لهم سلفا صالحا تركوا الاقتداء بهم ، وفي هذا الأسلوب مبالغة في الرد عليهم. ودلالة على السخط العظيم.

(وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) بهذا الإفساد لأنه أصبح غريزة في طباعهم بما تمكن فيها من الشبه بتقليدهم أحبارهم الذين أشربت قلوبهم تعظيمهم والثقة بآرائهم.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) الذين اتبعوا قضية العقل وسلكوا سبيل الرشاد ، وكان للإيمان سلطان على نفوسهم ، وعليه بنوا تصاريف أعمالهم كعبد الله ابن سلام وأشباهه من أحبارهم.

(قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ؟) أرادوا بالسفهاء أتباع النبي صلى الله عليه وسلم.

أما المهاجرون منهم فلأنهم عادوا قومهم وأقاربهم وهجروا أوطانهم وتركوا ديارهم ، ليتّبعوا النبي صلى الله عليه وسلم ويسيروا على هديه. وأما الأنصار فلأنهم شاركوا المهاجرين فى ديارهم وأموالهم.

ولا يستبعد ممن انهمك في السفاهة وتمادى في الغواية ، وممن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا وظن الضلال هدى أن يسمى الهدى سفها وضلالا.

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) وحدهم دون من عرّضوا بهم ونسبوهم إلى السفه ، إذ هم لهم سلف صالح تركوا الاقتداء بهم واكتفوا بانتظار شفاعتهم ، وإن لم يجروا على هديهم وسنتهم ، بخلاف أولئك الذين لا سلف لهم إلا عابدو أصنام ، وقد هداهم الله وصارت قلوبهم مطمئنة بالإيمان.

(وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) ما الإيمان وما حقيقته؟ حتى يعلموا أن المؤمنين سفهاء أو عقلاء.

٥٤

وقد ختمت هذه الآية بلا يعلمون ، وسابقتها بلا يشعرون ، لأن الإيمان لا يتم إلا بالعلم اليقيني ، والفائدة المرجوّة منه وهى السعادة في المعاش والمعاد لا يدركها إلا من يعلم حقيقته ويدرك كنهه ، فهم قد أخطأوا في إدراك مصلحتهم ومصلحة غيرهم.

أما نفاقهم وإفسادهم في الأرض فقد بلغ من الوضوح مبلغ الأمور المحسوسة ، التي تصل إلى الحواس والمشاعر ، ولكن لا حس لهم حتى يدركوه.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦))

تفسير المفردات

اللقاء المصادفة تقول : لقيته ولاقيته إذا صادفته واستقبلته ، خلوا إما من خلوت بفلان وإلى فلان إذا انفردت به ، وإما من خلا بمعنى مضى ، ومنه القرون الخالية ، واطلب الأمر وخلاك ذم : أي جاوزك ومضى عنك. والشيطان كل عات متمرد من الإنس والجن كما قال : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) والاستهزاء : السخرية ، تقول هزأت به واستهزأت كأجبت واستجبت ؛ وأصل المادة تفيد الخفة يقال ناقة تهزأ به : أي تسرع. يمدهم : أي يزيدهم من مدّ الجيش وأمده إذا زاد عدده وقواه. والطغيان : (بضم الطاء وكسرها) مجاوزة الحدّ فى كل شىء. والعمه : ظلمة البصيرة كالعمى في البصر وأثره الحيرة والاضطراب بحيث لا يدرى الإنسان أين يتوجه ، يقال عمه فهو عمه وعامه وجماعة عمّه.

٥٥

المعنى الجملي

وصف الله في هذه الآيات حال جماعة من المنافقين كانوا في عصر التنزيل قد بلغ من دعارتهم وتمرّدهم في النفاق وفساد الأخلاق أن كانوا يظهرون بوجهين ، ويتكلمون بلسانين ، فإذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا بما أنتم به مؤمنون ، وإذا خلوا إلى شياطينهم دعاة الفتنة والإفساد الذين يصدون عن سبيل الحق قالوا لهم إنما نقول ذلك لهم استهزاء بهم ، وقد فضح الله بهتانهم وأوعدهم شديد العقاب على استهزائهم وزادهم حيرة في أمورهم ؛ ثم ذكر أنهم قد اختاروا الضلالة على الهدى ، إذ هم أهملوا العقل في فهم الكتاب بعد أن تمكنت منهم التقاليد والعادات ، وتحكمت فيهم البدع ، فخسروا في تجارتهم ، وما كانوا مهتدين فيها ، لأنهم باعوا ما وهبهم الله من النور والهدى ، بضلالات البدع والأهواء.

الإيضاح

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا ، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) أي وإذا رأى المنافقون. المؤمنين واجتمعوا بهم قالوا كذبا وبهتانا : آمنا كإيمانكم وصدقنا كتصديقكم ، وإذا انفردوا بأمثالهم من دعاة الفتنة والإفساد قالوا لهم : إنا على عقيدتكم ، وموافقوكم على دينكم ، وإنما نظهر لهم الإيمان استهزاء بهم ، لنشاركهم في الغنائم ، ونحفظ أموالنا وأولادنا ونساءنا من أيديهم ونطلع على أسرارهم.

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي الله يجازيهم بالعقاب على استهزائهم (وسمى هذا الجزاء استهزاء للمشاكلة في اللفظ كما سمى جزاء السيئة سيئة) ويزيدهم في عتوهم وكفرهم ، ويجعلهم حائرين مترددين في الضلال عقوبة لهم على استهزائهم.

٥٦

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى ، فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أي هؤلاء قد رغبوا عن الهدى وسلوك الطريق المستقيم ، ومالوا إلى الضلال واشتروه ، ولكن لم تكن تجارتهم رابحة ، إذ هم أضاعوا رأس المال وهو ما كان لهم من الفطرة السليمة ، والاستعداد لإدراك الحقائق ونيل الكمال ، فأصبحوا خاسرين آيسين من الربح.

وإن من كانت هذه حالهم فلا علم لهم بطرق التجارة ، فإن التاجر إن فاته الربح في صفقة فربما تداركه في أخرى ما دام رأس المال موجودا ، أما وقد فقد رأس المال فلا سبيل إلى الربح بحال.

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨))

تفسير المفردات

المثل والمثل والمثيل كالشّبه والشّبه والشبيه وزنا ومعنى ، ثم استعمل في بيان حال الشيء وصفته التي توضحه وتبين حاله كقوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) إلخ.

وقوله : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) واستوقد النار : طلب وقودها ، أي سطوعها وارتفاع لهبها بفعله أو فعل غيره ، ويقال ضاءت النار وأضاءت وأضاءته النار ، أي أظهرته بضوئها. وترك : أي صير. والصمم آفة تمنع السماع. والبكم : الخرس. والعمى : عدم البصر عما من شأنه أن يبصر.

المعنى الجملي

نهج القرآن الكريم نهج العرب في أساليبها ، فضرب الأمثال التي تجلى المعاني

٥٧

أتم جلاء ، وتحدث في النفوس من الأثر ما لا يقدر قدره ولا يسبر غوره ، لما فيها من إبراز المعقولات الخفية في معرض المحسوسات الجليّة ، وإظهار ما ينكر في لباس ما يعرف ويشهر ، وعلى هذا السنن ضرب الله مثل المنافقين ، فصوّر حالهم حينما أسلموا أوّلا ودخل نور الإيمان في قلوبهم ، ثم داخلهم الشكّ فيه فكفروا به ، إذ لم يدركوا فضائله ولم يفقهوا محاسنه ، وصاروا لا يبصرون مسلكا من مسالك الهداية ولا يدركون وسيلة من وسائل النجاة ، وقد أضاء ذلك النور قلوب من حولهم من المؤمنين المخلصين ـ بحال جماعة أوقدوا نارا لينتفعوا بها في جلب خير أو دفع ضر ، فلما أضاءت ما حولهم من الأشياء والأماكن ، جاءها عارض خفىّ أو أمر سماوىّ كمطر شديد ، أو ريح عاصف جرفها وبدّدها فأصبحوا في ظلام دامس ، لا يتسنى لهم الإبصار بحال.

ثم جعلهم مرّة أخرى كالصمّ البكم العمى الذين فقدوا هذه المشاعر والحواس ، إذ هم حين لم ينتفعوا بآثارها فكأنهم فقدوها ، فما فائدة السمع إلا الإصاخة إلى نصح الناصح وهدى الواعظ ، وما منفعة اللسان إلا الاسترشاد بالقول ، وطلب الدليل والبرهان ، لتتجلى المعقولات ، وتتضح المشكلات ، وما مزية البصر إلا النظر والاعتبار ، لزيادة الهدى والاستبصار ، فمن لم يستعملها في شىء من ذلك فكأنه فقدها ، وأنّى لمثله أن يخرج من ضلالة ، أو يرجع إلى هدى؟

الإيضاح

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) أي مثل المنافقين وحالهم كحال الذين استوقدوا نارا ، فلما أضاءت ما حولهم من الأمكنة والأشياء ، أطفأ الله نارهم التي منها استمدوا نورهم بنحو مطر شديد أو ريح عاصف فصيرهم لا يبصرون شيئا ، لأن النور قد زال ولم يبق منه أثر ولا عين.

٥٨

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) وصفهم الله بهذه الصفات مع سلامة مشاعرهم ، من قبل أنهم فقدوا منفعة السمع ، فلا يصغون لعظة واعظ ولا إرشاد مرشد ، بل هم لا يفقهون إن سمعوا فكأنهم صمّ لا يسمعون ، كما فقدوا منفعة الاسترشاد وطلب الحكمة ، فلا يطلبون برهانا على قضية ، ولا بيانا عن مسألة تخفى عليهم ، فكأنهم بكم لا يتكلمون وفقدوا منافع الإبصار من النظر والاعتبار ، فلا يرون ما يحلّ بهم من الفتن فينزجروا ، ولا يبصرون ما تتقلّب به أحوال الأمم فيعتبروا.

(فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي فهم لا يعودون من الضلالة إلى الهدى الذي تركوه وأضاعوه ، إذ من فقد حواسه لا يسمع صوتا يهتدى به ، ولا يصيح لينقذ نفسه ، ولا يرى بارقا من النور يتجه إليه ويقصده ، ولا تزال هذه حاله ، ظلمات بعضها فوق بعض حتى يتردّى فى مهاوى الهلاك.

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

تفسير المفردات

الصيّب : المطر يصوب وينزل ، من الصوب وهو النزول. والرعد : هو الصوت الذي يسمع في السحاب أحيانا عند تجمعه. والبرق : هو الضوء الذي يلمع في السحاب غالبا ، وربما لمع في الأفق حيث لاسحاب ، وأسباب هذه الظواهر اتحاد كهربيّة السحاب الموجبة بالسالبة كما تقرر ذلك في علم الطبيعيات. والصاعقة : نار عظيمة تنزل أحيانا

٥٩

أثناء المطر والبرق ، وسببها تفريغ الكهربيّة التي في السحاب بجاذب يجذبها إلى الأرض والإحاطة بالشيء : الإحداق به من جميع جهاته ، والخطف : الأخذ بسرعة. قاموا : أي وقفوا في أماكنهم منتظرين تغير الحال ليصلوا إلى المقصد ، أو يلجأوا إلى ملجأ يعصمهم من الخطر.

المعنى الجملي

ضرب الله مثلا آخر يشرح به حال المنافقين ويبين فظاعة أعمالهم وسوء أفعالهم ، زيادة في التنكيل بهم ، وهتكا لأستارهم ، إذ كانوا فتنة للبشر ، ومرضا في الأمم ، فجعل حالهم وقد أتتهم تلك الإرشادات الإلهية النازلة من السماء فأصابهم القلق والاضطراب ، واعترضتهم ظلمات الشبه والتقاليد والخوف من ذم الجماهير عند العمل بما يخالف آراءهم ، ثم استبان لهم أثناء ذلك قبس من النور يلمع في أنفسهم حين يدعوهم الداعي ، وتلوح لهم الآيات البينة ، والحجج القيمة ، فيعزمون على اتباع الحق ، وتسير أفكارهم فى نوره بعض الخطى ، ولكن لا يلبثون أن تعود إليهم عتمة التقليد ، وظلمة الشّبهات ، فتقيّد الفكر وإن لم تقف سيره ، بل تعود به إلى الحيرة ـ كحال قوم في إحدى الفلوات نزل بهم بعد ظلام الليل صيّب من السماء ، فيه رعود قاصفة ، وبروق لامعة ، وصواعق متساقطة ، فتولاهم الدهش والرّعب ، فهووا بأصابعهم إلى آذانهم كلما قصف هزيم الرعد ليسدّوا منافذ السمع ، لما يحذرونه من الموت الزوام ، ويخافونه من نزول الحمام ، ولكن هل ينجى حذر من قدر؟ «تعددت الأسباب والموت واحد» بلى إن الله قدير أن يذهب الأسماع والأبصار التي كانت وسيلة الدهش والخوف ، ولكن لحكمة غاب عنا سرها ، ومصلحة لا نعرف كنهها ، لم يشأ ذلك وهو الحكيم الخبير.

٦٠