تفسير المراغي - ج ١

أحمد مصطفى المراغي

الإيضاح

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) أي كقوم نزل بهم صيب من السماء ، وفي قوله من السماء إيماء إلى أنه شىء لا يمكن دفعه.

(فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) أي فيه ظلمة الليل ، وظلمة السحب ، وظلمة الصيب نفسه ، وفيه رعد وبرق.

(يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) أي يجعلون أنامل أصابعهم في آذانهم كلما حدث قاصف من الرعد ليدفعوا شدة وقعه بسد منافذ السمع ، خوفا على أنفسهم من الموت ، مع أن سد الآذان ليس من أسباب الوقاية من الصاعقة حتى يدفع عنهم الموت.

(وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) أي والله مطلع على أسرارهم ، عالم بما في ضمائرهم ، قادر على أخذهم أينما كانوا ، فما صنعوا من سد الآذان بالأصابع لا يغنى عنهم من الله شيئا إذ لا يغنى حذر من قدر ، فمن لم يمت بالصاعقة مات بغيرها.

(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) أي يكاد البرق يختلس أبصارهم ، ويستلبها بسرعة من شدة الضوء المفاجئ.

(كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) أي كلما أنار البرق الطريق في الليلة المظلمة ، مشوا فى مطّرح نوره خطوات يسيرة.

(وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) أي وإذا خفى البرق واستتر وأظلم الطريق ، وقفوا فى أماكنهم متحيّرين منتظرين فرصة أخرى عسى أن يتسنى لهم الوصول إلى المقصد أو الالتجاء إلى ملجأ يعصمهم من الهلاك.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) أي ولو شاء أن يذهب الأسماع والأبصار بصوت الرعد ونور البرق لفعل ، لكنه لم يشأ لحكم ومصالح هو بها عليم.

٦١

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إنه ما شاء كان ، إذ لا يعجزه شىء في الأرض ولا في السماء.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢))

تفسير المفردات

العبادة : خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود ، والرب : هو الذي يسوس من يربيه ويدبر شئونه ، والفراش : واحد الفرش ، وفرش الشيء يفرشه بالضم فراشا :

بسطه ، والبناء : وضع شىء على شىء آخر بحيث يتكوّن من ذلك شىء بصورة خاصة.

والندّ : الشريك والكفء ، يقال فلان ند فلان إذا كان مماثلا له في بعض الشئون

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أصناف الخلق وبيّن أن منهم المهتدين ، والكافرين الذين فقدوا الاستعداد للهداية ، والمنافقين المذبذبين بين ذلك ـ دعا الناس إلى دين التوحيد الحق وهو عبادة الله وحده عبادة خشوع وإخلاص ، حتى كأنهم ينظرون إليه ويرونه ، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم ، فإن فعلوا ذلك أعدّوا أنفسهم للتقوى ، وبلغو الغاية القصوى.

ثم عدد بعض نعمه المتظهرة عليهم الموجبة للعبادة والشكر ، فجعل منها خلقهم أحياء قادرين على العمل والكسب ، ثم خلق الأرض مستقرا ومهادا لينتفعوا بخيراتها

٦٢

ويستخرجوا معادنها ونباتها ، ثم بنى لهم السماء التي زينها بالكواكب ، وجعل فيها مصابيح يهتدى بها الساري في الليل المظلم ، وأنزل منها الماء فأخرج به ثمرات مختلفا ألوانها وأشكالها.

أفليس في كل هذا ما يطوّح بالنظر ، ويهدى الفكر إلى أن خالق هذا الكون البديع المثال لا ندّ له ولا نظير ، وأن ما جعلوه أندادا له لا يقدرون على إيجاد شىء مما خلق وأنهم يعلمون ذلك حق العلم ، فكيف يستغيثون بغير الله ، ويدعون غير الله ، ويستشفعون به ، ويتوسلون إليه ، مع أنه لا خالق ولا رازق إلا الله؟

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته بعبادة الله وحده ، وقد كان هذا صنيع كل نبى كما قال : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).

والمخاطبون بهذه الدعوة أوّلا هم العرب واليهود في المدينة وما حولها ، وكانوا يؤمنون بالله ويعبدون غيره إما بدعائه مع الله» أو من دون الله.

(الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي إن هذا الرب العظيم المتصف بتلك الصفات التي تعلمونها ـ هو الذي خلقكم وخلق من قبلكم ، ورباكم وربّى أسلافكم ، ودبّر شئونكم ، ووهبكم من طرق الهداية ووسائل المعرفة مثل ما وهبهم ، فاعبدوه وحده ، ولا تشركوا بعبادته أحدا من خلقه.

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي فاعبدوه على تلك الشاكلة ، فإن العبادة على هذا السنن هى التي تعدّكم للتقوى ، ويرجى بها بلوغ درجة الكمال القصوى.

ثم ذكر بعض خصائص الربوبية التي تقتضى الاختصاص به تعالى فقال :

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) أي هو الذي مهدّ لكم الأرض وجعلها صالحة للافتراش والإقامة فيها.

٦٣

(وَالسَّماءَ بِناءً) أي وهو الذي كوّن السماء بنظام متماسك كنظام البناء ، وسوّى أجرامها على ما نشاهد وأمسكها لسنة الجاذبية ، حتى لا تقع على الأرض ولا يصطدم بعضها ببعض ، حتى يأتي اليوم الموعود.

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) أي وهو الذي أنزل من السماء مطرا يسقى به الزرع ، ويغذّى به النبات ، فأخرج به ثمرا نأكل منه وننتفع به.

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) الأنداد هم الذين خضع الناس لهم وقصدوهم في قضاء حاجاتهم ، وكان مشركو العرب يسمون ذلك الخضوع عبادة ، إذ لم يكن عندهم شرع ينهاهم عن عبادة غير الله ، وأهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أندادا وأربابا كانوا يتحاشون هذا اللفظ ، فلا يسمون ذلك الاتخاذ عبادة ولا أولئك المعظمين آلهة وأندادا ، بل يسمون دعاءهم غير الله والتقرب إليه توسلا واستشفاعا ، ويسمون تشريعهم لهم بعض العبادات ، وتحليل المنكرات ، وتحريم بعض الطيبات ، فقها واستنباطا من التوراة ، والكل متفقون على أنه لا خالق إلا الله ولا رازق إلا هو.

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي وإنكم لتعلمون بطلان ذلك ، وإنكم إذا سئلتم من رزقكم من السموات والأرض ومن يدبر الأمر؟ تقولون : الله ، فلم إذا تدعون غيره ، وتستشفعون به؟

ومن أين أتيتم بهذه الوسائط التي لا تضر ولا تنفع؟ ومن أين جاءكم أن التقرب إلى الله يكون بغير ما شرعه الله حتى قلتم (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى).

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤))

٦٤

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن الناس بالنظر إلى القرآن أقسام ثلاثة : متقون يهتدون بهديه ، وجاحدون معاندون عن سماع حججه وبراهينه ، ومذبذبون بين ذلك ـ طلب هنا إلى الجاحدين المعاندين في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي أن القرآن معجزته ـ أن يتعرفوا إن كان هو من عند الله كما يدّعى ، أو هو من عند نفسه كما يدّعون ، فيروزوا أنفسهم ويحاكوه ، لعلهم يأتون بمثل سورة من أقصر سوره ، وهم فرسان البلاغة ، وعصرهم أرقى عصور الفصاحة ، والكلام ديدنهم ، وبه تفاخرهم ، وكثير منهم حاز قصب السبق في هذا المضمار ، ولم يكن محمد من بينهم فهو لم يمرن عليه ، ولم ببار أهله ولم ينافسهم فيه.

فإن عجزوا ولم يستطيعوا ذلك ، وهم لا يستطيعون وإن تظاهر أنصارهم ، وكثر أشياعهم ، بل لو اجتمعت الإنس والجن جميعا ، فليعلموا أن ما جاءهم به فأعجزهم لم يكن إلا بوحي سماوىّ وإمداد إلهىّ لا يسمو إليه محمد بعقله ، ولا يصل بيانه إلى مثل أسلوبه ونظمه ، وإذا استبان عجزهم ولزمتهم الحجة ، فقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما ادّعى وكان من ارتاب في صدقه معاندا مكابرا ، واستحق العقاب وكان جزاؤه النار التي وقودها العصاة الجاحدون وما عبدوه من أحجار وأصنام ، أعدت لكل من جحد الرسل أو استحدث في الدين ما هو منه براء.

الإيضاح

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي وإن ارتبتم فى أمر هذا القرآن ، وزعمتم أنه من كلام البشر فأتوا بمثله ، لأنكم تقدرون على ما يقدر عليه سائر البشر.

٦٥

(وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي وادعوا الحاضرين في مشاهدكم من رؤسائكم وأشرافكم ، الذين تفزعون إليهم في الملمات ، وتعوّلون عليهم في المهمات.

وقد يكون المراد بالشهداء الأصنام ؛ أي وادعوا أصنامكم الذين اتخذتموهم آلهة وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق ، وابتعدوا عن الله ناصر محمد صلى الله عليه وسلم.

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن فيه مجالا للريب والشك ، وأن محمدا تقوّله من تلقاء نفسه ، فلديكم ما يهدى إلى الحق ويجلّى الأمر ، فها هو القرآن أمامكم فأتوا بسورة من مثله.

وقد نزل في هذا المعنى آيات كثيرة بمكة ، أولها ما في سورة الإسراء : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) ثم ما في سورة هود : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ثم ما في سورة يونس : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) وما جاء في هذه السورة المدنية (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) النار موطن العذاب ، ونحن نؤمن بها كما أخبر القرآن ، ولا نبحث عن حقيقتها ، والوقود (بفتح الواو) ما توقد به النار ، والمراد بالناس العصاة ، والمراد بالحجارة هنا الأصنام كما قال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وقوله : أعدّت للكافرين ؛ أي هيئت للذين لا يستجيبون دعوة الرسل أو ينحرفون عنها لمخالفتهم هدى الدين ، وعمل ما تنكره شرائع الأنبياء والمرسلين.

والخلاصة ـ فإن لم تفعلوا ما أمرتم به من الإتيان بالمثل بعد أن بذلتم المجهود ،

٦٦

(ولن تفعلوه فليس في استطاعتكم) فاحذروا من العناد واعترفوا بكونه منزلا من عند الله ، لئلا تكونوا أنتم وأصنامكم وقودا للنار التي أعدت لأمثالكم من الكافرين.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الكافرين وما أعدّ لهم من العقاب. قفّى على ذلك ببشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وما أعدّ لهم من نعيم مقيم في الدار الآخرة ، وقد جرت سنة القرآن أن يقرن الترهيب بالترغيب تنشيطا لاكتساب ما يوجب الزلفى عند الله ، وتثبيطا عن اقتراف ما يوجب البعد من رضوانه تعالى.

والمأمور بهذا التبشير كل من يسمع الأمر من أهله ، وقد وعد الله الذين آمنوا بهذه الجنات ، وما فيها من لذات ؛ وإنا لنفوض علم ذلك إلى الله تعالى ونكتفى بما ورد من أن لذات الآخرة أعلى من لذات الدنيا ، فقد روى عن ابن عباس : أنه قال :

ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامى ، وجاء في الصحيحين مرفوعا عن الله عزّ وجل «أعددت لعبادى ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» وهو فى المعنى مفسر لقوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

الإيضاح

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) البشارة الإخبار بما يسرّ ، وآمنوا : أي بالله وصفاته التي جاء بها النقل وأيدها العقل ، وبالنبي وبما جاء به ، وبالبعث والجزاء ، ولا يتحقق

٦٧

الإيمان إلا باطمئنان القلب وقيام البرهان الذي لا يقبل الشك والارتياب ، وأفضل البراهين ما أرشد إليه القرآن من النظر في آيات الله في الآفاق والأنفس ، فقد يبلغ الإنسان علم اليقين بنظرة صادقة في هذا الكون الذي بين يديه ، أو في نفسه إذا تجلت له بغرائب خلقها وبدائع صنعها.

(وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) العمل الصالح معروف عند الناس ، فقد أودع في فطرتهم ما يميزون به بين الخير والشر ، ولكن بعضهم يضلّ بما يطرأ على نفسه من زيغ يحيد به عن الهدى ، ويتبعه آخرون في ضلاله فتتولد التقاليد الضارة ، وتكون هى ميزان الخير والصلاح لدى الضالين ، وإن كانت مخالفة لأصل الفطرة كما

ورد في الحديث : «كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه».

وقد بين الكتاب الأعمال الصالحة في آي كثيرة كقوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ ، أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

(أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قال الفرّاء : الجنة البستان فيه النخيل ، والفردوس البستان فيه الكرم ، والمراد بها هنا دار الخلود في الحياة الآخرة أعدها الله للمتقين كما أعدّ النار للكافرين ، ونحن نؤمن بهما ولا نبحث عن حقيقتهما. والأنهار واحدها نهر (بفتح الهاء وسكونها) وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كنيل مصر ، وجرى الأنهار من تحتها هو كما نشاهد في الأشجار التي على شواطئ الأنهار الجارية.

٦٨

(كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) أي كلما رزقوا من الجنة رزقا من بعض ثمارها قالوا هذا الذي وعدنا به في الدنيا جزاء على الإيمان وصالح العمل ، فهو من وادي قوله تعالى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ).

(وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) أي إن رزق الجنة وثمرها يتشابه على أهلها في صورته ويختلف فى طعمه ولذته.

(وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي ولهم في الجنات أزواج تطهرن غاية التطهر ، فليس فيهنّ ما يعبن عليه من خبث جسدى مما عليه النساء في الدنيا كالحيض والنفاس ، أو نفسىّ كالكيد والمكر وسائر مساوى الأخلاق.

وصحبة الأزواج في الآخرة من الأمور الغيبية التي نؤمن بها كما أخبر الله ، ولا نبحث فيما وراء ذلك ، فأطوار الآخرة أعلى مما في حياتنا الدنيا ، فهى سالمة من المنغّصات فى الطعام والشراب والمباشرة الزوجية ، روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ، ولا يتفلون ولا يبولون ، ولا يتغوّطون ولا يتمخّطون ، قالوا فما بال الطعام ، قال جشاء ورشح كرشح المسك ، ويلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النّفس».

(وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) الخلود لغة : المكث الطويل ، قال في الأساس : ومن كلامهم خلد فلان في السجن ، أي أقام طويلا ، ويراد به في لسان الشرع الدوام الأبدى أي وهم لا يخرجون منها ولا هى تفنى وتزول ، بل هى حياة أبدية لا تنتهى.

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ

٦٩

إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))

تفسير المفردات

الحياء تغيّر وانكسار يعترى الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذمّ ، يقال فلان يستحى أن يفعل كذا ، أي إن نفسه تنقبض عن فعله ، وكأن الحياء ضعف في الحياة ، لأنه يؤثر في القوة المختصة بالحيوان وهى قوة الحس والحركة ، وفعله استحى واستحيا ، ويقال استحييته واستحييت منه ، والمثل في اللغة : الشبيه والنظير ، وضرب المثل فى الكلام أن بذكر لحال ما يناسبها فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفيا ، وهو مأخوذ من ضرب الدراهم ، وهو إحداث أثر خاصّ فيها ، كأن ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعا ينفذ أثره إلى قلبه ، ولا يظهر التأثير في النفس بتحقير شىء وتقبيحه إلا بتشبيهه بما جرى العرف بتحقيره ونفور النفوس منه. والمراد بما فوق البعوضة ما زاد عليها وفاقها في الصغر كالجراثيم التي لا ترى إلا بالمنظار المكبر ، وكانوا قديما يضربون المثل في الصّغر بمخّ النملة والبعوضة ، فقد قالوا : أعز من مخ البعوضة ، وجاء فى الحديث : «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ، ما سقى الكافر منها شربة ماء».

والحق : هو الشيء الذي يحقّ ويجب ثبوته ، ولا يجد العقل سبيلا إلى إنكاره ، والفسق لغة : الخروج يقال فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت ، والنقض : فكّ الحبل والغزل ونحوهما ، والميثاق ما يوثق به الشيء ويكون محكما يعسر نقضه ، وعهد الله ما أخذه على عباده من فهم السنن الكونية بالنظر والاعتبار بما أوتوه من نعمة العقل والحواس المرشدة إلى الفهم ، ونقضه عدم استعمال تلك المواهب فيما خلقت له حتى كأنهم فقدوها.

٧٠

المعنى الجملي

روى عن ابن عباس أن هذه الآيات جاءت لتنزيه القرآن الكريم من ريب خاص اعترى اليهود الذين أنكروا ضرب الأمثال بالمحقّرات كالذباب والعنكبوت لما نزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) وقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) إثر تنزيهه من مطلق الريب بما تحداهم به في الآيات السابقة ، إذ طلب إليهم أن يأتوا بسورة مثله ، وبه أبان لهم أن ذلك ليس بمطعن في القرآن ، بل هو أنصع برهان على أنه من عند خالق القوى والقدر ، فإن سنة البلغاء جرت بوجوب التماثل بين المثل وما مثّل له ، فالعظيم يمثّل له بالعظيم ، والحقير يمثل له بالحقير ، ألا ترى إلى الإنجيل ، وقد مثّل غلّ الصدر بالنّخالة ، ومعارضة السفهاء بإثارة الزنابير ، وجاء في عباراتهم (أجمع من ذرة ، وأجرأ من الذباب ، وأضعف من بعوضة).

وما الأمثال إلا إبراز للمعاني المقصودة في قالب الأشياء المحسوسة لتأنس بها النفس وتستنزل الوهم عن معارضة العقل ، والحكيم علام الغيوب يعلم حكمة هذا ، فلا يترك ضرب المثل بالبعوضة وما دونها حين تدعو المصلحة إلى ذلك.

والناس إزاء هذا فريقان : مؤمنون يقولون إن الله خالق الأشياء حقيرها وعظيمها فالكل لديه سواء ، وكافرون يستهزئون بالأمثال احتقارا لها ، فحقت عليهم كلمة ربهم فأصبحوا من الخاسرين.

٧١

الإيضاح

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) أي إن الله جلت قدرته لا يرى من النقص أن يضرب المثل بالبعوضة فما دونها ، لأنه هو الخالق لكل شىء جليلا كان أو حقيرا.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي فالمؤمنون يقولون ما ضرب الله هذا المثل إلا لحكم ومصالح اقتضت ضربه لها ، وهى تقرير الحق والأخذ به ، فهو إنما يضرب لإيضاح المبهم بجعل المعقولات تلبس ثوب المحسوسات ، أو تفصيل المجمل لبسطه وإيضاحه.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) الذين كفروا هم اليهود والمشركون وكانوا يجادلون بعد أن استبانت لهم الحجة وحصحص الحق ، ويقولون ماذا أراد الله بهذه المثل الحقيرة التي فيها الذباب والعنكبوت ، ولو أنصفوا لعرفوا وجه الحكمة في ذلك وما أعرضوا وانصرفوا (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً).

ثم أجاب عن سؤالهم بقوله :

(يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) أي إن من غلب عليهم الجهل إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقابلوه بالإنكار ، فكان ذلك سببا في ضلالهم ، ومن عادتهم الإنصاف والنظر بثاقب الفكر إذا سمعوه اهتدوا به ، لأنهم يقدرون الأشياء بحسب فائدتها.

ومن المعلوم أن أنفع الكلام ما تجلّت به الحقائق ، واهتدى به السامع إلى سواء السبيل ، وأجلّه في ذلك الأمثال كما قال : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) والعالمون هم المؤمنون المهتدون بهدى الحق.

وقد جعل الله المهتدين في الكثرة كالضالين ، مع أن هؤلاء أكثر كما قال :

٧٢

(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) إشارة إلى أن المؤمنين المهتدين على قلتهم أكثر نفعا وأجلّ فائدة من أولئك الكفرة الفاسقين.

إن الكرام كثير في البلاد وإن

قلّوا كما غيرهم قلّ وإن كثروا

ثم أكمل الجواب وزاد في البيان فقال :

(وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) أي وما يضلّ بضرب المثل إلا الذين خرجوا عن سنة الله في خلقه وعما هداهم إليه بالعقل والمشاعر والكتب المنزلة على من أوتوها.

وفي هذا إيماء إلى أن علّة إضلالهم ما كانوا عليه من الخروج عن السنن الكونية التي جعلها عبرة لمن تذكر ، فقد انصرفت أنظارهم عن التدبر في حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه.

ثم زاد في ذم الفاسقين بذكر أوصاف مستقبحة لهم فقال :

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) أي الذين يستعملون المواهب التي خلقها الله لعباده من عقل ومشاعر وحواسّ ترشدهم إلى النظر والاعتبار في غير ما خلقت له حتى كأنهم فقدوها كما قال : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها ، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ).

وهذا العهد الذي نقضوه هو العهد الفطري ، وهناك عهد آخر جاءت به الشرائع وهو العهد الديني ، وقد وثق الله الأول بجعل العقول قابلة لإدراك السنن الإلهية التي فى الكون ، كما وثق الثاني بما أيّد به الأنبياء من الحجج والبراهين الدالة على صدقهم ، فمن أنكر بعثة الرسل ولم يهتد بهديهم فهو ناقض لعهد الله ، فاسق عن سننه في إبلاغ القوى البشرية والنفسية حد الكمال الإنسانى الممكن لها.

(وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) أمر الله ضربان ، أمر تكوين وهو ما عليه الكون من بديع الصنع ودقيق النظام كإفضاء الأسباب إلى مسبباتها والمقدمات إلى

٧٣

نتائجها ، ومعرفة المنافع والمضار بغاياتها ، وأمر تشريع وهو ما جاء به الأنبياء من الشرائع لتبليغه للناس ليعملوا به.

فمن أنكر الإله وصفاته بعد أن شهدت بوجوده الآثار المنبثّة في الكون ، أو أنكر نبوة نبىّ بعد أن أقام الدليل على صدقه فقد قطع ما أمر الله به أن يوصل بمقتضى العهد الفطري ، لأنه قطع الصلة بين الدليل والمدلول.

ومن أنكر شيئا مما علم أن الرسول قد جاء به من الأوامر والنواهي ، فقد قطع ما أمر الله به في كتبه أمر تشريع وتكليف ، وهو لا يأمر إلا بما أثبتت التجربة منفعته ، ولا ينهى إلا عما ثبتت مضرته.

ومشركو العرب بتكذيبهم النبىّ صلى الله عليه وسلم نقضوا عهد الفطرة ، وأهل الكتاب نقضوا العهدين معا ، فإن الله بشرهم في الكتب المنزلة على أنبيائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بذكر صفاته ، فحرّفوا وأوّلوا متعمدين كما قال تعالى : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بصدهم عن سبيل الله يبغونها عوجا ، وبالاستهزاء بالحق بعد ما تبين ، وبإهمالهم هداية العقل وهداية الدين ، فوجودهم في الأرض مفسدة لأنفسهم ومفسدة لأهلها.

(أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأن إفسادهم لما عمّ العقائد والأخلاق بفقد هداية الفطرة وهداية الدين ، استحقوا الخزي في الدنيا بحرمان السعادة الجسمية والعقلية والخلقية ، والعذاب الأليم في الآخرة ، ومن خسر السعادتين كان في خسران مبين.

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ

٧٤

جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩))

المعنى الجملي

وجه سبحانه الخطاب في هاتين الآيتين إلى أولئك الفاسقين الذين ضلوا بالمثل بعد أن وصفهم بالصفات الشنيعة من نقض العهد الموثّق ، وقطع ما أمر الله به أن يوصل ، والإفساد في الأرض ، وجاء به على طريق التوبيخ والتعجيب من صفة كفرهم بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان الصادّة عن الكفر ، وهى النعم المتظاهرة الدالة على قدرته تعالى من مبدأ الخلق إلى منتهاه ، من إحيائهم بعد الإماتة ، وتركيب صورهم من الذرات المتناثرة ، والنطف الحقيرة المهينة ، وخلق لهم ما في الأرض جميعا ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها على فنون شتى وطرق مختلفة ، وخلق سبع سموات مزينة بمصابيح ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر.

أ فبعد هذا كله يكفرون به وينكرون عليه أن يبعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ، ويضرب لهم الأمثال ليهتدوا بها في إيضاح ما أشكل عليهم مما فيه أمر سعادتهم فى دينهم ودنياهم؟

الإيضاح

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) أي على أي حال تكفرون بالله ، وعلى أي شبهة تعتمدون وحالكم في موتتيكم وحياتيكم لا تدع لكم عذرا في الكفران به ، والاستهزاء بما ضربه من المثل وإنكار نبوة نبيه.

(وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) أي والحال أنكم كنتم قبل هذه النشأة في الحياة الدنيا أمواتا ، أجزاؤكم متفرقة في الأرض ، بعض منها في الطبقات الجامدة ، وأخرى

٧٥

فى الطبقات السائلة ، وقسم في الطبقات الغازية ، تشركون سائر أجزاء الحيوان والنبات فى ذلك ، ثم خلقكم في أحسن تقويم وفضلكم على غيركم بنعمة العقل والإدراك والفهم ، وتسخير جميع الكائنات الأرضية لكم.

(ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) حين انقضاء آجالكم بقبض الأرواح التي بها نظام حياتكم ، وحينئذ تنحل أبدانكم وتعود سيرتها الأولى ، وتنبثّ في طبقات الأرض وينعدم هذا الوجود الخاص الذي لها.

(ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) حياة أخرى أرقى من هذه الحياة ، وأكمل لمن زكىّ نفسه وعمل صالحا ، ودونها لمن أفسد فطرته ، وأهمل التدبر في سنن الكون ، وأنكر الإله والرسل وفسق عن أمر ربه.

(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للحساب والجزاء على ما قدمتم من عمل ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر.

وبعد أن عدد سبحانه آياته في الأنفس بذكر المبدأ والمنتهى ـ ذكر آياته في الآفاق الدالة على قدرته المحيطة بكل شىء ، وعلى نعمه المتظاهرة على عباده بجعل ما في الأرض مهيأ لهم ومعدّا لمنافعهم فقال :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) وهذا الانتفاع يكون بإحدى وسيلتين :

(١) إما بالانتفاع بأعيانه في الحياة الجسدية ليكون غذاء للأجسام أو متعة لها فى الحياة المعيشية.

(٢) وإما بالنظر والاعتبار فيما لا تصل إليه الأيدى فيستدل به على قدرة مبدعه ويكون غذاء للأرواح.

وبهذا نعلم أن الأصل إباحة الانتفاع بكل ما خلق في الأرض ، فليس لمخلوق حق فى تحريم شىء أباحه الله إلا بإذنه كما قال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً ، قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ).

٧٦

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) السماء كل ما في الجهة العليا فوق رءوسنا ، واستوى إليها أي قصدها قصدا مستويا بلا عاطف يثنيه من إرادة خلق شىء آخر في أثناء خلقها.

(فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) أي أتمّ خلقهنّ فجعلهنّ سبع سموات تامات الخلق والتكوين.

وفي الآية إيماء إلى أن خلق الأرض وما فيها كان سابقا على تسوية السموات سبعا ، وهذا لا يخالف قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ؟ بَناها ، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ، وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها ، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) لأن كلمة (بعد) فيها بعدية في الذكر لا في الزمان ، فمن استعمالاتهم أن يقولوا : أحسنت إلى فلان بكذا ، وقدمت إليه المعونة وبعد ذلك ساعدته في عمله ، على معنى وزيادة على ذلك ساعدته ، أو أن الذي كان بعد خلق السماء هو دحو الأرض : أي تمهيدها للسكنى والاستعمار ، لا مجرد خلقها وتقدير الأقوات فيها.

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إن هذا النظام المحكم لا يكون إلا من لدن حكيم عليم بما خلق ، فلا عجب أن يرسل رسولا يوحى إليه بكتاب لهداية من يشاء من عباده يضرب فيه الأمثال بما شاء من مخلوقاته ، جل أو حقر ، عظم أو صغر.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠))

تفسير المفردات

خليفة : أي عن نوع آخر ، أو خليفة عن الله في تنفيذ أوامره بين الناس ، السفك والسفح والسكب : الصبّ ، والتسبيح : تنزيهه تعالى عما لا يليق به ، والتقديس : إثبات ما يليق من صفات الكمال.

٧٧

المعنى الجملي

هذه الآية كالتى قبلها تعداد للنعم الصارفة عن العصيان والكفر ، الداعية إلى الإيمان والطاعة ، فإن خلق آدم على تلك الصورة ، وما أوتيه من نعمة العلم وحسن التصرف في الكون ، وجعله خليفة الله في أرضه ـ لمن أجل النعم التي يجب على ذريته أن يشكروه عليها بحسن طاعته ، والبعد عن كفرانه ومعصيته.

وفيها وفيما بعدها قصص لأخبار النشأة الإنسانية أبرز فيه حكما وأسرارا جاءت فى صورة مناظرة وحوار ـ وهو من المتشابه الذي لا يمكن حمله على المعنى الظاهر منه ، لأنه إما استشارة من الله لعباده ، وذلك محال ، وإما إخبار منه للملائكة فاعتراض منهم ومحاجّة ، وذلك لا يليق بالله ولا بملائكته بحسب ما جاء في وصفهم في قوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ومن ثم كان للعلماء في هذا وأمثاله رأيان :

(ا) رأى المتقدمين منهم ، وهو تفويض الأمر إلى الله في بيان المراد من كلامه ، مع العلم بأنه لا يخبرنا بشىء إلا لنستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا ، بذكر ما يقرّب المعاني إلى عقولنا.

فهذا الحوار المصوّر بصورة القول والمراجعة والسؤال والجواب لا ندرك حقيقة المراد منه ، وان كنا نجزم بأن هناك مقاصد أريد إفادتها بهذه العبارات ، وأن الله كان يعدّ لآدم هذا الكون ، وأن لذلك المحلوق كرامة لديه بما أودعه فيه من فضائل ومزايا ، وفائدة ذكر ذلك لنا من نواح عدة :

(١) بيان أن لا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ، فالملائكة وهم أولى منا بعلمها عجزوا عن معرفتها.

(٢) أن الله قد هدى الملائكة بعد حيرتهم ، وأجابهم عن سؤالهم ، بأن أرشدهم

٧٨

إلى الخضوع والتسليم أوّلا بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ثم بالدليل ثانيا بأن علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة.

(٣) أن الله جلّت قدرته رضى لخلقه أن يسألوه عما خفى عليهم من أسراره فى الخليقة ، والسؤال كما يكون بالمقال يكون بالحال بالتوجه إلى الله أن يفيض عليهم العلم بمعرفة ما أشكل عليهم.

(٤) تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المشركين له ومحاجتهم بلا برهان يستندون إليه ـ بأنه لا بدع في ذلك ، فالملائكة طلبوا الدليل والبرهان من ربهم فيما لا يعلمون ، فالأنبياء يجدر بهم أن يصبروا على المكذبين ويعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين ، ويأتوهم بالبراهين الساطعة ، والحجج الدامغة.

(ب) رأى المتأخرين منهم ـ وهو تأويل ما اشتبه علينا من قواعد الدين ، لأنها إنما وضعت على أساس العقل ، فإذا ورد في النقل شىء يخالف حكم العقل ، حمل النقل على غير الظاهر منه بتأويله حتى يتفق مع حكم العقل.

وعلى هذا ـ فالقصة وردت مورد التمثيل ليقرّبها سبحانه من أذهان خلقه بإفهامهم حال النشأة الآدمية وما لها من ميزة خاصة ـ بأن أخبر ملائكته بأنه جاعل في الأرض خليفة ـ فعجبوا وسألوه بلسان المقال إن كانوا ينطقون ، أو بلسان الحال بالتوجه إليه تعالى أن يفيض عليهم المعرفة ـ كيف تخلق هذا النوع ذا الإرادة المطلقة والاختيار الذي لا حد له ، وربما اتجه بإرادته إلى خلاف المصلحة والحكمة ، وذلك هو الفساد ، فألقى عليهم بطريق الإلهام وجوب الخضوع والتسليم لمن هو بكل شىء عليم ، فما يضيق عنه علم أحد يتسع له علم من هو أعلم منه ، وهذا جواب ربما لا يذهب بالحيرة ، ومن ثمّ تفضل على الملائكة وأبان لهم الحكمة في خلق هذا النوع ، فعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة ، فعلموا أن في فطرة هذا النوع استعدادا لعلم ما لم يعلموا ، وأنه أهل للخلافة في الأرض ، وأن سفك الدماء لا يذهب بحكمة الاستخلاف وفائدته.

٧٩

وخلاصة هذا ـ إن الملائكة تشوّفوا لمعرفة الحكمة في استخلاف ذلك المخلوق الذي من شأنه ما قالوا ، ومعرفة السر في تركهم وهم المجبولون على تسبيحه وتقديسه ـ فأعلمهم أنه أودع فيه من السر ما لم يودعه فيهم ، هذا مجمل ما جلى به الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله هذا البحث حين تفسيره للآية ونقله عنه صاحب المنار في تفسيره.

الإيضاح

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أي واذكر لقومك مقال ربك للملائكة : إنى جاعل آدم خليفة عن نوع آخر كان في الأرض ، وانقرض بعد أن أفسد في الأرض وسفك الدماء وسيحل هو محله ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى بعد ذكر إهلاك القرون (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) ومن ثمّ استنبط الملائكة سؤالهم بالقياس عليه ، وعلى هذا فليس آدم أوّل أصناف العقلاء من الحيوان في الأرض.

ويرى جمع من المفسرين أن المراد بالخلافة الخلافة عن الله في تنفيذ أوامره بين الناس ، ومن ثم اشتهر «الإنسان خليفة الله في الأرض» ويشهد له قوله تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ).

وهذا الاستخلاف يشمل استخلاف بعض أفراد الإنسان على بعض ، بأن يوحى بشرائعه على ألسنة أناس منهم يصطفيهم ليكونوا خلفاء عنه ، واستخلاف هذا النوع على غيره من المخلوقات بما ميزه به من قوة العقل ، وإن كنا لا نعرف سرها ولا ندرك كنهها ، وهو بهذه القوة غير محدود الاستعداد ولا محدود العلم ، يتصرف في الكون تصرفا لا حدّ له ، فهو يبتدع ويفتنّ في المعدن والنبات ، وفي البرّ والبحر والهواء ، ويغيّر شكل الأرض فيجعل الماحل خصبا ، والحزن سهلا ، ويولّد بالتلقيح أزواجا من النبات لم تكن ، ويتصرّف في أنواع الحيوان كما شاء بضروب التوليد ، ويسخر كل ذلك لخدمته.

٨٠