تفسير المراغي - ج ١

أحمد مصطفى المراغي

تفسير المفردات

لو لا : كلمة لحضّ الفاعل على الفعل وطلبه منه ، والآية : الحجة والبرهان ، والتشابه : التماثل ، واليقين : هو العلم بالدليل والبرهان ، والحق : هو الشيء الثابت المتحقق الذي لا شكّ فيه.

المعنى الجملي

كان الكلام فيما سلف في الردّ على من أنكر الوحدانية واتخذ لله شريكا ـ والكلام هنا فيمن أنكر نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وطعن في الآيات التي جاء بها وتجنّى بطلب آيات أخرى تعنتا وعنادا كما جاء في نحو قوله حكاية عنهم (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) وقوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا).

الإيضاح

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) من المشركين ، لأنه لا كتاب لهم ولا هم أتباع نبىّ من الأنبياء حتى يتجلى لهم ما يليق بمقام الألوهية ، وما يصح أن يعطاه الأنبياء من الآيات.

(لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) أي هلا يكلمنا الله بأنك رسوله حقا كما يكلم الملائكة ، أو يرسل إلينا ملكا فيخبرنا بذلك ، كما كلمك على هذا الوجه مع أنك بشر مثلنا.

وما مقصدهم من هذا إلا العناد والاستكبار وبيان أنه ليس بأحسن منهم حالا ، فلم اختصّ بهذا الفضل من بيننا؟

(أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) أي أو تأتينا ببرهان على صدقك في دعواك النبوة ، ومرادهم بذلك ما حكاه الله عنهم بنحو قوله : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) الآية.

٢٠١

وهذا منهم جحود لأن يكون ما أوتيه من القرآن وغيره من المعجزات آيات كافيات فى إثبات ما ادّعى من النبوة.

(كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أي ومثل هذه الأسئلة التي يراد بها التعنت لإجلاء الحقيقة ، قد قالها من قبلهم من الأمم الماضية ، فقد قال اليهود لموسى : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) ، و (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) إلى نحو ذلك ، وقالت النصارى : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) فهذه أقوال صدرت عنهم للتشهى واتباع الهوى تعنّتا وعنادا لا للوصول إلى كشف غامص وجلاء حقيقة كما قال تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

ثم ذكر السبب في اتحاد مقالهم ومقال من سبقهم فقال :

(تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) أي تماثلت قلوب هؤلاء وقلوب من قبلهم في العمى والقسوة والعناد ، والألسنة ترجمان القلوب ، والقلب إذا استحكم فيه الكفر والعمى لا يجرى على لسان صاحبه إلا ما ينبئ بالتباعد عن الإيمان من معاذير لا تجدى ، وتعلّات لا تفيد.

فالحق واحد ، ومخالفته هى الضلال وهو واحد وإن تعددت طرقه واختلفت وجوهه ، وآثاره تتشابه حين تصدر عن الضالين حتى كأنهم متواصون به فيما بينهم كما قال تعالى : (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ).

(قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي إننا لم نتركك بلا آية ، بل بينا للناس الآيات على يديك بما لا يدع مجالا للريب لدى طالبى الحق بالدليل والبرهان ، ولديهم الاستعداد للعلم واليقين ، ولن يكون هذا إلا لمن صفت نفوسهم ، وسلموا من العناد والمكابرة اللّذين يمنعان من وصول نور الحق إلى القلوب ، وقد كان كبار الصحابة يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم يظهر لهم دليله ، لأنهم طبعوا على معرفة الحق بالبينة.

٢٠٢

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ) أي إنا أرسلناك بالشيء الثابت الذي لا تضلّ فيه الأوهام ، بسعد من أخذ به ، ويثلج قلبه بروح اليقين ، وهذا شامل للعقائد المطابقة للواقع ، وللشرائع التي توصل صاحبها إلى سعادة المعاش والمعاد.

(بَشِيراً وَنَذِيراً) أي لتبشر من أطاع ، وتنذر من عصى ، لا لتجبر على الإيمان ، فلا عليك إن أصروا على الكفر والعناد (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ).

(وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) أي فلا يضرنّك تكذيب المكذبين الذين يساقون بجحودهم إلى الجحيم ، فأنت لم تبعث ملزما ولا جبارا ، فتكون مقصرا إن لم يؤمنوا ، بل بعثت معلما وهاديا بالدعوة وحسن الأسوة ، كما قال : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

وفي هذا تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم لئلا يضيق صدره كما قال تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً).

(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) الطريقة المشروعة للعباد تسمي ملة ، لأن الأنبياء أملّوها وكتبوها لأمتهم ، وتسمى دينا ، لأن العباد انقادوا لمن سنها ، وتسمى شريعة لأنها مورد للمتعطشين إلى ثواب الله ورحمته.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرجو أن يبادر أهل الكتاب إلى الإيمان به ، ومن ثم كبر عليه إعراضهم عن إجابة دعوته ، وإلحافهم في مجاحدته ، مع موافقتهم له فى أصل دينهم ، من توحيد الله وتقويم ما اعوجّ من الفطرة الإنسانية ، بما طرأ عليها من التقاليد الفاسدة بالمعارف الدينية الصالحة إلى أقصى حد مستطاع.

وفي الآية تيئيس له عليه السلام من طمعه في إسلامهم ، إذ علق رصاهم عنه بما هو مستحيل أن يكون ، وهو اتباع ملتهم والدخول في دينهم ، لأنهم اتخذوا الدين جنسية لا يرضون عن أحد إلا إذا دخل في حظيرتها ، وانضوى تحت لوائها.

٢٠٣

وكلامهم هذا يتضمن أن ملتهم هى الهدى لا ما سواها ، ومن ثم ردّ الله عليهم بقوله آمرا نبيّه.

(قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) أي إن الهدى هو ما أنزله الله على أنبيائه ، لا ما أضافه إليه اليهود والنصارى بالهوى والتشهي ، ففرقوا دينهم وكانوا شيعا ، كلّ شيعة تكفر الأخرى وتقول إنها ليست على شىء.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي ولئن اتبعت ما أضافوه إلى ـ دينهم وجعلوه أصلا من أصول شريعتهم بعد ما حصل لك من اليقين والطمأنينة بالوحى الإلهى الذي نزل عليك ، ومنه علمت أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه بالتأويل ، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به.

(ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي فالله لا ينصرك ولا يساعدك على ذلك ، إذ أن اتباع الهوى لا يكون طريقا موصلا إلى الهدى ، وإذا لم ينصرك الله ويتولّ شئونك فمن ذا الذي ينصرك من بعده؟

وهذا الإنذار الشديد والوعيد والتهديد وإن كان موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي عصمه الله من الزيغ والزلل وأيده بالكرامة ، هو في الحقيقة خطاب للناس كافة فى شخص النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد جرى العرف في خطاب الملوك أن يقال للملك :

إذا فعلت كذا كانت العاقبة كذا ، ويراد إذا فعلته دولتك أو أمتك.

والكلام هنا جاء على هذا الأسلوب ليرشد من يأتي بعده أن يصدع بالحق ، وينتصر له ولا يبالى بمن خالفه مهما قوى حزبه واشتدّ أمره ، فمن عرف الحقّ وعرف أن الله ولىّ أمره وناصره لا يخاف في تأييده لوم اللائمين ، ولا إنكار المعاندين.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا

٢٠٤

نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣))

المعنى الجملي

هذه الآيات سيقت استدراكا على ما قبلها ، فإن ما تقدم كان تيئيسا للنبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من إيمان أهل الكتاب وسلب ما كان يخالج نفوسهم من الرجاء ، وهنا أرشد إلى أن فريقا منهم يرجى إيمانهم وهم الذين يتدبرون كتابهم ويميزون بين الحق والباطل ويفهمون أسرار الدين ويعلمون أن ما جئت به هو الحق الذي يتفق مع مصالح البشر ، فهو الذي يهذب نفوسهم ، ويصفى أرواحهم ، وينظم معايشهم ، وبه سعادتهم في الدنيا والآخرة.

وبعد أن أقام عليهم الحجة دعاهم وناداهم وطلب إليهم أن يتركوا الغرور المانع لهم من الإيمان ، إذ لا ينبغى لمن كرمه الله وفضله على غيره من الشعوب أن يكون حظه من كتابه كحظ الحمار يحمل أسفارا.

الإيضاح

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي ومن أهل الكتاب طائفة تقرأ التوراة قراءة تأخذ بمجامع قلوبهم ، وتدخل في شغاف أفئدتهم ، فيراعون ضبط لفظها ويتدبرون معناها ، ويفقهون أسرارها وحكمها ، أولئك هم الذين يعقلون أن ما جئت به هو الحق ، فيؤمنون به ويهتدون بهديه إلى سواء السبيل كعبد الله ابن سلام وأضرابه ممن آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ومن يكفر بما أنزل إليك بعد أن تبين

٢٠٥

له أنه الحق من الرؤساء المعاندين ، والجهال المقلدين (وكثير ما هم) فأولئك هم الذين خسروا سعادة الدنيا والمجد والسيادة التي يعطيها الله من ينصر دينه ، كما قال تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) وخسروا نعيم الآخرة ، وحقّ عليهم العذاب الذي أعدّه الله للكافرين.

وكفرانهم به آت إما بتحريف كتابهم المبشر به حتى لا تنطبق البشارة عليه ، ليوافق أهواءهم ، وإما بإهماله اكتفاء بقول علمائهم الذين أضافوا إلى التوراة ما شاءوا ليشتروا به ثمنا قليلا.

وفي الآية إيماء إلى أن الذين يتلون الكتاب دون أن يتدبروا معانيه ، لا حظ لهم من الإيمان ، لأنهم لا يفقهون هداية الله فيه ، ولا تصل العظة إلى أفئدتهم بتلاوته.

وفي هذا عبرة لنا كما قال : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) فينبغى أن يكون ذلك حافزا لنا في تدبر القرآن وفهمه ، لا قراءته لمجرد التلاوة كما قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) وقال : (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ).

ولكن وا أسفا إن كل هذه الآيات والعبر لم تحل بين هذه الأمة وتقليدها من قبلها وحذوها حذوهم شبرا فشبرا وباعا فباعا ، والقرآن حجة عليها كما جاء في الحديث (والقرآن حجة لك أو عليك).

ومن يتله وهو معرض عن تدبره والتأمل في العبرة منه يكن كالمستهزئ بربه ، وما مثله إلا مثل من يرسل كتابا إلى آخر لغرض خاص فيقرؤه المرسل إليه مثنى وثلاث ورباع ، ويترنم به ولا يلتفت إلى معناه ، ولا يكلف نفسه إجابة ما طلب فيه ، أيرضى المرسل بمثل هذا ويكتفى به عن إجابة طلبه أم يعدّه استهزاء به؟

فعلى المؤمن في كل زمان ومكان أن يتلوا القرآن بالتدبر والفهم والعمل بما فيه ، فإن كان أمّيّا أو أعجميّا فإنه ينبغى أن يطلب من أهل الذكر أن يفهموه معناه ويشرحوا له مغزاه.

٢٠٦

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) هذا عظة لليهود الذين كانوا في عصر التنزيل ، وتذكير لهم بما سلف من نعمة الله على آبائهم بإنقاذهم من أيدى عدوهم وإنزاله المنّ والسلوى عليهم ، وتمكينه لهم في البلاد بعد أن كانوا أذلاء مقهورين ، وإرساله الرسل منهم وتفضيلهم على غيرهم ممن كانوا بين ظهرانيهم حين كانوا مطيعين للرسل مصدّقين لما جاءهم من عند ربهم ـ حتى يتركوا التمادي فى الغى والضلال ويثوبوا إلى رشدهم.

ومن أجلّ ما أنعم به عليهم التوراة التي أنزلت عليهم ، وذكرها يكون بشكرها ، وشكرها يكون بالإيمان بجميع ما جاء فيها ، ومن جملته وصف النبي صلى الله عليه وسلم فهو المبشّر به فيها.

(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) تقول جزى عنى هذا الأمر يجزى كما تقول قضى يقضى ، زنة ومعنى ، أي واتقوا يا معشر بنى إسرائيل المبدّلين كتابى ، المحرفين له عن وجهه ، المكذبين برسولى محمد صلى الله عليه وسلم ـ عذاب يوم لا تقضى فيه نفس عن نفس شيئا من الحقوق التي لزمتها ، فلا تؤخذ نفس بذنب أخرى ، ولا تدفع عنها شيئا كما ورد في الصحيحين «يا فاطمة بنت محمد سلينى من مالى ما شئت لا أغنى عنك من الله شيئا».

(وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) العدل الفدية : أي لا يؤخذ من نفس فدية تنجو بها من النار ، إذ هى لا تجد ذلك لتفتدى به ، ولا يشفع فيما وجب عليها من حقّ شافع ، وقد كانوا يعتقدون بالمكفّرات تؤخذ فدية عما فرطوا فيه ، وبشفاعة أنبيائهم لهم ، فأخبرهم الله أنه لا يقوم مقام الاهتداء به شىء آخر.

(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي إنه لا يأتيهم ناصر ينصرهم فيمنع عذاب الله عنهم إذا نزل بهم.

وهذا ترهيب لمن سلفت عظتهم في الآية قبلها.

٢٠٧

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤))

تفسير المفردات

الابتلاء : الاختبار ، أي معرفة حال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه فعله أو تركه ، والكلمات : واحدها كلمة وتطلق على اللفظ المفرد وعلى الكلام المفيد ، والمراد هنا معناها من أمر ونهى ، وأتمهنّ : أي قام بهنّ خير قيام وأدّاهنّ أحسن التأدية بلا تفريط ولا توان ، وإماما : أي رسولا.

المعنى الجملي

بعد أن حاجّ سبحانه أهل الكتاب وبيّن كفرهم بالنبي الذي كانوا ينتظرونه لبشارة كتبهم به ، ذكر هنا الأساس الذي بنى عليه الإسلام والنسب الذي يمتّ به ويحترمه أهل الكتاب ومشركو العرب ، وهو ملة إبراهيم ونسبه ، فلا فضل إذا لليهود على العرب بأنهم يمتون بالنسب إلى إبراهيم ودين إبراهيم ، إذ النسب واحد والملة واحدة.

فالقرآن حاج أهل الكتاب الذين جاء لإصلاح دينهم بما أدخلوه عليه من تحريف لبعضه ونسيل لبعضه الآخر ، وأثبت التوحيد والتنزيه لله تعالى ، وحاج أهل الشرك والوثنية التي جاء لمحوها ، تارة بالبراهين العقلية وتارة بالأدلة الكونية في كثير من السور ولا سيما السور المكية.

الإيضاح

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) أي واذكر لقومك المشركين وغيرهم

٢٠٨

حين اختبر إبراهيم ربّه ببعض الأوامر والنواهي ، فأدّاها خير الأداء ، وأتي بها على وجه الكمال كما قال : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى).

والمراد من ذكر الوقت ذكر ما وقع فيه من الحوادث ، لأن الوقت محتو عليها ، فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها كأنها مشاهدة عيانا.

والقرآن الكريم لم يعين الكلمات ، ومن ثم اختلفوا فيها ؛ فقيل هى مناسك الحج ، وقيل إنها الكواكب والشمس والقمر التي رآها واستدلّ بأفولها على وحدانية الله تعالى والعرب التي خوطبت به كانت تعرف المراد منها.

(قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) أي قال إنى جاعلك للناس رسولا يؤتمّ بك ، ويقتدى بهداك إلى يوم القيامة ، فدعا الناس إلى الحنيفية السمحة وهى الإيمان بالله وتوحيده والبراءة من الشرك ، وما زال هذا جاريا في ذريته ، فلم ينقطع منها دين التوحيد ، ولأجل هذا وصف الله الإسلام بأنه ملة إبراهيم.

(قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي قال واجعل من ذريتى أئمة يقتدى بهم ، وقد جرى إبراهيم على سنة الفطرة ، فتمنى لذريته الخير في أجسامهم وعقولهم وأخلاقهم ، ولا غرو فالإنسان يرجو أن يكون ابنه أحسن منه في جميع ذلك.

(قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أي قال أجبتك إلى ما طلبت ، وسأجعل من ذريتك أئمة للناس ، ولكن عهدى بالإمامة لا يناله الظالمون ، إذ هم لا يصلحون أن يكونوا قدوة للناس.

وفي ذكر الظلم مانعا من الإمامة تنفير لذرية إبراهيم منه وتبغيض لهم فيه ، ليتحاموه وينشئوا أولادهم على كراهته ، كيلا يقعوا فيه ويحرموا من هذا المنصب العظيم الذي هو أعلى المناصب وأشرفها ، كما هو تنفير من الظالمين وعدم مخالطتهم.

فالإمامة الصالحة لا تكون إلا لذوى النفوس الفاضلة التي تسوق صاحبها إلى خير العمل ، وتزعه عن الشرور والآثام ، ولا حظّ للظالمين في شىء من هذا.

٢٠٩

والخلاصة ـ إن الإمامة والنبوة لا ينالها من دنّس نفسه ودسّاها بالظلم وقبيح الخلال ، وإنما ينالها من شرفت خلاله ، وكملت أخلاقه ، وصفت نفسه ، لأن أهم أعمال الإمام رفع الظلم والفساد حتى ينتظم العمران ، وتسود السكينة بين الناس.

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦))

تفسير المفردات

البيت : غلب استعماله في بيت الله الحرام بمكة ، مثابة : أي مرجعا يثوب إليه هؤلاء الزوار وأمثالهم ، وأمنا : أي موضع أمن ، ومقام إبراهيم : هو الحجر الذي كان يقوم عليه حين بناء الكعبة ، والمصلى : موضع الصلاة أي الدعاء والثناء على الله تعالى وعهد إليه بكذا إذا وصاه به ، والثمرات : المأكولات مما يخرج من الأرض والشجر ، والاضطرار : الإكراه ، يقال اضطررت فلانا إلى كذا : أي ألجأته إليه وحملته عليه.

المعنى الجملي

ذكّر سبحانه العرب في هذه الآيات بنعم أسبغها عليهم ومنن قلّدها جيدهم ، وهى جعل البيت الحرام مرجعا للناس يقصدونه ثم يثوبون إليه ، وجعله مأمنا لهم في هذه البلاد بلاد المخاوف التي يتخطف الناس فيها من كل جانب ، ودعوة إبراهيم للبيت وأهله

٢١٠

المؤمنين ، وفي التذكير بهذا فائدة في تقرير دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأنها مبنية على أصول ملة إبراهيم الذي يحترمه العرب جميعا.

الإيضاح

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) أي واذكروا حين أن جعلنا البيت الحرام مرجعا للناس يثوبون إليه للعبادة ، ويقصدونه لأداء المناسك فيه ، وجعلناه أمنا لاحترام الناس له وتعظيمهم إياه بعدم سفك دم فيه ، حتى كان يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرّض له بسوء.

ونحو الآية قوله في سورة العنكبوت : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ؟).

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) أي وقلنا لهم اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، وفائدة ذكر هذا الأمر أن يستحضر السامع أو التالي المأمورين ، وكأن الأمر يوجه إليهم ، ليقع في نفوس المخاطبين به أن الأمر يتناولهم وأنه موجه إليهم كما وجه إلى سلفهم فى عهد أبيهم إبراهيم ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ له ، فنحن مأمورون بالدعاء في مقام إبراهيم ، كما أمر به من كان في عصره من المؤمنين.

(وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي ووصينا إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت من كل رجس معنوى كالشرك بالله وعبادة الأصنام ، أو رجس حسى كاللغو والرفث والتنازع فيه ، حين أداء العبادات كالطواف به والسعى بين الصفا والمروة والعكوف فيه والركوع والسجود.

وفي الآية إيماء إلى أن إبراهيم كان مأمورا هو ومن بعده بهذه العبادات ، ولكن لا دليل على معرفة الطريق التي كانوا يؤدونها بها ، وسماه الله بيته لأنه جعله معبدا للعبادة الصحيحة ، وأمر المصلين بأن يتوجهوا في عبادتهم إليه.

٢١١

والحكمة في ذلك أن الخلق في حاجة إلى التوجه إلى خالقهم لشكره والثناء عليه والتوسل إليه لاستمداد رحمته ومعونته ، وهم يعجزون عن التوجه إلى موجود غيبىّ لا يتقيد بمكان ولا ينحصر في جهة ، فعيّن لهم مكانا نسبه إليه رمزا إلى أن ذاته المقدسة تحضره ، والحضور الحقيقي محال عليه ، فالمراد أن رحمته الإلهية تحضره ، ومن ثمّ كان التوجه إلى هذا المكان كالتوجه إلى تلك الذات العلية لو وجد العبد إلى ذلك سبيلا.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) أي قال : رب اجعل هذا الوادي من البلاد الآمنة ، وهذا دعاء منه أن يكون البيت آمنا في نفسه من الجبابرة وغيرهم أن يسلّطوا عليه ، ومن عقوبة الله أن تناله كما تنال سائر البلدان من خسف وزلزال وغرق ونحو ذلك مما ينبئ عن سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد.

وقد استجاب الله دعاءه فلم يقصده أحد بسوء إلا قصم ظهره ، ومن تعدى عليه لم يطل زمن تعديه ، بل يكون تعديا عارضا ثم يزول.

(وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي وارزق أهله من أنواع الثمار إما بزرعها بالقرب منه ، وإما بأن تجبى إليه من الأقطار الشاسعة ، وقد حصل كلاهما استجابة لدعوة إبراهيم كما هو مشاهد ، وقد جاء في سورة القصص : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ).

وخص إبراهيم بدعائه المؤمنين ، وإن كان سبحانه لواسع رحمته جعل رزق الدنيا عاما للمؤمنين والكافرين (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) لأن تمتيع الكافرين قصير محدود بذلك العمر القصير ، ثم إلى النار وبئس المصير ، وهذا ما بينه عزّ اسمه بقوله :

(قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي قال يا إبراهيم قد أجبت دعوتك ، ورزقت مؤمنى أهل هذا البلد من الثمرات ، ورزقت

٢١٢

كفارهم أيضا ، وأمتعهم بهذا الرزق أمدا قليلا وهو مدة وجودهم في الدنيا ، ثم أسوقهم إلى عذاب النار سوقا اضطراريا لا اختيار لهم فيه ، ولا يعلمون أن عملهم ينتهى بهم إليه.

ذاك أن أعمال البشر التي تقع باختيارهم ، لها آثار وغايات اضطرارية تنتهي بهم إليها وتكون نتيجة لها بحسب ما وضعه الله في نظام الكون من وجود المسبّبات عقب وجود أسبابها ، فالإسراف في الشهوات يفضى إلى بعض الأمراض في الدنيا ، كذلك الكفار والفساق مختارون في كفرهم وفسوقهم ، وستكون نتيجة ذلك سوقهم إلى عذاب النار بمقتضى السنن الموضوعة.

وكل أعمال الإنسان النفسية والبدنية لها الأثر الذي يفضى بصاحبها إلى السعادة أو الشقاء ، وهى أعمال كسبية اختيارية ؛ فالإنسان متمكن من اختيار الحق وترك الباطل وترك الخبيث وفعل الطيب بما أعطاه الله من العقل وبما نزل عليه من الوحى ، فإذا حاد عن ذلك يكون قد ظلم نفسه وعرّضها للعذاب والشقاء بأعماله التي مبدؤها كسبىّ وأثرها اضطراري.

وهذه السنن بقضاء الله وتقديره ، ومن ثم يصح أن يقال إن الله قد اضطر الكافر إلى العذاب وألجأه إليه ، وجعل الأرواح المدنّسة بالأخلاق الذميمة أو بالعقائد الفاسدة محل سخطه وموضع انتقامه في الآخرة ، كما جعل أصحاب الأمراض القذرة عرضة للأمراض في الدنيا.

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ

٢١٣

وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩))

تفسير المفردات

القواعد : واحدها قاعدة ، وهى ما يقعد ويقوم عليه البناء من الأساس أو من السافات (طاقات البناء) ورفعها إعلاء البناء عليها ، وتقبل الله العمل : قبله ورضى به ، مسلمين أي منقادين لك ، يقال أسلم واستسلم إذا خضع وانقاد ، والأمة الجماعة ، والمناسك : واحدها منسك (بفتح السين) من النسك وهو غاية الخضوع والعبادة ، وشاع استعماله فى عبادة الحج خاصة ، كما شاع استعمال المناسك في معالم الحج وأعماله ، وتاب العبد إلى ربه إذا رجع إليه ، لأن اقتراف الذنب إعراض عن الله وعن موجبات رضوانه ، وتاب الله على العبد : رحمه وعطف عليه ، والكتاب القرآن ، والحكمة أسرار الأحكام الدينية ومعرفة مقاصد الشريعة ، قال ابن دريد : كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة. أو نهتك عن قبيح فهي حكمة ، ويزكيهم : أي يطهر نفوسهم من دنس الشرك وضروب المعاصي ، العزيز : أي القوى الغالب ، الحكيم : أي الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكّر سبحانه العرب بما أنعم عليهم من بناء البيت وجعله مثابة للناس وأمنا ، وبدعاء إبراهيم عليه السلام لقاطنى هذا البلد الحرام باستجابته تعالى دعاءه ، إذ جعله بلدا آمنا تجبى إليه الثمرات من شاسع الأقطار ليتمتع بها أهله ، وبعهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركّع السجود ، تنبيها لهم إلى أنه لا ينبغى أن يعبد فيه غيره ، فيجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة.

٢١٤

انتقل بهم إلى التذكير بأن الذي بنى البيت هو أبوهم إبراهيم بمعونة ابنه إسماعيل ، ليجذبهم بذلك إلى الاقتداء بسلفهم الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به ، وقد كانت قريش تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل ، وتدّعى أنها على ملة إبراهيم ، وسائر العرب فى ذلك تبع لقريش.

الإيضاح

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) أي واذكروا إذ يرفع إبراهيم قواعد البيت وأساسه ، وهذا نصّ في أنهما هما اللذان بنياه لعبادة الله في تلك البلاد الوثنية ، وجعلاه موضعا لضروب من العبادة التي لا تكون في غيره ، وذلك هو مصدر شرفه لا بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار ، ولا بكون موقعه يفضل سائر المواقع ، ولا بأنه نزل من السماء ، فكل ما روى بصدد هذا فهو من الإسرائيليات التي لا يعول عليها ولا ينبغى تصديقها ، ولا يقبلها العلماء الذين يفقهون أسرار الدين ويفهمون مراميه ، ومن ثم قال عمر بن الخطاب عند استلام الحجر الأسود : «أما والله إنى أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولو لا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّلك ما قبّلتك ، ثم دنا فقبّله» رواه أحمد والبخاري ومسلم.

وفي هذا الأثر إيماء إلى أن الحجر لا مزية له في ذاته ، بل هو كسائر الأحجار ، وإنما استلامه امر تعبدى كاستقبال الكعبة في الصلاة ، وجعل التوجه إليها توجها إلى الله الذي لا يحدّه مكان ، ولا تحصره جهة.

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) أي إن إبراهيم وإسماعيل كانا يقولان في دعائهما وهما يرفعان قواعد البيت : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا).

(إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي ربنا أنت السميع لدعائنا ، العليم بنياتنا في جميع أعمالنا.

٢١٥

وفي الآية إشارة إلى أن كل مأمور بعبادة إذا فرغ منها وأدّاها كما أمر وبذل أقصى الوسع في ذلك ـ فعليه أن يتضرّع إلى الله ويبتهل ، ليتقبل منه ما عمل ولا يرده خائبا ولا يضيع سعيه سدى ، كما أنه لا ينبغى أن يجزم بأن عبادته متقبّلة ، ولو لا ذلك لما كان لهذا التضرع فائدة.

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي ربنا واجعلنا مخلصين لك في الاعتقاد بألا نتوجه بقلبنا إلا إليك ، ولا نستعين بأحد إلا بك ، وفي العمل بألا نقصد بعملنا إلا مرضاتك لا اتباع الهوى ولا إرضاء الشهوة.

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) أي واجعل من ذريتنا جماعة مخلصة لك ، ليستمر الإسلام لك بقوة الأمة وتعاون الجماعة ، وقد أجاب الله دعاءهما وجعل في ذريتهما الأمة الإسلامية وبعث فيها خاتم النبيين.

ومما سلف تعلم أن المراد بالإسلام الانقياد والخضوع لخالق السموات والأرض ، وليس المراد منه الأمة الإسلامية خاصة حتى يكون كل من يولد فيها ويلقب بهذا اللقب ينطبق عليه اسم الإسلام الذي نطق به القرآن ويكون من الذين تنالهم دعوة إبراهيم صلوات الله عليه.

(وَأَرِنا مَناسِكَنا) أي عرّفنا مواضع نسكنا أي أفعال الحج كالمواقيت التي يكون منها الإحرام ، وموضع الوقوف بعرفة ، وموضع الطواف إلى نحو ذلك من أفعاله وأقواله.

(وَتُبْ عَلَيْنا) أي ووفقنا للتوبة ، لنتوب ويرجع إليك من كل عمل يشغلنا عنك ، وهذا نظير قوله تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا).

وهذا منهما إرشاد لذريتهم ، وتعليم منهما لهم بأن البيت وما يتبعه من المناسك والمواقف أمكنة للتخلص من الذنوب وطلب الرحمة من الله.

(إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إنك أنت وحدك كثير التوبة على عبادك بتوفيقهم

٢١٦

لحسن العمل وقبول ذلك منهم ، الرّحيم بالتائبين المنجّى لهم من عذابك وسخطك.

(رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) أي ربنا وأرسل في الأمة المسلمة لك رسولا من أنفسهم ليكون أشفق عليهم ، ويكونوا أعزّ به ، وأقرب لإجابة دعوته ، إذ أنهم يكونون قد خبروه وعرفوا منشأه ودرسوا فاضل أخلاقه من صدق وأمانه وعفة ونحو ذلك مما هو شرط في صحة نبوّة النبي.

وقد أجاب الله دعوته ، وأرسل خاتم النبيين محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا منهم ، ومن ثمّ روى الإمام أحمد قوله صلى الله عليه وسلم : «أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى».

(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) أي يقرأ عليهم ما توحى إليه من الآيات التي تنزلها عليه ، متضمنة تفصيل الآيات الكونية الدالة على وحدانيتك ، ومشتملة على إمكان البعث والجزاء ، بالثواب على صالح الأعمال والعقاب على سيئها ، فيكون في ذلك عبرة لمن هداه الله ووفقه للخير والسعادة.

(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي ويعلمهم القرآن وأسرار الشريعة ومقاصدها بسيرته بين المسلمين فيكون قدوة لهم في أقواله وأفعاله.

(وَيُزَكِّيهِمْ) أي ويطهر نفوسهم من الشرك وضروب المعاصي التي تدسّيها وتفسد الأخلاق وتقوّض نظم المجتمع ، ويعوّدها الأعمال الحسنة التي تطبع فيها ملكات الخير التي ترضى المولى جلّ وعلا.

(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إنك أنت القوى الذي لا يغلب ولا ينال بضيم من توكل عليك ، الحكيم في أفعالك في عبادك ، فلا تفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.

وقد ختم إبراهيم دعواته بالثناء على ربه ، وذكر له من الأوصاف ما يشاكل مطالبه ، فوصفه بأنه العزيز الذي لا يردّ له أمر ، وأنه الحكيم الذي لا معقّب لحكمه ،

٢١٧

فمن الهيّن عليه أن يجيبه إلى ما طلب ، مما هو متنافر مع طباع العرب ، بعيد من معايشهم وأحوالهم ، فهم بعيدون عن ورود مناهل العلم ، وفيهم خشونة في الطباع ، وغلظ في الأكباد ، ليس لديهم استعداد لحضارة ولا مدنية ، وقد أجاب الله دعاءه وكوّن منهم أمة كانت خير الأمم ، سادت العالم وملكت المشارق والمغارب ردحا من الزمان ، وكان فيها رجال حفظ لهم التاريخ صادق بلائهم ، وعظيم سياستهم للشعوب التي انضوت تحت لوائهم ، بما لم تجارهم فيه أرقى الأمم مدنية في عصرنا ، عصر الرقى والحضارة.

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤))

تفسير المفردات

رغب في الشيء : أحبه ، ورغب عنه كرهه ، وسفه نفسه : أذلّها واحتقرها ، واصطفيناه : أي اخترناه وأصل الاصطفاء أخذ صفوة الشيء وهى خالصه ، أسلم : أي

٢١٨

أخلص لى العبادة ، والتوصية : إرشاد غيرك إلى ما فيه خير وصلاح له من قول أو فعل على جهة التفضل والإحسان في أمر دينى أو دنيوى ، مسلمون : أي مخلصون بالتوحيد ، والشهداء : واحدهم شهيد ، أي حاضر ، وحضور الموت : حضور أماراته وأسبابه وقرب الخروج من الدنيا ، والأمة : الجماعة ، وخلت : مضت وذهبت ، لها ما كسبت : أي ما عملت ، ولكم ما كسبتم : أي أنتم مجزيون بأعمالكم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمهنّ ، وأنه عهد إليه ببناء البيت وتطهيره للعبادة ، فصدع بما أمر ، أردف ذلك بذكر أن ملة إبراهيم التي كان يدعو إليها وهى التوحيد وإسلام القلب لله ، والإخلاص له في العمل ، لا ينبغى التحول عنها ، ولا يرضى عاقل أن يتركها ، إلا إذا ذلّ نفسه واحتقرها ، وبها وصى يعقوب بنيه ، ووصى بها من قبله إبراهيم بنيه ، ثم ردّ على شبهة لليهود إذ قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم إن يعقوب كان يهوديا ، وكذبهم بمقال لبنيه له حين موته : نعبد إلهك وإله آبائك الإله الواحد.

وقد روى في سبب نزول الآية أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام ، قال لهما : قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد ، من آمن به فقد اهتدى ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون ، فأسلم سلمة وأبي مهاجر.

الإيضاح

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أي إن ملّتكم هى ملّة أبيكم إبراهيم الذي إليه تنتسبون ، وبه تفخرون ، فكيف ترغبون عنها وتحتقرون عقولكم وتدعون أولياء من دون الله لا يملكون لكم ضرّا ولا نفعا.

٢١٩

(وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي ولقد اجتبيناه من بين خلقنا ، وجعلنا في ذريته أئمة يهدون بأمرنا ، وجعلناه في الآخرة من المشهود لهم بالخير والصلاح وإرشاد الناس للعمل بهذه الملة.

ولا شكّ أن ملة هذا شأنها ، وبها كانت له المكانة عند ربه ، لا يرغب عنها إلا سفيه يعرض عن التأمل في ملكوت السموات والأرض ، ورؤية الآثار الكونية والنفسية الدالة على وحدانية الله تعالى وعظيم قدرته.

وفي الآية بشارة لإبراهيم بصلاح حاله في الآخرة وعدة له بذلك.

(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) أي اصطفاه إذ دعاه إلى الإسلام بما أراه من الآيات ونصب له من الأدلة على وحدانيته ، فلبّى الدعوة.

(قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي قال أخلصت دينى لله الذي فطر الخلق جميعا ، ونحو هذا قوله : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

وقد نشأ إبراهيم في قوم عبدة أصنام وكواكب ، فأنار الله بصيرته ، وألهمه الحق والصواب ، فأدرك أن للعالم ربّا واحدا يدبره ويتصرف في شئونه وإليه مصيره ، وحاجّ قومه في ذلك وبهرهم بحجته فقال : (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) إلى آخر الآيات التي جاءت في سورة الأنعام.

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) أي ووصّى بهذه الملة التي ذكرت في قوله : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) إبراهيم أولاده ووصّى بها يعقوب من بعده أولاده أيضا ، قائلين لهم : إن الله اصطفى لكم دين الإسلام الذي لا يتقبل الله سواه.

(فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي فحافظوا على الإسلام لله ولا تفارقوه برهة واحدة ، فربما تأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم.

٢٢٠