كتاب السرائر - ج ١

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٧٦

وربما أطلق القول وذهب في بعض كتبه (١) شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله إلى نجاسة ذرق الدجاج ، سواء كان جلّالا أو لم يكن ، لأنّ استثناءه من مأكول اللحم يفيد ذلك ، ويعلم منه ، إلا أنّه رجع في استبصاره (٢) ومبسوطة ، فقال في مبسوطة في آخر كتاب الصيد والذبائح : فأمّا الهازبي وهو السمك الصغير الذي يقلى ، ( ولا يقلى ) ما في جوفه من الرجيع ، فعندنا يجوز أكله ، لأنّ رجيع ما يؤكل لحمه ليس بنجس عندنا (٣).

وقال أيضا في مبسوطة في كتاب الأطعمة : ( الجلّالة البهيمة ) التي تأكل العذرة ، كالناقة والبقرة والشاة والدجاجة ، فإن كان هذا أكثر علفها ، كره أكل لحمها ، بلا خلاف بين الفقهاء ، وقال قوم من أصحاب الحديث : هو حرام ، والأول مذهبنا ، هذا آخر كلامه رحمه‌الله (٤) فالحظه بالعين الصحيحة.

فأمّا ما يوجد في بعض الكتب لبعض أصحابنا وهو قوله : ومتى وقع في البئر ماء خالطه شي‌ء من النجاسات كماء المطر والبالوعة وغير ذلك ، نزح منها أربعون دلوا للخبر (٥) ، فإنّه قول غير واضح ولا محكك ، بل يعتبر النجاسة المخالطة للماء الواقع في ماء البئر ، فإن كانت منصوصا عليها ، اخرج المنصوص عليها ، وإن كانت النجاسة غير منصوص عليها فتدخل في قسم ما لم يرد به نص معيّن بالنزح ، فالصحيح من المذهب والأقوال الذي يعضده الإجماع والنظر والاعتبار والاحتياط للديانات عند الأئمة الأطهار ، نزح جميع ماء البئر ، فإن تعذّر ، فالتراوح على ما شرحنا له.

__________________

(١) وهو الشيخ الطوسي رحمه‌الله في نهايته في باب مياه الآبار.

(٢) الاستبصار : الباب ٢٣ من كتاب الطهارة.

(٣) المبسوط : كتاب الصيد والذبائح مع اختلاف في العبارة ، ج ٦ ، ص ٢٧٧.

(٤) المبسوط : كتاب الأطعمة والأشربة ، ج ٦ ، ص ٢٨٢.

(٥) وهو الشيخ الطوسي قدس‌سره في مبسوطة في باب مياه الآبار.

٨١

وقد قال الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مبسوطة : وكلّ نجاسة تقع في البئر وليس فيها قدر منصوص ، فالاحتياط يقتضي نزح جميع الماء وإن قلنا بجواز أربعين دلوا منها ، لقولهم عليهم‌السلام : ينزح منها أربعون دلوا (١) ، وإن صارت مبخرة (٢) كان سائغا ، غير أنّ الأول أحوط.

وقال أيضا : ومتى نزل إلى البئر كافر ، وباشر الماء بجسمه ، نجس الماء ، ووجب نزح جميع الماء ، لأنّه لا دليل على مقدّر منه ، والاحتياط يقتضي ما قلناه (٣) فانظر رعاك الله إلى قول هذا المصنف رحمه‌الله ، وأنقده ، واعتبره إن أراد بقوله لقولهم عليهم‌السلام : ينزح منها أربعون دلوا ، وإن صارت مبخرة أنّ أخبارهم بذلك متواترة ، أو الإجماع عليها وإن كانت آحادا ، فلا يجوز العدول عنها ، لأنّ الأخبار المتواترة دليل قاطع ، وحجة واضحة ، وكذلك الإجماع ، فلا يجوز العدول عن الدليل إلى غيره ، بل صار الأخذ بذلك هو الواجب الذي لا يجوز العدول عنه إلى غيره ، لأنّ فيه الاحتياط ، والعدول إلى ما سواه هو ترك الاحتياط وضدّه.

وإن أراد بقولهم عليهم‌السلام فلا يجوز عليهم الرجوع إليها ولا العمل بها ، لأن خبر الواحد لا يوجب علما ولا عملا كائنا من كان راويه ، فإنّ أصحابنا بغير خلاف بينهم ، ومن المعلوم الذي يكاد يحصل ، ضرورة أنّ مذهب أصحابنا ترك العمل بأخبار الآحاد ، ما خالف فيه أحد منهم ، ولا شذّ ، فعلى هذا التحرير ما أراد المصنّف بقوله إلا خبر الواحد ، ولأجل ذلك قال : غير أنّ الأول أحوط ، وهو نزح جميع مائها.

وأيضا فقد أجمعنا واتفقنا على نجاسة مائها فيحتاج طهارته إلى إجماع واتفاق ، مثل الإجماع على النجاسة ، ولا إجماع ولا اتفاق إلا إذا نزح جميع الماء ،

__________________

(١) المبسوط : كتاب الطهارة ، باب في مياه الآبار.

(٢) المبخرة : بضمّ الميم وسكون الباء وكسر الخاء : المنتنة أعني موضع النتن.

(٣) المبسوط : ج ١ ، كتاب الطهارة في مياه الآبار.

٨٢

فإن تعذر النزح للجميع ، فالتراوح على ما قدّمناه.

وينزح لموت الحية ثلاث دلاء ، تفسخت أو لم تتفسخ بغير خلاف ، لأنّ التفسخ لا يعتبر إلا في الفأرة فحسب.

فأمّا إذا ماتت فيها عقرب ، أو وزغة ، فلا ينجس ، ولا يجب أن ينزح منها شي‌ء بغير خلاف من محصّل ، ولا يلتفت إلى ما يوجد في سواد الكتب (١) من خبر واحد ، أو رواية شاذة ضعيفة مخالفة لأصول المذهب ، وهو أنّ الإجماع حاصل منعقد : إنّ موت ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء ، ولا المائع بغير خلاف بينهم ، وقد رجع مصنّف النهاية عمّا أورده في نهايته ، في مصباحه (٢) واستبصاره (٣) ومبسوطة (٤) ، فإنّه قال في تقسيمه : ويكره ما مات فيه الوزغ والعقرب خاصة ، وقال في جمله وعقوده : وكلّ ما ليس له نفس سائلة لا يفسد الماء بموته فيه (٥) ، وقد اعتذرنا للمصنّفين من أصحابنا رحمهم‌الله في خطبة كتابنا هذا ما فيه كفاية ، وقلنا : إنّما يوردون في الكتب ما يوردونه على جهة الرواية ، بحيث لا يشذ من الأخبار شي‌ء دون تحقيق العمل عليه ، والفتوى به ، والاعتقاد له ، فلا يظن ظانّ فيهم خلاف هذا ، فيخطى عليهم ، وابن بابويه في رسالته يذهب إلى ما اخترناه ، من أنّه لا ينزح من موت العقرب في البئر شي‌ء (٦).

والدلو المراعى في النزح : دلو العادة الغالبة دون الشاذة النادرة ، التي يستقى بها ، دون الدلاء الكبار أو الصغار الخارجة عن المعتادة والغالب الشامل ، لأنّه لم

__________________

(١) وهو الشيخ الطوسي في نهايته في مياه الآبار.

(٢) المصباح : كتاب الطهارة فصل في ذكر وجوب إزالة النجاسة من الثياب والبدن.

(٣) الاستبصار : ج ١ الباب ١٣ من كتاب الطهارة.

(٤) المبسوط : ج ١ ، كتاب الطهارة ، في سؤر غير الآدمي.

(٥) الجمل والعقود : في ذكر النجاسات ووجوب إزالتها.

(٦) رسالة ابن بابويه : في منزوحات البئر من النسخة التي بأيدينا.

٨٣

يقيّد في الخبر.

والنية لا تجب في نزح الماء وإن يقصد به التطهير ، لأنّه لا دليل عليها ، وليس من العبادات التي تراعى فيها النية ، بل ذلك جار مجرى إزالة أعيان النجاسات التي لا تراعى فيها النية ، فعلى هذا الوجه لو نزح البئر من يصح منه النية ، ومن لا يصح النية ، من المسلم ، والكافر ، والصبي ، والمجنون ، حكم بتطهير البئر.

والأسئار على ضربين : سؤر بني آدم ، وسؤر غير بني آدم ، فسؤر بنى آدم على ثلاثة أضرب : سؤر مؤمن ومن حكمه حكم المؤمن ، وسؤر مستضعف ومن حكمه حكم المستضعف ، وسؤر كافر ومن حكمه حكم الكافر ، فالأول والثاني طاهر مطهر ، والثالث نجس منجّس.

فالمؤمن في عرف الشرع : هو المصدق بالله ، وبرسله ، وبكلّ ما جاءت به.

والمستضعف : من لا يعرف اختلاف الناس في الآراء والمذاهب ، ولا يبغض أهل الحق ، بل لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء ، كما قال الله تعالى (١). وكلّ من أبغض المحق على اعتقاده ومذهبه ، فليس بمستضعف ، بل هو الذي ينصب العداوة لأهل الإيمان.

فأمّا الكافر : فمن خالف المؤمن والمستضعف ، وهو الذي يستحق العقاب الدائم ، والخلود في نار جهنم طول الأبد ، نعوذ بالله منها ، فليلحظ هذه التقسيمات.

وفرق آخر جاءت به الآثار عن الأئمة الأطهار بين هذه الأسئار ، وهو انّ سؤر المؤمن طاهر فيه الشفاء ، وسؤر المستضعف طاهر لا شفاء فيه ، وسؤر الكافر نجس لا شفاء فيه.

فأمّا سؤر غير بني آدم ، فينقسم إلى قسمين : سؤر الطيور ، وغير الطيور.

فأسئار الطيور كلّها طاهرة مطهرة ، سواء كانت مأكولة اللحم ، أو غير

__________________

(١) النساء : ١٤٣ ، « مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ».

٨٤

مأكولة اللحم ، جلّالة أو غير جلّالة ، تأكل الجيف أو لا تأكل الجيف.

فأمّا غير الطيور على ضربين : حيوان الحضر ، وحيوان البر.

وحيوان الحضر على ضربين : مأكول اللحم ، وغير مأكول اللحم. فمأكول اللحم سؤره طاهر مطهر. وغير مأكول اللحم فما أمكن التحرز منه سؤره نجس ، وما لا يمكن التحرز منه فسؤره طاهر ، فعلى هذا سؤر الهرة وإن شوهدت قد أكلت الفأرة ، ثم شربت في الإناء ، يكون بقية الماء الذي هو سؤرها طاهر ، سواء غابت عن العين ، أو لم تغب إلا أن يكون الدم مشاهدا في الماء ، أو على جسمها ، فينجس الماء لأجل الدم ، وكذلك لا بأس بأسئار الفار والحيّات وجميع حشرات الأرض.

فأمّا سؤر حيوان البر فجميعه طاهر ، سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم ، سبعا كان أو غيره ، من ذوات الأربع ، مسخا كان أو غير مسخ ، وحشرات الأرض إلا الكلب والخنزير فحسب ، وما عداها فلا بأس بسؤره.

والسؤر : عبارة عمّا شرب منه الحيوان أو باشره بجسمه ، من المياه وسائر المائعات.

وإذا كان مع الإنسان إناءان أو أكثر من ذلك ، فوقع في واحد منهما نجاسة ، ولم يعلمه بعينه ، لم يستعمل شيئا منهما بحال بغير خلاف ، ولا يجوز له التحري (١) والواجب عليه التيمم ، ولا يجب عليه إهراقهما ، وله إمساكهما ، امّا لخوف العطش ، فإنّه يجب عليه إمساكهما ، فإن لم يخف العطش ، فله إمساكهما ، فإنّه قادر على تطهير مائهما على بعض الوجوه.

فأمّا ما يوجد في بعض الكتب ، من قوله : وجب عليه إهراق جميعه والتيمم للصلاة ، فغير واضح ، لأنّه لا يجب عليه إهراق مائه النجس ، بل له إمساكه على ما قررناه.

فإن قال قائل : إذا لم يهرقه كيف يجوز له التيمم مع وجود الماء؟ فلهذا قال المصنّف يجب عليه إهراق الماء ، بحيث يجوز له التيمم.

__________________

(١) الظاهر أنّه التجري والا فلا معنى لعدم جواز التحري.

٨٥

قلنا : هذا اعتذار ، تركه أعود على من اعتذر له به ، وذلك انّ هذا ماء وجوده كعدمه ، لأنّ شاهد الحال وقرينة الحكم يدلّ على وجود الماء الطاهر ، فمع وجود القرينة لم يحتج إلى إهراق هذا الماء ، ولو عرى الكلام من شاهد الحال لما جاز التيمم ، لأنّ اسم الماء ينطلق على الطاهر والنجس.

وإذا أخبره عدل بنجاسة الماء ، لم يجز قبول قوله ، ولا يجوز له التيمم. فإن كانا عدلين يحكم بنجاسة الماء ، لأنّ وجوب قبول شهادة الشاهدين والحكم به معلوم في الشرع. وإن كان الطريق إلى صدقهما مظنونا ، ولا يلتفت إلى قول من يقول في كتابه انّ شهادة الشاهدين تطرح ويستعمل الماء ، فإنّ الأصل الطهارة ، ولا يرجع عن المعلوم بالمظنون ، وهو شهادة الشاهدين ، لأنّ أكثرها يثمر الظن ، وهذا ليس بشي‌ء يعتمد ، بل الشارع جعل الأصل ، لأنّ قبول شهادة الشاهدين ، وجوب العمل بهما في الشريعة ، فقد نقلنا من معلوم إلى معلوم ، ولو سلكنا هذا الطريق ، مضى معظم الشريعة ، فإنّه كان يقال ويحتج بأنّ الأصل أن لا صوم واجب في شهر رمضان ، فمن أوجبه فقد رجع عن الأصل الذي هو الإباحة أو لا تكليف ، فلأنّ الأصل وجوب صوم رمضان ، فمن ادّعى سقوطه عن المكلفين به يحتاج إلى دليل.

وإذا شهد شاهدان بأنّ النجاسة في أحد الإناءين ، وشهد آخران بأنّه وقع في الآخر ، فإن كانتا ـ أعني الشهادتين ـ غير متنافيتين ، ويمكن الجمع بينهما بأن يشهد هذان بولوغ الكلب في هذا الإناء في صدر النهار ، والآخران يشهدان بولوغ كلب آخر ، أو ولوغ ذلك الكلب في الإناء الآخر عند سقوط الشمس ، فقد نجسا معا بغير خلاف عند التأمّل للأقوال.

وإن كان لا يمكن الجمع بينهما ، وهو أن يشهد اثنان بولوغ كلب معيّن في أحد الإناءين عند زوال الشمس بلا تأخير ، وشهد آخران بولوغ ذلك الكلب بعينه في الإناء الآخر في ذلك الوقت بلا تأخير ، فقد قال الشيخ أبو جعفر

٨٦

الطوسي رحمه‌الله في مسائل الخلاف (١) : سقطت شهادتهما ، وأطلق القول ، ولم يفصّل هل الشهادة على وجه يمكن الجمع بينهما ، أو على وجه لا يمكن الجمع بينهما؟ فإن أراد على وجه يمكن الجمع بينهما ، فهذا لا يصح ، ولا يجوز القول به ، لأنّ وجوب قبول شهادة الشاهدين في الشرع معلوم. وإن أراد على وجه لا يمكن الجمع بينهما ، فانّ ذلك مذهب الشافعي في تقابل البيّنتين ، فإنّه يسقطهما ، ويرجع إلى الأصل ، وهو ما كان قبل الشهادتين فيحكم به.

فأمّا مذهب أصحابنا في هذه المسألة فمعروف ، إذا تقابل البينتان ، ولم يترجّح إحداهما على الأخرى بوجه من الوجوه ، وأشكل الأمر ، فإنّهم يرجعون إلى القرعة ، لأنّ أخبارهم ناطقة متظاهرة متواترة ، في أنّ كلّ أمر مشكل فيه القرعة (٢) ، وهم مجمعون على ذلك ، وهذا أمر مشكل ، ولم يرد فيه نص معيّن ، فهو داخل في عموم قولهم عليهم‌السلام.

والذي أعتمده ويقوى عندي : ان لا تؤثر هذه الشهادة في هذا الماء شيئا ، لأنّ الأصل فيه الطهارة والأصل أيضا الإباحة ، فمن حظر استعماله ونجسه ، يحتاج إلى دليل شرعي ، وليس للقرعة هاهنا طريق ، لأنّ القرعة تستعمل في مواضع مخصوصة ، ولا أحد من أصحابنا قال : إذا اشتبهت الأواني ، أو الثياب ، أو كان أحد الإناءين ، نجسا والآخر طاهرا ، وكذلك الثوبان اختلطا ولم يتحقق النجس منهما من الطاهر ، يقرع بينهما ، بل أطبقوا على ترك استعمال الإناءين ، ومسألتنا لم نتحقق نجاسة واحد من الإناءين ، وليس الرجوع إلى شهادة العدلين بأولى من شهادة العدلين الآخرين ، وإنّما حصل شك في نجاسة أحدهما ، ولا يرجع بالشك عن اليقين الذي هو الطهارة والإباحة.

__________________

(١) الخلاف : ج ١ ، مسألة ١٦٢ ، لا يخفى ان ذيل كلامه يدفع ما أورده عليه.

(٢) الوسائل : كتاب القضاء ، باب ١٣ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، ح ١١ و ١٨.

٨٧

والأولى عندي بعد هذا جميعه ، قبول شهادة الشهود الأربعة ، لأنّ ظاهر الحكم ، وموجب الشرع أنّ شهادتهم صحيحة مقبولة غير مردودة ، ولأنّ شهادة الإثبات لها مزيّة على شهادة النفي ، لأنّها قد شهدت بأمر زائد قد يخفى على من شهد بالنفي ، لأنّ النفي هو الأصل ، وشهادة الإثبات ناقلة عنه ، وزيادة عليه ، فكلّ من الشاهدين قد شهد بأمر زائد قد يخفى على الشاهدين الآخرين. وهذا كرجل ادّعى على رجل عشرين دينارا ، وأقام بها شاهدين ، وأقام المشهود عليه بقضاء العشرين دينارا شاهدين ، قبلنا شهادة الشاهدين اللذين شهدا بالقضاء ، لأنّهما أثبتا بشهادتهما أمرا قد يخفى على الشاهدين الأولين ، ففي شهادة الآخرين مزية وزيادة حكم ، ولهذا أمثلة كثيرة في الشريعة ، وبهذا القول افتي ، وعليه أعمل.

والماء النجس لا يجوز استعماله في الوضوء والغسل معا ، ولا في غسل الثوب وإزالة النجاسة ، ولا في الشرب مع الاختيار ، فمن استعمله في الوضوء ، أو الغسل ، أو غسل الثوب ، ثم صلّى بذلك التطهير ، أو في تلك الثياب ، وجب عليه اعادة الوضوء ، أو الغسل ، أو غسل الثوب بماء طاهر ، واعادة الصلاة ، سواء كان عالما في حال استعماله لها ، أو لم يكن عالما ، إذا كان قد سبقه العلم بحصول النجاسة فيها ، فإن لم يتيقن حصول النجاسة فيها قبل استعماله لها ، لم يجب عليه إعادة الصلاة ، ولا اعادة التطهر ، سواء كان الوقت باقيا أو خارجا ، على الصحيح من المذهب والأقوال ، واستمرار النظر والاعتبار ، بل يجب عليه غسل الثوب فحسب ، وغسل ما أصابه من بدنه من ذلك الماء فحسب ، لأنّ الإعادة تحتاج إلى دليل شرعي ، وكذلك القضاء فرض ثان ، يحتاج في ثبوته إلى دليل ثان ، وليس في الشرع ما يدلّ على ذلك ، فلا يجوز إثبات ما لا دلالة عليه ، وأيضا فقد توضأ وضوء شرعيا مأمورا به ، وصلّى صلاة مأمورا بها ، وأيضا فلا يخلو إمّا أن رفع بطهارته الحدث ، أو لم يرفعه ، فإن كان رفعه لا يجب عليه إعادة الصلاة ، ولا الطهور ، وإن كان لم يرفع الحدث. فيجب عليه إعادة الصلاة ،

٨٨

سواء تقضّى الوقت ، أو كان باقيا ، لأنّ من صلّى بلا طهور يجب عليه إعادة الصلاة ، على كلّ حال ، بغير خلاف ، متعمّدا كان أو ناسيا ، تقضّى الوقت ، أو لم يتقضّ ، بلا خلاف.

وقال شيخنا المفيد في مقنعته (١) : يجب عليه إعادة الصلاة ، وهو الذي يقوى في نفسي ، وافتي به ، وأعمل عليه ، لأنّه يتيقن معه براءة الذمة ممّا وجب عليها ، والأول مذهب شيخنا أبي جعفر في جميع كتبه ، ومعه بذلك أخبار اعتمد عليها.

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي في نهايته : اللهم إلا أن يكون الوقت باقيا فإنّه يجب عليه غسل الثوب ، واعادة الوضوء ، واعادة الصلاة ، فإن كان قد مضى الوقت ، لم يجب عليه إعادة الصلاة (٢) ، إلا أنّ أبا جعفر الطوسي رضي‌الله‌عنه رجع عن هذا القول ، وعن هذه الرواية ، في استبصاره (٣) ونقده للأخبار ، وتوسطه بينها ، والجمع بين الصحيح والفاسد ، فإن قلّده مقلّد فقد رجع الشيخ عنها.

وقال رحمه‌الله في نهايته : فإن استعمل شي‌ء من هذه المياه النجسة في عجين يعجن ويخبز ، لم يكن بأس بأكل ذلك الخبز ، لأنّ النار قد طهرته (٤). والصحيح عندي خلاف ذلك ، لأنّ النار لا تطهر الخبز ، إلا إذا أحالته وصيّرته رمادا ، لأنّ ما تطهره النار معلوم مضبوط ، وليس في جملة ذلك الخبز ، وقد رجع عن هذا القول في الجزء الثاني من نهايته ، في باب الأطعمة المحظورة والمباحة ، فإنّه قال : وإذا نجس الماء بحصول شي‌ء من النجاسات فيه ، ثم عجن به ، وخبز منه ، لم يجز أكل ذلك الخبز وقد رويت رخصة في جواز أكله ، وذكر انّ النار قد طهرته ، والأحوط ما قدّمناه (٥) ، وهذا يدل على أنّه ما جعله في باب المياه على جهة الفتيا ، بل أورده على جهة طريق الرواية والإيراد ، دون العمل والاعتقاد.

وماء الحمام سبيله سبيل الماء الجاري ، إذا كانت له مادة من المجرى ، فإن

__________________

(١) المقنعة : باب تطهير المياه من النجاسات ص ٦٦.

(٢) النهاية : باب المياه وأحكامها.

(٣) الاستبصار : الباب ١٠٩ من أبواب تطهير الثياب والبدن من النجاسات.

(٤) النهاية : باب المياه وأحكامها.

(٥) النهاية : باب الأطعمة المحظورة والمباحة.

٨٩

لم يكن له مادة ، فإن كان كرا فصاعدا فهو طاهر مطهر ، لا ينجسه حصول شي‌ء من النجاسات ، إلا ما تغيّر أحد أوصافه ، على ما قدّمنا القول فيه ، وشرحناه ، وإن كان أقل من كر ، فهو على أصل الطهارة ، ما لم يعلم فيه نجاسة ، فإن علمت فيه نجاسة ، وجرت المادة التي هي البزال له فقد طهر ، وجاز استعماله ، وإن لم يبلغ الكر مع اتصال المجرى به ، فإن انقطع المجرى اعتبرنا كونه كرا ، فإن كان أنقص من الكر ، فهو أيضا على أصل الطهارة ، مثل الاعتبار الأول ، إلا أن يقع فيه نجاسة ، ثم لا يزال هذا الاعتبار ثابتا فيه.

والمادة المذكورة لا تعدو ثلاثة أقسام : إمّا يعلم طهارتها يقينا ، أو يعلم نجاستها يقينا أو لا يعلم الطهارة ولا النجاسة. فإن علمت الطهارة ، فالحكم ما تقدّم ، وكذلك إذا لم يعلم طهارة ولا نجاسة ، فهو على أصل الطهارة في الأشياء كلّها ، والحكم ما تقدّم. فأمّا إذا علمت أنّها نجسة يقينا ، وتعيينا ، فلا يجوز اعتبار ما تقدّم ، لأنّه لا خلاف انّ الماء النجس لا يطهر بجريانه.

فإن قيل : الكلام في المادة مطلق ، لأنّ ألفاظ الأخبار عامة ، بأنّ ماء الحمام سبيله سبيل الماء الجاري ، إذا كانت له مادة من المجرى ، فمن قيّدها وخصّها يحتاج إلى دليل.

قلنا : الإطلاق والعموم قد يخصّ بالأدلة ، بغير خلاف بين من ضبط هذا الفن وأصول الفقه ، ومن المعلوم الذي لا خلاف فيه ، أنّ الماء النجس لا يطهر بجريانه ، ولا يطهر غيره ، إذا لم يبلغ كرا على ما مضى شرحنا له ، وفحوى الخطاب من الأخبار ينبه على ما قلناه ، لأنّ المعهود في مادة المجرى أن لا يعلم بطهارة ولا نجاسة ، فهي المرادة بالخطاب ، لأنّ الإنسان داخل الحمام لا يعلم ولا يبصر ما وراء الحائط ، فيحكم بأنّ المادة عند هذه الحال على أصل الطهارة وشاهد الحال أيضا يحكم بما قلناه ، فهذا هو المعنى بالمادة ، دون المادة المعتبر نجاستها.

وغسالة الحمام ، وهو المستنقع الذي يسمى الجئة لا يجوز استعمالها على

٩٠

حال ، وهذا إجماع ، وقد وردت به عن الأئمة عليهم‌السلام آثار (١) معتمدة قد اجمع عليها ، لا أحد خالف فيها ، فحصل الإجماع والاتفاق على متضمنها ، ودليل الاحتياط يقتضي ذلك أيضا.

ومتى ولغ الكلب في الإناء وجب غسله ثلاث مرات ، أولاهن بالتراب ، وبعض أصحابنا (٢) في كتاب له يجعل التراب مع الوسطى ، والأول أظهر في المذهب ، وكيفية ذلك أن يجعل الماء فيه ، ويترك التراب ، أو يترك فيه التراب ، ويصب الماء عليه بمجموع الأمرين ، لا بانفراد أحدهما عن الآخر ، لأنّه إذا غسل بمجرد التراب ، لا يسمّى غسلا ، لأنّ حقيقة الغسل جريان المائع على الجسم المغسول ، والتراب لا يجرى وحده ، وإن غسلته بالماء وحده ، فما غسلته بالماء والتراب ، لأنّ الباء هاهنا للإلصاق بغير خلاف ، فيحتاج ان يلصق أحد الجسمين بالآخر.

ولا يراعى التراب إلا في ولوغ الكلب خاصة ، دون سائر الحيوان ، ودون كلّ شي‌ء من أعضاء الكلب ، لأنّ بعض أصحابنا ذكر في كتاب له أنّ مباشرة الكلب الإناء بسائر أعضائه ، يجري مجرى الولوغ في أحكامه (٣) ، والأول الأظهر ، لأنّه مجمع عليه.

وبعض أصحابنا ألحق في كتاب له أنّ حكم الخنزير في وجوب غسل الإناء من ولوغه ، ثلاث مرات ، إحداهن بالتراب ، حكم الكلب سواء ، وتمسك بتمسكين اثنين : أحدهما : انّ الخنزير يسمّى كلبا في اللغة ، فينبغي أن يتناوله الأخبار الواردة في ولوغ الكلب ، والثاني : إنّا قد بينا أنّ سائر النجاسات يغسل منها الإناء ثلاث مرات ، والخنزير نجس بلا خلاف (٤). وهذا استدلال غير واضح ، لأنّ أهل اللغة العربية لا يسمّون الخنزير كلبا ، بغير خلاف بينهم ،

__________________

(١) الوسائل : الباب ١١ من أبواب الماء المضاف.

(٢) وهو الشيخ المفيد رحمه‌الله في المقنعة في باب المياه وأحكامها ص ٦٥.

(٣) وهو الشيخ المفيد رحمه‌الله في المقنعة في باب المياه وأحكامها ص ٦٥.

(٤) وهو الشيخ الطوسي رحمه‌الله في الخلاف في مسألة ١٤٣ من كتاب الطهارة.

٩١

فالدعوى عليهم دعوى عريّة من برهان ، والعرف خال منه ، لأنّ أحدا لا يفهم من قوله : عندي كلب ، أي عندي خنزير ، بل الذي يتبادر إلى الفهم هذه الدابة المخصوصة ، ولو أنّ حالفا أو ناذرا حلف أو نذر إن رأى خنزيرا فلله عليه أن يتصدق بقدر مخصوص من ماله على الفقراء ، ثم رأى كلبا أو نذر أنّه إن رأى كلبا ، فرأى خنزيرا ، لم يتعلّق به وفاء النذر ، بغير خلاف بين المسلمين ، لا لغة ولا عرفا ، والثاني من قوله : إنّا قد بيّنا أنّ سائر النجاسات يغسل منها الإناء ثلاث مرات ، والخنزير نجس بلا خلاف ، وهذا أيضا استدلال يضحك الثكلى ، إن لم يكن الخنزير عند هذا القائل يسمّى كلبا ، فكيف يراعى التراب في إحدى الغسلات ، هذا مع التسليم له بأنّ الإناء يغسل من سائر النجاسات ثلاث مرات ، وليس كلّ إناء يجب غسله ثلاث مرات ، يراعى في إحدى الغسلات التراب ، والإجماع حاصل من الفرقة ، إنّ التراب لا يراعى إلا في ولوغ الكلب خاصة ، دون سائر النجاسات ، بغير خلاف بين فقهاء أهل البيت عليهم‌السلام ، ودون التسليم له ـ الغسلات الثلاث فيما عدا آنية الولوغ وآنية الخمر والمسكر ـ خرط القتاد لأنّ الصحيح من الأقوال والمذهب ، والذي عليه الاتفاق والإجماع ، مرة واحدة مع إزالة عين النجاسة ، وقد طهر ، ولا يراعى العدد في غسل الأواني ، إلا في آنية الولوغ والخمر والمسكر فحسب.

وأيضا فهذا القائل وهو الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله يذهب في مسائل خلافه ، وهو الكتاب الذي وضعه لمناظرة الخصم إلى أنّ العدد في الغسلات لا يراعى إلا في الولوغ خاصة ، ويقول : دليلنا انّ العدد يحتاج إلى دليل ، وحمله على الولوغ قياس لا نقول به (١).

فمن يقول هذا في استدلاله كيف يقول هذا في استدلاله على ولوغ الخنزير ،

__________________

(١) الخلاف : كتاب الطهارة ، مسألة ١٤٢.

٩٢

مع تسليمه انّه لا يسمّى كلبا ، بذلك الدليل؟ إنّ هذا لعجيب ، وقد ذهب في نهايته (١) ، وجمله وعقوده (٢) إلى انّه لا يعتبر غسل الإناء بالتراب إلا في ولوغ الكلب خاصة.

ومتى مات في الإناء حيوان له نفس سائلة ، نجس الماء إذا كان أقل من كر ، ووجب غسل الإناء مرة واحدة ، سواء كان الميّت فأرة أو غيرها ، وقد روي أنّه يغسل لموت الفارة فيه سبع مرات (٣) ، والصحيح مرة واحدة.

وكلّ ما وقع في الماء فمات فيه ، ممّا ليس له نفس سائلة ، فلا بأس باستعمال ذلك الماء ، وقد استثنى بعض أصحابنا الوزغ والعقرب خاصّة ، ذكر ذلك الشيخ أبو جعفر في نهايته (٤) ، وذلك أورده على طريق الرواية دون العمل على ما ذكرناه عنه واعتذرنا له.

وكذلك ما أورده في هذا الكتاب المشار إليه ، إنّ الوزغ إذا وقع في الماء ، ثم خرج منه ، لم يجز استعماله على حال ، والصحيح خلاف ذلك ، لأنّا قد دلّلنا أنّ موت ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء ، ولا يفسده ، وهذا مذهب أهل البيت ، والأوّل من القول مذهب المخالف ، فإذا كان بموته فيه لا ينجسه فكيف ينجسه بوقوعه فيه ، وقد دلّلنا على أنّ أسئار حشرات الأرض طاهرة بغير خلاف بيننا.

ومتى حصل الإنسان عند غدير أو مصنع ، ولم يكن معه ما يغترف به الماء لطهارته الصغرى ، فليدخل يده فيه ، ويأخذ منه ما يحتاج إليه لوضوئه ، فإن أراد الغسل للجنابة ، فكذلك ، هذا مع خلو يده من نجاسة عينية ، ويكون الماء دون الكر ، فان كان الماء دون الكر ، وعلى يده نجاسة أفسده.

وقال بعض أصحابنا (٥) في كتاب له : وإن أراد الغسل للجنابة ، وخاف إن نزل إليه فساد الماء فليرش عن يمينه ويساره وأمامه وخلفه ، ثمّ ليأخذ كفا كفا

__________________

(١) النهاية : باب المياه وأحكامها.

(٢) الجمل والعقود : في ذكر النجاسات ووجوب إزالتها.

(٣) الوسائل : الباب ٥٣ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٤) النهاية : باب المياه وأحكامها.

(٥) النهاية : باب المياه وأحكامها.

٩٣

من الماء ، فيغتسل به ، ففي الطهارة الصغرى التي هي الوضوء ، وأفق على أخذه الماء (١) من غير إفساد له ، وإن رجع من استعماله إليه ، وفي الكبرى لم يوافق ، لأنّ عند هذا القائل أنّ الماء المستعمل في الطهارة الصغرى طاهر مطهر ، فأمّا المستعمل في الطهارة الكبرى فلا يرفع به الحدث ، فلأجل هذا قال : فليأخذ كفا كفا من الماء يستعمل به ، يريد قبل أن ينزل من استعماله إلى باقي الماء ، فيصير ماء مستعملا في الطهارة الكبرى ، فلا يرتفع الحدث عنده به.

وقوله : فليرش ، يريد به نداوة جلده وبلله من قبل نيّته واغتساله ، بحيث يكفيه بعد بلل جسده ، اليسير من الماء ، فيجري على جسده من قبل أن ينزل إلى باقي الماء لئلا يصير الماء الباقي قبل فراغه ، مستعملا في الكبرى ، فلا يرفع الحدث عنده به.

وليس قول من يقول المراد بالرش عن يمينه ويساره وأمامه وخلفه ، على الأرض ، دون ميامن جسده ومياسره وخلفه وأمامه ، بشي‌ء يلتفت إليه ، لأنّه لا معنى له يرجع إليه لأنّه إذا تندّت الأرض من هذه الجهات الأربع ، كان أسرع إلى نزول ما يغتسل به بعد ذلك إلى الماء الباقي قبل فراغ المغتسل من اغتساله فيصير الباقي ماء مستعملا ، فلا يرتفع الحدث به عنده.

وهذا جميعه على رأي شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله في أنّ الماء المستعمل في الأغسال الواجبة لا يرفع الحدث ، وقد دلّلنا على خلاف ذلك ، وبيّنا الصحيح منه قبل هذا المكان في هذا الكتاب ، فعلى المذهب الصحيح من أقوال أصحابنا لا حاجة بنا إلى الرش المذكور.

ويستحب أن يكون بين البئر التي يستقى منها وبين البالوعة سبع أذرع ، إذا كانت البئر تحت البالوعة ، وكانت الأرض سهلة ، وخمس أذرع ، إذا كانت فوقها ، والأرض أيضا سهلة ، فإن كانت الأرض صلبة ، فليكن بينها وبين البئر ،

__________________

(١) وهو الشيخ الطوسي قدس‌سره في النهاية في باب المياه وأحكامها.

٩٤

خمس أذرع من جميع جوانبها ، هذا جميعه على الاستحباب ، وإلا فلو كان بين البئر وبين البالوعة شبر أو أقل ، لم يكن بذلك بأس ، ما لم يتغير أحد أوصاف ماء البئر بالنجاسة.

والماء المسخن على ثلاثة أضرب : ماء سخّنته النار ، وماء سخّن بالشمس ، وماء مسخّن من ذاته ، وهو ماء العيون الحارة الحامية ، فالذي سخّن بالنار لا يكره استعماله على حال ، وما أسخنته الشمس بجعل جاعل له في إناء ، وتعمّده لذلك ، فإنّه مكروه في الطهارتين معا فحسب ، وما كان مسخنا من ذاته ، وهو ماء العيون الحامية ، فإنه يكره استعماله في التداوي فحسب.

باب أحكام الاستنجاء والاستطابة ، وكيفية الوضوء وأحكامه

ينبغي لمن أراد الغائط أن يتجنّب شطوط الأنهار ، ومساقط الثمار ، والطرق النافذة ، وفي النزال ، وجحرة الحيوان ، والمياه الجارية والراكدة ، ولا يبولن فيهما ، ولا في أفنية الدور ، ولا في مواضع اللعن ، وفي الجملة كلّ موضع يتأذى به الناس ، كلّ ذلك على طريق الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب فمن فعل ذلك لا يكون فاعلا لقبيح ، ولا مخلا بواجب.

فإذا دخل المبرز ، فالمستحب أن يقول : أعوذ بالله من الرجس النجس ، ـ بكسر الراء في الرّجس ، وكسر النون في النجس ، لأنّ هذه اللفظة إذا استعملت مع الرّجس ، قيل رجس نجس ، بخفض الراء والنون ، وإذا استعملت مفردا ، قيل نجس ، بفتح النون والجيم معا ـ الخبيث المخبث الشيطان الرّجيم.

فإذا أراد القعود لحاجته ، فالواجب عليه أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ببول ولا غائط ، فهذان تركان واجبان في الصحاري والبنيان على الأظهر من المذهب ، وان وجد في بعض الكتب (١) لفظ الكراهية فليس بشي‌ء يعتمد ، إلا

__________________

(١) وهو الشيخ المفيد رحمه‌الله في المقنعة باب آداب الأحداث الموجبة للطهارة ص ٤١.

٩٥

أن يكون الموضع مبنيا على وجه لا يتمكن فيه من الانحراف عن القبلة.

ويستحب له أن لا يستقبل قرصي الشمس والقمر ، ولا يستقبل الريح بالبول خاصّة لئلا يردّه عليه ، ولا يطمح ببوله في الهواء ، ولا يبولنّ في الأرض الصلبة.

والاستنجاء فرض واجب ، ويجوز استعمال الأحجار فيه ، أو ما يقوم مقامها في إزالة العين ، من سائر الأجسام ما لم يكن مطعوما ، أو عظما ، أو روثا ، أو جسما صقيلا ، أو جسما له حرمة ، فإن استعمل هذه الأجسام المنهي عن استعمالها ، فلا يجزيه في استنجائه فإن كان قد توضأ وصلّى ، عامدا فعل ذلك أو ناسيا ، أو لم يفعل الاستنجاء بشي‌ء من الأجسام بالجملة عامدا أو ناسيا ، فالواجب عليه الاستنجاء بما يجب الاستنجاء به ، واعادة الصلاة ، دون الطهارة ، إذا لم يكن أحدث ، أو فعل ما ينقضها ويبطلها.

ويستعمل الأحجار أو ما يقوم مقام الأحجار ، سوى ما ذكرناه فيما لم يتعدّ المخرج وينتشر ، فإن انتشر وتعدّى المخرج ، لم يجزه إلا الماء ، مع وجوده ، والجمع بين الحجارة والماء أفضل ، والاقتصار على الأحجار يجزي.

فأمّا البول ، فلا بد من غسله بالماء ، والاستنجاء باليد اليسرى إلا إذا كان بها عذر.

والمسنون في عدد أحجار الاستنجاء ثلاثة ، وان أنقاه حجر واحد ، لم يقتصر عليه ، بل يجب عليه أن يكمل العدد ، على الصحيح من الأقوال ، وإن كان شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان يذهب إلى الاقتصار على حجر واحد ، إذا نقي به الموضع ، وهو مذهب المخالف ، والأول أظهر ، ودليل الاحتياط يعضده ، ويقتضيه ، لأنّ فيه اليقين ببراءة الذمة ، والإجماع بإزالة العين ، والحكم المتعلق بذلك ، فإن لم ينق الموضع بالأحجار الثلاثة ، فالواجب استعمال ما ينقى به الموضع ، وتكون الأحجار أبكارا غير مستعملة في إزالة النجاسة أو عليه نجاسة.

والاستبراء في الطهارة الصغرى ، عند بعض أصحابنا واجب ، وكيفيته أن يمسح بإصبعه من عند مخرج النجو إلى أصل القضيب ثلاث مرات ، ثمّ يمرّ

٩٦

إصبعه على القضيب ، ويخرطه ثلاث مرات وباقي أصحابنا يذهبون إلى استحبابه ، إلا أنّه إن لم يفعل ذلك ، ورأى بعد وضوئه بللا ، فالواجب عليه الإعادة بلا خلاف بينهم ، وإن كان قد فعل الاستبراء ، ثم رأى بللا بعد ذلك فلا خلاف بينهم انّه لا يجب عليه إعادة الطهارة ، وإنّما ذلك من الحبائل ، وهي عروق الظهر.

ولا استنجاء من ريح ، وإن كان فيها الوضوء.

فإذا استنجى بالماء ، فليغسل موضع النجو ، إلى أن ينقى ما هناك أثرا وعينا ، دون الرائحة.

وليس لما يستعمل من الماء حدّ محدود ، إلا سكون النفس فحسب.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّ حدّه خشونة الموضع ، وأن يصرّ ، وهذا ليس بشي‌ء يعتمد ، لأنّه يختلف باختلاف المياه والزمان ، فماء المطر المستنقع في الغدران لا يخشن الموضع ، ولو استعمل منه مائة رطل ، والماء البارد في الزمان البارد ، يخشن الموضع بأقل قليل ، والمذهب : الأوّل.

وليغسل رأس إحليله ، والإحليل هو الثقب ، دون سائر العضو بالماء ، ولا يجوز الاقتصار على غيره مع وجوده ، على ما تقدّم ذكره ، وأقل ما يجزي من الماء لغسله ما يكون جاريا ، ويسمّى غسلا.

وقد روي أنّ أقل ذلك مثلا ما عليه من البول ، وإن زاد على ذلك كان أفضل (١).

ويكره الكلام وهو على حال الغائط إلا أن تدعوه إلى ذلك الكلام ضرورة.

ويستحب له أن يغسل يده قبل أن يدخلها الإناء ، من حدث الغائط مرتين ، ومن البول مرّة ، وكذلك من النوم ، ومن الجنابة ثلاث مرّات ، ولا بأس بما ينتضح من ماء الاستنجاء على الثوب والبدن ، إذا كانت الأرض طاهرة ، ولم

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٦ من أحكام الخلوة ، ح ٥.

٩٧

يصعد متلوثا ، وهذا إجماع من أصحابنا سواء كان من الكف الأول ، أو الكف الأخير.

فإما كيفية الوضوء :

فالنية واجبة في كلّ طهارة ، سواء كانت وضوء أو غسلا أو تيمما ، من جنابة كانت الطهارة ، أو من غيرها ، فإن كانت الطهارة واجبة بأن تكون وصلة إلى استباحة واجب تعيّن ، نوى وجوبه على الجملة ، أو الوجه الذي له وجب ، وكذا إن كان ندبا ، ليتميز الواجب من الندب ، ولوقوعه على الوجه الذي كلف إيقاعه ، ويجوز أن يؤدي بالطهارة المندوبة الفرض من الصلاة ، بدليل الإجماع من أصحابنا.

والفرض الثاني الذي تقف صحّة الطهارة عليه ، مقارنة النية لها ، وذكر بعض أصحابنا في كتاب له ، هي مقارنة آخر جزء من النيّة لأول جزء منها ، حتى يصحّ تأثيرها بتقدّم جملتها على جملة العبادة ، لأنّ مقارنتها على غير هذا الوجه بأن يكون زمان فعل الإرادة هو زمان فعل العبادة أو بعضها متعذر ، لا يصح تكليفه ، أو فيه حرج يبطله ما علمناه من نفي الحرج في الدين ، ولأنّ ذلك يخرج ما وقع من أجزاء العبادة. وتقدّم وجوده على وجود جملة النيّة عن كونه عبادة من حيث وقع عاريا عن جملة النية ، لأنّ ذلك هو المؤثر في كون الفعل عبادة ، لا بعضه.

والفرض الثالث استمرار حكم هذه النيّة إلى حين الفراغ من العبادة ، وذلك بأن يكون ذاكرا لها غير فاعل لنية تخالفها.

ويستحب أن ينوي المتطهر عند غسل يديه في الطهارة الكبرى ، وإن كانت صغرى عند المضمضة والاستنشاق ، إذ كانت المضمضة والاستنشاق أول ما يفعل من الوضوء ، فينبغي مقارنة النيّة لابتدائهما ، لأنّهما وإن كانا مسنونين ، فهما من جملة العبادة ، ومما يستحق بهما الثواب ، ولا يكونان كذلك إلا بالنية على ما قال تعالى : ( وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى. إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ

٩٨

الْأَعْلى ) (١).

وفرض الوضوء غسل الوجه ، وحدّه من قصاص شعر رأسه إلى محاذ الذقن ، بالذال المعجمة وفتح القاف طولا ، وما دارت عليه الإبهام والوسطى عرضا ، من مستوي الخلقة في الأغلب والأعم ، دون النادر الشاذ.

وغسل اليدين من المرافق إلى أطراف الأصابع ، وعند بعض أصحابنا انّ البدأة في الغسل ، من المرافق واجب ، لا يجوز خلافه ، فمتى خالفه ، وجبت عليه الإعادة ، والصحيح من المذهب انّ خلاف ذلك مكروه شديد الكراهة ، حتى جاء بلفظ الحظر ، لأنّ الحكم إذا كان عندهم شديد الكراهة يجي‌ء بلفظ الحظر ، وكذلك إذا كان الحكم شديد الاستحباب ، جاء بلفظ الوجوب ، كما جاء عنهم عليهم‌السلام انّ غسل يوم الجمعة واجب (٢) ، لمّا كان شديد الاستحباب ، لأنّه لا دليل على الحظر ، بل القرآن يعضد مذهب من قال ذلك على الاستحباب ، وخلافه مكروه ، لأنّه تعالى أمرنا بأن نكون غاسلين ، ومن غسل يده من الأصابع إلى المرافق (٣) ، فقد تناوله اسم غاسل بغير خلاف.

ومسح مقدّم الرأس ببلة يده ، ومسح ظاهر القدمين من الأصابع إلى الكعبين ، وتجب البدأة بالأصابع والانتهاء إلى الكعبين ، لأنّ القرآن (٤) يشهد بذلك بالبلّة أيضا.

وقد ذهب بعض أصحابنا في كتاب له ، إلى جواز مسحهما من الكعبين إلى رءوس الأصابع ، وذلك منه على جهة لفظ الخبر وإيراده ، لا على سبيل الفتوى والعمل ، لأنّ هذا القائل هو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله ، أورد ذلك في نهايته إيرادا لا اعتقادا ، ومذهبه وفتواه ما حققه في جمله وعقوده (٥) ، فإنّه ذهب

__________________

(١) الليل : ١٩ ـ ٢٠

(٢) الوسائل : الباب ٦ من أبواب الأغسال المسنونة

(٣) المائدة : ٦

(٤) المائدة : ٦

(٥) الجمل والعقود : في فصل ما يقارن الوضوء.

٩٩

إلى ما اخترناه في الجمل والعقود ، ولأنّ الإجماع حاصل على براءة ذمة المتطهّر إذا فعل ما قلناه ، وليس كذلك خلافه ، فالاحتياط يوجب عليه ذلك.

والكعبان ، هما العظمان اللذان في ظهر القدمين ، عند معقد الشراك ، والواجب في العضوين المغسولين ، الدفعة الواحدة ، والمرتان سنّة وفضيلة بإجماع المسلمين ، ولا يلتفت الى خلاف من خالف من أصحابنا ، بأنّه لا يجوز المرّة الثانية ، لأنّه إذا تعيّن المخالف ، وعرف اسمه ونسبه ، فلا يعتد بخلافه. والشيخ أبو جعفر محمّد بن بابويه يخالف في ذلك ، وما زاد على المرّتين بدعة ، والعضوان الممسوحان لا تكرار في مسحهما ، فمن كرّر في ذلك كان مبدعا ، ولا يبطل وضوءه بغير خلاف.

ولو استقبل في مسح رأسه الشعر لأجزأه وكذلك لو غسل الوجه منكوسا يبدأ من المحادر إلى القصاص لأجزأه على الصحيح من المذهبين ، وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مبسوطة (١) : لا يجزيه ، والأول أظهر ، لأنّه يتناوله اسم غاسل ، وإذا تناوله فقد امتثل الأمر وأتى بالمأمور به بلا خلاف.

وأقل ما يجزي من الماء في الأجزاء المغسولة ما يكون منه غاسلا ، وإن كان مثل الدهن ، بفتح الدال ، بعد أن يكون جاريا على العضو ، فإن لم يكن الماء جاريا فلا يجزيه ، لأنّه يكون ماسحا ولا يكون غاسلا ، والأمر بالغسل غير الأمر بالمسح ، وبعض أصحابنا يذهب في كتاب له إلى إطلاق الدهن ، من غير تقييد للجريان ، وتقييده في كتاب آخر له ، والصحيح تقييده بالجريان ، لأنّه موافق للبيان الذي أنزل به القرآن (٢).

وقال السيد المرتضى رحمه‌الله في المسائل الناصريات (٣) : والذي يجب أن يعول عليه ، انّ الله تعالى أمر في الجنابة بالاغتسال (٤) ، وفي الطهارة الصغرى

__________________

(١) المبسوط : باب كيفية الوضوء

(٢) مضت الآية وهي في سورة المائدة الآية ٦.

(٣) المسائل الناصريات : كتاب الطهارة. المسألة ٤٢

(٤) النساء : ٤٣.

١٠٠