كتاب السرائر - ج ١

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٧٦

مستعملا في أحد الأعضاء دون جميعها لزمكم أن يكون مستعملا في بعض العضو.

قال محمد بن إدريس رحمه‌الله : هذا آخر كلام المرتضى رحمه‌الله ، ألا ترى إلى قوله : لأنّ حكم الحدث لا يزول ، والطهارة لا تتم إلا بغسل كلّها ، لأنّها تجري مجرى العضو الواحد ، فإذا كانت تجري مجرى العضو الواحد ، فغسل بعضها غير معتدّ به ، وبقية بعضها مثل بقيتها جميعها ، وحكمه حكمها قبل الشروع فيها ، فليلحظ ما قد حققه رضي‌الله‌عنه.

وقد يوجد في بعض الكتب ، انّ للجنب أن يغسل رأسه بالغداة ، ثم يغسل سائر جسده بالعشي ، فيعتقد من يقف على ذلك أنّ المراد بالعشي دخول الليل والعشاء الأول ، والمراد بالعشي في هذا الموضع خلاف ما اعتقده من يعتقده ، بل المراد بالعشي هنا آخر النّهار. قال حميد بن ثور الهلالي :

فلا الظل من برد الضحى نستطيعه

ولا الفي‌ء من برد العشي نذوق

وإن ارتمس الجنب ارتماسة واحدة أجزأه ، ويسقط الترتيب وقال بعض أصحابنا : يترتب حكما ، وليس بواضح ، بل الأظهر سقوط الترتيب ، للإجماع الحاصل على ذلك ، وأحكام الشريعة تثبتها بحسب الأدلّة الشرعية.

والمستحب أن يفيض على رأسه ثلاث أكف من الماء ، ويغسل رأسه بها ، وما يليه من عنقه ، ويخلل شعر رأسه ، وشعر لحيته ، ويميزه ، حتى يصل الماء إلى أصوله ، ثم يأخذ ثلاث أكف لجانبه الأيمن ، فيغسل بها من عنقه إلى تحت قدمه الأيمن ، ثم يأخذ ثلاث أكف لجانبه الأيسر ، فيفعل فيه كما فعل بالجانب الأيمن ، وكف واحد هو الواجب إذا استوعب العضو المغسول به ، فإن لم يستوعبه ، فالواجب عليه الزيادة على ذلك حتى يغسله جميعه ويستوعبه غسلا ، ولو بلغت الزيادة مائة كف مثلا ، بل المستحب بعد استيعاب العضو المغسول ، كفان آخران ، ويمر يديه على جميع جسده ، ويجتهد في وصول الماء إلى جميع بشرته ، والبشرة هي ظاهر الجلد.

١٢١

وإمرار اليد عندنا غير واجب ، بل مستحب ، وكذلك في الطهارة الصغرى ، إمرار اليد على الوجه والذراعين غير واجب ، بل الواجب الغسل فحسب ، بما يتأثر (١) به الغسل ، سواء كان ذلك باليد ، أو بتغويص الوجه في الماء ، وكذلك الذراع واليد ، أو بانسكاب بزال (٢) على ذلك ، حتى يستوعبه غسلا.

ومن وجد بعد الغسل بللا ، وكان قد بال ، أو اجتهد إذا لم يتأت له البول ، فلا غسل عليه ، ولا وضوء ، إلا أن يكون بال ، ولم يمسح تحت الأنثيين ، ولا نتر القضيب ، فإنّه يجب عليه الوضوء ، دون اعادة الغسل ، لبقية البول في قضيبه ، وهذا حكم جميع من بال من الرجال وتوضأ قبل أن يستبرئ ثم وجد بللا ، سواء كان جنبا أو غيره ، وهذه الأحكام ، انّما تلزم الجنب إذا كانت جنابته عن إنزال ، فأمّا إن كانت جنابته عن غيبوبة الحشفة ، ولم ينزل ، فلا يلزمه اعادة الغسل ، سواء وجد بللا بعد غسله ، أو لم يجد ، بال قبل غسله ، أو لم يبل ، فإن كانت جنابته عن إنزال ، فإن كان لم يبل أعاد الغسل ، إذا وجد البلل بلا خلاف على القولين ، عند من لا يرى وجوب الاستبراء ، وعند من رآه.

فأمّا إذا بال قبل اغتساله ، واغتسل ، ثم وجد بعد اغتساله بللا ، يقطع على انّه مني ، فيجب عليه الغسل أيضا ، بلا خلاف ، لقوله عليه‌السلام : الماء من الماء (٣) وليس كذلك إذا وجد بللا بعد بوله واغتساله ، ولم يقطع على انّه مني ، فليلحظ ذلك.

والمرأة إذا رأت بللا بعد الغسل ، لم تعده ، على كل حال ، لأنّ ذلك انّما هو من ماء الرجل على ما وردت به الرواية عنهم عليهم‌السلام (٤) فهذا التفصيل وارد.

والأولى عندي ، انّها إن تيقنت وقطعت على أنّ البلل مني ، فإنها يجب عليها الغسل ، لقوله عليه‌السلام : الماء من الماء ، فإن لم تتيقن انّه مني ، فلا يجب عليها الغسل ، وان لم تستبرئ قبل غسلها بخلاف الرجل ، فظهر الفرق بينهما وبان.

__________________

(١) في ل ، والمط : يتأتى

(٢) البزال : الثقب.

(٣) الوسائل : الباب ٦ من أبواب الجنابة ، ح ٥

(٤) الوسائل : الباب ٣ من أبواب الجنابة ، ح ١.

١٢٢

وقد يوجد في بعض الأخبار والكتب ، انّه إذا لم يبل الجنب قبل غسله ، ثم اغتسل ، ووجد بللا ، فإنّه يجب عليه اعادة الغسل ، والصلاة ، إن كان قد صلّى.

قال محمد بن إدريس : إعادة الصّلاة تحتاج إلى دليل ، وانّما يجب عليه اعادة الغسل فحسب ، لقوله عليه‌السلام : الماء من الماء ، فالغسل الثاني غير الأوّل ، وموجبه غير موجبة ، فبالأوّل قد طهر ، فصلاته صحيحة قبل رؤية البلل ، وقت كونه طاهرا ، واعادة الصّلاة يحتاج إلى دليل قاهر.

وغسل المرأة ، كغسل الرجل ، إلا انّه يستحب لها أن تنقض المظفور من شعرها ، فإذا كان مانعا من وصول الماء إلى البشرة ، وأصول شعرها ، وجب عليها حلّه ونقضه ، لأنّه لا يتم غسلها إلا به.

والغسل من الجنابة ، يجزي عن الأغسال الكثيرة المفروضة والمسنونة ، سواء تقدّم عليها ، أو تأخّر عنها ، ويكون الحكم له ، والنيّة نيته. مثال ذلك : إذا جامع الرجل زوجته ، فقبل أن تغتسل من جنابتها ، رأت دم الحيض فلم تغتسل ، فإذا طهرت من حيضها ، اغتسلت غسلا واحدا للجنابة ، دون غسل الحيض ، وكذلك إن كانت حائضا ثم طهرت ، فقبل أن تغتسل ، جامعها زوجها ، فالواجب عليها أن تغتسل غسل الجنابة ، دون غسل الحيض ، لأنّ غسل الجنابة له مزية وقوة وترجيح على غسل الحيض.

وذلك انّه لا خلاف انّه يستباح بمجرده الصّلوات ، وليس كذلك غسل الحيض ، وأيضا عرف وجوبه من القرآن ، وغسل الحيض من جهة السنّة ، وإن كان في هذا الأخير ضعف ، لأنّ ما يثبت من جهة السنة المتواترة ، فهو دليل ، فلا فرق بينه في الدّلالة وبين ما يثبت من جهة الكتاب ، والمعتمد في ذلك على الإجماع ، بل ذكرنا ما ذكروا ، وأوردنا ما أورده غيرنا.

والأغسال المفروضات ، اختلف قول أصحابنا في عددها ، فبعض يذهب إلى أنّها خمسة فحسب ، وبعض يذهب إلى انّها ستّة ، وبعض يذهب إلى أنّها

١٢٣

سبعة ، والمعتمد من الأقوال الثلاثة أوسطها ، وهو القول بأنّها ستة ، أحدها الغسل من الجنابة ، وغسل الحيض ، وغسل النفاس ، وغسل الاستحاضة على بعض الوجوه على ما مضى شرحنا له ، وغسل الموتى من الناس المحكوم بتغسيلهم ، فهذا مذهب صاحب الخمسة ، وغسل من مس ميتا بعد برده بالموت وقبل تطهيره بالاغتسال ، فهذا هو السادس ، وهو أوسط الأقوال الثلاثة ، وغسل قاضي صلاة الكسوف مع احتراق القرص جميعه ، وكان قد ترك الصلاة متعمدا ، فهذا هو السابع.

وذهب بعض أصحابنا إلى وجوب غسل الإحرام فعلى هذا يكون الأقوال أربعة.

والأغسال المسنونات فكثيرة ، وآكدها ما أنا ذاكره.

غسل يوم الجمعة ، ووقته من عند طلوع الفجر من يوم الجمعة إلى وقت الزوال ، وقد رخّص في تقديمه يوم الخميس ، لمن خاف الفوت.

ويستحب قضاؤه لمن فاته ، إمّا بعد الزوال ، أو يوم السّبت.

وكلما قرب من الزوال كان أفضل.

وإذا اجتمع غسل جنابة ، وغسل يوم جمعة وغيرها ، من الأغسال المفروضات والمسنونات ، أجزأ عنها كلّها غسل الجنابة ، على ما مضى شرحنا له ، فإن نوى الجنابة أجزأ عن الجميع ، وإن نوى بالغسل الغسل المسنون دون غسل الجنابة ، لم يجزه عن شي‌ء من ذلك ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر ، في مسائل خلافه (١) قال : لأنّ غسل الجمعة انّما يراد للتنظيف ، ومن هو جنب لا يصح ذلك فيه.

قال محمّد بن إدريس : الأقوى عندي انّه يحصل له ثواب غسل الجمعة وإن كان جنبا ، إذ لا تنافي بينهما ، ويعارض شيخنا أبا جعفر بأنّ الحائض يصحّ منها غسل الإحرام ، والجمعة ، مع كونها حائضا ، فإذن لا فرق بينهما إذا لم يكن

__________________

(١) الخلاف : كتاب الطهارة. المسألة ١٩٢.

١٢٤

معه إجماع بالفرق بينهما ، ولو كان إجماع من أصحابنا لذكره في استدلاله.

وغسل ليلة النصف من رجب ، وغسل يوم السابع والعشرين منه ، وليلة النصف من شعبان ، وأول ليلة من شهر رمضان ، وليلة النّصف منه ، وليلة سبع عشرة منه وهي ليلة الفرقان ، لأنّ الله تعالى فرّق بين الحق والباطل فيها ، لأنّها ليلة بدر ، ووقعة بدر كان القتال في صبيحتها في شهر رمضان ، سنة اثنتين من الهجرة بعد نزول فرض الصّيام ، لأنّه نزل فرض صيام شهر رمضان يوم الثاني من شعبان ، سنة اثنتين من الهجرة.

وليلة تسع عشرة منه ، وليلة إحدى وعشرين منه ، وليلة ثلاث وعشرين منه ، وليلة الفطر ، ويوم الفطر ، ووقته من طلوع الفجر الثاني إلى قبل الخروج إلى المصلّى ، فإن فاته ذلك فلا قضاء عليه ، ولا ندب إليه ، كما ندب إلى قضاء غسل يوم الجمعة.

وغسل يوم الأضحى ، ووقته وقت غسل يوم الفطر.

وغسل الإحرام أيّ إحرام كان ، سواء كان لحج أو لعمرة.

وغسل دخول الحرم ، وغسل دخول مكة ، وغسل دخول المسجد الحرام ، وغسل دخول الكعبة ، وغسل دخول المدينة ، وغسل دخول مسجد الرّسول عليه‌السلام ، وغسل زيارته عليه‌السلام ، وغسل زيارة كلّ واحد من الأئمّة عليهم‌السلام ، وغسل يوم الغدير ، ويوم المباهلة ، وهو يوم الرابع والعشرين من ذي الحجة على أصحّ الأقوال ، وغسل المولود ، وغسل قاضي صلاة الكسوف إذا احترق القرص كلّه وتركها متعمّدا ، وإن كان بعض أصحابنا يذهب إلى وجوب هذا الغسل على ما بيّناه ، وغسل صلاة الحاجة ، وغسل صلاة الاستخارة ، وغسل التوبة ، وغسل يوم عرفة.

والكافر إذا أسلم لا يجب عليه الغسل ، بل يستحب له ذلك ، وهو داخل في غسل التوبة ، اللهم إلا أن يكون عليه الغسل للجنابة وغيرها قبل إسلامه ،

١٢٥

فإنّه إذا أسلم يجب عليه الغسل ، لأنّه في حال كفره لا يصحّ منه الغسل ، لأنّه لا يصحّ منه نية القربة ، لأنّه لا يعرف المتقرب اليه ، وإن كان مخاطبا بالشرائع عندنا ، وعند الأكثر من العلماء.

وقد ذهب بعض أصحابنا في كتاب له (١) وهو الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله إلى أنّه إذا رأى الإنسان على ثوبه الذي لا يشاركه فيه غيره منيا ، فإنّه يجب عليه الغسل واعادة صلاته من آخر غسل اغتسل لرفع الحدث.

والذي أذهب إليه ، وافتي به في ذلك ، انّه لا يجب عليه اعادة الصّلوات الواقعة فيما بين الغسلين والاحتلامين ، لأن إعادة الصّلاة تحتاج إلى دليل شرعي قاطع للعذر ، مزيل للريب ، والإنسان المصلي قاطع متيقن لبراءة ذمته بصلاته التي صلّاها في ذلك الثوب ، وهو مجوز أن تكون هذه الجنابة من نومه فيه هذه الليلة ، ومجوز أنها من ليالي قبلها ، والصّلوات التي صلاهن متيقنات ، وقد وقعن شرعيات ، فلا يترك المتيقن للمشكوك فيه ، بل يجب عليه اعادة صلاته التي انتبه وصلاها فحسب ، وفي الأخبار ما يدل على ذلك قد أورده المذكور في استبصاره (٢) عن زرعة ، عن سماعة قال : سألته عليه‌السلام عن الرجل يرى في ثوبه المني بعد ما أصبح ، ولم يكن رأى في منامه انّه قد احتلم ، قال : فليغتسل ، وليغسل ثوبه ، ويعيد صلاته. وما قال يعيد صلواته من آخر غسل اغتسل.

وقالوا عليهم‌السلام : اسكتوا عمّا سكت الله تعالى عنه (٣) ولم يورد المذكور رحمه‌الله بإعادة الصلاة إلا هذا الخبر فحسب.

ثم قد علمنا بمتضمنه ، إذا أحسنّا الظن برواية ، وعملنا بأخبار الآحاد ، فكيف والراوي فطحي المذهب ، غير معتقد للحق ، بل معاند له ، كافر! مع انّ

__________________

(١) المبسوط : كتاب الطهارة في أحكام الجنابة.

(٢) الاستبصار : الباب ٦٥ من أبواب الجنابة ، ح ١

(٣) عوالي اللئالي : ج ٣ ، ص ١٦٦.

١٢٦

الأخبار وإن كانت رواتها عدولا ، فمذهب أصحابنا لا يجوّز العمل بها ولا يسوّغه ، بل معلوم من مذهبهم ترك العمل بها ، لأنّ العمل تابع للعلم ، وأخبار الآحاد لا تثمر علما ، ولا عملا ، وهذا يكاد يعلم من مذهبنا ضرورة ، على ما أصّلناه وحكيناه عن السيّد المرتضى رحمه‌الله في خطبة كتابنا هذا ، ثمّ إنّ السيّد المرتضى رحمه‌الله قد ذكر المسألة في مسائل خلافه على ما أوردناه ، ولم يتعرّض لإعادة الصّلاة جملة.

ثم إنّ الشيخ أبا جعفر رحمه‌الله قال ذلك على سبيل الاحتياط ، هذا دليله في المسألة ، وما أورد دليلا غيره ، ولا متمسكا سواه ، ولا ادّعى إجماعا ، ولا أخبارا.

ثم يمكن أن يعمل بما ذهب إليه رحمه‌الله على بعض الوجوه ، وهو إذا لبس ثوبا جديدا ، ونام فيه ليلة ، ثمّ نزعه ، ولبس ثوبا غيره ، ونام فيه ليالي ، ثمّ بعد ذلك وجد المني في ذلك الثوب الأول المنزوع ، فإنّه يجب عليه حينئذ إعادة الصّلوات ، من وقت نزعه الأول إلى وقت وجوده فيه ، إذا لم يكن قد اغتسل بعد نزعه وكان قد اغتسل قبل لبسه الأوّل بلحظة ، فيجب عليه في هذه الصّورة إعادة الصّلاة التي وقعت بين الغسلين ، فقد عملنا بقوله على ما ترى على بعض الوجوه.

ونية الغسل لا بدّ منها ، وكذلك كلّ طهارة ، وضوء كانت أو تيمّما.

فامّا وقت النيّة ، فالمستحب ، أن يفعل إذا ابتدأ بغسل اليدين ، ويتعيّن فعلها إذا ابتدأ بغسل الوجه في الوضوء ، أو الرأس في غسل الجنابة ، وغيره من الأغسال ، لا يجزي ما تقدّم على ذلك ولا يلزمه استدامتها إلى آخر الغسل والوضوء بل يلزم استمراره على حكم النية ، ومعنى ذلك أن لا ينتقل من تلك النية إلى نية تخالفها ، فإن انتقل إلى نية تخالفها وقد غسل بعض أعضاء الطهارة ثمّ تمم لم يرتفع حدثه فيما غسل بعد نقل النيّة ونقضها ، فإن رجع إلى النيّة

١٢٧

الأولى نظرت ، فإن كانت الأعضاء التي وضّاها ندية بعد بنى عليها ، وإن كانت قد نشفت ، استأنف الوضوء ، كمن قطع الموالاة.

فأمّا في غسل الجنابة فإنه يبني على كل حال ، لأنّ الموالاة ليست شرطا فيها.

والتسمية عند الطهارة مستحبة غير واجبة.

فاما نيّة هذا الغسل ، فإن كان الجنب ، عليه صلاة واجبة ، أو قد دخل عليه وقت صلوات واجبة ، أو قد تعيّن عليه طواف واجب ، وأراد الاغتسال من جنابته ، فيجب عليه أن ينوي الاغتسال لرفع الحدث واجبا ، قربة إلى الله تعالى ، ويكون الغسل هاهنا واجبا عليه ، وكذلك النية ، لأن الغسل طهارة كبرى ، هي شرط في استباحة الصلاة ، فمهما لم تجب الصّلاة على الجنب لا تجب عليه هذه الطهارة التي هي شرط فيها ، فإن لم يدخل عليه وقت صلاة واجبة ، ولا عليه صلاة واجبة ، ولا تعيّن عليه طواف واجب ، فغسله ونيّته مندوبان.

والذي يدلّ على ذلك ، ما ذكره محقّقو هذا الفن ، ومصنّفو كتب أصول الفقه ، وهو انّ الغسل قبل وقت الصلاة المفروضة ، والطواف المفروض ، لا يشارك الغسل بعد دخول الوقت ، في وجه الوجوب ، لأنّ وجه وجوب الغسل كونه شرطا في صلاة هي واجبة على المكلف المغتسل في الحال ، وذمّته مشغولة بها ، وهذا الوجه غير قائم في الغسل قبل دخول وقت الصّلاة المفروضة ، وقد ورد عن الأئمة عليهم‌السلام ما يدل بصريحه وفحواه على ما ذكرناه (١) ، وقد أورد بعضه الشيخ السّعيد أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في كتابه تهذيب الأحكام : قال روى فلان عن فلان ورفع الحديث إلى الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : امرأة جامعها زوجها فقامت لتغتسل ، فهي في المغتسل جاءها دم الحيض قبل أن تغتسل ، أتغتسل من جنابتها أم لا ، فقال عليه‌السلام : قد جاءها شي‌ء يفسد عليها

__________________

(١) الوسائل : الباب ١٤ من أبواب الجنابة ، ح ٢.

١٢٨

الصّلاة ، لا تغتسل (١) ألا تراه عليه‌السلام إنّما علّقه بالصّلاة ولأجل الصلاة فلمّا سقط تكليفها بالصّلاة لأجل الحيض ، قال : لا تغتسل ، انّما كانت تغتسل لأجل الصّلاة ، ولا لشي‌ء سوى ذلك.

وأيضا فإن الرّسول عليه‌السلام ، كان يطوف على تسع نساء بغسل واحد ، فلو كان واجبا ، لما جاز له تركه ، لأنّه كان يخل بالاغتسال الذي هو الواجب ، ويتركه ، ولا خلاف في أنّ ترك الواجب قبيح عقلا وسمعا ، وحوشي عليه‌السلام عن ذلك.

وأيضا فلا خلاف بين المسلمين ، وخصوصا علماء أهل البيت عليهم‌السلام وطائفتهم أنّ الإنسان إذا أجنب أول الليل له أن يترك الاغتسال ، وينام إلى دخول وقت صلاته ، فحينئذ يجب عليه الاغتسال لأجل الصّلاة ، فلو كان الغسل من الجنابة واجبا على كلّ حال ، وان المكلف إذا صار جنبا يجب عليه الاغتسال بعده ، وفي كل وقت ، لكان يلزم على ذلك أشياء ، لا قبل لملتزمها إلا العود عن مقالته ، والرّجوع إلى جماعته ، أو الخروج عن إجماع أهل نحلته ، أو العناد لديانته ، من جملتها انّه إذا جامع زوجته ونزع وتخلّص من حال مجامعته يجب عليه الاغتسال لوقته بلا فصل وساعته ، فإن كان عنده ماء في منزله وأراد تركه والخروج منه والاغتسال خارجه من نهر أو حمام ، يحظر عليه الخروج منه إلى النهر أو الحمام ، لأنّه يكون مخلا بواجب ، تاركا له ، وترك الواجب وبدله قبيح على ما بيّناه أولا وأوضحناه.

فإن قيل : الواجب عندكم على ضربين : واجب موسّع ، وواجب مضيّق ، فالموسع الذي له بدل ، وهو العزم على أدائه قبل خروج وقته ، وتقضّي حاله وزمانه ، فللمكلّف تركه مع إقامته البدل مقامه.

__________________

(١) التهذيب : كتاب الطهارة ، الباب ١٩ من أبواب الزيادات ، ح ٤٧ ، مع اختلاف في العبارة. وفي الوسائل : الباب ١٤ من أبواب الجنابة ، ح ١.

١٢٩

والمضيّق هو الذي لا بدل له يقوم مقامه فغسل الجنابة من الواجبات الموسعات وأتقضى من تلك الإلزامات ، وأتخلّص من تيك الشناعات ، كما انّ الصّلاة بعد دخول وقتها وقبل تضيقه من الواجبات الموسعات ، فلمكلّفها أن يتركها إذا فعل العزم الذي هو البدل الى آخر وقتها ، غير حرج في ذلك ولا آثم ، بغير خلاف عندكم ، بل الإجماع منعقد منكم عليه.

قيل له : الذي يفسد هذا الاعتراض ، ويدمر على هذا الخيال ، انّ أول ما نقوله ونقرره ونحرره ، إنّ القياس في الشريعة عند أهل البيت عليهم‌السلام باطل غير معمول عليه ولا مفروع إليه ، ولا خلاف بين شيعتهم المحقين ، وعلمائهم المحقّقين في ذلك ، لأدلة ليس هذا موضع ذكرها ، فمن أرادها أخذها من مظانها ، فإنّها في كتب المشيخة محققة واضحة ، ولو لا الأدلة القاهرة وأقوال الأئمة الطاهرة ، في تأخير ما صوّره السائل من المسائل في الاعتراض ، وغير ذلك من الصور ، عن أول وقته واقامة البدل مقامه ، لكان داخلا فيما قررناه وحررناه ، فأخرجنا منه ما أخرجناه ، لأجل الإجماع والأدلة ، وبقي ما عداه على ما أصّلناه من انّ ترك الواجب قبيح ، والإخلال بالفرض المتعيّن لا يجوز ، على أنّ بعض أصحابنا وهو شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان رحمه‌الله (١) يذهب إلى انّ تارك الصّلاة في أول وقتها من غير عذر مخل بواجب ، تارك له ، معاقب مأثوم ، إلا انّه إذا فعله يعفو الله تعالى عن ذنبه تفضلا منه ورحمة ، ذكر ذلك في كتبه وحكاه عنه تلميذه شيخنا السعيد أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في عدته (٢) وربما قوّاه أبو جعفر في بعض الأوقات ، وربما زيفه في وقت آخر.

فإن اعترض معترض وخطر بالبال فقال : قد بقي سؤال ، وهو إن كان غسل الجنابة لا يجب ، الا عند دخول وقت الصّلاة على ما قرّرته وشرحته ، فما

__________________

(١) في المقنعة : باب أوقات الصلاة وعلائم كل وقت ص ٩٤.

(٢) العدة ص ٩٠ فصل في الأمر الوقت ما حكمه.

١٣٠

تقول إذا جامع الإنسان امرأته أو احتلم في ليل رمضان وترك الاغتسال متعمدا حتى يطلع الفجر ، وقال أنا لا أريد أن اغتسل لأنّ الغسل عندك قبل طلوع الفجر ، مندوب غير واجب على ما ذهبت اليه ، فقال هذا المكلّف لا أريد أن أفعل المندوب ، الذي هو الاغتسال في هذا الوقت ، الذي هو قبل طلوع الفجر ، بلا تأخير ولا فصل ، فإن قلت : يجب عليه في هذا الوقت الاغتسال ، سلمت المسألة بغير إشكال ، لأنّه غير الوقت الذي عيّنته لوجوب الاغتسال ، وإن قلت : لا يغتسل ، خالفت الإجماع ، وفيه ما فيه من الشناع ، وعندنا بإجماعنا أنّ الصيام لا يصحّ إلا لطاهر من الجنابة قبل طلوع فجره ، وانه شرط في صحة صيامه ، بغير خلاف فيجب حينئذ الاغتسال ، لوجوب ما لا يتم الواجب إلا به ، وهذا مطرد في الأدلة والاعتلال.

قيل : ينحلّ هذا الإشكال ، ويزول هذا الخيال ، من وجهين اثنين ، وهو انّ الأمة بين قائلين : قائل يقول بوجوب هذا الاغتسال في جميع الشهور والأيام والأوقات والسّاعات ، وهذا المعترض منهم ، وقائل يقول بوجوبه فيما عيّناه وشرحناه ، وليس هاهنا قائل ثالث يقول بأنّه ندب في طول أوقات السنة ، ما عدا الأوقات التي عينتموها ، وواجب في ليالي شهر رمضان ، فانسلخ من الإجماع بحمد الله تعالى كما تراه وحسبه بهذا عارا وشنارا (١).

فأمّا الوجه الآخر وهو قوله كل ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب مثله ، فصحيح ظاهره ومعناه ، إلا انّ مسألتنا ليست من هذا الإلزام بسبيل ، ولا من هذا القول بقبيل لأنّ الواجب الذي هو صيام رمضان يتم من دون نية الوجوب للاغتسال ، وهو أن يغتسل لرفع الحدث مندوبا قربة لله تعالى ، وقد ارتفع حدثه وصحّ صومه ، بلا خلاف ، فقد تمّ الواجب من دون نيّة الوجوب التي تمسك

__________________

(١) الشنار بالفتح هو الشنيع وهو أقبح العيب.

١٣١

الخصم بأنّه لا يتم الواجب إلا به ، وقد أريناه انّه يتم الواجب من دونه وبغيره ، ولو لا انّ معرفة القديم سبحانه لا طريق لنا إليها إلا بالنظر في الأدلة ، لما وجب علينا ولا تعيّن ، ولو كان لنا طريق سواه لما وجب تعيينا وتحتم.

فإن قيل : أليس الأمر بمجرده عندكم في عرف الشرع يقتضي الوجوب دون الندب ، والفور دون التراخي؟ قلنا : بلى.

قال : فقد قال سبحانه « وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا » وهذا أمر للجنب بالتطهير متى كان جنبا بغير خلاف ، فغسل الجنابة واجب بهذا الأمر؟

قلنا : هذه الآية الثانية التي هي معطوفة على الآية الأوّلة ، وهي قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ » (١) فأمرنا أن نكون غاسلين وماسحين إذا أردنا القيام إلى الصلاة ، وقبل دخول وقت الصلاة لا يجب علينا القيام إليها ، ولا الغسل لها ، فلمّا عرّفنا سبحانه حكم الطهارة الصّغرى ، عطف عليها حكم الطهارة الكبرى وهي غسل الجنابة ، وهو إذا أردنا القيام إلى الصلاة بعد دخول وقتها يجب علينا الاغتسال ، وهذا مذهبنا بعينه.

فإن قال : هما جملتان لكلّ واحدة منهما حكم نفسها؟

قلنا : صحيح انهما جملتان ، إلا انّ الجملة الثانية معطوفة على الجملة الأولة بواو العطف ، بلا خلاف عند أهل اللسان والمحصّلين لهذا الشّأن ، والمعطوف عندهم له حكم المعطوف عليه ويتنزّل منزلته ، ويشاركه في أحكامه بغير خلاف ، لأنّ واو العطف عندهم تنوب وتقوم مقام الفعل ، فاستغنوا بها عن تكرره اختصارا للكلام ، وإيجازا وبلاغة.

فإن ظن ظان وتوهم متوهم ، انّ السيد المرتضى رحمه‌الله قد ذكر في

__________________

(١) المائدة : ٦.

١٣٢

ذريعته (١) ، في فصل هل الأمر يقتضي المرة الواحدة أو التكرار ، فقال : كلام السيد يدل على ان غسل الجنابة واجب في سائر الأوقات؟

قلنا : معاذ الله أن يذهب السيد إلى ما توهمه عليه ، لأنّ هذا قول من لا يفهم ما وقف عليه ، وانّما السيد أورد متمسّك الخصم بأن قال الخصم أنا أريك أنّ الأمر يقتضي بمجرده المرات دون المرة الواحدة ، وصوّر الصورة في غسل الجنابة.

قال السيد : الكلام عليه ، إنّما أوجبه من أوجبه ، لأنّ كون الجنابة علّة عند من قال بالعلل والقياس ، لا لتكرر الأمر واقتضائه التكرار ، بل لتكرر العلّة التي هي الجنابة ، فلمّا تكررت تكرر معلولها ، قال ذلك دافعا للخصم ، وملزما له ما يلتزم به من مذهبه ، ورادا عليه ما يعتقده ، من كون العلل لها أثر في الشرعيات ، وحوشي السيد من أن يكون هذا اعتقاده ومذهبه.

يدلّ على ما ذكرته من مقصود السيد المرتضى رحمه‌الله ما ذكره الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان في كتابه أصول الفقه في هذا الفصل بعينه في آخر الفصل بعد إيراد أدلة واحتجاجات كثيرة ، قال : فقيل مع أنّ أكثر المتفقهة إنّما أوجبوا تكرار الغسل بتكرر الجنابة ، وتكرار الحدّ بتكرار الزنا ، لما ذهبوا اليه من كون الجنابة علّة للغسل ، أو كون الزنا علّة في الحد ، ولم يوجبوا ذلك بالصفة حسب ، وهذا أيضا يسقط ما ظنه صاحب الاستدلال (٢) هذا آخر كلام الشيخ المفيد.

والذي يزيد مقصود السيد المرتضى رحمه‌الله بيانا ويوضحه برهانا ، ما أورده وذكره في مسائل خلافه في الجريدة ، قال السيد : عندنا انّ من السنّة أن يدرج مع الميت في أكفانه جريدتان خضراوتان رطبتان قدر كل واحدة منهما عظم الذراع ، وخالف من عدا فقهاء الشيعة في ذلك ، دليلنا على ما ذهبنا إليه :

__________________

(١) الذريعة : تعرض السيد رحمه‌الله للكلام في باب فصل آخر بعد الفصل المذكور وهو انّ الأمر المعلّق بشرط أو صفة هل يتكرر بتكرارهما

(٢) أصول الفقه : لم نعتر عليه.

١٣٣

ما رواه فلان عن فلان ، وأورد أخبارا عدة ، من طرق الخاصة والعامة وطوّل في الإيراد نحوا من صفحة ، ثم بعد ذلك قال من طريق الاستدلال : وقد سأل بعض أصحابنا الماضين رحمهم‌الله نفسه في هذا المعنى فقال : إن قال قائل ما معنى وضعكم الجريدة مع الميّت في أكفانه ، ثم قال : قيل له : ما معنى الدور حول البيت ، وتقبيل الحجر ، وحلق الرأس ، ورمي الجمار؟ فكل ما أجاب به في ذلك فهو جوابنا بعينه في الجريدة. ثم قيل له : إنّ الذي تعبّدنا بغسل الميت ، وتكفينه ، هو الذي تعبدنا بوضع الجريدة والحنوط معه في أكفانه ولا معنى له غيره ، وإلا فلأي معنى أوجب الله تعالى غسل الميت وقد مات وسقطت الفرائض عنه ، والطهارة انما تجب لأداء الفرائض؟ قال السيد المرتضى رحمه‌الله : وهذا كلام سديد في موضعه.

ألا ترى انّ السيد رحمه‌الله قد أورد هذا الكلام عن أصحابه إيراد راض به متعجبا منه ، ونكتة ذلك والمقصود والمراد ، بقوله : الطهارة إنما تراد لأداء الفرائض ، فغسل الجنابة طهارة بلا خلاف ، فلا يجب إلا لأداء الفرائض.

ثم قال السيد متمما للمسألة : وليس يجب أن يعرف علل العبادات على التعيين ، وإن كنا على سبيل الجملة نعلم انّها إنّما وجبت أو ندب إليها للمصالح الدينيّة ، وإن كان المخالف يخالف في ورود العبادة بالجريدة فما تقدّم ممّا ذكرناه وغيره ممّا لم نذكره الأخبار الكثيرة المتظاهرة حجة فيه ، وإن طالب بعلّة معينة ، فلا وجه لمطالبته بذلك ، لأن العبادات لا يعرف عللها بعينها.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة قال : وإن ارتمس الجنب في الماء ارتماسة واحدة ، أو قعد تحت المجرى ، أو وقف تحت المطر أجزأه ، ويسقط الترتيب في هذه الموضع ، وفي أصحابنا من قال : يترتب حكما (١) هذا آخر كلامه.

__________________

(١) المبسوط : فصل في ذكر غسل الجنابة وأحكامها.

١٣٤

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، وانعقد عليه إجماعنا انّ الترتيب في غسل الجنابة واجب على جميع الصّور والأشكال والأحوال إلا في حال الارتماس ، فيسقط الترتيب في هذه الحال ، دون غيرها من الأحوال.

فأمّا المطر والمجرى إذا قام تحته الإنسان ، فإنّه يجب عليه الترتيب في اغتساله ، لا يجزيه في رفع حدثه سواه ، لأنّ اليقين يحصل معه بلا ارتياب ، ولم يقل أحد من أصحابنا ولا خصّ الإجماع إلا في حال الارتماس ، دون سائر الأحوال فليلحظ ذلك.

باب التيمم وأحكامه

جملة القول في التيمم يشتمل على ذكر شروطه ، وبيان كيفيته ، وبأي شي‌ء يكون من الأجسام ، وهل يستباح به من الصلوات ، مثل ما يستباح بطهارة الماء وما ينقضه.

فأمّا شروطه : فهي فقد الماء الطاهر ، أو تعذر الوصول إليه ، أو الخوف على النفس ، أو زيادة الضرر في المرض ، في سفر أو حضر ، وقد يتعذّر الوصول إليه مع وجوده بفقد الآلات التي تستقي بها ، كالأرشية أو غيرها ، أو المشارع التي يحتاج إليها في تناوله ، وما جرى مجراها ، أو لعدو حائل عنه.

فأمّا الخوف على النفس ، فقد يكون للمرض ، أو البرد الشديد الذي يخاف معه من استعماله على النفس ، أو لأنّ الحاجة داعية الى الموجود منه للشرب.

ومن شروطه : طلب الماء ، والاجتهاد في طلبه ، وحدّ ما وردت به الروايات ، وتواتر به النقل في طلبه ، إذا كانت الأرض سهلة غلوة سهمين ، وإذا كانت حزنة فغلوة سهم واحد ، هذا مع ارتفاع الخوف للطلب ، فإذا خاف المكلّف على نفسه ، أو متاعه ، فقد يسقط عنه الطلب.

ولا يجوز له التيمم قبل دخول وقت الصّلاة ، بل لا يجوز التيمم إلا في آخر وقت الصلاة ، وعند تضيقها وغلبة الظنّ لفواتها.

١٣٥

ومن شروطه : النية ، والترتيب ، والموالاة.

فأمّا كيفية التيمم للحدث حدثا يوجب الوضوء ولا يوجب الغسل ، هو أن يضرب براحتيه ظهر الأرض ، وبسطهما ، ثمّ يرفعهما ، وينفض إحديهما بالأخرى ، ثم يمسح بهما وجهه من قصاص شعر رأسه إلى طرف أنفه الذي يرغم به في سجوده ، ويشتبه على كثير من المتفقهة الطرف المذكور ، فيظن انّه الطرف الذي هو المارن ، لإطلاق القول في الكتب ، ودليل ما نبّهنا عليه انّ الأصل براءة الذمة ممّا زاد على ما قلناه.

وأيضا قوله تعالى : « فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ » (١) والباء عندنا للتبعيض بغير خلاف ، ومن مسح على ما قلناه ، فقد امتثل الآية.

وأيضا فبعض أصحابنا يذهب إلى أنّ مسح الوجه يكون إلى الحاجبين ، وقد وردت أخبار بما ذكرناه إذا تؤملت حق التأمل ، من جملة ذلك ما قد أورده الشيخ أبو جعفر رحمه‌الله في كتاب الإستبصار : أحمد بن محمد ، عن الحسن بن علي بن فضال ، عن مروان بن مسلم وعمار الساباطي قال : ما بين قصاص الشعر إلى طرف الأنف مسجد ، أيّ ذلك أصبت به الأرض أجزأك (٢).

ومن المعلوم انّه إذا أصاب الأرض بالمارن ، الذي هو طرف الأنف الأخير ، في سجوده لا يجزيه سجوده بغير خلاف ، فما أراد إلا من أول الجبهة الذي هو قصاص الشعر إلى آخرها ، الذي هو مما يلي الطرف الأول من الأنف ، وما أوردت هذا الحديث إلا على سبيل التنبّه ، لا الاستدلال والاعتماد ، على ما قدمناه.

ثم يمسح بكفه اليسرى ظاهر كفه اليمنى ، من الزند إلى أطراف الأصابع ، ويمسح بكفه اليمنى ظاهر كفه اليسرى على هذا الوجه.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى استيعاب الوجه جميعا ، وكذلك اليدين من

__________________

(١) المائدة : ٦

(٢) الاستبصار : الباب ١٨٣ ، باب السجود على الجبهة ، ح ٣.

١٣٦

المرافق إلى الأصابع.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى المسح على اليدين من أصول الأصابع إلى رءوس الأصابع ، والأوّل أظهر ، وعليه العمل.

وإذا كان تيممه من حدث يوجب الغسل كالجنابة وما أشبهها ، ضرب بيديه على الأرض ضربة أوّلة ، على ما وصفناه ، ومسح بهما وجهه ، على ما حددناه ، ثم ضرب الأرض ثانية ، ومسح كفيه على النحو الذي تقدّم ذكره وصفته.

وقد روي : أنّ الضربة الواحدة للوجه والكفين تجزي في الوضوء والجنابة وكلّ حدث (١). وذهب إليه قوم من أصحابنا ، والأول هو الأظهر في الروايات ، والعمل ، وهو الذي افتي به.

وهذا الترتيب الذي ذكرناه واجب كما قلناه في الطهارة بالماء ، فمن أخل به رجع ، فتلافاه.

والموالاة أيضا واجبة على ما قدّمنا القول فيه وبيّناه.

فأمّا ما به يكون التيمم : فالتراب الطاهر ، والأرض الطاهرة ، وكلّ ما جرى مجراها ، ممّا يقع عليه اسم الأرض بالإطلاق ، ولا يتغير تغيرا يسلبه هذا الاسم.

ولا يجوز التيمم بجميع المعادن ، وتعداد ذلك يطول ، وقد أجاز قوم من أصحابنا التيمم بالنورة ، والصحيح الأول. ويكره بالسبخ ، وبالأرض الرملة.

ولا يجوز التيمم بالرماد ، ولا بالدقيق ، ولا بالأشنان ، ولا بالسعد ، والسدر ، ولا ما أشبهه في نعومته وانسحاقه.

ولا يعدل إلى الحجر إلا إذا فقد التراب ، ولا يعدل إلى غبار ثوبه إلا إذا فقد الحجر والمدر ، ولا يعدل عن غبار ثوبه إلى الوحل إلا إذا فقد الغبار من ثوبه الذي يكون فيه.

__________________

(١) الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب ١١ من أبواب التيمم. وأكثر أحاديثها متضمنة لقصة عمار وقد صرّح فيها بكفاية ضربة واحدة مع أنّ عمارا كان جنبا. وكذلك في جامع الأحاديث : الباب ١٠ ، ح ٨.

١٣٧

والغبار الذي يجوز التيمم به ، هو أن يكون غبار التراب والأرض. فأمّا إذا كان فيه غبار النورة أو الأشنان أو غير ذلك ، فلا يجوز التيمم به ، وكذلك غبار معرفة دابته ، ولبد سرجه ، بعد فقدانه غبار ثوبه ، فإذا فقد الجميع صار إلى الوحل إن وجده.

وكيفية تيممه منه ككيفية تيممه من الأرض ، فإن حصل في أرض قد غطاها الثلج ولا يتمكن من غيره ، جاز له أن يضرب عليه بيديه ، ويتيمم بنداوته.

وقال بعض أصحابنا : فليكسره وليتوضأ بمائه فإن خاف على نفسه من ذلك وضع بطن راحته اليمنى على الثلج ، وحرّكها عليه تحريكا باعتماد ، ثم رفعها بما فيها من نداوة ، فمسح بها وجهه كالدّهن ، ثم يضع راحته اليسرى على الثلج ، ويصنع بها كما صنع باليمنى ويمسح بها يده اليمنى من مرفقه إلى أطراف الأصابع ثمّ يضع يده اليمنى على الثلج ، كما وضعها أولا ، ويمسح بها يده اليسرى ، من مرفقه إلى أطراف الأصابع ، ثم يرفعها ، فيمسح بها مقدّم رأسه ، ويمسح ببلل يديه من الثلج قدميه.

وإن كان محتاجا في التطهير إلى الغسل ، صنع بالثلج كما صنع به عند وضوءه من الاعتماد عليه ، ومسح به رأسه وبدنه ، حتى يأتي على جميعه.

فإن خاف على نفسه من ذلك ، أخّر الصلاة حتى يتمكن من الطهارة بالماء ، أو يجد الأرض فيتيمم بها ، والأول قول السيد المرتضى ، والثاني قول الشيخ المفيد والشيخ أبي جعفر الطوسي رحمهم‌الله والذي أقوله وافتي به وأذهب إليه ، ما اختاره الشيخان من تأخير الصّلاة.

ولا يجوز له أن يتيمم بالثلج ، لأنّ الإجماع منعقد على أنّ التيمم لا يكون إلا بالأرض ، وما ينطلق عليه اسم الأرض بالإطلاق ، والثلج ليس بأرض ، ولا أختار قولهما رحمهما‌الله ، ولا اجوّز ما ذهبا إليه ، من مسح الوجه واليدين بالثلج ، والوضوء به ، وبالمسح على الأعضاء المغسولة ، وكذلك لا أجوز للجنب الغسل

١٣٨

لجميع بدنه بالمسح ، لأنّ الله تعالى أوجب علينا عند قيامنا إلى صلاتنا أن نكون غاسلين وماسحين ، وغاسلين في الجنابة ، وحد الغسل ، ما جرى على العضو المغسول ، والممسوح بخلافه ، وهذا لا خلاف بين فقهاء أهل البيت أنّ الغسل غير المسح ، فكيف يستباح الصّلاة بمجرد المسح فيما يجب غسله ، وإذا عدمنا ما يكون غاسلين به ، فإن الله سبحانه نقلنا إذا لم نجد الماء الكافي لغسلنا ولأعضائنا المغسولة ، إلى التراب والأرض والتيمم ، فإذا فقدنا ما نتيمم به ، فقد سقط تكليفنا الآن بالصّلاة وأخّرناها إلى أن نجد الماء ، فنغتسل به ، أو التراب فنتيمم به ، لقوله عليه‌السلام : لا صلاة إلا بطهور (١) والطهور مفقود في هذه المسائل ، فليتأمل ذلك ويلحظ عني ما قلته بالعين الصحيحة ، ويترك التقليد ، وأسماء الرجال جانبا ، فقد قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال (٢) والله الموفق للصواب.

فأمّا استباحة الصّلاة بالتيمم ، فلفاعله ان يصلّي ما لم يحدث ، أو يجد الماء ، ويتمكن من استعماله ما شاء من صلوات الليل والنهار ، والفرائض ، والنوافل.

والكلام فيما ينقض التيمم فقد تقدّم في باب نواقض الطهارة بالماء.

ومن دخل في الصّلاة بالتيمم ، ثم أصاب الماء ، وقدر على استعماله ، فقد اختلف قول أصحابنا في هذه المسألة ، فبعض يقول : إن كان قد ركع مضى فيها ، وإن لم يركع انصرف وتوضّأ ، وهذا قول شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله في نهايته (٣) ، إلا انّه رجع عنه في مسائل خلافه (٤).

وبعض قال : إذا دخل في صلاته بتكبيرة الإحرام ، فالواجب عليه المضي فيها ، فإذا فرغ منها توضأ لما بعد تلك الصّلاة ، من الصلوات.

وبعض قال : يحب عليه الانصراف ما لم يقرأ ، فإذا قرأ مضى في صلاته ،

__________________

(١) الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب ١ من أبواب الوضوء ، ح ١

(٢) غرر الحكم : ج ١ ص ٣٩٤.

(٣) النهاية : باب التيمم وأحكامه

(٤) الخلاف : كتاب الطهارة مسألة ٨٩

١٣٩

ولا يجوز له الانصراف.

والصحيح من الأقوال ، انّه إذا دخل في صلاته بتكبيرة الإحرام مضى فيها ، ولا يجوز له قطعها بحال ، وعلى هذا يعتمد ويفتي السيد المرتضى قدس‌سره في مسائل خلافه ، وكذلك الشيخ أبو جعفر في مسائل الخلاف (١).

ومن نسي الماء في رحله ، فتيمم وصلّى ، ثم علم به من بعد لا اعادة عليه ، وهو قول أبي حنيفة ومحمد ، وقال الشافعي وأبو يوسف : يجب عليه أن يعيد ، وقال مالك : يعيد في الوقت ، فإذا خرج الوقت فلا اعادة عليه ، وقد ذهب بعض أصحابنا في كتاب له إلى ما ذهب إليه مالك بعينه ، وهذا لا يجوز لأحد من أصحابنا أن يقوله ، لأنّ التيمم عند جميع أصحابنا إلا من شذ ممن لا يعتمد بقوله ، لأنّه قد عرف باسمه ونسبه ، انّما يجب في آخر الوقت ، وعند خوف فوت الصّلاة وخروج وقتها ، ولا يجوز أن يستعمل قبل آخره وتضيّقه على وجه من الوجوه ، وآخر الوقت من شرطه ، كما أنّ عدم الماء بعد طلبه من شرطه ، فكيف يصحّ أن يقوله فيمن تيمم قبل الوقت وصلّى ، فإنّه لا صلاة. له جملة ، ويجب عليه أن يصلي صلاة مبتدأة بالماء إذا ذكره.

فأمّا من تيمم قبل آخر الوقت وصلّى ، ثم خرج الوقت وذكر ما كان فيه ، فإنّه يجب عليه الوضوء واعادة الصّلاة ، لأنّ ما مضى من فعله لم يكن صلاة ، لأنّه كان بغير طهور.

ومن دفع إلى تغسيل ميت ولم يجد الماء ، استعمل فيه من التيمم ما بيّناه من قبل ، انّه فرض من وجب عليه الغسل.

ومن كان معه من الماء قدر ما يزيل به النجاسة عن بدنه أو ثوبه الذي

__________________

(١) الخلاف : كتاب الطهارة ، مسألة ١١٦ مع اختلاف كثير.

١٤٠