كتاب السرائر - ج ١

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٧٦

وإن كان دخولها من طريق المدينة ، دخلها من أعلاها.

ثم دخل المسجد ، فطاف بالبيت سبعا ، وصلّى عند المقام ركعتين.

ثمّ يخرج إلى الصّفا ، والمروة ، فيسعى بينهما ، سبعة أشواط.

ثم يقصر من شعر رأسه ، أو من أظفاره ، وقد أحلّ من كل شي‌ء أحرم منه ، وتحل له النساء ، من دون طوافهن ، لأنّ كل إحرام ، بحج ، أو بعمرة ، سواء كان الحج واجبا ، أو مندوبا ، وكذلك العمرة ، فلا تحل النساء ، الا بطوافهن. ويجب عليه طواف النساء ، لتحل النساء له ، إلا إحرام العمرة المتمتع بها إلى الحج ، وهي هذه فلا يجب طواف النساء ، بل يحللن له ، من دون الطواف الذي يلزم كل محرم.

ثمّ ينشئ إحراما آخر ، من مكة بالحج ، يوم التروية ، ويمضي إلى منى ، فيبيت بها ، على جهة الاستحباب ، دون الفرض ، والإيجاب ، ليلة عرفة ، ويغدو منها إلى عرفات ، فيقف هناك إلى غروب الشمس ، ويفيض منها إلى المشعر الحرام ، فيصلّي بها المغرب والعشاء الآخرة ، فإذا طلع الفجر ، من يوم النحر ، وقف بالمشعر وقوفا واجبا ، والوقوف به ركن ، من أركان الحج ، من تركه متعمدا بطل حجه ، وكذلك الوقوف بعرفة ، ويتوجه إلى منى ، فيقضي مناسكه يوم العيد بها ، على ما نبيّنه ، ويمضي إلى مكة ، فيطوف بالبيت طواف الزيارة ، وهو طواف الحج ، ويصلّي عند المقام ركعتين ، ويسعى بين الصّفا والمروة ، ثم يطوف طواف النساء ، وقد أحلّ من كل شي‌ء أحرم منه ، وقد قضى مناسكه كلّها ، للعمرة والحج ، وكان متمتعا ثمّ يعود إلى منى ، أيام التشريق (١) واجب عليه الرجوع إليها ، والمبيت بها ، ورمي الجمار بها أيضا ، وغير ذلك إن شاء الله تعالى.

وأمّا القارن ، فهو الذي يحرم من الميقات ، ويقرن بإحرامه ، سياق الهدي ، ويمضي إلى عرفات ، ويقف بها ، ويفيض منها ، إلى المشعر الحرام ، ويقف به ،

__________________

(١) في نسخة م وج : أيام منى.

٥٢١

ويجي‌ء إلى منى يوم النحر ، فيقضي مناسكه بها ، ثم يجي‌ء إلى مكة ، فيطوف بالبيت ، ويصلّي عند المقام ركعتي الطواف ، ويسعى بين الصّفا والمروة ، ويطوف طواف النساء ، وقد قضى مناسكه كلّها للحج ، فحسب دون العمرة.

والمفرد ، مناسكه كذلك ، إلا أنّه لا يقرن بإحرامه سياق هدي ، وباقي المناسك هما فيها سواء ، فإن طافا بالبيت قبل وقوفهما بعرفة ، والمشعر ، يستحب لهما تجديد النية (١) عند كل طواف ، ثمّ يخرجان إلى التنعيم ، أو أحد المواضع التي يحرم منها ، فيحرمان من هناك ، بالعمرة المبتولة ، ويرجعان إلى مكة ، فيطوفان بالبيت ، ويصليان عند المقام ، ويسعيان بين الصّفا والمروة ، ويقصران ، أو يحلقان ، ثم يطوفان ، طواف النساء ، واجب ذلك عليهما ، ولا يجب ذلك على المتمتع ، في عمرته ، على ما قدّمناه ، وقد أديا عمرتهما الواجبة عليهما ، فتكون عمرة مفردة ، ونحن نبيّن ذلك زيادة بيان في مواضعه (٢) ونزيده شرحا.

من جاور بمكة ، سنة واحدة ، أو سنتين ، كان فرضه التمتع ، فيخرج إلى ميقات بلده ، ويحرم بالحج متمتعا ، فإن جاور بها ثلاث سنين ، لم يجز له التمتع ، وكان حكمه حكم أهل مكة ، وحاضريها ، على ما جاءت به الاخبار المتواترة (٣).

وإذا أراد الإنسان ان يحج متمتعا ، فيستحب له أن يوفر شعر رأسه ولحيته ، من أول ذي القعدة ، ولا يمسّ شيئا منهما ، وقال بعض أصحابنا بوجوب توفير ذلك ، فإن حلقه ، وجب عليه دم شاة ، وهو مذهب شيخنا المفيد في مقنعته (٤) وإليه ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله ، في نهايته (٥) واستبصاره (٦) ، وقال

__________________

(١) م تجديد التلبية.

(٢) ج : موضعه.

(٣) لوسائل : كتاب الحج ، الباب ٩ من أبواب أقسام الحج.

(٤) المقنعة : كتاب الحج ، باب العمل والقول عند الخروج ص ٣٩١.

(٥) النهاية : كتاب الحج ، باب أنواع الحج. إلا أنّه لم يقل بوجوب دم شاة عليه ان حلقه.

(٦) الاستبصار : كتاب الحج ، باب توفير شعر الرأس واللحية من أوّل ذي القعدة.

٥٢٢

في جمله وعقوده (١) بما اخترناه أولا وهو الصحيح ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بواجب ، أو مندوب ، يحتاج إلى دليل شرعي ، وأيضا قبل الإحرام ، الإنسان محل ، ولا خلاف أنّ المحلّ لم يحظر عليه حلق رأسه ، وانّما حظر ذلك على المحرم ، ولا إجماع معنا على وجوب توفير شعر الرأس من هذا الوقت.

فإذا جاء إلى ميقات أهله ، أحرم بالحج متمتعا ، على ما قدّمناه ، ومضى إلى مكة ، فإذا شاهد بيوتها ، فليقطع التلبية المندوب تكرارها ، ثم يدخلها ، فإذا دخلها طاف بالبيت سبعا ، وصلّى عند المقام ركعتين ، ثم سعى بين الصّفا والمروة ، وقصّر من شعر رأسه ، وقد أحلّ من جميع ما أحرم منه ، على ما قدّمناه ، إلا الصيد ، فإنّه لا يجوز له ذلك ، لا لكونه محرما ، بل لكونه في الحرم.

ثمّ يستحب أن يكون على هيئته هذه إلى يوم التروية ، عند الزوال ، فإذا كان ذلك الوقت ، صلّى الظهر ، وأحرم بعده بالحج ، ومضى إلى منى ، ثمّ ليغد منها إلى عرفات ، فليصل بها الظهر والعصر ، ويقف إلى غروب الشمس ، ثمّ يفيض إلى المشعر ، فيبيت بها تلك الليلة ، فإذا أصبح ، وقف بها على ما قدّمناه ، ثمّ غدا منها إلى منى ، فقضى (٢) مناسكه هناك ، ثمّ يجي‌ء يوم النحر أو من الغد ، والأفضل أن لا يؤخر ذلك عن الغد ، فإن أخره فلا بأس ، ما لم يهل المحرم ، ويطوف بالبيت طواف الحج ، ويصلّي ركعتي الطواف ، ويسعى بين الصّفا والمروة ، وقد فرغ من مناسكه كلّها ، وحلّ له كل شي‌ء إلا النساء ، والصيد ، وبقي عليه لتحلة النساء طواف ، فليطف أيّ وقت شاء ، في مدة مقامه بمكة ، فإذا طاف طواف النساء ، حلّت له النساء ، وعليه هدي واجب ، ينحره ، أو يذبحه بمنى ، يوم النحر ، فإن لم يتمكن منه ، كان عليه صيام عشرة أيام ، ثلاثة في الحج ، يوم قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، فإن فاته صوم يوم قبل

__________________

(١) الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في كيفية الإحرام وشرائطه.

(٢) في ط : فيقضى.

٥٢٣

التروية ، صام يوم التروية ، ويوم عرفة ، فإذا انقضت أيام التشريق ، صام اليوم الآخر ، بانيا على ما تقدّم من اليومين ، فإن فاته صوم يوم التروية ، فلا يصوم يوم عرفة ، فإن صامه ، لا يجوز له البناء عليه ، فإذا كان بعد أيام التشريق ، صام ثلاثة أيام متواليات ، لا يجزيه غير ذلك ، وسبعة ، إذا رجع إلى أهله.

والمتمتع ، انّما يكون متمتعا ، إذا وقعت عمرته في أشهر الحج ، وهي شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، في تسعة أيام منه ، وإلى طلوع الشمس ، من اليوم العاشر ، فإن وقعت عمرته في غير هذه المدّة المحدودة ، لم يجز له أن يكون متمتعا بتلك العمرة ، وكان عليه لحجته ، عمرة أخرى ، يبتدئ بها في المدة التي قدّمناها.

وكذلك لا يجوز الإحرام بالحج مفردا ، ولا قارنا ، إلا في هذه المدة ، فإن أحرم في غيرها ، فلا حج له ، اللهم إلا أن يجدد الإحرام ، عند دخول هذه المدة.

وأمّا القارن ، فعليه أن يحرم من ميقات أهله ، ويسوق معه هديا ، يشعره من موضع الإحرام ، يشق سنامه ، ويلطخه بالدم ، أو يعلّق في رقبته نعلا ، مما كان يصلّي فيه ، وليسق الهدي معه إلى منى ، ولا يجوز له أن يحل ، إلى أن يبلغ الهدي محلّه.

وقال شيخنا المفيد في كتاب الأركان : فمتى لم يسق من الميقات ، أو قبل دخول الحرم ، إن لم يقدر على ذلك من الميقات ، لم يكن قارنا ، فإذا أراد أن يدخل مكة ، جاز له ذلك ، لكنه يستحب له أن لا يقطع التلبية ، وإن أراد أن يطوف بالبيت تطوعا ، فعل ذلك ، إلا أنّه كلّما طاف بالبيت ، يستحب له ، ان يلبي عند فراغه ، وليس ذلك بواجب عليه.

وقال شيخنا أبو جعفر رحمه‌الله في نهايته : إلا أنّه كلّما طاف بالبيت ، لبى عند فراغه من الطواف ، ليعقد إحرامه بالتلبية ، وانّما يفعل ذلك ، لأنّه لو لم يفعل ذلك ، دخل في كونه محلا ، وبطلت حجته ، وصارت عمرة (١) وهذا غير واضح ،

__________________

(١) النهاية : كتاب الحج ، باب أنواع الحج.

٥٢٤

بل تجديد التلبية مستحب ، عند فراغه من طوافه المندوب ، وقوله رحمه‌الله ليعقد إحرامه ، قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : إحرامه منعقد قبل ذلك ، فكيف يقول ليعقد إحرامه؟ وقوله وانّما يفعل ذلك ، لأنّه لو لم يفعل ذلك ، دخل في كونه محلا ، وبطلت حجّته ، وصارت عمرة ، وهذا قول عجيب ، كيف يدخل في كونه محلا ، وكيف يبطل حجته ، وتصير عمرة ، ولا دليل على ذلك ، من كتاب ، ولا سنة ، مع قول الرسول عليه‌السلام : الأعمال بالنيات (١) وانما لامرئ ما نوى (٢).

وقد رجع شيخنا أبو جعفر عن هذا في جمله وعقوده (٣) ، ومبسوطة (٤) فقال : وتميز القارن ، من المفرد ، بسياق الهدي ، ويستحب لهما تجديد التلبية ، عند كل طواف ، وانّما أورد ما ذكره في نهايته إيرادا ، لا اعتقادا ، وقد بيّنا أنّه ليس له أن يحل إلى أن يبلغ الهدي محله ، من يوم النحر ، وليقض مناسكه كلّها ، من الوقوف بالموقفين ، وما يجب عليه من المناسك بمنى ، ثم يعود إلى مكة ، فيطوف بالبيت سبعا ، ويسعى بين الصّفا والمروة سبعا ، ثمّ يطوف طواف النساء ، وقد أحلّ من كل شي‌ء أحرم منه ، وكانت عليه العمرة بعد ذلك.

والمتمتع إذا تمتع ، سقط عنه فرض العمرة ، لأنّ عمرته التي يتمتع بها بالحج (٥) قامت مقام العمرة المبتولة ، ولم يلزمه (٦) إعادتها.

وأمّا المفرد بكسر الراء ، فانّ عليه ما على القارن سواء ، لا يختلف حكمهما في شي‌ء ، من مناسك الحجّ ، وانّما يتميز القارن من المفرد ، بسياق الهدي ، فأمّا باقي المناسك ، فهما مشتركان فيه على السواء.

ويستحب لهما ، أن لا يقطعا التلبية إلا بعد الزوال من يوم عرفة.

__________________

(١) الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب ٥ من أبواب مقدمة العبادات ، ح ٦ و ٧.

(٢) الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب ٥ من أبواب مقدمة العبادات ، ح ٦ و ٧.

(٣) الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر أفعال الحج.

(٤) المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر أنواع الحج وشرائطها.

(٥) ج : إلى الحج ، في نسخة.

(٦) ج : لم يلزم.

٥٢٥

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ولا يجوز لهما أن يقطعا التلبية ، إلا بعد الزوال ، من يوم عرفة (١). فإن أراد بقوله : لا يجوز ، التأكيد على فعل الاستحباب ، فنعم ما قال ، وإن أراد ذلك على جهة التحريم ، فغير واضح ، لأنّ تجديد التلبية ، وتكرارها ، بعد التلفظ بها دفعة واحدة ، وانعقاد الإحرام بها ، غير واجب ، أعني تكرارها ، وانّما ذلك مستحب ، مؤكد الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، وليس عليهما هدي وجوبا ، فان ضحّيا استحبابا ، كان لهما فيه فضل جزيل ، وليس ذلك بواجب.

باب المواقيت

معرفة المواقيت واجبة ، لأنّ الإحرام لا يجوز إلا منها ، فلو أنّ إنسانا أحرم قبل ميقاته ، كان إحرامه باطلا ، اللهم إلا أن يكون قد نذر لله تعالى على نفسه ، أن يحرم من موضع بعينه ، فإنّه يلزمه الوفاء به ، حسب ما نذره ، على ما روي في الاخبار (٢) فمن عمل بها ، ونذر الحج ، أو العمرة المتمتع بها إلى الحج ، فإنّها حج أيضا ، وداخلة فيه ، فلا ينعقد إلا إذا وقع في أشهر الحج ، فإن كان الموضع الذي نذر منه الإحرام ، بينه وبين مكة ، أكثر من مدّة أشهر الحج ، فلا ينعقد الإحرام بالحج أيضا ، وإن كان منذورا ، لأنّ الإجماع حاصل منعقد ، على أنّه لا ينعقد إحرام حج ، ولا عمرة متمتع بها إلى الحج ، إلا في أشهر الحج ، فإذا وردت أخبار ، بأنّه إذا كان منذورا ، انعقد قبل المواقيت ، فانّ العمل يصح بها ، ويخص بذلك الإجماع ، وأمكن العمل بها ، فإن قيل : فإنّها عام ، قلنا : فالعموم قد يخص بالأدلة.

قال محمد بن إدريس رحمه‌الله : والأظهر الذي يقتضيه الأدلة ، وأصول

__________________

(١) النهاية : كتاب الحج ، باب أنواع الحج.

(٢) الوسائل : كتاب الحج الباب ١٣ من أبواب المواقيت.

٥٢٦

مذهبنا ، أنّ الإحرام لا ينعقد إلا من الميقات ، سواء كان منذورا ، أو غيره ، ولا يصح النذر بذلك أيضا ، لأنّه خلاف المشروع ، ولو انعقد بالنذر ، كان ضرب المواقيت لغوا ، والذي اخترناه ، يذهب إليه السيد المرتضى رحمه‌الله ، وابن أبي عقيل ، من أصحابنا ، وشيخنا أبو جعفر ، في مسائل خلافه ، فإنّه قال : مسألة ، من أفسد الحج ، وأراد أن يقضي ، أحرم من الميقات ، ثمّ استدل فقال : دليلنا ، إنّا قد بيّنا أن الإحرام قبل الميقات لا ينعقد ، وهو إجماع الفرقة ، وأخبارهم ، عامة في ذلك ، فلا يتقدر على مذهبنا هذه المسألة (١) هذا آخر كلامه ، فلو كان ينعقد الإحرام قبل الميقات إذا كان منذورا ، لما قال فلا يتقدّر على مذهبنا هذه المسألة ، وهي تتقدّر عند من قال يصح الإحرام قبل الميقات ، وينعقد إذا كان منذورا ، فليلحظ ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في نهايته : ومن عرض له مانع من الإحرام ، جاز له أن يؤخر أيضا عن الميقات ، فإذا زال المنع ، أحرم من الموضع الذي انتهى إليه (٢).

قال محمّد بن إدريس : قوله رحمه‌الله : جاز له أن يؤخره ، مقصوده كيفية الإحرام الظاهرة ، وهو التعري ، وكشف الرأس ، والارتداء ، والتوشّح والاتزار ، فأمّا النية ، والتلبية ، مع القدرة عليها ، فلا يجوز له ذلك ، لأنّه لا مانع يمنع من ذلك ، ولا ضرورة فيه ، ولا تقية ، وإن أراد ، وقصد شيخنا غير ذلك ، فهذا يكون قد ترك الإحرام متعمدا من موضعه ، فيؤدي إلى إبطال حجه بغير خلاف ، فليتأمّل ذلك.

وإن قدّم إحرامه قبل الوقت ، وأصاب صيدا ، لم يكن عليه شي‌ء ، لأنّه لم ينعقد إحرامه ، وإن أخّر إحرامه عن الميقات ، وجب عليه أن يرجع إليه ، ويحرم منه ، متعمدا كان أو ناسيا ، فإن لم يمكنه الرجوع إلى الميقات ، وكان قد ترك

__________________

(١) الخلاف : كتاب الحج ، مسألة ٢١٧ الا أنّه قال في مسألة ٦٢ من كتاب الحج بجواز الإحرام قبل الميقات بالنذر.

(٢) النهاية : كتاب الحج ، باب المواقيت.

٥٢٧

الإحرام متعمدا ، فلا حج له ، وإن كان تركه ناسيا ، فليحرم من موضعه ، لأنّ الإحرام واجب وركن (١) والأركان في الحج متى تركها الإنسان متعمدا بطل حجه ، إذا فات أوقاتها ، ومحالها ، وأزمانها ، وأمكنتها ، فإن تركها ناسيا ، لا يبطل حجه ، والواجب الذي ليس بركن ، إذا تركه الإنسان متعمدا ، لا يبطل حجه ، بل له أحكام نذكرها ، عند المصير إليها إن شاء الله تعالى.

فإن كان قد دخل مكة ، ثمّ ذكر أنّه لم يحرم ، ولم يمكنه الرجوع إلى الميقات ، لخوف الطريق ، أو لضيق الوقت ، وأمكنه الخروج إلى خارج الحرم ، فليخرج إليه ، وليحرم منه ، وإن لم يمكنه ذلك أيضا ، أحرم من موضعه ، وليس عليه شي‌ء ، وقد وقّت (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأهل كل صقع ، ولمن حج على طريقهم ميقاتا ، فوقت لأهل العراق العقيق ، فمن أي جهاته وبقاعه أحرم ينعقد الإحرام منها ، إلا أنّ له ثلاثة أوقات ، أولها المسلخ ، يقال بفتح الميم وبكسرها ، وهو أوله ، وهو أفضلها عند ارتفاع التقية ، وأوسطها غمرة ، وهي تلي المسلخ ، في الفضل مع ارتفاع التقية (٣) وآخرها ذات عرق ، وهو (٤) أدونها في الفضل ، إلا عند التقية ، والشناعة ، والخوف ، فذات عرق حينئذ أفضلها في هذه الحال ، ولا يتجاوز ذات عرق إلا محرما على كلّ حال.

ووقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، وهو مسجد الشجرة ، ووقت لأهل الشام ، الجحفة ، وهي المهيعة ، بتسكين الهاء ، وفتح الياء ، مشتقة من المهيع ، وهو المكان الواسع ، ووقت لأهل الطائف ، قرن المنازل ، وقال بعض أهل اللغة ، وهو الجوهري صاحب كتاب الصحاح ، في الصحاح : قرن بفتح الراء ، ميقات أهل نجد ، والمتداول بين الفقهاء ، وسماعنا على مشايخنا ، رحمهم‌الله ، قرن المنازل ، بتسكين الراء ، واحتج صاحب الصحاح ، بأن أويس القرني منسوب

__________________

(١) ج : ركن من الأركان في الحج التي متى.

(٢) ج : ووقّت.

(٣) ج : مع التقية.

(٤) في ط وج : وهي.

٥٢٨

إليه ، ووقت لأهل اليمن جبلا يقال له يلملم ، ويقال ألملم. وميقات أهل مصر ، ومن صعد من البحر ، جدة.

وإذا حاذى الإنسان أحد هذه المواقيت ، أحرم من ذلك الموضع ، إذا لم يجعل طريقه أحدها.

ومن كان منزله دون هذه المواقيت ، إلى مكة فميقاته منزله ، فعليه أن يحرم منه.

والمجاور بمكة الذي لم يتم له ثلاث سنين ، إذا أراد أن يحج ، فعليه أن يخرج إلى ميقات صقعه ، وليحرم منه ، وإن لم يتمكن فليخرج إلى خارج الحرم ، فيحرم منه ، وإن لم يتمكن من ذلك أيضا ، أحرم من المسجد الحرام.

وقد ذكر أنّ من جاء إلى الميقات ، ولم يقدر على الإحرام ، لمرض ، أو غيره ، فليحرم عنه وليه ، ويجنبه ما يجتنب المحرم ، وقد تم إحرامه ، وهذا غير واضح ، بل إن كان عقله ثابتا ، عليه فالواجب عليه ، أن ينوي هو ، ويلبي ، فإن لم يقدر فلا شي‌ء عليه ، وانعقد إحرامه بالنية ، وصار بمنزلة الأخرس ، ولا يجزيه نية غيره عنه ، وإن كان زائل العقل ، فقد سقط عنه الحج ، مندوبا ، كان أو واجبا ، فإن أريد بذلك ، أنّ وليّه لا يقربه شيئا ممّا يحرم على المحرم استعماله ، فحسن ، وإن أريد بأنّه ينوي عنه ، ويحرم عنه ، فقد قلنا ما عندنا في ذلك.

باب كيفيّة الإحرام

الإحرام فريضة ، لا يجوز تركه ، فمن تركه متعمدا فلا حج له ، وإن تركه ناسيا كان حكمه ما قدّمناه في الباب الأول ، إذا ذكر ، فإن لم يذكر أصلا حتى يفرغ من جميع مناسكه ، فقد تمّ حجّه ، ولا شي‌ء عليه ، إذا كان قد سبق في عزمه الإحرام على ما روي في أخبارنا (١) والذي تقتضيه أصول المذهب أنّه لا

__________________

(١) الوسائل : كتاب الحج ، الباب ٢٠ من أبواب المواقيت.

٥٢٩

يجزيه ، وتجب عليه الإعادة ، لقوله عليه‌السلام : الأعمال بالنيات (١) وهذا عمل بلا نية ، فلا يرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد ، ولم يورد هذا ، ولم يقل به أحد ، من أصحابنا ، سوى شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله ، فالرجوع إلى الأدلة أولى من تقليد الرجال.

وإذا أراد الإنسان أن يحرم بالحج متمتعا ، فإذا انتهى إلى ميقاته ، تنظف ، وقص أظفاره ، وأخذ شيئا من شاربه ، ويزيل الشعر من تحت إبطيه ، وعانته ، ثم ليغتسل ، كل ذلك مستحب ، غير واجب ، ثمّ يلبس ثوبي إحرامه ، يأتزر بأحدهما ، ويتوشح بالآخر ، أو يرتدي به.

وقد أورد شيخنا أبو جعفر رحمه‌الله في كتاب الإستبصار ، في الجزء الثاني ، في باب كيفية التلفظ بالتلبية ، خبرا عن الرضا عليه‌السلام ، قال فيه : وآخر عهدي بأبي ، أنّه دخل على الفضل بن الربيع ، وعليه ثوبان وساج (٢).

قال محمّد بن إدريس : وساج يريد طيلسانا ، لأنّ الساج بالسين غير المعجمة ، والجيم ، الطيلسان الأخضر ، أو الأسود ، قال أبو ذويب :

فما أضحى همي الماء حتى

كأنّ على نواحي الأرض ساجا

ولا بأس أن يغتسل قبل بلوغه الميقات ، إذا خاف عوز الماء ، فان وجد الماء عند الميقات والإحرام ، أعاد الغسل ، فإنّه أفضل ، وإذا اغتسل بالغداة ، كان غسله كافيا لذلك اليوم ، أيّ وقت أراد أن يحرم فيه فعل ، وكذلك إذا اغتسل أوّل الليل ، كان كافيا له إلى آخره ، سواء نام أو لم ينم ، وقد روي أنّه إذا نام بعد الغسل قبل أن يعقد الإحرام ، كان عليه اعادة الغسل استحبابا (٣) والأول هو الأظهر ، لأنّ الأخبار عن الأئمة الأطهار ، جاءت في أنّ من اغتسل نهاره ، كفاه ذلك الغسل ، وكذلك من اغتسل ليلا.

__________________

(١) الوسائل : كتاب الطهارة باب ٥ من أبواب مقدمة العبادات ، ح ٦.

(٢) الاستبصار : حديث ١٣ من ذلك الباب.

(٣) الوسائل : كتاب الحج ، الباب ١٠ من أبواب الإحرام.

٥٣٠

ومتى اغتسل للإحرام ثمّ أكل طعاما لا يجوز للمحرم أكله ، أو لبس ثوبا لا يجوز له لبسه لأجل الإحرام ، يستحب له اعادة الغسل.

ولا بأس أن يلبس المحرم ، أكثر من ثوبي إحرامه ، ثلاثة ، أو أربعة ، أو أكثر من ذلك ، إذا اتقى بها الحر ، أو البرد ، ولا بأس أيضا أن يغيّر ثيابه ، وهو محرم.

فإذا دخل إلى مكة ، وأراد الطواف ، فالأفضل له أن لا يطوف إلا في ثوبيه ، اللذين أحرم فيهما.

وأفضل الثياب للإحرام القطن ، والكتاب البياض (١) ، وانّما يكره التكفين في الكتان ، ولا يكره الإحرام في الكتان.

وجميع ما تصح الصلاة فيه من الثياب للرجال ، يصح لهم الإحرام فيه.

فأمّا النساء ، فالأفضل لهن الثياب البياض (٢) من القطن والكتان ، ويجوز لهن الإحرام في الثياب الإبريسم المحض ، لأنّ الصلاة فيها جائزة لهن ، وإلى هذا القول ذهب شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان الحارثي رحمه‌الله ، في كتابه أحكام النساء (٣) ، وهو الصحيح ، لأنّ حظر الإحرام لهن في الإبريسم ، يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك ، والأصل براءة الذمة ، وصحة التصرّف في الملك ، وحمل ذلك على الرجال قياس ، ونحن لا نقول به.

وأفضل الأوقات التي يحرم الإنسان فيها ، بعد الزوال ، ويكون ذلك بعد فريضة الظهر ، فعلى هذا يكون ركعتا الإحرام المندوبة ، قبل فريضة الظهر ، بحيث يكون الإحرام عقيب صلاة الظهر ، وإن اتفق أن يكون الإحرام في غير هذا الوقت ، كان أيضا جائزا ، والأفضل أن يكون الإحرام ، بعد صلاة فريضة ، وأفضل ذلك ، بعد صلاة الظهر ، فإن لم تكن صلاة فريضة ، صلّى ست ركعات ، ونوى بها صلاة الإحرام ، مندوبا قربة إلى الله تعالى ، وأحرم في دبرها ،

__________________

(١) في ط وج : الأبيض.

(٢) في ط وج : بيض.

(٣) لا يوجد عندنا.

٥٣١

فإن لم يتمكن من ذلك ، أجزأه ركعتان ، وليقرأ في الأوّلة منهما بعد التوجه ، الحمد ، وقل هو الله أحد ، وفي الثانية الحمد ، وقل يا أيّها الكافرون ، فإذا فرغ منهما ، أحرم عقيبهما ، بالتمتع بالعمرة إلى الحجّ ، فيقول : اللهم إنّي أريد ما أمرت به ، من التمتع بالعمرة إلى الحجّ ، على كتابك وسنّة نبيّك ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن عرض لي عارض ، يحبسني ، فحلّني حيث حبستني ، لقدرك الذي قدّرت عليّ ، اللهم إن لم يكن حجة ، فعمرة أحرم لك شعري ، وجسدي ، وبشري من النساء ، والطيب ، والثياب ، أبتغي بذلك وجهك ، والدار الآخرة ، وكل هذا القول مستحب ، غير واجب.

وإن كان قارنا ، فليقل : اللهم إنّي أريد ما أمرت به من الحجّ ، قارنا ، وإن كان مفردا فليذكر ذلك ، نطقا في إحرامه ، فإنّه مستحب.

فأمّا نيات الأفعال ، وما يريد أن يحرم به ، فإنّه يجب ذلك ، ونيات القلوب ، فإنّه لا ينعقد الإحرام إلا بالنية ، والتلبية للمتمتع والمفرد ، وأمّا القارن ، فينعقد إحرامه بالنيّة ، وانضمام التلبية ، أو الإشعار ، أو التقليد ، مخير بين ذلك ، وذهب بعض أصحابنا إلى أنّه لا ينعقد الإحرام ، في جميع أنواع الحج ، إلا بالتلبية فحسب ، وهو (١) السيد المرتضى رحمة الله ، وبه أقول ، لأنّه مجمع عليه ، والأول اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في نهايته : ومن أحرم من غير صلاة وغير غسل ، كان عليه إعادة الإحرام ، بصلاة وغسل (٢) فأقول : إن أراد أنّه نوى الإحرام ، وأحرم ، ولبّى ، من دون صلاة وغسل ، فقد انعقد إحرامه ، فأيّ اعادة تكون عليه ، وكيف يتقدر ذلك ، وإن أراد أنّه أحرم بالكيفية الظاهرة ، من دون النية والتلبية ، على ما قدّمنا القول في مثله (٣) ، ومعناه ، فيصح ذلك ، ويكون لقوله وجه.

__________________

(١) في ط وج : وهو اختيار.

(٢) النهاية : كتاب الحج ، باب كيفية الإحرام.

(٣) ج : في ذلك.

٥٣٢

ولا بأس أن يصلّي الإنسان صلاة الإحرام ، أي وقت كان من ليل أو نهار ، ما لم يكن قد تضيق وقت فريضة حاضرة ، فإن تضيق الوقت بدأ بالفريضة ، ثمّ بصلاة الإحرام ، وإن لم يكن تضيق بدأ بصلاة الإحرام.

ويستحب للإنسان ، أن يشترط في الإحرام ، إن لم يكن حجة فعمرة ، وان يحله حيث حبسه ، سواء كانت حجته تمتعا ، أو قرانا ، أو إفرادا ، وكذلك الحكم في العمرة ، وإن لم يكن الاشتراط لسقوط فرض الحج في العام المقبل ، فإن من حج حجة الإسلام ، وأحصر ، لزمه الحج من قابل ، وإن كانت تطوعا ، لم يكن عليه ذلك ، وانّما يكون للشرط تأثير ، وفائدة ، أن يتحلل المشترط ، عند العوائق ، من مرض ، وعدو ، وحصر ، وصدّ ، وغير ذلك ، بغير هدي.

وقال بعض أصحابنا : لا تأثير لهذا الشرط ، في سقوط الدم عند الحصر والصد ، ووجوده كعدمه ، والصحيح الأول ، وهو مذهب السيد المرتضى ، وقد استدل على صحّة ذلك ، بالإجماع ، وبقول الرسول عليه‌السلام ، لضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب : حجي واشترطي وقولي : اللهم فحلني حيث حبستني (١). ولا فائدة لهذا الشرط ، إلا التأثير فيما ذكرناه من الحكم ، فان احتجوا بعموم قوله تعالى : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) قلنا : نحمل ذلك على من لم يشترط ، هذا آخر استدلال السيد المرتضى.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مسائل الخلاف : مسألة ، يجوز للمحرم ، أن يشترط في حال إحرامه ، أنّه إن عرض له عارض يحبسه أن يحلّه حيث حبسه من مرض ، أو عدو ، أو انقطاع نفقة ، أو فوات وقت ، وكان ذلك صحيحا ، يجوز له أن يتحلّل إذا عرض له شي‌ء من ذلك ، وروي ذلك عن

__________________

(١) مستدرك الوسائل : كتاب الحج ، الباب ١٦ من أبواب الإحرام ، ( وفي المصدر : أحرمي بدل حجي ـ من دون قولي اللهم ).

٥٣٣

عمرو ابن مسعود ، وبه قال الشافعي ، وقال بعض أصحابه : إنّه لا تأثير للشرط ، وليس بصحيح عندهم ، والمسألة على قول واحد في القديم ، وفي الجديد على قولين ، وبه قال أحمد ، وإسحاق ، وقال الزهري ، ومالك ، وابن عمر ، الشرط لا يفيد شيئا ، ولا يتعلّق به التحلل ، وقال أبو حنيفة : المريض له التحلل من غير شرط ، فإن شرط ، سقط عنه الهدي ، دليلنا : إجماع الفرقة ، ولأنّه شرط ، لا يمنع منه الكتاب ، ولا السنة ، فيجب أن يكون جائزا ، لأنّ المنع يحتاج إلى دليل ، وحديث ضباعة بنت الزبير ، يدل على ذلك ، وروت عائشة أنّ النبي عليه‌السلام ، دخل على ضباعة بنت الزبير ، فقالت : يا رسول الله ، إنّي أريد الحج ، وأنا شاكية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أحرمي ، واشترطي ، وقولي أن تحلّني (١) حيث حبستني (٢) وهذا نص.

ثمّ قال رحمه‌الله بعد هذه المسألة بلا فصل : مسألة : إذا شرط على ربّه في حال الإحرام ، ثم حصل الشرط ، وأراد التحلّل فلا بدّ من نية التحلّل ، ولا بدّ من الهدي ، وللشافعي فيه قولان ، في النية والهدي معا ، دليلنا : عموم الآية ، في وجوب الهدي ، على المحصر ، وطريقة الاحتياط (٣) هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر رحمه‌الله.

قال محمّد بن إدريس : في المسألة الأوّلة ، يناظر شيخنا رحمه‌الله ، ويخاصم ، من قال أن الشرط لا تأثير له ، ووجوده كعدمه ، وأنّه لا يفيد شيئا ، ثم يستدل على صحّته وتأثيره ، ولا شرط لا يمنع منه الكتاب ، ولا السنّة ، فيجب أن يكون جائزا ، ويستدل بحديث ضباعة بنت الزبير ، وفي المسألة الثانية ، يذهب إلى أنّ وجوده كعدمه ، ولا بدّ من الهدي ، وان اشترط ، ويستدل بعموم الآية ، في وجوب الهدي على المحصر ، وهذا عجيب ، طريف ، فيه ما فيه.

__________________

(١) في ط وج : وقولي اللهم فحلّني.

(٢) الخلاف : كتاب الحج ، مسائل جزاء الصيد ، مسألة ٣٢٣.

(٣) الخلاف : كتاب الحج ، مسائل جزاء الصيد ، مسألة ٣٢٤.

٥٣٤

ولا بأس أن يأكل الإنسان لحم الصيد ، وينال النساء ، ويشم الطيب بعد عقد الإحرام ، ما لم يلب ، فإذا لبّى ، حرم عليه جميع ذلك ، كذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (١) ، وهذا غير واضح ، لأنّه قال بعد عقد الإحرام : والإحرام لا ينعقد إلا بالتلبية ، أو الاشعار ، والتقليد (٢) ، للقارن ، ثم قال : ما لم يلب ، فإذا لم يلبّ فما انعقد إحرامه.

والأولى أن يقال : انّما أراد بقوله بعد عقد الإحرام ، لبس ثوبي الإحرام ، والصلاة ، والاغتسال من الكيفية الظاهرة ، على ما أسلفنا القول في معناه ، وإن كان الحاج قارنا ، فإذا ساق ، وأشعر البدنة ، أو قلّدها ، حرم أيضا عليه ذلك ، وإن لم يلب ، لأنّ ذلك يقوم مقام التلبية ، في حقّ القارن.

والاشعار ، هو أن يشق سنام البدنة ، من الجانب الأيمن ، فإن كانت بدنا كثيرة ، صفّها صفّين ، ويشعر إحديهما من جانبها الأيمن ، والأخرى من جانبها الأيسر.

وينبغي إذا أراد الإشعار ، أن يشعرها وهي باركة ، وإذا أراد نحرها ، نحرها وهي قائمة.

والتقليد ، يكون بنعل قد صلى فيه ، لا يجوز غيره.

وإذا أراد المحرم أن يلبي جاهرا بالتلبية ، بعد انعقاد إحرامه بالتلبية المخفت بها التي أدنى التلفظ بها ، أن تسمع أذناه ، التي يقال يلبي سرا ، يريدون بذلك ، غير جاهر بها ، بل متلفظا ، بحيث تسمع أذناه الكلام ، ثم أراد أن يكررها ، جاهرا بها ، فالأفضل له إذا كان حاجا على طريق المدينة ، أن يجهر بها ، إذا أتى البيداء ، وهي الأرض التي يخسف بها جيش السفياني ، التي تكره فيها الصلاة عند الميل ، فلو أريد بذلك التلبية التي ينعقد بها الإحرام ، لما جاز ذلك ، لأنّ البيداء بينها وبين ذي الحليفة ، ميقات أهل المدينة ، ثلاث فراسخ ، وهو ميل ، فكيف يجوز له أن يتجاوز الميقات من غير إحرام ، فيبطل بذلك حجه وانّما

__________________

(١) النهاية : كتاب الحج ، باب كيفية الإحرام.

(٢) في ط : أو التقليد.

٥٣٥

المقصود والمراد ما ذكرناه من الإجهار بها ، في حال تكرارها.

وإذا كان حاجا على غير طريق المدينة ، جهر من موضعه بتكرار التلبية المستحبة ، إن أراد ، وإن مشى خطوات ثمّ لبى ، كان أفضل.

والتلبية التي ينعقد بها الإحرام فريضة ، لا يجوز تركها على حال ، والتلفظ بها دفعة واحدة ، هو الواجب ، والجهر بها على الرجال مندوب ، على الأظهر من أقوال أصحابنا ، وقال بعضهم : الجهر بها واجب ، فأمّا تكرارها مندوب مرغب فيه ، والإتيان بقول لبيك ذا المعارج إلى آخر الفصل مندوب ، أيضا شديد الاستحباب.

وكيفية التلبية الأربع الواجبة التي تتنزل في انعقاد الإحرام بها منزلة تكبيرة الإحرام في انعقاد الصلاة ، هو أن يقول : لبيك اللهم لبيك ، لبيك انّ الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبّيك فهذه التلبيات الأربع فريضة ، لا بدّ منها.

فإذا لبّى بالتمتع ، ودخل إلى مكة ، وطاف ، وسعى ، ثم لبّى ، بالحج ، قبل أن يقصّر ، فقد بطلت متعته ، على قول بعض أصحابنا ، وكانت حجته مبتولة ، هذا إذا فعل ذلك متعمدا ، فإن فعله ناسيا ، فليمض فيما أخذ فيه ، وقد تمت متعته ، وليس عليه شي‌ء.

ومن لبى بالحجّ مفردا ، ودخل مكة ، وطاف ، وسعى ، جاز له أن يقصّر ويجعلها عمرة ، ما لم يلب بعد الطواف ، فإن لبّى بعده ، فليس له متعة ، وليمض في حجّته ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في نهايته (١). ولا أرى لذكر التلبية هاهنا وجها ، وانّما الحكم للنية ، دون التلبية ، لقوله عليه‌السلام : الأعمال بالنيات (٢).

وينبغي أن يلبّي الإنسان ، ويكرر التلبيات الأربع ، وغيرها من الألفاظ ،

__________________

(١) النهاية : كتاب الحج ، باب كيفية الإحرام.

(٢) الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب ٥ من أبواب مقدمة العبادات ، ح ٦.

٥٣٦

مندوبا ، في كل وقت ، وعند كل صلاة ، وإذا هبط واديا ، أو صعد شرفا ، وفي الأسحار.

والأخرس ، يجزيه في تلبيته ، تحريك لسانه ، وإشارته ، بالإصبع.

ويقطع المتمتع ، التلبية ، المكررة المندوبة ، إذا شاهد بيوت مكة ، فإذا شاهدها ، يستحب له قطعها ، فإن كان قارنا أو مفردا ، قطع تلبيته يوم عرفة بعد الزوال ، وإذا كان معتمرا قطعها إذا دخل الحرم ، فإن كان المعتمر ممن قد خرج من مكة ، ليعتمر ، فلا يقطعها ، إلا إذا شاهد الكعبة.

ويجرد الصبيان ، من لبس المخيط ، من فخّ ، و « فخ » بالفاء والخاء المعجمة المشددة ، إذا حج بهم على طريق المدينة ، لأنّ فخّا على هذه الطريق ، فأمّا إذا كان إحرامهم من غير ميقات أهل المدينة ، فلا يجوز لبس المخيط لهم ، بل يجردون من المخيط وقت الإحرام ، و « فخّ » هي الموضع الذي قتل به الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهي من مكة ، على رأس فرسخ ، إذا أريد الحج بهم.

ويجنبون ، كلّما يجتنبه المحرم ، ويفعل بهم ، ما يجب على المحرم فعله ، وإذا حجّ بهم متمتعين ، وجب أن يذبح عنهم ، ويكون الهدي من مال من حجّ بالصبي ، دون مال الصبي ، وينبغي أن يوقف الصبي بالموقفين معا ، ويحضر المشاهد كلّها ، ويرمى عنه ، ويناب عنه ، في جميع ما يتولاه الرجل بنفسه ، وإذا لم يوجد لهم هدي ، كان على الولي الذي أدخلهم في الحج ، أن يصوم عنه.

وأفعال الحج على ضربين : مفروض ، ومسنون ، في الأنواع الثلاثة. والمفروض على ضربين : ركن ، وغير ركن.

فأركان المتمتع عشرة له النيّة ، والإحرام من الميقات في وقته ، وطواف العمرة ، والسعي بين الصّفا والمروة لها ، والإحرام بالحج ، من جوف مكة ، لأنّها ميقاته ، والنية له ، والوقوف بعرفات ، والوقوف بالمشعر ، وطواف الزيارة ، والسعي للحج.

وما ليس بركن ، فثمانية أشياء : التلبيات الأربع على قول بعض أصحابنا وعلى قول

٥٣٧

الباقين ، هي ركن ، وهو الأظهر والأصح ، لأن حقيقة الركن ، ما إذا أخل به الإنسان في الحج عامدا ، بطل حجّه ، والتلبية هذا حكمها ، وإلى هذا يذهب شيخنا أبو جعفر ، في النهاية في باب فرائض الحج (١) ويذهب في الجمل والعقود ، إلى أنّ التلبية واجبة ، غير ركن (٢) ، أو ما قام (٣) مقامها مع العجز ، وركعتا طواف العمرة ، والتقصير بعد السعي ، والتلبية عند الإحرام بالحج ، أو ما يقوم مقامها ، على رأي من لا يرى أنّها ركن ، والهدي ، أو ما يقوم مقامه ، من الصوم مع العجز ، ولا يجوز إذا عدمنا القدرة على الهدي ، الانتقال إلا إلى الصوم ، دون الثمن ، لأنّ الله تعالى (٤) ما نقلنا إلى ثالث ، بل نقلنا إذا عدمنا الهدي ، إلى بدله ، وهو الصوم ، وبعض أصحابنا قال : لا يجوز الانتقال إلى الصوم ، إلا بعد عدم ثمنه ، والأوّل أظهر ، ودليله ما قدّمناه ، وركعتا طواف الزيارة ، وطواف النساء ، وركعتا الطواف له.

وأركان القارن والمفرد ستة : النية ، والإحرام ، والوقوف بعرفات ، والوقوف بالمشعر ، وطواف الزيارة ، والسعي.

وما ليس بركن فيهما أربعة أشياء : التلبية ، أو ما يقوم مقامها للقارن ، من تقليد ، أو إشعار ، على أحد المذهبين ، وركعتا طواف الزيارة ، وطواف النساء ، وركعتا الطواف له.

ويتميز القارن من المفرد بسياق الهدي.

ويستحب لهما تجديد التلبية عند كل طواف.

وأشهر الحج ، قال بعض أصحابنا : ثلاثة أشهر وهي : شوال وذو القعدة وذو الحجة ، وقال بعض أصحابنا : شهران ، وتسعة أيام ، وقال بعض منهم :

__________________

(١) النهاية : كتاب الحج ، باب فرائض الحج.

(٢) الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر أفعال الحج.

(٣) في ط وج : يقوم.

(٤) في سورة البقرة الآية ١٩٦ قال ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ ).

٥٣٨

شهران وعشرة أيام ، فالأول مذهب شيخنا المفيد ، في كتابه الأركان ، ويناظر مخالفه على ذلك ، وهو أيضا مذهب شيخنا أبي جعفر رحمه‌الله في نهايته (١) وقال في جمله وعقوده : شهران وتسعة أيام (٢) وقال في مسائل خلافه (٣) ومبسوطة (٤). وأشهر الحج : شوال ، وذو القعدة ، وإلى يوم النحر ، قبل طلوع الفجر منه ، فإذا طلع ، فقد مضى أشهر الحج ، ومعنى ذلك ، أنّه لا يجوز أن يقع إحرام الحج إلا فيه ، ولا إحرام العمرة التي يتمتع بها إلى الحج ، إلا فيها ، وأمّا إحرام العمرة المبتولة ، فجميع أيام السنة وقت له.

والذي يقوى في نفسي ، مذهب شيخنا المفيد ، وشيخنا أبي جعفر ، في نهايته ، والدليل على ما اخترناه ، ظاهر لسان العرب ، وحقيقة الكلام ، وذلك أنّ الله تعالى قال في محكم كتابه : ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) (٥) فجمع سبحانه ، ولم يفرد بالذكر ، ولم يثن ، ووجدنا أهل اللسان ، لا يستعملون هذا القول ، فيما دون أقل من ثلاثة أشهر ، فيقولون : فلان غاب شهرا ، إذا أكمل الشهر لغيبته ، وفلان غاب شهرين ، إذا كان فيهما جميعا غائبا ، وفلان غاب ثلاثة أشهر ، إذا دامت غيبته في الثلاثة ، فثبت أنّ أقل ما يطلق عليه لفظ الأشهر ، في حقيقة اللغة ثلاثة منها ، فوجب أن يجري كلام الله تعالى ، وكتابه على الحقيقة ، دون المجاز ، لأنّ الكلام في الحقائق ، دون المجازات ، والاستعارات.

ويزيد ذلك بيانا ما روي عن الأئمة من آل محمّد عليهم‌السلام أنّ أشهر الحج ثلاثة : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة (٦) ويصحّح هذه الرواية ، عن الأئمة

__________________

(١) النهاية : كتاب الحج ، باب أنواع الحج.

(٢) الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في كيفية الإحرام وشرائطه.

(٣) الخلاف : كتاب الحج ، مسألة ٢٣.

(٤) المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر أنواع الحج وشرائطها.

(٥) البقرة : ١٩٧.

(٦) الوسائل : كتاب الحج ، الباب ١١ من أبواب أقسام الحج.

٥٣٩

عليهم‌السلام ، ما أجمعت عليه الطائفة عنهم عليهم‌السلام في جواز ذبح الهدي طول ذي الحجة ، وطواف الحج ، وسعي الحج ، طول ذي الحجّة ، وكذلك طواف النساء عندنا ، وقالوا عليهم‌السلام ، فإن لم يجد الهدي حتى يخرج ذو الحجة ، أخّره إلى قابل ، فإنّ أيام الحج قد مضت ، فجعلوا عليهم‌السلام آخر منتهى الحج ، آخر ذي الحجّة.

فإن قال قائل : ما أنكرتم أن يكون آخر أشهر الحج ، اليوم العاشر من ذي الحجة ، بدلالة إجماع الأمّة ، على أنّه ليس لأحد أن يهل بالحج ، ولا يقف بعرفة ، بعد طلوع الفجر من يوم النحر ، وذلك أنّه لو كان باقي ذي الحجة من أشهر الحج ، لجاز فيه ما ذكرناه.

قيل له قد تقدّم القول في بطلان هذا المذهب ، بما ذكرناه من كلام العرب ، وحقيقة اللسان ، وقد قال الله تعالى ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (١) وقال تعالى ( قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) (٢) فلو كان الأمر على ما يذهب إليه مخالفنا في المسألة ، لكان القرآن واردا على غير مفهوم اللغة ، وذلك ضدّ الخبر الذي تلوناه من الكتاب ، على أنّ هذا الذي عارض به الخصم ، بيّن الاضمحلال ، وذلك أنّ أشهر الحج ، انّما هي على ترتيب عمله ، فبعضها وقت للإهلال ، وبعضها وقت للطواف والسعي ، وبعضها وقت للوقوف ، وقد اتفقنا جميعا بغير خلاف ، أنّ طواف الزيارة من الحج ، وهو بعد الفجر من يوم النحر ، وكذلك السعي ، وطواف النساء عندنا ، على ما مضى بيانه ، والمبيت ليالي التشريق بمنى ، ورمي الجمار بعد يوم النحر ، فثبت بذلك ، أنّ القول في ذلك على ما اخترناه.

واختلف أصحابنا ، في أقل ما يكون بين العمرتين ، فقال بعضهم : شهر ، وقال بعضهم : يكون في كل شهر تقع عمرة ، وقال بعضهم : عشرة أيام ، وقال بعضهم : لا أوقت وقتا ، ولا أجعل بينهما مدّة ، وتصح في كل يوم عمرة ، وهذا

__________________

(١) إبراهيم : ٤.

(٢) الزمر : ٢٩.

٥٤٠