كتاب السرائر - ج ١

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٧٦

كلاب ، واسمه زيد ، وكان يسمّى مجمعا ، لأنّه جمع قبائل قريش ، وأنزلها مكة ، وبنى دار الندوة ، ولد عبد مناف ، وعبد الدار ، وعبد العزى وعبدا.

فأمّا عبد مناف ، فاسمه المغيرة ، فولد هاشما ، وعبد شمس ، والمطلب ونوفلا وأبا عمرو. فأمّا هاشم بن عبد مناف ، فولد عبد المطلب ، وأسدا وغيرهما ، ممّن ، لم يعقب ، فولد عبد المطلب عشرة من الذكور ، وست بنات أسماؤهم ، عبد الله وهو أب النبي عليه‌السلام ، والزبير ، وأبو طالب ، واسمه عبد مناف والعباس ، والمقوّم ، وحمزة ، وضرار ، وأبو لهب ، واسمه عبد العزى ، والحرث ، والغيداق ، واسمه جحل ، الجيم قبل الحاء ، بفتح الجيم ، وسكون الحاء ، والجحل ، اليعسوب العظيم ، وأسماء البنات ، عاتكة ، وأميمة ، والبيضاء ، وبرّة ، وصفية ، وأروى ، هؤلاء الذكور والإناث لأمهات شتى ، فلم يعقب هاشم إلا من عبد المطلب عليه‌السلام ولم يعقب عبد المطلب من جميع أولاده الذكور ، إلا من خمسة ، وهم عبد الله ، وأبو طالب ، والعباس والحرث ، وأبو لهب ، فجميع هؤلاء ، وأولاد هؤلاء ، تحرم عليهم الزكاة الواجبة ، مع تمكنهم من أخماسهم ، ومستحقاتهم على ما قدّمناه ، وهؤلاء بأعيانهم أيضا مستحقو الخمس ، وإلى ما حرّرناه واخترناه ، يذهب شيخنا في مسائل خلافه (١) وانّما أورده إيرادا في نهايته ، للحديث الواحد ، لا اعتقادا.

فأمّا ما عدا صدقة الأموال الواجبة ، فلا بأس أن يعطوا إياها ، ولا بأس أن يعطوا صدقة الأموال مواليهم ، ولا بأس أن يعطي بعضهم بعضا ، صدقة الأموال الواجبة ، في حال تمكنهم من مستحقاتهم ، وانّما يحرم عليهم صدقة من ليس من نسبهم.

ولا يجوز أن يعطى الزكاة لمحترف ، يقدر على اكتساب ما يقوم بأوده ، وأود

__________________

(١) الخلاف : ج ٢ ، كتاب الوقوف والصدقات ، مسألة ٤.

٤٦١

عياله على ما قدّمناه ، فإن كانت صناعته لا تقوم به ، جاز له أن يأخذ ما يتسع به على أهله.

واختلف أصحابنا فيمن يكون معه مقدار من المال ، ويحرم عليه تملك (١) ذلك المال أخذ الزكاة ، فقال بعضهم : إذا ملك نصابا من الذهب ، وهو عشرون دينارا ، فإنّه يحرم عليه أخذ الزكاة. وقال بعضهم : لا تحرم على من ملك سبعين دينارا. وقال بعضهم : لا اقدّره بقدر ، بل إذا ملك من الأموال ما يكون قدر كفايته لمئونته ، طول سنته على الاقتصاد فإنّه يحرم عليه أخذ الزكاة ، سواء كانت (٢) نصابا ، أو أقل من نصاب ، أو أكثر من النصاب ، فإن لم يكن بقدر كفايته سنته فلا يحرم عليه أخذ الزكاة ، وهذا هو الصحيح ، وإليه ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مسائل الخلاف.

ومن ملك دارا يسكنها بقدر حاجته ، وخادما يخدمه ، جاز له ان يقبل الزكاة ، فإن كانت داره ، دار غلة تكفيه ولعياله ، لم يجز له ان يقبل الزكاة ، فان لم تكن له في غلتها كفاية ، جاز له ان يقبل الزكاة.

وقد روي (٣) أنّه ينبغي ، أن يعطى زكاة الذهب والفضة ، للفقراء والمساكين المعروفين بذلك ، ويعطى زكاة الإبل والبقر والغنم أهل التجمّل ، فإن عرف الإنسان من يستحق الزكاة ، وهو يستحي من التعرض لذلك ، ولا يؤثر إن تعلمه أنّها من الزكاة ، جاز لك أن تعطيه الزكاة ، وإن لم تعلمه أنّه منها ، وقد أجزأت عنك ، إذا نويت.

وإن كان لك على إنسان دين ، ولا يقدر على قضائه ، وهو مستحق له ، جاز لك أن تقاصّه من الزكاة ، وكذلك إن كان الدين على ميّت ، جاز لك أن تقاصّه منها ، وإن كان على أخيك المؤمن دين ، وقد مات ، جاز لك أن تقضي عنه من الزكاة ، وكذلك إن كان الدين على والدك ، أو والدتك أو ولدك (٤) جاز لك أن

__________________

(١) في ط وج : يملك

(٢) في ط وج : كان.

(٣) الوسائل : كتاب الزكاة ، الباب ٢٦ من أبواب المستحقين للزكاة

(٤) ج : أو والدتك جاز.

٤٦٢

تقضيه عنهم ، سواء كانوا أحياء أو أمواتا ، من الزكاة ، لأنّ قضاء الدين لا يجب أن يقضيه الولد عن الوالد ، وإن كانت نفقته واجبة عليه ، إلا أن قضاء دينه غير واجب على من تجب عليه نفقته.

وإذا صرفت سهما ( فِي الرِّقابِ ) ، وأعتق الذي اشتري من الزكاة ، فإن أصاب بعد ذلك مالا ، ثم مات ، ولا وارث له ، كان ميراثه لأرباب الزكاة.

وروي أنّ من أعطى غيره زكاة الأموال ، ليفرقها على مستحقيها ، وكان مستحقا للزكاة ، جاز له أن يأخذ منها بقدر ما يعطي غيره ، اللهم إلا أن يعيّن موكله له أعيانا بأسمائهم ، فإنّه لا يجوز له حينئذ أن يأخذ منها شيئا ، ولا أن يعدل عنهم إلى غيرهم.

والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، وإن كان قد أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (١) ، إلا أنّه حقق القول فيها ، وفي أمثالها ، في مبسوطة في الجزء الثاني ، فإنه قال : إذا وكله في إبراء غرمائه لم يدخل هو في الجملة ، وكذلك في حبس غرمائه ، ومخاصمتهم ، وكذلك إذا وكله في تفرقة ثلثه ، في الفقراء والمساكين ، لم يجز له أن يصرف إلى نفسه منه شيئا ، وإن كان فقيرا مسكينا ، لأنّ المذهب الصحيح ، انّ المخاطب لا يدخل في أمر المخاطب إيّاه ، في أمر غيره ، فإذا أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يأمر أمته أن يفعلوا كذا لم يدخل هو في ذلك الأمر (٢) هذا آخر كلامه رحمه‌الله في مبسوطة وهو سديد في موضعه.

واختلف أصحابنا في أقل ما يعطى الفقير من الزكاة في أوّل دفعة ، فقال بعض منهم : أقلّه ما يجب في النصاب الأول ، من سائر أجناس الزكاة. وقال بعض منهم : أخصّه بأوّل ، نصاب الذهب والفضّة ، فحسب. وبعض قال : أقلّه

__________________

(١) النهاية : باب مستحق الزكاة.

(٢) المبسوط : ج ٢ ، كتاب الوكالة ـ حكم التوكيل في إبراء الغرماء ، ص ٤٠٣.

٤٦٣

ما يجب في النصاب الثاني من الذهب والفضّة ، وذهب بعض آخر إلى أنّه يجوز أن يعطى من الزكاة الواحد من الفقراء ، القليل ، والكثير ، ولا يحد القليل بحدّ لا يجزئ غيره ، وهذا هو الأقوى عندي ، لموافقته طاهر التنزيل ، وإليه ذهب السيد المرتضى رحمه‌الله ، في جمل العلم والعمل (١) ، وما روي من الأخبار (٢) في المقدار ، فمحمول على الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، ولأنّه إذا أتاها في الزكاة ، وأخرجها قليلا ، في دفعات عدّة ، فلا خلاف انّه ينطلق عليه اسم مؤت ومعط ، فانّ الله تعالى قال ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (٣) وهذا قد آتاها ، وامتثل ما أمر به.

وأيضا الأصل براءة الذمة ، من المقادير والكيفيات ، لأنّها أمور شرعيات ، تحتاج في إثباتها إلى أدلة شرعيّة ، ولا دليل على ذلك ، لأنّ في المسألة بين أصحابنا خلافا ، على ما صوّرناه ، وإذا لم يكن إجماع فيبقى الأصل ، وهو براءة الذمة.

وليس لأكثر ما يعطى الفقير حدّ محدود ، بل إذا أعطاه دفعة واحدة ، فجائز له ما أراد ، ولو كان الف قنطار.

وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، في باب من الزيادات في الزكاة : وروى حماد عن حريز عن بريد العجلي ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : بعث أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله مصدقا ، من الكوفة إلى باديتها ، ثم أورد الحديث بطوله ، إلى قوله : ولا تعدل بهن عن نبت الأرض إلى جواد الطرق ، في الساعات التي تريح ، وتعنق ، وأرفق بهن جهدك (٤).

__________________

(١) جمل العلم والعمل : فصل في وجوه إخراج الزكاة ص ١٢٥ ، طبع النجف الأشرف سنة ١٣٨٧

(٢) الوسائل : الباب ٢٣ من أبواب المستحقين للزكاة.

(٣) البقرة : ٤٣ و ٨٣ و ١١٠.

(٤) المقنعة : باب الزيادات من الزكاة ، ص ٢٥٥. وفي الوسائل : الباب ١٤ في أبواب زكاة الأنعام ، ح ١.

٤٦٤

قال محمّد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : سمعت من يقول تريح وتغبق بالغين المعجمة ، والباء ، يعتقده أنّه من الغبوق ، وهو الشرب بالعشي ، وهذا تصحيف فاحش ، وخطأ قبيح ، وإنّما هو (١) بالعين غير المعجمة المفتوحة ، والنون المفتوحة ، وهو ضرب من سير الإبل ، وهو سير شديد ، قال الزاجر :

يا ناق سيري عنقا فسيحا

الى سليمان فنستريحا

لأنّ معنى الكلام ، أنّه لا تعدل بهن عن نبت الأرض إلى جواد الطرق ، في الساعات التي لها فيها راحة ، ولا في الساعات التي عليها فيها مشقّة ، ولأجل هذا قال تريح من الراحة ، ولو كان فيها من الرواح ، لقال تروح ، وما كان يقول تريح ، ولأنّ الرواح عند العشي يكون قريبا منه ، والغبوق هو شرب العشي ، على ما ذكرناه ، فلم يبق له معنى ، وانّما المعنى ما بيّناه ، وانّما أوردت هذه اللفظة في كتابي ، لأني سمعت جماعة من أصحابنا الفقهاء يصحّفونها.

باب وجوب زكاة الفطرة (٢) ومن تجب عليه

الفطرة واجبة على كل مكلّف مالك قبل استهلال شوال أحد الأموال الزكاتية ، فأمّا من ملك غير الأموال الزكاتية ، فلا تجب عليه إخراج الفطرة ، على الصحيح من الأقوال ، وهذا مذهب جميع مصنّفي أصحابنا. ومذهب شيخنا أبي جعفر في سائر كتبه ، إلا في مسائل خلافه (٣) والصحيح ما وافق فيه أصحابه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بشي‌ء يحتاج إلى دليل شرعي ، ويلزمه أن يخرجها عنه ، وعن جميع من يعول ، ممّن نجب عليه نفقته ، أو من يتطوع بها عليه ، من صغير وكبير ، حرّ وعبد ، ذكر وأنثى ، ملي ، أو كتابي ، ويجب عليه إخراج الفطرة عن عبده ، سواء كان آبقا أو غير آبق ، مغصوبا أو غير مغصوب ،

__________________

(١) ج : من العتق

(٢) ج : الفطر

(٣) الخلاف : كتاب زكاة الفطرة ، مسألة ٢٨.

٤٦٥

لعموم أقوال أصحابنا ، وإجماعهم على وجوب إخراج الفطرة عن العبيد ، وكذلك تجب إخراج الفطرة عن الزوجات ، سواء كنّ نواشز أو لم يكنّ ، وجبت النفقة عليهن أو لم يجب ، دخل بهن ، أو لم يدخل ، دائمات أو منقطعات ، للإجماع والعموم ، من غير تفصيل من أحد من أصحابنا ، فأمّا الأولاد والوالدان ، فإن كانوا في عياله وضيافته ، فيجب عليه إخراج الفطرة عنهم ، وإن لم يكونوا في عيلته وضيافته ، فلا يجب عليه إخراج الفطرة عنهم ، سواء وجبت نفقتهم عليه ، أو لم تجب ، بخلاف الزوجات والعبيد ، على ما قدّمناه ، لأنّ أصحابنا حصّوا ذلك ، واجمعوا عليه ، وذكر شيخنا أبو جعفر في مبسوطة قال : ويلزم الرجل إخراج الفطرة عن خادم زوجته (١).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : لا يلزمه ذلك ، إلا إذا كان الخادم في عيلته وضيافته ، إذا لم يملكه ، فليلحظ ذلك ويتأمّل تأمّلا جيدا.

ويجب إخراج الفطرة عن الضيف ، بشرط أن يكون آخر الشهر في ضيافته ، فأمّا إذا أفطر عنده مثلا ثمانية وعشرين يوما ، ثم انقطع باقي الشهر ، فلا فطرة على مضيّفه ، فإن لم يفطر عنده إلا في محاق الشهر ، وأخّره ، بحيث يتناوله اسم ضيف ، فإنّه يجب عليه إخراج الفطرة عنه ، ولو كان إفطاره عنده ، في الليلتين الأخيرتين فحسب.

وإن رزق ولدا في شهر رمضان ، وجب عليه أن يخرج عنه إذا رزقه في جزء من نهار شهر رمضان ، وإن رزقه بعد خروج شهر رمضان ، فإنّه لا يجب عليه إخراج الفطرة ، بل يستحب ذلك ، ولو كان ذلك قبل الزوال من يوم العيد ، فأمّا إذا ولد بعد الزوال فلا يجب ولا يستحب.

وكذلك من أسلم ليلة الفطر ، أو يوم الفطر ، قبل الزوال ، يستحب له أن يخرج زكاة الفطرة ، وليس ذلك بفرض ، فإن كان إسلامه في جزء من نهار

__________________

(١) المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص ٢٣٩.

٤٦٦

رمضان ، وجب عليه أيضا إخراج الفطرة.

ومن لا يملك أحد الأموال الزكاتية ، يستحب له أن يخرج زكاة الفطرة أيضا عن نفسه وعن جميع من يعول ، فإن كان ممن يحلّ له أخذ الفطرة ، أخذها ، ثم أخرجها عن نفسه وعن عياله ، فإن كان به حاجة شديدة إليها ، فليدر ذلك على من يعوله ، حتى ينتهي إلى آخرهم ، ثمّ يخرج رأسا واحدا إلى غيرهم ، وقد أجزأ عنهم كلهم.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مبسوطة : وإذا كان له مملوك غائب ، يعرف حياته ، وجبت عليه فطرته ، رجا عوده أو لم يرج ، فإن لم يعلم حياته ، لا يلزمه إخراج فطرته (١).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : يجب عليه إخراج الفطرة عن عبده ، وإن لم يقطع على حياته ، ولا يعلمها حقيقة ويقينا ، ولهذا يعتقه في الكفارات ، بغير خلاف ، ولم يشرط أصحابنا ، علمه بالحياة ، وقطعه عليها.

وقال أيضا في كتابه المبسوط : وإن كان له عبد مغصوب ، لا يلزمه فطرته ، ولا يلزم الغاصب أيضا (٢).

قوله رحمه‌الله : ولا يلزم الغاصب صحيح ، وقوله : ولا يلزم سيده الذي هو المغصوب منه ، غير صحيح.

وليس التمكين ، شرطا في وجوب إخراج الفطرة عن عبيد الإنسان ، بل الواجب إخراج الفطرة عن مماليك الإنسان ، سواء كان متمكنا من التصرّف فيهم ، أو غير متمكن ، لأنّ شيخنا أبا جعفر قال : لأنّه غير متمكن منه ، فجعل التمكّن شرطا في وجوب الفطرة.

وقال رحمه‌الله في المبسوط : وإن كان له عبد مقعد ، وهو المعضوب ، بالضاد المعجمة ، قال : لا يلزمه فطرته ، لأنّه ينعتق عليه أمّا قوله (٣) في المقعد ، فصحيح ،

__________________

(١) المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص ٢٣٩ و ٢٤٠.

(٢) المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص ٢٣٩ و ٢٤٠.

(٣) المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص ٢٣٩ و ٢٤٠.

٤٦٧

وأمّا تفسيره بالمعضوب فغير واضح ، لأنّ المعضوب غير المقعد ، وهو النضو الخلقة النحيف ، وإن كان أعضاؤه صحيحة فالمعضوب لا ينعتق على مالكه ، بل المقعد ، لأنّ أصحابنا لم يرووا في أن ينعتق العبد ، إلا إذا أقعد بزمانة ، أو جذام ، أو عمى ، فبهذه الآفات ينعتق ، فحسب ، ولم يقولوا ينعتق المعضوب.

وقال شيخنا : والمرأة الموسرة ، إذا كانت تحت معسر ، أو مملوك ، لا يلزمها فطرة نفسها ، وكذلك أمة الموسر ، إذا كانت تحت معسر أو مملوك ، لا يلزم المولى فطرتها.

قال محمّد بن إدريس : بل الواجب على المرأة الموسرة ، وسيد الأمة ، إخراج الفطرة عنهما لأنّها مكلفة بإخراج الفطرة عن نفسها ، وكذلك المولى ، فإن أراد الشيخ أبو جعفر ، ما كان يجب على الزّوج ، فصحيح ، لأنّ الزوج كان يجب عليه أن يخرج ، فسقط لفقره ، وبقي ما يجب عليها وعلى المولى للأمة ، كما يجب أن يخرج عن الضيف مضيفه ، ويجب أن يخرج الضيف عن نفسه إذا كان موسرا.

وذكر في المبسوط أنّه لا يلزم الرجل ، فطرة زوجته الناشزة ، والصحيح أنّه يلزمه ، وكذلك يلزمه إخراج الفطرة ، عن الزوجة التي لا يجب عليه نفقتها ، من النكاح المؤجل ، لعموم قولهم عليهم‌السلام ، يجب إخراج الفطرة عن الزوجة (١).

باب ما يجوز إخراجه في الفطرة ومقدار ما يجب منه

أفضل ما يخرجه الإنسان في زكاة الفطرة ، التمر ، ثمّ الزبيب ، ويجوز إخراج الحنطة ، والشعير ، والأرز ، والأقط ، واللبن ، والأصل في ذلك أن يخرج كل واحد ممّا يغلب على قوته في أكثر الأحوال ، ومن عدم الأقوات الغالبة على بلده ، أو أراد أن يخرج ثمنها بقيمة الوقت ذهبا أو فضة ، لم يكن بذلك بأس ، وإن

__________________

(١) المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص ٢٤٣.

٤٦٨

كانت موجودة ، لأنّه يجوز عندنا ، إخراج القيمة في الزكوات ، دون الكفارات ، على ما قدّمنا القول في ذلك.

فأمّا القدر الذي يجب إخراجه عن كل رأس ، فصاع ، من أحد الأشياء التي قدّمنا ذكرها ، وقدره تسعة أرطال ، بالبغدادي ، وستة أرطال بالمدني ، إلا اللبن ، فمن يريد إخراجه ، أجزأه ستة أرطال بالبغدادي ، وأربعة بالمدني ، وقدر الصاع أربعة أمداد ، والمدّ مائتان واثنان وتسعون درهما ونصف ، والدرهم ستة دوانيق ، والدانق ثمان حبات من أوسط حبات الشعير ، وقد روي أنّه يجوز أنّ يخرج عن كل رأس درهم ، وقد روي أيضا أربعة دوانيق ، والأحوط الذي تقتضيه الأصول ، أن يخرج قيمة الصاع يوم الأداء.

وذكر شيخنا في مبسوطة ، فقال : ويجوز إخراج القيمة عن أحد الأجناس التي قدّمناها ، سواء كان الثمن سلعة ، أو حبا أو خبزا (١).

قال محمد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب رحمه‌الله : الحب والخبز هو الأصل المقوّم ، وليس هو القيمة ، وانّما هذا مذهب الشافعي ، ذكره هاهنا ، فلا يظن بعض غفلة أصحابنا أنّه مذهبنا ، بل نحن نخرج الحب الذي هو الحنطة والشعير ، وغير ذلك ، وكذلك يخرج الخبز لا بالقيمة ، بل هو الأصل المقوم.

باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة ومن يستحقها

تجب زكاة الفطرة على مكلّفها بدخول شوال واستهلاله ، ويتضيّق وقت التأكد (٢) يوم الفطر ، قبل صلاة العيد ، فإن لم يخرجها في ذلك الوقت ، فإنّه يجب عليه إخراجها ، وهي في ذمته إلى أن يخرجها. وبعض أصحابنا يقول تكون قضاء ، وبعضهم يقول سقطت ، ولا يجب إخراجها ، وهذا بعيد من الصواب ،

__________________

(١) المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص ٢٤٢

(٢) ج : ويتضيق التأكّد.

٤٦٩

لأنّه لا دليل على سقوطها بعد وجوبها ، لأنّ من ادعى سقوطها بعد موافقته على وجوبها ، فعليه الدلالة ، ومن قال أنّها قضاء بعد ذلك ، فغير واضح ، لأنّ الزكاة المالية والرأسية ، تجب بدخول وقتها ، فإذا دخل ، وجب الأداء ، ولا يزال الإنسان مؤدّيا لها ، لأنّ بعد دخول وقتها هو وقت الأداء في جميعه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : الوقت الذي تجب فيه إخراج الفطرة ، يوم الفطر قبل صلاة العيد (١). وذهب في جمله وعقوده (٢) إلى ما ذكرناه أولا واخترناه ، وانّما أورد ما ذكره في نهايته ، من طريق أخبار الآحاد إيرادا لا عملا واعتقادا.

فإن قدّمها إنسان على الوقت الذي قدّمناه ، فيجعل ذلك قرضا على ما بيّناه في زكاة المال ، وتقديمها قبل وجوبها وحلولها ، ويعتبر فيه ما قدّمناه عند وجوبها ، والأفضل لزوم الوقت ، فإن لم يجد لها مستحقا ، عزلها من ماله ، ثمّ يسلّمها إليه ، إذا وجده ، فإن وجد لها أهلا ، وأخّرها وهلكت ، كان ضامنا إلى أن يسلمها إلى أربابها ، فإن لم يجد لها أهلا ، وأخرجها من ماله ، لم يكن عليه ضمان.

وله أن يحملها من بلد إلى بلد ، إذا لم يجد المستحق ، كما أنّ له حمل زكاة المال ، ويعتبر في هلاكها في الطريق ، ما اعتبرناه في هلاك زكاة المال حرفا فحرفا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا يجوز حمل الفطرة من بلد إلى بلد (٣).

وهذا على طريق الكراهية ، دون الحظر.

وقال في مختصر المصباح : ويجوز إخراج الفطرة من أول الشهر رخصة.

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : لا يجوز العمل بهذه الرخصة (٤) إلا على ما قدّمناه ، من تقديمها على جهة القرض ، وينوي الأداء عند هلال شوال ، وإلا فكيف يكون ما فعل قبل تعلّق وجوبه بالذمة مجزيا عما يتعلّق بها في

__________________

(١) النهاية : كتاب الزكاة ، باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة.

(٢) الجمل والعقود : كتاب الزكاة ، فصل ١٥ في زكاة الفطرة.

(٣) النهاية : كتاب الزكاة ، باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة.

(٤) ج : بهذه الرواية في الرخصة.

٤٧٠

المستقبل ، وقد ذكر شيخنا أبو جعفر في الجزء الثالث من مسائل خلافه في كتاب الإيمان ، أنّه لا يجوز تقديم الكفارات والزكوات قبل وجوبها بحال عندنا (١) وناظر على ذلك وهو الحق اليقين.

وينبغي أن تحمل الفطرة إلى الإمام ، ليضعها في مواضعها حيث يراه ، فإن لم يكن هناك إمام ، حملت إلى فقهاء شيعته ليفرّقوها في مواضعها ، فإنّهم أعرف بذلك.

وإذا أراد الإنسان أن يتولى ذلك بنفسه ، جاز له ذلك غير أنّه لا يعطيها إلا لمستحق زكاة المال ، فإن لم يجد لها مستحقا ، انتظر بها المستحق ، ولا يجوز له أن يعطيها لغيره ، فإنّه لا يجزيه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في نهايته : فان لم يوجد لها مستحق من أهل المعرفة ، جاز أن يعطي مكلّفها المستضعفين ، من غيرهم ، ولا يجوز إعطاؤها لمن لا معرفة له ، إلا عند التقية ، أو عدم مستحقيه من أهل المعرفة (٢) وهذا غير واضح ، بل ضدّ الصواب والصحيح والصواب ما ذكره في جمله وعقوده ، من أنّه لا يجوز أن يعطى إلا لمستحق زكاة المال ، فإن لم يوجد ، عزلت ، وانتظر بها مستحقها (٣) وانّما أورده إيرادا من طريق أخبار الآحاد ، دون الاعتقاد منه والفتيا ، وقال في نهايته أيضا : والأفضل أن يعطي الإنسان من يخافه من غير الفطرة ، ويضع الفطرة مواضعها (٤).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : والأصل ما قدّمناه فلا يجوز العدول عنه بغير

__________________

(١) الخلاف : هذه مسألة ٤٥ من مسائل الزكاة ، وفي الايمان لا توجد ، ومسألة ٣١ منها تدل على عدم جواز تقديم الكفارة فراجع.

(٢) النهاية : كتاب الزكاة ، باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة.

(٣) الجمل والعقود : كتاب الزكاة ، فصل ١٥ في ذكر زكاة الفطرة وعبارته هكذا : ومستحق الفطرة هو مستحق زكاة الأموال وتحرم على من تحرم عليه زكاة الأموال.

(٤) النهاية : كتاب الزكاة ، باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة.

٤٧١

دليل ، وما ذكره من طريق أخبار الآحاد ، فأورده إيرادا لا اعتقادا.

ولا يجوز أن يعطي أقل من زكاة رأس واحد لواحد ، مع الاختيار ، على ما وردت به الاخبار ، فإن حضر جماعة محتاجون ، وليس هناك من الأصواع بقدر ما يصيب كل واحد منهم صاع ، جاز أن يفرّق عليهم ، ولا بأس أن يعطي الواحد صاعين ، أو أصواعا ، دفعة واحدة ، سواء قلّت الأصواع ، أو كثرت.

والأفضل أن لا يعدل الإنسان بالفطرة إلى الأباعد ، مع وجود القرابات ، ولا إلى الأقاصي ، مع وجود الجيران ، فإن فعل خلاف ذلك ، كان تاركا فضلا ، ولم يكن عليه بأس.

ذكر شيخنا في الجزء الأول من مسائل خلافه في كتاب الزكاة ، أنّه لا زكاة في الحلي ، ثم استدل ، بأن قال : وروت فريعة بنت أبي أمامة ، قالت : حلّاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رعاثا ، وحلّى أختي ، وكنا في حجره ، فما أخذ منا زكاة حلي قط (١).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله مصنف هذا الكتاب : فريعة ، بالفاء اسمها الفارعة ، وانّما صغرت واسم أختها حبيبة ، ولهما أخت أخرى اسمها كبشة ، وهن بنات أبي أمامة ، أسعد بن زرارة الأنصاري الخزرجي العقبي ، رأس النقباء ، أول مدفون بالبقيع ، مات في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوصى ببناته إليه عليه‌السلام ، والرعاث بالراء غير المعجمة المكسورة ، والعين غير المعجمة المفتوحة ، والثاء المنقطة ثلاث نقط ، وهي الحلق ، والقرطة ، مأخوذ من رعثات (٢) الديك ، وذكر أيضا شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مسائل الخلاف أنّ التحلية بالذهب حرام كلّه على الرجال ، إلا عند الضرورة ، وذلك مثل أن يجدع أنف إنسان ، فيتخذ أنفا من ذهب ، أو يربط به أسنانه (٣).

__________________

(١) الخلاف : كتاب الزكاة ، ذيل مسألة ١٠١

(٢) ج : رعاث.

(٣) الخلاف : كتاب الزكاة : مسألة ١٠٢.

٤٧٢

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب رحمه‌الله : فإن قال قائل : وأيّ ضرورة هاهنا يربط أسنانه بفضة أو بنحاس ، أو بحديد ، وغير ذلك ، وكذلك يعمل أنفا من فضة. قلنا : جميع ذلك ينتن ، إلا الذهب فإنّه لا ينتن ، فلأجل ذلك قال إلا عند الضرورة.

باب الجزية وأحكامها

الجزية واجبة على أهل الكتاب ، ومن حكمه حكمهم ، ممّن أبى منهم الإسلام ، وأذعن بها. والتزم أحكامها ، فأهل الكتاب : اليهود والنصارى ، ومن حكمه حكمهم : المجوس.

وهي واجبة على جميع الأصناف المذكورة ، إذا كانوا بشرائط المكلّفين ، ويسقط عن الصبيان والمجانين ، والبله والنساء منهم ، فأمّا من عدا الأصناف المذكورة الثلاثة ، من جميع الكفار ، فليس يجوز أن يقبل منهم إلا الإسلام ، أو القتل.

ومن وجبت عليه الجزية ، وحل الوقت ، فأسلم قبل أن يعطيها ، سقطت عنه ، ولم يلزمه أداؤها ، على الصحيح من المذهب ، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّها لا تسقط ، والأول هو الأظهر ، والذي يعضده دليل الأصل.

وكل من وجبت عليه الجزية ، فالإمام مخير بين أن يضعها على رءوسهم ، أو على أرضيهم ، فإن وضعها على رءوسهم فليس له أن يأخذ من أرضيهم شيئا. وإن وضعها على أرضيهم ، فليس له أن يأخذ من رءوسهم شيئا.

وليس للجزية عند أهل البيت عليهم‌السلام ، حدّ محدود ، ولا قدر موظف ، بل ذلك موكول إلى تدبير الإمام ورأيه ، فيأخذ منهم على قدر أحوالهم ، من الغني والفقير ، بقدر ما يكون به صاغرا.

والصغار اختلف المفسّرون فيه ، والأظهر أنّه التزام أحكامنا عليهم ،

٤٧٣

وإجراؤها وان لا (١) يقدر الجزية ، فيوطن نفسه عليها ، بل يكون بحسب ما يراه الإمام ، بما يكون (٢) معه ذليلا ، صاغرا ، خائفا ، فلا يزال كذلك ، غير موطن نفسه على شي‌ء ، فحينئذ يتحقق الصغار الذي هو الذلة ، وذهب بعض أصحابنا وهو شيخنا المفيد ، إلى أنّ الصغار هو أن يأخذهم الإمام ، بما لا يطيقون ، حتى يسلموا ، وإلا فكيف يكون صاغرا ، وهو لا يكترث بما يؤخذ منه ، فيألم لذلك فيسلم.

وكان المستحق للجزية على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المهاجرين دون غيرهم ، على ما روي (٣) ، وهي اليوم لمن قام مقامهم ، مع الإمام في نصرة الإسلام ، والذب عنه ، ولمن يراه الإمام ، من الفقراء والمساكين ، من سائر المسلمين.

ولا بأس بأن تؤخذ الجزية من أهل الكتاب ، ممّا أخذوه ، من ثمن الخمور ، والخنازير ، والأشياء المحرمة التي لا يحل للمسلمين بيعها ، والتصرف فيها بغير خلاف ، وروى أصحابنا ، أنّهم متى تظاهروا بشرب الخمر ، وأكل لحم الخنزير ، أو نكاح المحرمات في شرعنا ، والربا ، نقضوا بذلك العهد (٤).

وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال في أهل الذمة لا تبدءوهم بالسلام ، واضطروهم إلى أضيق الطرق ، ولا تساووهم في المجالس (٥).

وأمّا مماليك أهل الذمة ، فلا جزية عليهم ، لقوله عليه‌السلام : لا جزية على العبد (٦).

فأمّا المستأمن ، والمعاهد ، فهما عبارتان عن معنى واحد ، وهو من دخل إلينا

__________________

(١) ج : ولا يقدر

(٢) ج : ممّا يكون.

(٣) الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب ٦٩ من أبواب جهاد العدو ، ح ١.

(٤) المبسوط : ج ٢ ، فصل في ما يشترط على أهل الذمة بدون ذكر الربا.

(٥) المبسوط : ج ٢ ، فصل في ما يشترط على أهل الذمّة.

(٦) مستدرك الوسائل : الباب ٥ من أبواب جهاد العدو ، ح ١.

٤٧٤

بأمان ، لا للبقاء ، والتأييد فلا يجوز للإمام ، أن يقره في بلد الإسلام سنة ، بلا جزية ، لكن يقره أقل من سنة ، على ما يراه ، بعوض ، أو غير عوض.

وأمّا عقد الجزية ، فهو عقد الذمة ، ولا يصحّ إلا بشرطين ، التزام (١) الجزية ، وأن يجري عليهم أحكام المسلمين مطلقا ، من غير استثناء ، وهو الصغار المذكور في الآية ، على الأظهر من الأقوال.

والفقير الذي لا شي‌ء معه يجب عليه الجزية ، لأنّه لا دليل على إسقاطها عنه ، وعموم الآية يقتضيه ، ثم ينظر ، فإن لم يقدر على الأداء ، كانت في ذمّته ، فإذا استغنى ، أخذت منه الجزية ، من يوم ضمنها ، وعقد العقد له ، بعد أن يحول عليه الحول ، هذا قول شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (٢) ، وقال في مسائل الخلاف : لا شي‌ء عليه (٣) واستدل بقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (٤) وما ذكره في مبسوطة أقوى وأظهر ، ولي في ذلك نظر.

البلاد التي ينفذ فيها حكم الإسلام على ثلاثة أضرب : ضرب أنشأه المسلمون وأحدثوه ، وضرب فتحوه عنوة ، وضرب فتحوه صلحا ، فأمّا البلاد التي أنشأها المسلمون ، مثل البصرة والكوفة ، فلا يجوز للإمام ان يقرّ أهل الذمة ، على إنشاء بيعة ، أو كنيسة ، ولا صومعة راهب ، ولا مجتمع لصلاتهم ، فإن صالحهم على شي‌ء من ذلك ، بطل الصلح بلا خلاف ، وكذلك البلاد التي فيها البيع والكنائس ، وكانت في الأصل قبل بنائها ، وأمّا البلاد التي فتحت عنوة ، فإن لم يكن فيها بيع ولا كنائس ، أو كانت ، لكن هدموها وقت الفتح ، فحكمها حكم بلاد الإسلام ، لا يجوز صلحهم على إحداث ذلك فيها.

وأمّا ما فتح صلحا ، فعلى ضربين أحدهما أن يصالحهم على أن تكون البلاد ملكا لهم ، ويكونوا فيها موادعين على مال بذلوه ، وجزية عقدوها على أنفسهم ،

__________________

(١) في ط : الزم

(٢) المبسوط : ج ٢ ، كتاب الجزايا وأحكامها ، فصل فيمن تؤخذ منه الجزية ..

(٣) الخلاف : كتاب الجزية ، مسألة ١٠ ـ وفي المصدر : لا يجب عليه الجزية

(٤) البقرة : ٢٨٦.

٤٧٥

فهاهنا يجوز إقرارهم على بيعهم وكنائسهم ، وإحداثها ، وإنشائها ، وإظهار الخمور ، والخنازير ، وضرب النواقيس فيها ، لأنّ الملك لهم ، يصنعون به ما أحبّوا ، وإن كان الصلح على أن يكون ملك البلد لنا ، والسكنى لهم ، إن شرط أن يقرّهم على البيع والكنائس ، جاز ، وإن لم يشرط ذلك لهم ، لم يكن لهم ذلك ، لأنّها صارت للمسلمين.

وأمّا دور أهل الذمة ، على ثلاثة أضرب ، دار محدثة ، ودار مبتاعة ، ودار مجدّدة ، أمّا المحدثة فهو أن يشتري عرصة يستأنف فيها بناء ، فليس له أن يعلو على بناء المسلمين ، لقوله عليه‌السلام : « الإسلام يعلو ولا يعلى عليه » (١) وإن ساوى بناء المسلمين ، ولم يعل عليه ، فعليه أن يقصره عنه ، وأمّا الدور المبتاعة ، فإنّها تقر على ما كانت عليه ، لأنّه هكذا ملكها ، وأمّا البناء الذي يعاد بعد انهدامه ، فالحكم فيه ، كالحكم في المحدث ابتداء ، لا يجوز له أن يعلو به على بناء المسلمين ، ولا المساواة ، على ما قلناه ، ولا يلزم أن يكون أقصر من بناء مسلمي أهل البلد كلّهم ، وانّما يلزمه أن يقصره ، عن بناء محلّته ، ولا يجوز أن يمكنوا أن يدخلوا شيئا من المساجد في سائر البلاد ، لا بإذن ، ولا بغير إذن ، لأنّهم أنجاس ، والنجاسة تمنع المساجد.

باب أحكام الأرضين وما يصح التصرف

فيه منها بالبيع والشراء وما لا يصحّ

الأرضون على أربعة أقسام : ضرب منها أسلم أهلها عليها طوعا ، من قبل نفوسهم ، من غير قتال ، مثل أرض المدينة ، فيترك في أيديهم. ويؤخذ منهم العشر ، أو نصف العشر ، بحسب سقيها ، وهي ملك لهم ، يصحّ لهم التصرف

__________________

(١) الوسائل : كتاب الإرث ، الباب ١ من أبواب موانع الإرث ، ح ١١.

٤٧٦

فيها ، بالبيع والشراء والوقف ، وسائر أنواع التصرفات ، وهذا حكم أرضيهم إذا عمروها ، وقاموا بعمارتها ، فإن تركوها خرابا ، أخذها إمام المسلمين ، وقبلها من يعمرها ، وأعطى أصحابها طسقها ، وأعطى المتقبل حصته ، وما يبقى ، فهو متروك لمصالح المسلمين ، في بيت مالهم ، على ما روي في الأخبار (١) أورد ذلك شيخنا أبو جعفر.

والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، فإنّها تخالف الأصول ، والأدلة العقلية ، والسمعية ، فإنّ ملك الإنسان لا يجوز لأحد أخذه ، ولا التصرّف فيه بغير إذنه ، واختياره ، فلا نرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد.

والطسق : الوضيعة توضع على صنف من الزرع ، لكل جريب ، وهو بالفارسية تسك ، وهو كالأجرة للإنسان ، فهذا حقيقة الطسق.

والضرب الثاني من الأرضين ، ما أخذ عنوة بالسيف ، عنوة بفتح العين ، وهو ما أخذ عن خضوع وتذلل ، قال الله تعالى ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) (٢) أي خضعت وذلّت ، فانّ هذه الأرض تكون للمسلمين بأجمعهم ، المقاتلة وغير المقاتلة ، وكان على الإمام أن يقبلها لمن يقوم بعمارتها ، بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع أو غير ذلك ، وكان على المتقبل إخراج ما قبل به ، من حق الرقبة ، يأخذه الإمام ، فيخرج منه الخمس يقسمه على مستحقيه ، والباقي منه يجعله في بيت مال المسلمين ، يصرف في مصالحهم ، من سدّ الثغور وتجهيز الجيوش ، وبناء القناطر ، وغير ذلك ، وليس في هذا السهم الذي هو حق الرقبة ، زكاة ، لأنّ أربابه وهم المسلمون ، ما يبلغ نصيب كل واحد منهم ، ما يجب فيه الزكاة ، وما يبقى للمتقبل ، يخرج منه الزكاة إذا بلغ النصاب بحسب سقيه ، وهذا الضرب من الأرضين ، لا يصح التصرف فيه ، بالبيع ، والشراء ، والوقف ، والهبة ، وغير ذلك ، أعني نفس الرقبة.

__________________

(١) الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب ٧٢ من أبواب جهاد العدو وما يناسبه

(٢) طه : ١١١.

٤٧٧

فان قيل : نراكم تبيعون ، وتشترون ، وتقفون أرض العراق ، وقد أخذت عنوة قلنا : انّما نبيع ، ونقف ، تصرفنا فيها ، وتحجيرنا ، وبناءنا فأمّا نفس الأرض لا يجوز ذلك فيها وللإمام أن ينقلها من متقبل إلى غيره ، عند انقضاء مدّة تقبيله ، وله التصرف فيها بحسب ما يراه ، صلاحا للمسلمين ، لأنّ هذه الأرضين للمسلمين قاطبة ، وارتفاعها يقسّم فيهم كلّهم ، المقاتلة ، وغيرهم ، فإنّ المقاتلة ليس لهم على جهة الخصوص ، إلا ما يحويه العسكر ، من الغنائم وأمكن نقله.

والضرب الثالث ، كل أرض صالح أهلها عليها ، وهي أرض الجزية ، يلزمهم ما يصالحهم الإمام عليه ، من النصف ، أو الثلث ، أو الرّبع ، وغير ذلك ، وليس عليهم غيره ، فإذا أسلم أربابها ، كان حكم أرضيهم ، حكم أرض من أسلم عليها طوعا ابتداء من قبل نفوسهم ، ويسقط عنهم الصلح ، لأنّه جزية ، بدلا من جزية رءوسهم ، وقد سقطت عنهم بالإسلام ، وهذا الضرب من الأرضين ، يصح التصرف فيه بالبيع ، والشراء ، والهبة ، وغير ذلك من أنواع التصرّف ، وكان للإمام أن يزيد وينقص ما صالحهم عليه ، بعد انقضاء مدّة الصلح ، حسب ما يراه من زيادة الجزية ونقصانها.

والضرب الرابع ، كلّ أرض انجلى أهلها عنها ، أو كانت مواتا ، فأحييت ، أو كانت آجاما ، وغيرها ممّا لم يزرع فيها ، فاستحدثت (١) مزارع فانّ هذه الأرضين كلّها للإمام خاصّة ، ليس لأحد معه فيها نصيب ، وكان له التصرف فيها ، بالقبض ، والهبة ، والبيع ، والشراء ، حسب ما يراه ، وكان له أن يقبلها بما يراه ، من النصف ، أو الثلث ، أو الربع ، وجاز له أيضا ، بعد انقضاء مدة القبالة ، نزعها من يد من قبله إيّاها ، وتقبيلها لغيره ، وقد استثني من ذلك الأرض التي أحييت بعد مواتها ، فإنّ الذي أحياها ، أولى بالتصرف فيها ، ما دام تقبلها بما يقبلها غيره

__________________

(١) ج : فأحدثت.

٤٧٨

فإن أبى ذلك ، كان للإمام أيضا نزعها من يده ، وتقبيلها لمن يراه ، على ما روي في بعض الأخبار (١) وعلى المتقبل بعد إخراجه مال القبالة ، والمؤن ، فيما يحصل في حصته ، العشر ، أو نصف العشر ، بحسب الماء ، إذا بلغ الأوساق الخمسة ، وكان أيضا على الإمام في حصته الزكاة ، إذا بلغت الأوساق الخمسة.

وقال شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان في مقنعته في باب من الزيادات في الزكاة ، أورد خبرا ، قال : روى إسماعيل بن مهاجر ، عن رجل من ثقيف ، قال استعملني علي بن أبي طالب عليه‌السلام على بانقياء وسواد من سواد الكوفة (٢).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : بانقياء هي القادسية ، وما والاها ، وأعمالها وانّما سميت القادسية ، بدعوة إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، لأنّه قال : كوني مقدّسة للقادسية ، أي مطهّرة من التقديس ، وانّما سميت القادسيّة بانقياء ، لأنّ إبراهيم عليه‌السلام ، اشتراها بمائة نعجة من غنمه ، لأنّ « با » مائة و « نقيا » شاة ، بلغة النبط ، وقد ذكر بانقيا أعشى قيس في شعره ، وفسّره علماء اللغة ، وواضعوا كتب الكوفة ، من أهل السيرة ، بما ذكرناه.

والبلاد على ضربين : بلاد الإسلام وبلاد الشرك. فبلاد الإسلام على ضربين : عامر ، وغامر. فالعامر ملك لأهله ، لا يجوز لأحد الشروع فيه ، والتصرف إلا بإذن صاحبه ، وروي عن ابن عباس ، أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كتب لبلال بن الحرث المزني : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أقطع بلال بن الحرث المزني عن معادن القبلية ، جلسيها وغوريّها ، وحيث ما يصلح للزرع (٣) ولم يعطه حقّ مسلم ، وجلسيها بالجيم ، واللام بعده والسين ، ما كان إلى ناحية نجد ، وغوريّها ما كان إلى ناحية الغور ، قال كثير بن عبد الرحمن الخزاعي :

لقد جئت غوري البلاد وجلسيها

وقد ضربتني شمسها وظلولها

__________________

(١) الوسائل : كتاب الجهاد ، باب ٧٢ من أبواب جهاد العدو وما يناسبه.

(٢) المقنعة ص ٢٥٧

(٣) سنن أبي داود : ج ٣ ، ص ١٧٣ ، ح ٣٠٦٢.

٤٧٩

جلسيها يريد نجدها ، لأنّ جلسا ، هو نجد ، والقبلية محرك القاف ، والباء التي تحتها نقطة واحدة منسوبة إلى القبل ، وهو كل نشر من الأرض ، يستقبلك يقال : رأيت بذاك (١) القبل شخصا ، والجلس ـ بالجيم المفتوحة ، واللام المسكنة ، والسين غير المعجمة ـ : نجد.

إذا ثبت هذا فان مرافقها ، التي لا بدّ لها منها ، مثل الطريق ومسيل الماء ، ومطارح التراب ، وغير ذلك ، فإنّها في معنى العامر ، من حيث أنّ صاحب العامر أحقّ به ، ولا يجوز لأحد أن يتصرف فيه إلا بإذنه ، فعلى هذا إذا حفر بئرا في موات ، ملكها ، وكان أحق بها وبحريمها الذي هو من مرافقها على حسب الحاجة.

فأمّا الغامر بالغين المعجمة وهو الخراب ، فعلى ضربين : غامر لم يجر عليه ملك لمسلم ، وغامر جرى عليه ملك مسلم. فأما الذي لم يجر عليه ملك مسلم ، فهو لإمام المسلمين يفعل به ما شاء.

وأمّا الذي جرى عليه ملك مسلم ، فمثل قرى المسلمين التي خربت وتعطلت ، فإنّه ينظر ، فإن كان صاحبه أو وارثه ، معيّنا فهو أحقّ به ، وهو في معنى العامر ، ولا يخرج بخرابه عن ملك صاحبه ، وإن لم يكن له صاحب معيّن ، ولا عقب ، ولا وارث ، فهي لإمام المسلمين خاصة ، فإذا ثبت ذلك ، ثبت أنّها مملوكة ، لا يملكها من يحييها إلا بإذن الإمام.

وأمّا بلاد الشرك فعلى ضربين : عامر وغامر ، فالعامر ملك لأهله ، وكذلك كلما كان به صلاح العامر من الغامر ، كان صاحب العامر أحقّ به ، كما قلنا في العامر في بلاد الإسلام ، حرفا فحرفا ، ولا فرق بينهما أكثر من أنّ العامر في بلاد الإسلام لا يملك بالقهر والغلبة ، والعامر في بلاد الشرك يملك بالقهر والغلبة.

وأمّا الغامر في بلاد الشرك فعلى ضربين : أحدهما لم يجر عليه ملك لأحد ، والآخر جرى عليه ملك ، والّذي لم يجر عليه ملك أحد ، فهي للإمام خاصّة ،

__________________

(١) في ط وج : بذلك.

٤٨٠