كتاب السرائر - ج ١

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٧٦

وشي‌ء من القطن ليحشى به دبره ، والمواضع التي يخاف خروج شي‌ء منها ، وشي‌ء من الذريرة المعروفة بالقمحة ، ذكر شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في كتاب التبيان (١) قال : الذريرة ، فتات قصب الطيب ، وهو قصب يجاء به من الهند ، كأنّه قصب النشاب.

وذكر المسعودي ، وهو علي بن الحسين المسعودي الهذلي رجل من جلة أصحابنا له كتب عدة ، في كتابه المعروف المترجم بمروج الذهب ومعادن الجوهر ، في التواريخ وغيرها ، وهذا الكتاب كتاب حسن ، يشتمل على أشياء حسنة قال : أصل الطيب خمسة أصناف ، المسك ، والكافور ، والعود ، والعنبر ، والزعفران ، كلها تحمل من أرض الهند إلا أنّ الزعفران ، والعنبر ، قد يوجد بأرض الزنج ، والأندلس ، قال : وأنواع الأدوية خمسة وعشرون صنفا ، ذكر من جملة ذلك السليخة والورس واللاذن والزباد وقصب الذريرة (٢).

قال محمد بن إدريس : والذي أراه أنّها نبات طيب غير الطيب المعهود ، يقال له القمحان نبات طيب يجعلونه على رأس دنّ الخمر ويطيّن عليه ليكسبها منه الريح الطيبة. قد ذكره النابغة الذبياني في شعره ، وفسّره علماء أهل اللغة على ما شرحناه وذكرناه.

وقال صاحب كتاب التاريخ (٣) : قال الأصمعي وغيره : يقال للذي يعلو الخمر ، مثل الذريرة القمحان. وقال النابغة الجعدي :

إذا فضّت خواتمه علاه

بنثر القمحان من المدام

وهل الكافور الذي للغسلة الثانية من جملة الثلاثة عشر درهما وثلث ، أم من غيرها؟ اختلف أصحابنا في ذلك ، فبعض قال : من جملتها ، وبعض قال : من غيرها لا منها ، وهذا هو الأظهر بينهم.

__________________

(١) التبيان : ج ١ ، ص ٤٤٨

(٢) مروج الذهب : ج ١ ص ١٧١ نقلا بالمعنى

(٣) في المطبوع : التاريخ.

١٦١

وتنثر الذريرة المتقدّم ذكرها ، على الأكفان.

ويكتب على الأكفان : فلان يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا رسول الله ، بتربة الحسين عليه‌السلام.

وقال الشيخ المفيد في رسالته إلى ولده : تبل التربة بالماء ويكتب بها (١). وباقي المصنفين من أصحابنا يطلقون في كتبهم ويقولون يكتب ذلك بتربة الحسين عليه‌السلام ، والذي اختاره ما ذكره الشيخ المفيد رحمه‌الله ، لأنّه الحقيقة والمعهود في الكتابة ، لأنّ حقيقة ذلك التأثير ، وليس إطلاقهم ممّا ينافي ذلك ، فإن لم توجد التربة ، فبالاصبغ عند الضّرورة.

ويستحب أن يكون الكفن قطنا محضا أبيض ، والكتان مكروه. وليس بمحظور ، والإبريسم المحض لا يجوز ، وجملة الأمر وعقد الباب أنّ كل ثوب يجوز فيه الصّلاة يجوز التكفين به ، إلا انّ بعض الثياب أفضل من بعض ، وما لا تجوز فيه الصلاة من الإبريسم المحض لا يجوز التكفين به.

والواجب أن يغسل ثلاث غسلات ، الاولى بماء السّدر ، والثانية بماء جلال الكافور ، والثالثة بماء القراح ، والماء القراح هو البحت الخالص ، من غير إضافة شي‌ء إليه على ما ذكرناه.

وكيفية غسله ، مثل غسل الجنابة ، يغسل الغاسل يد الميّت ثلاث مرّات ، ثم ينحيه بقليل أشنان ، وآخر يقلب الماء عليه ، فإذا نحّاه بدأ بغسل رأسه ولحيته ثلاث مرات ، ثم يغسل جانبه الأيمن ثلاث مرات ، ثمّ الأيسر ثلاث مرات ، وآخر يقلب الماء عليه.

ثمّ يقلب بقية ماء السّدر ، ويغسل الأواني ، ويطرح ماء آخر ، ويطرح القليل من الكافور ، ويضربه ، ويغسّله الغسلة الثانية مثل ذلك.

__________________

(١) رسالة المفيد رحمه‌الله الى ولده.

١٦٢

ثم يقلب بقية ماء الكافور ، ويغسل الأواني ، ويطرح فيها ماء القراح ، ويغسّله الغسلة الثالثة مثل ذلك بالماء القراح ، ويمسح الغاسل يده على بطنه في الغسلتين الأولتين ، ولا يمسح في الغسلة الثالثة ، وقد ذكرنا طرفا من ذلك فيما مضى ، وأعدناه هاهنا للبيان ، وكلّما قلبه استغفر الله وسأله العفو ، ثم ينشّفه بثوب نظيف.

ويغتسل الغاسل فرضا واجبا إمّا في الحال أو فيما بعد ، فإن مس مائعا قبل اغتساله وخالطه لا يفسده ولا ينجسه ، وكذلك إذا لاقى جسد الميت من قبل غسله إناء ثم أفرغ في ذلك الإناء قبل غسله مائع فإنّه لا ينجس ذلك المائع ، وإن كان الإناء يجب غسله ، لأنّه لاقى جسد الميّت ، وليس كذلك المائع الذي حصل فيه ، لأنّه لم يلاق جسد الميت وحمله على ذلك قياس ، وتجاوز في الأحكام بغير دليل ، والأصل في الأشياء الطهارة ، إلى أن يقوم دليل قاطع للعذر ، وإن كنّا متعبدين بغسل ما لاقى جسد الميت ، لأنّ هذه نجاسات حكميات ، وليست عينيات ، والأحكام الشرعيات نثبتها بحسب الأدلة الشرعية.

ولا خلاف أيضا بين الأمّة كافّة إنّ المساجد يجب أن تنزه ، وتجنب النجاسات العينيات ، وقد أجمعنا بلا خلاف ذلك بيننا على أن لمن غسل ميّتا أن يدخل المسجد ، ويجلس فيه ، فضلا عن مروره ، وجوازه ، ودخوله إليه ، فلو كان نجس العين لما جاز ذلك وأدّى إلى تناقض الأدلة.

وأيضا فإنّ الماء المستعمل في الطهارة على ضربين ، ماء استعمل في الصغرى والآخر في الكبرى ، فالماء المستعمل في الصغرى لا خلاف بيننا انّه طاهر مطهر ، والماء المستعمل في الطهارة الكبرى الصّحيح عند محققي أصحابنا أنّه أيضا طاهر مطهر ، ومن خالف فيه من أصحابنا قال : هو طاهر يزيل به النجاسات العينيات ولا يرفع به الحكميات ، فقد اتفقوا جميعا على انّه طاهر ، ومن جملة الأغسال والطهارات الكبار : غسل من غسل ميتا ، فلو نجس ما يلاقيه من المائعات ، لما كان الماء الذي قد استعمله في غسله وإزالة حدثه طاهرا

١٦٣

بالاتفاق والإجماع اللذين أشرنا إليهما.

والأفضل أن لا يكفّنه إلا بعد أن يغتسل ، فإن لم يفعل توضّأ ثم كفنه ، فيأخذ الخرقة التي هي الخامسة ويترك عليها شيئا من القطن وينثر عليها شيئا من الذريرة ويشد بها فخذيه ، ويضمهما ضما شديدا ويحشو القطن على حلقة الدبر ، وبعض أصحابنا يقول في كتاب له : ويحشو القطن في دبره. والأول أظهر ، لأنّا نجنّب الميت كل ما نجنّبه الأحياء ، ويستوثق من الخرقة.

ثم يؤزره ويلبسه القميص ، وفوق القميص الإزار ، وفوق الإزار الجرة ، ويترك معه جريدتين رطبتين من النخل إن وجدا ، ومن الشجر الرطب ، ويكتب عليهما ما كتب على الأكفان ، ويضع إحديهما من ترقوته اليمنى ، ويلصقها بجلده ، والأخرى من الجانب الأيسر ، بين القميصين والإزار.

ويضع الكافور على مساجده : جبهته ، ويديه ، وعيني ركبتيه ، وطرف أصابع الرجلين فإن فضل منه شي‌ء تركه على صدره ، ولا يجعل في عينه ، ولا في سمعه ، ولا في فيه ، ولا في أنفه ، شيئا من الكافور والقطن ، إلا ان يخاف خروج شي‌ء من ذلك فيجعل عليه شيئا من القطن.

ويكره قطع الكفن بالحديد ، ويكره أيضا بل الخيط لخياطته بالريق.

ثم يحمل إلى المصلّى ، فيصلّى عليه ، على ما نذكره في كتاب الصّلاة.

وأفضل ما يمشي المشيع للجنازة خلفها ، ويجوز بين جنبيها ، ويكره ان يتقدّمها مع الاختيار.

فإذا صلّي عليه حمل إلى قبره ، فيترك عند رجلي القبر إن كان رجلا ، وقدّام القبر ممّا يلي القبلة إن كانت امرأة.

ثم ينزل إلى القبر من يأمره الولي ، بحسب الحاجة إن شاء شفعا ، وإن شاء وترا ، فيؤخذ الميت الرجل من عند رجلي القبر ، والمرأة من قدّامه ، فيسل سلا في ثلاث دفعات ولا يفاجأ به القبر دفعة واحدة ، ويوضع في لحده ، وهو أفضل من

١٦٤

الشق ، ويحلّ عقد الأكفان ، ويلقّنه الذي يدفنه الشهادتين ، والإقرار بالنبي والأئمة عليهم‌السلام ، ثم يضع معه شيئا من تربة الحسين عليه‌السلام ، وقال الشيخ أبو جعفر الطّوسي رحمه‌الله : تكون التربة في لحده مقابلة وجهه (١). وقال في اقتصاده : يكون في وجهه (٢) وقال الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان : تكون التربة تحت خدّه وهو الذي يقوى عندي ويضع خده على التراب ، ثمّ يشرّج عليه اللبن. ويخرج من عند رجلي القبر.

ويكره أن ينزل إلى القبر بحذاء أو خفّ.

ويطم القبر ويرفع من الأرض مقدار أربع أصابع مفرجات ، ولا يعلّى أكثر من ذلك ، ويربع ، ويكره أن يطرح فيه من غير ترابه.

ويستحب لمن حضره أن يطرح بظهر كفه ثلاث مرات التراب ، ويترحم عليه ، فإذا فرغ من تسوية القبر ، ينضح الماء على القبر من أربع جوانبه يبدأ الرأس ، فإذا فضل من الماء شي‌ء صبّه على وسط القبر.

ويترحّم عليه من حضره ، وينصرف ، ويتأخّر الولي أو من يأمره الولي ويستقبل القبلة ، ويجعل القبر أمامه ، وينادي بأعلى صوته معيدا للتلقين الأول ، فإنّه على ما روي (٣) يكفى عن مسألة القبر إن شاء الله.

وذهب بعض أصحابنا في كتاب له وهو الفقيه أبو الصلاح الحلبي تلميذ السيد المرتضى رحمه‌الله إلى أنّ الملقّن هاهنا يستدبر القبلة ، ويستقبل وجه الميت ويلقنه (٤).

ويكره تسخين الماء لغسل الأموات ، إلا أن يدعو إلى ذلك حاجة.

__________________

(١) هذه العبارة غير موجودة في النهاية والخلاف والمبسوط والجمل والعقود.

(٢) الاقتصاد : فصل في ذكر غسل الأموات ، ص ٢٥٠ الطبع الحديث.

(٣) الوسائل : الباب ٣٥ من أبواب الدفن ، ح ١ و ٢ و ٣.

(٤) الكافي : في أحكام الجنائز ، ص ٢٣٩ طبع مكتبة الإمام أمير المؤمنين بأصبهان.

١٦٥

ويكره أن يصب الماء الذي يغسل به الميت في الكنيف ، بل المستحب اتخاذ حفيرة ليدخل الماء إليها.

ويكره أن يركب الميت في حال غسله ، بل يكون الغاسل على جانبه الأيمن ، ولا يقعده ولا يغمز بطنه.

ويستحب لمن شيّع جنازة المؤمن أن يربع جنازته ، بأن يحملها من أربع جوانبه ، يبدأ بمقدّم السرير الأيمن ، يمرّ عليه ويدور من خلفه إلى الجانب الأيسر ، ثم يمرّ عليه حتى يرجع إلى المقدّم كذلك دور الرحى.

وفي بعض الكتب ولا يفدحه بالقبر دفعة واحدة القدح الأخذ بالشدة.

والموتى المأمور بغسلهم على ثلاثة أضرب ، فضرب منهم لا يجب غسله ، لا قبل الموت ولا بعد الموت ، وهو الشهيد المقتول بين يدي إمام عدل ، أو بين يدي من نصبه في نصرته ، ولا يكفن ، ويدفن معه جميع ما ينطلق عليه اسم الثياب ، سواء أصابها دمه أو لم يصبها ، ولا يكفّن إلا أن يجرّد ويسلب ، فحينئذ يجب تكفينه ، فأمّا غير الثياب فينقسم إلى قسمين ، سلاح وغير سلاح ، فالسلاح يجب نزعه عنه ، سواء أصابه دمه أو لم يصبه بغير خلاف ، وغير السلاح وهو الفرو والقلنسوة والخف ، فإن كان أصاب شيئا من ذلك دمه ، فقد اختلف قول أصحابنا فيه ، فبعض ينزعه عنه وإن كان قد أصابه دمه ، وبعض لا ينزعه عنه إلا أن يكون ما أصابه دمه ، فأمّا إن كان أصابه دمه فلا ينزعه ، وهذا الذي يقوى في نفسي.

فإن نقل من المعركة وبه رمق ، ومات في غير المعركة وجب غسله.

وذكر السيد المرتضى رحمه‌الله في مسائل خلافه في مسألة غسل الشهيد قال : فإن قيل : لا خلاف في انّه إذا ارتثّ يغسل مع وجوب الشهادة. قلنا : إذا ارتث فلم يمت في المعركة هذا آخر كلام المرتضى.

قال محمّد بن إدريس : ارتثّ بالألف والراء الساكنة ، غير المعجمة والتاء

١٦٦

المضمومة المنقطة من فوقها بنقطتين والثاء المنقطة ثلاث نقط المشددة : إذا طعن أو ضرب فسقط ، وتأويله انّه صار مرميّا به ، كما يلقى رثّ المتاع ، وكذلك فلان رث الثياب ، ويقال كل غثّ ورثّ ، يقال : قد ارتث فلان صريعا إذا فعل به ما قدّمناه ، هكذا أورده المبرد في كتاب الاشتقاقات (١).

والضرب الثاني يجب أن يغتسل قبل موته ، ولا يجب غسله بعد موته وقتله ، وهو المقتول قودا ، والمرجوم ، فإنّهما يؤمران بالاغتسال ، فإذا اغتسلا قتلا ، ولا يجب غسلهما بعد قتلهما.

ويجب على من مسهما بعد القتل الغسل ، لأنّه قد مس ميتا بعد برده بالموت وقبل تغسيله بعد الموت.

ولا يظن ظان ان هذا ما مسّه الا بعد تطهيره.

قلنا ما مسه بعد تطهيره بعد موته ، بل ما مسّه الا قبل تطهيره بعد موته.

ولا يكفّنان أيضا بعد القتل ، لأنّهما يؤمران بالتكفين والتحنيط قبل القتل.

والضرب الثالث يجب غسله بعد الموت وتكفينه ، ظالما كان أو مظلوما ، وإذا وجد من المقتول قطعة ، فإن كان فيها عظم وكان ذلك العظم عظم الصدر ، وجب على من مسه الغسل ، ووجب تغسيل القطعة ، وتكفينها ، والصلاة عليها ، وحكمها حكم الميت نفسه ، وإن كان العظم غير الصدر ، يجب جميع الأحكام الماضية إلا الصلاة عليها فإنّها لا تجب.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مسائل خلافه : مسألة : إذا وجد قطعة من ميت فيها عظم ، وجب غسلها ، ثم استدل فقال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وأيضا روي أنّ طائرا ألقت يدا بمكة من وقعة الحمل ، فعرفت بالخاتم وكانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، فغسلها أهل مكة ، وصلّوا عليها (٢).

__________________

(١) لم نعثر عليه

(٢) كتاب الخلاف : المسألة ٦٢ من أحكام الأموات.

١٦٧

قال محمّد بن إدريس : الصحيح انّ اليد ألقيت باليمامة ، ذكر ذلك البلاذري في تاريخه (١) ، وهو أعرف بهذا الشأن ، وأسيد بفتح الالف وكسر السين.

وإن كانت القطعة خالية من العظم ، دفنت ، ولا يجب تكفينها ، ولا غسلها ، ولا الصلاة عليها ، ولا يجب على من مسها الغسل ، بل يجب عليه غسل ما مسّها به فحسب.

وحكم قطعة قطعت من حي آدمي ذلك الحكم.

والمحرم إذا مات غسّل كما يغسّل الحلال ، ويكفّن كتكفينه ، غير أنّه لا يقرّب شيئا من الكافور.

وإن كان الميّت صبيا يغسّل كغسل الرجال ، ويكفّن ، ويحنط كذلك مثل الرجال ، وإن كان الصبي ابن ثلاث سنين أو أقل من ذلك ، فلا بأس أن يغسّله النساء ، عند عدم الرجال مجردا من ثيابه ، وكذلك الصبيّة إذا كان لها ثلاث سنين فما دونها ، جاز للرجال تغسيلها عند عدم النساء ، فإن زادت على ذلك لم يجز ، وبعض أصحابنا يجوّز في الصبي أن يغسّله النساء إلى خمس سنين عند عدم الرجال ، والأول أظهر في المذهب.

ولا بأس أن يغسّل الرجل امرأته ، والمرأة زوجها ، وكذلك كلّ محرّم محرم يغسّل ذا رحمه من فوق الثياب في حال الاختيار ، وهو الأظهر عند أصحابنا ، ومذهب شيخنا أبي جعفر في سائر كتبه ، إلا في استبصاره فإنّه قال : ذلك عند الاضطرار دون الاختيار (٢).

وإن ماتت المرأة ومات الصبي معها في بطنها دفن معها.

فإن كانت ذمية ، دفنت في مقابر المسلمين لحرمة ولدها ، وجعل ظهرها إلى القبلة ، ليكون وجه الولد إلى القبلة ، إذا كان من مسلم.

__________________

(١) لم نعثر عليه

(٢) الاستبصار : الباب ١١٧ من أبواب الجنائز.

١٦٨

وإذا ماتت المرأة ولم يمت ولدها ، شق بطنها من الجانب الأيسر ، واخرج الولد ، وخيط الموضع ، وغسّلت ، ودفنت.

فإن مات الولد ، ولم تمت هي ، ولم يخرج منها ، أدخلت القابلة أو غيرها من الرجال يده في فرجها ، وفقطع الصبي ، وأخرجه قطعة ، قطعة ، وغسّل ، وكفّن ، وحنّط ، ودفن.

ولا يقص شي‌ء من شعر الميت ، ولا من أظفاره ، ولا يسرح رأسه ، ولا لحيته ، فإن سقط منه شي‌ء ، جعل معه في أكفانه.

وإذا خرج من الميت شي‌ء من النجاسة عند الفراغ من تغسيله ، غسل منه ، ولا يجب عليه اعادة الغسل ، فإن أصاب ذلك كفنه ، فالصحيح انّه يغسل منها ، ولا يقرض ما لم يوضع في القبر ، فان وضع في القبر ، واصابته النجاسة ، قرض الموضع من الكفن بالمقراض ، ولا يغسل.

وقال بعض أصحابنا : يقرض بالمقراض ، ولم يفصّل ما فصلناه ، بل أطلق ذلك إطلاقا ، وما اخترناه مذهب الشيخ الصدوق علي بن بابويه في رسالته (١).

وإذا لم يوجد لغسله كافور ، ولا سدر ، فلا بأس أن يغسل ثلاث غسلات بالماء القراح ، وإن وجد الكافور والسدر فلا بدّ منه ، فان ذلك واجب ، لا مستحب جعله على أصح الأقوال ، وإن كان بعض أصحابنا وهو سلار لا يوجب الثلاث غسلات ، بل غسلة واحدة ، ولا يوجب الكافور ولا السدر في الغسلتين الأولتين.

وإذا مات الإنسان في البحر في مركب ، ولم يقدر على الأرض لدفنه ، غسّل ، وحنّط ، وكفّن ، وصلّي عليه ، ثم يثقل بشي‌ء ، ويطرح في البحر ليرسب إلى قرار الماء ، وهذا هو الأظهر من الأقوال.

وقال بعض أصحابنا : يترك في خابية ويشد رأسها وترمى في البحر ، ورد بذلك بعض الروايات واختاره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مسائل الخلاف (٢).

__________________

(١) رسالة ابن بابويه

(٢) الخلاف : المسألة ٣٦ من أحكام الأموات.

١٦٩

ولا يجوز حمل ميتين على جنازة واحدة مع الاختيار ، لأنّ ذلك بدعة.

ويستحب أن يكون حفر القبر قدر قامة ، أو إلى الترقوة.

ويكره نقل الميت من الموضع الذي مات فيه ليدفن في بلد غيره ، إلا إذا نقل إلى واحد من مشاهد الأئمة ، فإنّ ذلك مستحب ، ما لم يخف عليه الحوادث والانفجار.

فإذا دفن في موضع فلا يجوز تحويله ، ولا نبشه ، ونقله من موضعه ، سواء نقل إلى مشهد أو إلى غيره بل ذلك بدعة في شريعة الإسلام.

وذكر شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مسائل خلافه ، مسألة : إذا أنزل الميت القبر (١) يستحب أن يغطى القبر بثوب ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إن كانت امرأة غطي ، وإن كان رجلا لم يغط.

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : ما وقفت لأحد من أصحابنا في هذه المسألة على مسطور فأحكيه ، فالأصل براءة الذمة من واجب ، أو ندب ، وهذا مذهب الشافعي ، فلا حاجة لنا إلى موافقته على ما لا دليل عليه ، وقد يوجد في بعض نسخ أحكام النساء للشيخ المفيد انّ المرأة يجلل القبر عند دفنها بثوب ، والرجل لا يمدّ عليه ثوب ، فإن كان ورد هذا ، فلا نعدّيه إلى قبر الرجل ، فليلحظ ذلك.

ولا يترك من وجب عليه الصلب ، على خشبته ، أكثر من ثلاثة أيّام ، فإن صلّي عليه ، وهو على خشبته ، يستقبل بوجهه ، وجه المصلى ويكون هو مستدبر القبلة ، هكذا يكون الصلاة عليه ، عند بعض أصحابنا المصنّفين.

والصحيح من الأقوال والأظهر انّه ينزل بعد الثلاثة الأيام ، ويغسل ، ويكفن ، ويحنط ، ويصلّى عليه ، لأنّ الصلاة قبل الغسل والتكفين لا تجوز ، وهذا مذهب شيخنا المفيد وشيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله الا أنّ شيخنا أبا جعفر ، لا يصلب المحارب ، إلا إذا قتل ، ويقول : يقتل قودا لا حدا ذكر ذلك في

__________________

(١) الخلاف : المسألة ٨٧ من أحكام الأموات.

١٧٠

الجزء السادس من مبسوطة في كتاب قطاع الطريق ، فلزمه على ذلك أن يأمره بالغسل ، والتكفين ، والتحنيط ، ثم يصلبه ، لأنّ المقتول قودا بلا خلاف بيننا يؤمر أولا بالغسل ، والتكفين ، ثم يقاد بعد ذلك ، وهو لا يغسله ولا يكفنه إلا بعد موته ، وإنزاله من خشبته.

والصحيح انّه يقتل حدّا ، لا قودا ، لأنّ القتل يتحتم عليه ، وإن عفى ولي المقتول ، وهذا مذهب شيخنا المفيد انّ المحارب إذا شهر السلاح ، الإمام مخيّر بين الصلب ، وبين قطعه من خلاف ، وبين النفي ، والآية (١) معه ، عاضدة لقوله.

ويكره تجصيص القبور ، وتطيينها ، والتظليل عليها ، والمقام عندها ، وتجديدها بعد اندراسها ، ولا بأس بتطينها ابتداء.

والكفن يؤخذ من نفس تركة الميت ، قبل إخراج جميع الحقوق ، من دين ، ووصية ، ونذر ، وكفارة ، وميراث وإن كان الميت امرأة لزم زوجها أكفانها ، وتجهيزها ، ولا يلزم ذلك في مالها ، فإن آثر الزوج أن يكفّنها مما يخصّه من تركتها ونصيبها ، فلا بأس به إذا لم يحسبه من أصل تركتها على ورثتها.

باب التعزية والسنّة في ذلك

وهيئة المصاب وما ينبغي أن يكون عليه من علامات المصيبة

تعزية صاحب المصيبة سنة ، ينبغي أن تراعى ، ولا تهمل ، وفيها أجر كبير ، وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : من عزّى حزينا كسي في الموقف حلّة يحبر بها (٢).

ويجوز التعزية قبل الدفن وبعده ، والأولى أن يكون بعد الدفن ، وإذا عزّى الرجل أخاه في الدين فليقل : ألهمك الله صبرا واحتسابا ، ووفّر لك الأجر

__________________

(١) المائدة : ٣٣

(٢) الوسائل : الباب ٤٦ من أبواب الدفن وفي بعض الروايات : يحبى بها

١٧١

والثواب ورحم الله المتوفّى ، وأحسن الخلف على مخلّفيه ، وإن قال : أحسن الله لك العزاء ، وربط على قلبك بالصبر ، ولا حرمك الأجر ، كان حسنا ، ويجزيه أن يقول له : آجرك الله. وإن حضر ولم يتكلّم أجزأه الحضور عن الكلام ، وإن كان الكلام مع الحضور أفضل.

وإن كان المعزّى جزعا قلقا ، وعظه إن تمكن من ذلك ، وسلاه بذكر الله تعالى ، وذكر رسوله ، والاسوة به عليه‌السلام ، وعرّفه ما عليه من الوزر في جزعه ، والأجر على صبره.

وإن كان المعزى يتيما مسح يده على رأسه ، وسكته بلطف ورفق ، ودعا له بحسن الخلافة ، وترحم على ميته.

وليس في تعزية النساء سنّة.

ولا يجوز تعزية الضلال عن الحق ، والمخالفين للاعتقاد الصحيح ، وأصناف الكفار ، فإن اضطر الإنسان إلى تعزيتهم إن اقتضت المصلحة له في دينه ودنياه ذلك ، فليعزهم ، وليدع لهم في التعزية بإلهام الصبر ولا يدع لهم بالأجر ، ولا بأس أن يدعو لهم بالبقاء ، بذلك ثبت الخبر عن أئمة الهدى من آل محمّد عليهم‌السلام (١).

والمستحب لمشيع الجنازة ، وحاضري أصحاب المصائب ، أن لا ينصرفوا حتى يأذنوا لهم في الانصراف ، بذلك جرت السنة ، فإن كان المعزى جاهلا بما ينبغي له من الإذن لهم في الانصراف ، فسكت عنهم ، انصرفوا بغير إذنه.

وينبغي لصاحب المصيبة أن يتميّز من غيره.

ولا يجوز للوالدين شقّ جيبهما على ولدهما ، فإن فعلا ذلك أثما ، وكانت عليهما كفارة يمين ، على كل واحد منهما ، على ما روي في بعض أخبارنا (٢)

__________________

(١) لم نجد فيما بأيدينا من المصادر.

(٢) الوسائل : الباب ٣١ من أبواب الكفارات ، والباب ٨٤ من أبواب الدفن.

١٧٢

واستغفرا ربّهما.

وينبغي لإخوان الميت أن يصنعوا لأهله طعاما على حسب إمكانهم مدة ثلاثة أيّام ، لشغل أهل المصيبة بمصيبتهم ، عن إعداد ما يحتاجون إليه لأنفسهم ، فإنّهم يحوزون أجرا ، ويتبعون به سنة ثابتة (١) عن النبي عليه‌السلام فيما صنعه بأهل جعفر بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وأرضاه ، ليلة ورود الخبر عليهم بشهادته رحمه‌الله ، فاشتغلوا عن صلاح شئونهم بالمصاب به عليه‌السلام.

ثم البكاء ليس به بأس. وأمّا اللطم ، والخدش ، وجرّ الشعر ، والنوح بالباطل ، فإنّه محرّم إجماعا.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : ويكره الجلوس للتعزية يومين وثلاثة (٢).

قال محمّد بن إدريس : لم يذهب أحد من أصحابنا المصنفين إلى ذلك ، ولا وضعه في كتابه ، وانّما هذا من فروع المخالفين وتخريجاتهم ، وأي كراهة في جلوس الإنسان في داره للقاء إخوانه ، والدعاء لهم ، والتسليم عليهم ، واستجلاب الثواب لهم ، في لقائه وعزائه.

وقال شيخنا أيضا في مبسوطة : يجوز لصاحب الميت أن يتميز من غيره ، بإرسال طرف العمامة ، أو أخذ مئزر فوقها ، على الأب والأخ ، فأمّا غيرهما فلا يجوز على حال (٣).

قال محمّد بن إدريس : لم يذهب إلى هذا سواه رحمه‌الله ، والذي يقتضيه أصول مذهبنا انّه لا يجوز اعتقاد ذلك ، وفعله ، سواء كان على الأب ، أو الأخ ، أو غيرهما ، لأنّ ذلك حكم شرعي ، يحتاج إلى دليل شرعي ، ولا دليل على ذلك ، فيجب اطراحه ، لئلا يكون الفاعل له مبدعا ، لأنّه اعتقاد جهل.

__________________

(١) الوسائل : الباب ٦٧ من أبواب الدفن ، ح ١.

(٢) المبسوط : في أحكام الجنائز

(٣) المبسوط : كتاب الجنائز.

١٧٣

باب تطهير الثياب من النجاسات والبدن والأواني والأوعية

الدم على ضربين ، نجس وطاهر ، قليله وكثيره ، فالطاهر على مذهب أهل البيت بغير خلاف بينهم دم السمك ، والبراغيث ، والبق ، وما أشبه ذلك ، مما ليس بمسفوح ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وقال مالك في دم البراغيث : إذا تفاحش غسل ، فإن لم يتفاحش لا بأس به ، وقال : يغسل دم السمك والذباب ، وسوّى الشافعي بين الدماء كلها في النجاسة.

قال محمّد بن إدريس : فقد يوجد في بعض كتب أصحابنا ان النجاسة على ضربين ، دم وغير دم ، فعم ولم يخص ، وهذا تسامح وتساهل في التصنيف ، على انّ العموم قد يخص بالأدلة ، فلا يتوهم متوهم ، إذا وقف على ذلك المسطور انّه صحيح ظاهره.

والدليل على طهارة دم السمك انّه لا خلاف في جواز أكله بدمه ، من غير أن يسفح دمه ، ألا ترى أنّ سائر الدماء لمّا كانت نجسة ، لم يجز أكل الحيوان الذي هي فيه إلا بعد سفحها.

وأيضا قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) إلى قوله ( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) (١) فأخبر تعالى انّ ما عدا المسفوح ليس بمحرّم ودم السمك ليس بمسفوح ، فوجب أن لا يكون محرما.

وأيضا قوله تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ ) (٢) يقتضي ظاهره ، إباحة أكل السمك وطهارته بجميع أجزائه ، لأنّ التحليل يقتضي الإباحة من جميع الوجوه.

فإن قال قائل : كما انّه تعالى خصّ الدم المسفوح بالآية التي ذكرتم ، فقد عمّ

__________________

(١) الانعام : ١٤٥

(٢) المائدة : ٩٦.

١٧٤

أيضا بسائر الدماء بقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) (١) وهذه الآية تقتضي تحريم سائر الدماء المسفوح وغيره؟

قلنا : دم السمك مخصوص من الآية العامة بما قدّمناه من الدلائل ، وبعد فانّ الله تعالى لما قال حرّمت عليكم الميتة ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أحلت لنا ميتتان ، وقال تعالى ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ ) ثم اتفقوا على أنّ آية الإباحة مرتّبة على آية الحظر ، كأنّه تعالى قال : حرّمت عليكم الميتة ، إلا الجراد والسمك فوجب أن يكون حكم الدم كذلك ، فتكون آية الإباحة ، مرتبة على آية الحظر ، ويكون التقدير ، حرّمت عليكم الميتة والدم إلا دم السمك ، وما أشبهه مما ليس بمسفوح.

وأيضا فإنّ العام يبنى على الخاص والمطلق على المقيد ، مثاله إذا ورد حكم مطلق في موضع ، ثم ورد ذلك الحكم بعينه في موضع آخر مقيدا بصفة ، فانّ مطلقه يكون محمولا على مقيّده ، ويتبيّن بذلك التقييد مراد المخاطب بالمطلق ، وهذا ممّا لا خلاف فيه بين من تكلّم في أصول الفقه.

فأمّا مسألة الخلاف أن يثبت حكم في موضع مطلقا ، ثمّ يرد ما هو من جنس ذلك الحكم لا بعينه في موضع آخر مقيدا ، فهل يجب حمل المطلق هاهنا على ذلك المقيّد أم لا؟ والصحيح من الأقوال ، أنّ لكل منهما حكم نفسه ، لأنّهما حكمان متغايران ، وإن كان جنسهما واحدا ، ومثاله كفارة الظهار مطلقة ، وكفارة قتل الخطأ مقيدة ، فلا يحمل المطلق على المقيد هاهنا ، إلا بدليل منفصل ، لأنّه يكون قياسا ، والقياس متروك عند أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انّه قال : لا بأس بدم ما لم يذك (٢).

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) الوسائل : الباب ٢٣ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

١٧٥

فأمّا الكلام في دم البق والبراغيث وما أشبههما ، فالدليل على ما ذهبنا إليه فيه ، الآية التي تقدّمت ، وهو قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ) إلى قوله ( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) ودم البراغيث والبق ليس بمسفوح ، وليس هذا اعتمادا على تعلّق الحكم بصفة ، وتعويلا على دليل الخطاب ، بل الحكم متعلّق بشرط متى لم يقصر عليه لم يكن مؤثرا ، وخرج من أن يكون شرطا على ما ذكرناه فيما تقدّم ، فإن عورضنا بعموم قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) كان الكلام على ذلك ما تقدّم ، وعلى ما اخترناه إجماع أصحابنا وفتاويهم وتصانيفهم.

فمنهم السيّد المرتضى رضى الله عنه يفتي به في مسائل خلافه ويناظر الخصم عليه ، وكذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي يفتي به في مسائل خلافه (١) ويناظر الخصم عليه. فأمّا قوله في جمله وعقوده (٢) النجاسة على ضربين ، دم وغير دم ، وعدّ دم السمك ، وأدخله في جملة عموم قوله النجاسة ، فتسامح وتساهل في التصنيف على ما قدّمناه ، واعتذرنا لمن وجد ذلك في كلامه وتصنيفه ، بأنّ العموم مخصوص بالأدلة ، وقد يوجد مثل ذلك في كلام الله سبحانه ، وكلام أنبيائه وأئمته عليهم‌السلام ، ولا يكون ذلك مناقضة في الأدلة ، وذلك لا يجوز بغير خلاف.

وجملة الأمر وعقد الباب أنّ الدّم على تسعة أقسام ، ثلاثة منها قليلها وكثيرها طاهر ، وهي دم السمك والبق والبراغيث ، وما ليس بمسفوح على ما مضى القول فيه.

وثلاثة منها قليلها وكثيرها نجس ، لا تجوز الصلاة في ثوب ، ولا بدن ، أصابه منها قليل ، ولا كثير إلا بعد إزالته بغير خلاف عندنا ، وهي دم الحيض والاستحاضة والنفاس.

ودمان نجسان إلا أنّهما عفت الشريعة عمن هما به ، ولا يمكنه التحرز منهما

__________________

(١) كتاب الخلاف : المسألة ٢١٩ من كتاب الصلاة.

(٢) الجمل والعقود : في فصل ذكر النجاسات.

١٧٦

في كلّ وقت ، بأن يكونا على صفة السيلان ، بأن لا يرقيا في وقت من الأوقات ، وهما الجراح الدامية ، والقروح اللازمة ، فلا بأس بالصلاة في الثوب والبدن إذا كانا على هذه الصفة ، وهما فيهما كثرا أو قلا للمكلف الذي هما به فحسب ، من غير اعتبار الدرهم وسعته ، فإذا انقطع سيلانهما عمن هما به ، اعتبر ما يعتبره غيره من سعة الدرهم ، وأقل من ذلك ، وعمل عليه على ما يأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

والدم التاسع ما عدا ما ذكرناه من الثمانية الأجناس ، وهو دم سائر الحيوان ، سواء كان مأكول اللحم أو غيره ، نجس العين أو غير نجس العين.

وقد ذكر بعض أصحابنا المتأخّرين من الأعاجم ، وهو الراوندي المكنى بالقطب ، انّ دم الكلب والخنزير لا يجوز الصلاة في قليله ولا كثيره مثل دم الحيض ، قال : لأنّه دم نجس العين ، وهذا خطأ عظيم ، وزلل فاحش ، لأنّ هذا هدم وخرق لإجماع أصحابنا.

فهذا الدم أعني التاسع من الدماء نجس ، إلا انّ الشارع عفى عن ثوب وبدن أصابه منه دون سعة الدرهم الوافي ، وهو المضروب من درهم وثلث ، وبعضهم يقولون دون قدر الدرهم البغلي ، وهو منسوب إلى مدينة قديمة ، يقال لها بغل ، قريبة من بابل ، بينها وبينها قريب من فرسخ ، متصلة ببلدة الجامعين ، تجد فيها الحفرة والغسّالون دراهم واسعة ، شاهدت درهما من تلك الدراهم ، وهذا الدرهم أوسع من الدينار المضروب بمدينة السلام ، المعتاد ، تقرب سعته من سعة أخمص الراحة.

وقال بعض من عاصرته ، ممن له علم بأخبار الناس والأنساب : انّ المدينة والدراهم منسوبة إلى ابن أبي البغل ، رجل من كبار أهل الكوفة اتخذ هذا الموضع قديما ، وضرب هذا الدرهم الواسع ، فنسب إليه الدرهم البغلي ، وهذا غير صحيح ، لأنّ الدراهم البغلية كانت في زمن الرسول عليه‌السلام قبل الكوفة ، فما كانت سعته أعني سعة الدم في الثوب والبدن ، سعة هذا الدرهم ، لا وزنه

١٧٧

وثقله ، وكان مجتمعا في مكان واحد ، فلا يجوز الصلاة إلا بعد إزالته.

وبعض أصحابنا يقول : سواء كان مجتمعا في مكان واحد ، أو متفرقا بحيث لو جمع كان بمقدار الدرهم ، لا يجوز الصلاة فيه ، وهذا أحوط للعبادة ، والأوّل أقوى وأظهر في المذهب ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، لأنّ الإجماع على سعة قدر الدرهم ، فكلّ موضع ليست هي بسعة قدر الدرهم لا يجب إزالتها فمن ادعى انّه إذا اجتمع كان بقدر الدرهم ، يحتاج إلى دليل.

وما ليس بدم من النجاسات ، يجب إزالة قليله وكثيره ، من ذلك البول ، والغائط ، من الآدمي وغيره من الحيوان الذي لا يؤكل لحمه ، ويكون له دم سائل مسفوح ، وما أكل لحمه ، فلا بأس ببوله ، وروثه ، وذرقه ، وبعض أصحابنا يستثني من هذه الجملة ذرق الدجاج خاصة ، فإن أراد هاهنا بالدجاج ، غير الجلال ، فاستثناؤه له وجه ، وإن أراد الدجاج الجلال ، فلا وجه لاستثنائه ، لأنّه استثناء من مأكول اللحم والجلال غير مأكول اللحم في حال جلله ، فيصير الاستثناء غير حقيقي ، لأنّه استثناء من غير الجنس ، والكلام في الحقائق.

والصحيح انّ الدجاج إذا كان غير الجلال ، فإنّه لا بأس بذرقه ، لأنّ الإجماع من الطائفة حاصل ، على أنّ روث وبول وذرق كل مأكول اللحم من الحيوان طاهر ، والدجاج من ذلك ، فالمراد بالدجاج هاهنا الجلال ، لأنّه محتمل للجلال وغيره ، فيحمل إطلاق ذلك على المقيّد على ما مضى شرحه أولا ، لئلا تتناقض الأدلة.

وما يكره لحمه ، يكره بوله ، وروثه ، مثل البغال ، والحمير ، والدواب ، وإن كان بعضه أشد كراهة من بعض ، وفي أصحابنا من قال ، بول البغال ، والحمير ، والدواب ، وأرواثها نجس ، يجب إزالة قليله وكثيره ، والصحيح خلاف هذا القول.

والمني نجس ، من كل حيوان ، سواء كان مأكول اللحم ، أو غير مأكول اللحم ، يجب غسله ولا يجزي فيه الفرك.

والخمر نجس ، بلا خلاف ، ولا تجوز الصلاة في ثوب ، ولا بدن ، أصابه

١٧٨

منها ، قليل ولا كثير ، إلا بعد إزالتها ، مع العلم بها ، وقد ذهب بعض أصحابنا في كتاب له (١) وهو ابن بابويه ، إلى انّ الصلاة تجوز في ثوب أصابه الخمر ، قال : لأنّ الله حرّم شربها ، ولم يحرم الصلاة في ثوب أصابته ، معتمدا على خبر (٢) روي ، وهذا اعتماد منه على أخبار آحاد ، لا توجب علما ، ولا عملا ، وهو مخالف للإجماع من المسلمين ، فضلا عن طائفته ، في أنّ الخمر نجسة ، وقد أجمع أصحابنا على أنّ الصلاة لا تجوز في ثوب أصابته نجاسة ، إلا بعد إزالتها ، سواء كانت النجاسة قليلة أو كثيرة ، إلا ما خرج بالإجماع من الدم التاسع ، والدم الذي لا يرقأ لموضع الضرورة لمن هو به ، على ما مضى ذكرنا لهم.

وألحق أصحابنا الفقاع بالخمر في جميع الأحكام.

وأسئار الكفار على اختلاف ضروبهم ، من مرتد وكافر أصليّ ، وكافر مليّ ومن حكمه حكمهم.

وجملة الأمر وعقد الباب ، أنّ ما يؤثّر بالتنجيس ، على ثلاثة أضرب : أحدها يؤثر بالمخالطة ، وثانيها بالملاقاة ، وثالثها بعدم الحياة ، فالأول : أبوال وخرء كل ما لا يؤكل لحمه ، وما يؤكل لحمه إذا كان جلالا ، والشراب المسكر ، والفقاع ، والمني ، والدم المسفوح ، وكل مائع نجس بغيره. والثاني : أن يماس الماء وغيره حيوان نجس العين ، وهو الكلب والخنزير والكافر. والثالث : أن يموت في الماء وغيره حيوان له نفس سائلة ، ولا حكم لما عدا ما ذكرناه في التنجيس.

وكل نجاسة تجب ازالة قليلها وكثيرها ، فإنّه يجب إزالتها عن الثياب والأبدان ، أدركها الطرف ، أو لم يدركها ، إذا تحقق ذلك ، فإن لم يتحقق ذلك ، وشك فيه ، لم يحكم بنجاسة الثوب ، إلا ما أدركه الحس ، فمتى لم يدركها فالثوب على أصل الطهارة.

__________________

(١) رسالة علي بن بابويه في كتاب لصلاة ، ص ٣٨ الطبع الحديث.

(٢) الوسائل : كتاب الطهارة الباب ٣٨ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

١٧٩

وليس لغلبة الظنّ هنا حكم ، لأنّه مذهب أبي حنيفة ، فإن وجد في بعض كتبنا وتصنيف أصحابنا شي‌ء من ذلك ، فإنّه محمول على التقية.

وقال بعض أصحابنا : إذا ترشش على الثوب أو البدن مثل رءوس الإبر ، فلا ينجس بذلك ، والصحيح الأول ، لأنّ الإجماع على ذلك حاصل.

وإذا تحقق حصول النجاسة في الثوب ، ولم يعلم موضعه بعينه ، وجب غسل الثوب كله ، وإن علم انّه في موضع مخصوص ، وجب غسل ذلك الموضع ، لا غير ، ولا يتعدّى إلى غير ذلك الموضع ، سواء كانت النجاسة رطبة أو يابسة.

وإن علم انّ النجاسة حصلت في أحد الكمّين ، ولم يتميز ، غسلهما معا ، ولم يجز له التحري (١).

والماء الذي ولغ فيه الكلب والخنزير ، إذا أصاب الثوب ، وجب غسله ، لأنّه نجس ، وإن أصابه الماء الذي يغسل به الإناء ، فإن كان من الغسلة الأوّلة ، يجب غسله ، وإن كان من الغسلة الثانية أو الثالثة ، لا يجب غسله ، وقال بعض أصحابنا : لا يجب غسله سواء كان من الغسلة الأولة أو الثانية ، وما اخترناه المذهب.

وقال السيد المرتضى في الناصريات (٢) قال الناصر : ولا فرق بين ورود الماء على النجاسة ، وبين ورود النجاسة على الماء ، قال السيد المرتضى : وهذه المسألة لا أعرف فيها نصا لأصحابنا ولا قولا صريحا. والشافعي يفرق بين ورود الماء على النجاسة ، وورودها عليه ، فيعتبر القلتين في ورود النجاسة على الماء ، ولا يعتبر في ورود الماء على النجاسة ، وخالفه سائر الفقهاء في هذه المسألة ويقوى في نفسي عاجلا إلى أن يقع التأمّل لذلك صحة ما ذهب إليه الشافعي ، والوجه فيه : انّا لو حكمنا بنجاسة الماء القليل الوارد على النجاسة ، لأدّى ذلك إلى أن الثوب لا يطهر من النجاسة ، إلا بإيراد كر من الماء عليه ، وذلك يشق ، فدلّ على

__________________

(١) وفي بعض النسخ التجزّي.

(٢) الناصريات : كتاب الطهارة ، المسألة الثالثة.

١٨٠