كتاب السرائر - ج ١

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٧٦

كسف القمر ، إلا أنّ الأجود فيه ، أن يقال خسف القمر ، والعامة تقول : انكسفت الشمس ، قد وضعها بعض مصنفي أصحابنا في كتاب له ، وهي لفظة عامية ، والأولى تجنبها ، واستعمال ما عليه أهل اللغة في ذلك ، قد ذكره الجوهري في صحاحه وغيره من أهل اللغة.

وكذلك عند الزلازل ، والرياح المخوفة ، والظلمة الشديدة ، والآيات التي لم تجر بها العادة تجب الصلاة لها مثل ذلك.

ويستحب أن تصلى هذه الصلاة جماعة ، وإن صليت فرادى كان جائزا.

ومن ترك هذه الصلاة عند كسوف قرص الشمس والقمر بأجمعهما متعمّدا وجب عليه قضاء الصلاة بغسل ، واختلف قول أصحابنا في هذا الغسل ، منهم من ذهب إلى وجوبه ، ومنهم من ذهب إلى استحبابه ، وهو الذي يقوى في نفسي ، لأنّ الأصل براءة الذمة ولا إجماع على الوجوب ، ولا دليل عليه ، والأول اختيار سلار ، والثاني اختيار شيخنا المفيد وأبي جعفر الطوسي ، والمرتضى رحمهم‌الله.

وإن تركها ناسيا ، والحال ما وصفناه ، قضاها بغير غسل ، لا فرضا ولا ندبا ، بغير خلاف هاهنا في الغسل على القولين معا.

ومتى احترق بعض قرص الشمس ، أو القمر ، وترك الصلاة متعمدا ، وجب عليه القضاء بغير غسل أيضا بلا خلاف ، وإن تركها ناسيا والحال ما قلناه ، لم يكن عليه قضاؤها ، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى وجوب القضاء في هذه الحال ، وهو اختيار شيخنا المفيد في مقنعته (١) ، وهو الذي يقوى في نفسي ، للإجماع المنعقد من جميع أصحابنا بغير خلاف ، على أنّ من فاتته صلاة أو نسيها ، فوقتها حين يذكرها ، والخبر المجمع عليه عند جميع الأمة ، من قول الرسول

__________________

(١) المقنعة : كتاب الصلاة باب صلاة الكسوف ، ص ٢١١ ، والعبارة هذه : وإن احترق بعضه ولم تعلم بذلك حتى أصبحت صيت القضاء فرادى.

٣٢١

عليه‌السلام ، أنّ من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها (١) ودليل الاحتياط أيضا ، والأوّل قول شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله.

ووقت هذه الصلاة ، إذا ابتدأ قرص الشمس ، أو القمر في الانكساف ، إلى أن يأخذ في الابتداء للانجلاء ، فإذا ابتدأ في ذلك فقد مضى وقتها ، وصارت فضاء.

ويتوجه فرض هذه الصلاة إلى الذكر ، والأنثى ، والحر ، والعبد ، والمقيم ، والمسافر ، وإلى كل من كان مخاطبا بفرض الصلاة ، ولم يكن له عذر يبيح الإخلال بالفرض ، ويسقط ذلك العذر تكليفه الصلاة ، كالحيض ، والنفاس.

وجملة القول في وقت هذه الصلاة وتحقيق ذلك ، أنّه عند ظهور الكسوف للبصر في المشاهدة ، أو العلم به ، فيمن لم يكن مشاهدا ، من أعمى ، وغيره ، إلا أن يخشى فوت فرض صلاة حاضرة قد تضيّق وقتها ، فيبدأ بذلك الفرض.

وإن دخل وقت فرض ، وأنت في صلاة الكسوف ، وخشيت خروج الوقت ، قطعت الصلاة ، وأتيت بالفرض ، ثم عدت إلى صلاة الكسوف بانيا على ما تقدّم ، محتسبا بما مضى.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مبسوطة : فمتى كان وقت صلاة الكسوف وقت فريضة ، فإن كان أوّل الوقت صلّى صلاة الكسوف ، ثم صلاة الفرض ، فإن تضيّق الوقت بدأ بصلاة الفرض ، ثم قضى صلاة الكسوف ، وقد روي (٢) أنّه يبدأ بالفرض على كل حال ، وإن كان في أول الوقت ، وهو الأحوط ، فإن دخل في صلاة الكسوف ، فدخل عليه الوقت ، قطع صلاة الكسوف ، ثم صلّى الفرض ، ثم استأنف صلاة الكسوف ، وإن كان وقت صلاة الليل ، صلّى أولا صلاة الكسوف ، ثم صلاة الليل (٣).

__________________

(١) مستدرك الوسائل : الباب ١ من أبواب قضاء الصلوات ، ح ١١ و ١٢ مع اختلاف بعض ألفاظهما لما ذكره قدس‌سره

(٢) الوسائل : الباب ٥ من أبواب صلاة الكسوف والآيات ، ح ١.

(٣) المبسوط : كتاب صلاة الكسوف.

٣٢٢

وهذا مذهبه في نهايته (١) ، وقد رجع عن هذا القول ، في جمله وعقوده ، فقال : خمس صلوات تصلى في كل وقت ما لم يتضيّق وقت فريضة حاضرة ، من فاتته صلاة فريضة فوقتها حين يذكرها ، وكذلك قضاء النوافل ما لم يدخل وقت فريضة ، وصلاة الكسوف (٢).

وهذا هو الصحيح الذي يعضده الأدلة ، لأنّ وقت الفريضة ممتد ، موسع ، لا يخشى فوته ، وهذه الصلاة يخشى فوتها.

وأيضا لا يجوز قطع صلاة شرعية مأمور بالدخول فيها ، وهذا الذي اخترناه ، مذهب السيد المرتضى ، والإجماع عليه أيضا ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله وافق في جمله وعقوده ورجع ، على ما حكيناه عنه ، وكذلك في أوّل كلامه في مبسوطة ثم قال : وقد روي (٣). فلا نرجع عن الأدلة برواية غير مجمع على صحتها.

ولا أذان لهذه الصلاة في جمع ولا فرادى.

وهي عشر ركوعات (٤) ، بأربع سجدات ، يفتتح الصلاة بالتكبير ، ثم يستفتح ، ويقرأ أم الكتاب وسورة ، ويستحب أن يكون من طوال السور ، وتجهر بالقراءة ، فإذا فرغت منها ، ركعت ، فأطلت الركوع ، بمقدار قراءتك ، إن استطعت ، على جهة الاستحباب ، ثم ترفع رأسك من الركوع ، وتقول الله أكبر ، وتقرأ أم الكتاب وسورة ، ثم تركع الثانية ، وتطيل ، على ما تقدّم ، ثم تعود إلى الانتصاب ، والقراءة حتى تستتم خمس ركوعات ، ولا تقل سمع الله لمن حمده ، إلا في الركعتين اللتين يليهما السجود ، وهما الخامسة والعاشرة ، فإذا انتصبت من الركعة الخامسة ، كبرت وسجدت سجدتين ، تطيل فيهما أيضا التسبيح ، ثم تنهض ، فتفعل من القراءة والركوع مثل ما تقدّم ، ثمّ تتشهد وتسلّم.

__________________

(١) النهاية : باب صلاة الكسوف والزلازل والرياح السود.

(٢) الجمل والعقود : كتاب الصلاة ، في فصل ذكر المواقيت.

(٣) المبسوط : كتاب صلاة الكسوف

(٤) في ط وج : ركعات.

٣٢٣

ولا بأس بأن تقرأ السورة التي تلي أم الكتاب في أكثر من ركعة واحدة ، بأن تبعضها ، فإذا فعلت ذلك أجزأك أن لا تقرأ أم الكتاب ، وتبتدئ بما بلغت إليه من السورة التي قرأت بعضها ، فإذا استأنفت أخرى ، فالمستحب أن تقرأ أم الكتاب.

وجملة القول ، في قراءة هذه الصلاة ، أنّ قراءة الحمد تجب في الخمس ركعات الأوائل ، في أوّل الركوعات ، ويتعيّن ، ولا يجب تكرارها في باقي الخمسة ، فإذا سجد وقام إلى الخمسة الركوعات وجب عليه ، قراءة الحمد في الأوّل منها ، ويتعيّن ذلك ، ولا يجب تكرار قراءة الحمد في باقي الركوعات ، لأنّ الخمس بمنزلة ركعة واحدة ، من صلاة الخمس.

وينبغي أن يكون لك بين كل ركوعين ، قنوت كامل ، تقنت قبل الركعة الثانية ، ثمّ قبل الرابعة ، ثمّ قبل السادسة ، ثمّ قبل الثامنة ، ثمّ قبل العاشرة.

وينبغي أن تقدّر الفراغ من صلاتك (١) بقدر انجلاء المكسوف ، فإن فرغت منها قبل الانجلاء ، فلا تجب عليك إعادة الصلاة ، بل يستحب لك الدعاء والتسبيح إلى أن ينجلي ، وربما ذهب بعض أصحابنا إلى وجوب الإعادة ، وهذا غير واضح ، لأنّه ليس عليه دليل ، والأصل براءة الذمة ، والإعادة فرض ثان ، والأمر فقد امتثل بالصلاة الاولى ، وذهب بعض أصحابنا إلى أنّ الإعادة تستحب ، ولا دليل على ذلك أيضا.

وقال السيد المرتضى في مصباحه ، ومن فاتته صلاة الكسوف ، وجب عليه قضاؤها ، إن كان قرص المنكسف احترق كلّه فإن كان انّما احترق بعضه فلا يجب عليه القضاء ، وقد روي وجوب القضاء على كلّ حال (٢) والأول أظهر ، وروي أنّ من تعمّد ترك هذه الصلاة وجب عليه مع القضاء الغسل (٣)

__________________

(١) في ط وج : من قرائتك.

(٢) الوسائل : الباب ٥ من أبواب صلاة الكسوف والآيات ، ح ١.

(٣) الوسائل : الباب ١٠ من أبواب صلاة الكسوف والآيات ، ح ٥.

٣٢٤

قال محمّد بن إدريس : وقد قلنا ما عندنا في ذلك من القضاء وغيره ، فلا وجه لإعادته.

باب صلاة الاستسقاء

والمسنون عند منع السماء قطرها ، وجدب الأرض ، أن ينذر الإمام الناس ، بعزمه على الاجتماع للاستسقاء ، إمّا في خطبته يوم الجمعة ، أو بأن ينادي بذلك فيهم ، ويأمرهم بالاستعداد لذلك ، وأخذ الأهبة له ، من تقديم التوبة ، والإخلاص لله تعالى ، والانقطاع إليه ، فإذا خرجوا لذلك ، فينبغي أن يلبسوا أخشن ثيابهم ، ويمشوا وهم مطرقون ، مخبتون ، مكثرون لذكر الله تعالى ، والاستغفار لذنوبهم ، وسيئ أعمالهم ، ويمنع من الحضور معهم أهل الذمة ، وجميع الكفار ، والمتظاهرين بالفسوق ، والمنكر ، والخلاعة ، من أهل الإسلام ، ويخرجوا معهم من النساء العجائز ، والأطفال والبهائم ، ويغدوا الإمام في اليوم الذي أخذ الوعد فيه ، ويستحب أن يكون ذلك اليوم ، يوم الاثنين ، مصحرا إلى المصلى ، بحيث يصلّى صلاة العيدين ، وقد تقدّم المؤذنون بين يديه ، وفي أيديهم العنز والعنز جمع العنزة ، وهي عصا ، فيها زجّ حديد ، ويمشي في أثرهم ، والمنبر محمول بين يديه ، فإذا انتهى إلى الموضع الذي يكون فيه ، تقدّم الى (١) المؤذنين ، بأذان الناس بالصلاة ، بأن يقولوا : الصلاة الصلاة ، بغير أذان ، ولا اقامة.

وقال بعض أصحابنا : إنّ المنبر لا يحمل ، بل المستحب أن يكون ، مثل منبر صلاة العيد ، معمول من طين ، وهذا هو الأظهر في الرواية والقول ، والأوّل مذهب السيّد المرتضى ، ذكره في مصباحه.

ثم يصلّي بالناس ركعتين ، يجهر فيهما بالقراءة ، على صفة صلاة العيد ، وعدد تكبيرها وهيأتها.

__________________

(١) ج : قدّم.

٣٢٥

فإذا سلّم من الصلاة ، رقى المنبر ، فخطب ، وحمد الله تعالى ، وأثنى عليه ، وعدّد نعمه ، وآلاءه ، وصلّى عليه نبيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالغ في الوعظ ، والزجر ، والإنذار ، وفي بعض الروايات ، أنّ هذه الخطبة تكون قبل الصلاة ، والذي ذكرناه اثبت ، وعليه الإجماع.

فإذا فرغ من الخطبة ، قلب رداءه ، فجعل ما كان على يمينه ، على شماله ، وما كان على شماله ، على يمينه ، ثم يستقبل القبلة ، فيكبر الله تعالى مائة تكبيرة رافعا بها صوته ، ويكبّر الناس ، بتكبيرة ، غير رافعين لأصواتهم.

ثم يلتفت إلى يمينه ، ويسبح الله تعالى مائة تسبيحة ، رافعا بها صوته ، ويسبّح الناس معه.

ثم يلتفت إلى يساره ، فيهلّل الله تعالى مائة تهليلة ، رافعا بها صوته ، ويهلل الناس معه.

ثم يستقبل الناس بوجهه ، فيحمد الله تعالى مائة تحميدة ، رافعا بها صوته ، ثم يجلس فيرفع يديه ، ويدعو الله تعالى بالسقيا ، ويدعو الناس معه ، وليؤمنوا على دعائه.

وذهب بعض أصحابنا إلى غير هذا الترتيب ، وقال : إذا فرغ من صلاة الركعتين ، وسلّم منهما ، استقبل القبلة ، وكبر الله تعالى مائة تكبيرة ، يرفع بها صوته ، ويكبر معه من حضر ، ويلتفت عن يمينه ، فيسبح الله مائة مرة ، يرفع بها صوته ، ويسبح معه من حضر ، ثم يلتفت عن يساره ، فيهلل الله مائة مرّة ، يرفع بها صوته ، ويقول ذلك من حضر معه ، ثمّ يستقبل الناس بوجهه ، ويحمد الله مائة مرّة ، يرفع بها صوته ، ويقول ذلك من حضر معه ، ثم يدعو ، ويصعد المنبر بعد ذلك ، فيخطب بخطبة الاستسقاء ، المروية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فيجعل الخطبة بعد التكبيرات المائة ، والتسبيحات ، والتهليلات المائة ، والتحميدات المائة.

والأوّل مذهب السيّد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، والثاني مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي والذي يقوى في نفسي الأوّل.

٣٢٦

ويستحب لأهل الخصب ، أن يدعو لأهل الجدب ، فإن خرجوا فسقوا قبل أن يصلوا صلّوا شكرا لله تعالى ، فإن صلّوا ولم يسقوا ، خرجوا ثانيا ، وثالثا ، لأنّه لا مانع من ذلك.

وإذا نضب ماء العيون أو مياه الآبار ، جاز صلاة الاستسقاء ، لأنّه لا مانع من ذلك.

ولا يجوز أن يقول مطرنا بنوء كذا ، لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك.

باب صلاة المسافر

السفر على أربعة أقسام : واجب مثل الحجّ والعمرة ، وندب مثل الزيارات وما أشبهها ، ومباح مثل تجارة ، وطلب معيشة ، وما أشبه ذلك فهذه الأنواع الثلاثة ، كلّها يجب فيها التقصير في الصوم والصلاة ، والرابع سفر معصية ، مثل سفر الباغي ، والعادي ، أو سعاية ، أو قطع طريق ، أو إباق عبد من مولاه ، أو نشوز زوج من زوجها ، أو اتّباع سلطان جائر في معونته وطاعته مختارا ، أو طلب صيد للهو والبطر ، فانّ جميع ذلك ، لا يجوز فيه التقصير ، لا في الصوم ولا في الصلاة.

فأمّا الصيد الذي لقوته ، وقوت عياله ، فإنّه يجب فيه التقصير في الصوم والصلاة.

فأمّا إن كان الصيد للتجارة دون الحاجة للقوت ، روى أصحابنا بأجمعهم أنّه يتم الصلاة ، ويفطر الصوم (١).

وكل سفر أوجب التقصير في الصلاة ، أوجب التقصير في الصوم ، وكل سفر أوجب التقصير في الصوم ، أوجب تقصير الصلاة ، إلا هذه المسألة فحسب ، للإجماع عليها ، فصار سفر الصيد ، على ثلاثة أضرب ، وكل ضرب منها ، يخالف

__________________

(١) مستدرك الوسائل : الباب ٧ من أبواب صلاة المسافر ، ح ٢.

٣٢٧

الآخر ويباينه ، فصيد اللهو والبطر ، يجب فيه تمام الصلاة والصوم ، وصيد القوت للعيال والنفس ، يجب فيه تقصير الصلاة والصوم ، بالعكس من الأول ، وصيد التجارة ، يجب فيه تمام الصلاة ، وتقصير الصوم.

واعلم أنّ فرض السفر ، في كل صلاة من الصلوات الخمس ، ركعتان ، إلا المغرب وحدها ، فإنّها ثلاث ركعات.

والنوافل التي أكد الإتيان بها في السفر ، سبع عشرة ركعة ، أربع بعد المغرب ، وصلاة الليل ثماني ركعات ، وثلاث الشفع والوتر ، وركعتا الفجر.

وفرض السفر التقصير ، كما أنّ فرض الحضر الإتمام ، فالمتمم مع السفر ، كالمقصّر في الحضر.

ومن تعمّد الإتمام في السفر بعد حصول العلم بوجوبه عليه ، وجبت عليه الإعادة ، لتغييره فرضه ، فإن نسي التقصير ، فأتم ، أعاد ما دام في الوقت ، وبعد خروج الوقت ، لا اعادة عليه ، وقال بعض أصحابنا : يجب عليه الإعادة على كل حال ، والأول هو الصحيح ، لأنّ عليه الإجماع ، وبه تواترت الأخبار (١) وعليه العمل والفتوى ، من محصلي فقهاء آل الرسول عليهم‌السلام.

وحدّ السفر الذي يجب معه التقصير ، بريدان ، والبريد أربعة فراسخ ، والفرسخ ثلاثة أميال ، والميل أربعة آلاف ذراع ، على ما ذكره المسعودي في كتاب مروج الذهب (٢) فإنّه قال : الميل أربعة آلاف ذراع بذراع الأسود ، وهو الذراع الذي وضعه المأمون ، لذرع الثياب ، ومساحة البناء ، وقسمة المنازل ، والذراع أربعة وعشرون إصبعا.

وأصل البريد ، أنّهم كانوا ينصبون في الطرق أعلاما ، فإذا بلغ بعضها ، راكب البريد نزل عنه ، وسلّم ما معه من الكتب إلى غيره ، فكان ما به من الحر والتعب

__________________

(١) الوسائل : الباب ١٧ من أبواب صلاة المسافر

(٢) مروج الذهب : لم نتحققه.

٣٢٨

يبرد في ذلك ، أو ينام فيه الراكب ، والنوم يسمى بردا فسمى ما بين الموضعين بريدا ، وانّما الأصل الموضع الذي ينزل فيه الراكب ، ثم قيل للدابة بريد ، وانّما كانت البرد للملوك ثمّ قيل للسير بريد.

وقال مزرّد بن ضرار يمدح عرابة الأوسي.

فدتك عراب اليوم نفسي واسرتي

وناقتي الناجي إليك بريدها

فمن كان قصده إلى مسافة هذا قدرها ، وكان ممن يجب عليه التقصير ، لزمه ، وتحتم عليه القصر.

وإن كانت قدر المسافة أربعة فراسخ للمار إليها ونوى ، وأراد الرجوع من يومه ، عند الخروج من منزله ، لزمه أيضا التقصير ، فإن لم ينو الرجوع من يومه ، ولا أراده ، وجب عليه التمام ، ولا يجوز له التقصير.

وقال بعض أصحابنا : يكون مخيرا بين الإتمام والتقصير ، في الصوم والصلاة ، وهو مذهب شيخنا المفيد.

وقال بعض أصحابنا : يكون مخيّرا ، بين إتمام صلاته وتقصيرها ، ويجب عليه إتمام صيامه ، ولا يكون مخيّرا فيه ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي (١).

وقال بعض أصحابنا : لا يكون مخيرا في شي‌ء من العبادتين ، بل يجب عليه تمامهما معا ، وهذا الذي اخترناه أولا ، وبه يقول السيّد المرتضى ، وهو الصحيح الذي تقتضيه أصول المذهب ، ويقويه النظر ، والأدلة ، والإجماع ، لأنّه لا خلاف عندهم في حدّ المسافة التي تجب ويتحتّم القصر ، على من قصدها ، ووجوب إتمام الصلاة على من لم يقصدها ، فقد أجمعوا على تقصير صلاة القاصد لها ، ولا إجماع منهم ، على تقصير صلاة من لم يقصدها.

وأيضا فالأصول تقتضي أنّ الإنسان لا يكون مخيرا في تمام صلاته ،

__________________

(١) في النهاية كما يأتي ص ٢٩٥.

٣٢٩

وقصرها ، بل الواجب عليه إما تمامها أو قصرها ، إلا ما خرج بالدليل ، والإجماع من تخييره في البقاع المذكورة.

وأيضا فالإنسان المكلف بالصلاة إمّا أن يكون حاضرا ، أو مسافرا ، فالحاضر ومن في حكمه ، يجب عليه بالإجماع تمام الصلاة ، والمسافر ، ومن في حكمه ، يجب عليه أيضا ، بالإجماع ، تقصير الصلاة ، ولا ثالث معنا ، وأيضا إسقاط الركعتين من الصلاة الرباعية بعد اشتغال الذمة بها ، يحتاج إلى دليل شرعي ، كدليل ثبوتهما ، ولا دليل ولا إجماع على ذلك ، لأنّا قد بيّنا اختلاف أصحابنا في المسألة ، ومن قال بها ، اختلفوا في كيفيتها ، وهل يكون مخيرا بين تمام الصلاة والصوم وبين قصرهما أو يكون مخيرا بين تمام الصلاة وقصرها دون الصوم ، على ما حكيناه عن أصحابنا المصنّفين ، فإذا كان الاختلاف في المسألة حاصلا فلا يرجع ، عن المعلوم المفروض المحتم على الذمم ، المجمع على وجوبه ، واشتغالها به بأخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ، وخصوصا على مذهب أصحابنا فقهاء أهل البيت عليهم‌السلام ، سلفهم وخلفهم ، في أخبار الآحاد ، وأنّهم مجمعون على ترك العمل بها ، على ما بيناه ، وأوضحناه في صدر كتابنا هذا.

ودليل الاحتياط أيضا يقتضي ما اخترناه ، لأنّه لا خلاف بين أصحابنا جميعهم ، في أنّ المكلف ، إذا تمّم صلاته وصومه ، في المسألة المختلفة فيها ، فانّ ذمته بريئة ، وإذا قصّر ، ففيه الخلاف ، فبالإجماع لا ذمّ على تارك القصر ، وما لا ذمّ في تركه ، ويخشى في فعله أن يكون بدعة ، ومعصية ، ولا تبرأ الذمة معه ، ويستحق بتركه الذم ، فتركه أولى وأحوط في الشريعة بغير خلاف.

وشيخنا أبو جعفر قال في جمله وعقوده : ومن يلزمه الصوم في السفر ، عشرة ، من نقص سفره عن ثمانية فراسخ (١).

__________________

(١) الجمل والعقود : في فصل في ذكر أقسام الصوم ومن يجب عليه الصوم.

٣٣٠

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : ولا خلاف عنده ، وعند جميع أصحابنا ، أنّ من وجب عليه إتمام الصوم ، ولزمه يجب عليه إتمام الصلاة ، ويلزمه ، وكذلك من وجب عليه إتمام الصلاة ، ولزمه ، يجب عليه إتمام الصوم ويلزمه ، طردا وعكسا ، إلا مسألة واحدة استثناها أصحابنا ، وهو طالب الصيد للتجارة ، فإنّه يجب عليه إتمام الصلاة والتقصير في الصيام ، فليلحظ ذلك ، ويتأمل وقال في مبسوطة : ويجب الإتمام في الصلاة والصوم على عشرة من بين المسافرين ، أحدها من نقص سفره عن ثماني فراسخ (١).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : وهذا رجوع منه عما ذهب إليه في نهايته (٢) بلا خلاف.

وابتداء وجوب التقصير على المسافر ، من حيث يغيب عنه أذان مصره المتوسط ، أو تتوارى عنه جدران مدينته ، والاعتماد عندي على الأذان المتوسط ، دون الجدران.

والسفر ، خلاف الاستيطان والمقام ، فاذن لا بدّ من ذكر حدّ الاستيطان ، وحدّه ستة أشهر فصاعدا ، سواء كانت متفرقة أو متوالية.

فعلى هذا التقرير (٣) والتحرير ، من نزل في سفره قرية ، أو مدينة ، وله فيها منزل مملوك ، قد استوطنه ستة أشهر ، أتم ، وإن لم يقم المدّة التي توجب على المسافر الإتمام ، أو لم ينو المقام عشرة أيام ، وإن لم يكن كذلك قصّر.

ولا يزال المسافر في تقصير ، حتى يصل إلى موضع منزله ، أو الموضع الذي يسمع أذان بلده منه ، فإن حيل بين منزله وبينه ، بعد الوصول إلى ذلك الموضع ، أتم.

ومن دخل بلدا ، ونوى أنّه يقيم فيه عشرة أيام فصاعدا ، وجب عليه الإتمام ، فإن كان مشككا ، لا يدري كم يقيم ، يقول غدا أخرج ، أو بعد غد ، فليقصر ما بينه وبين شهر. فإذا مضى الشهر أتم.

__________________

(١) المبسوط : كتاب الصوم في حكم المريض والمسافر والمغمى عليه .. إلخ.

(٢) النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم المسافر في شهر رمضان ، قال هكذا ، ومتى كان سفره أربعة فراسخ ولم يرد الرجوع فيه لم يجز له الإفطار وهو مخيّر في التقصير في الصلاة حسب ما قدّمناه

(٣) في م : على التقدير :

٣٣١

ولو ان مسافرا دخل في صلاته ، بنيّة التقصير ، ثم نوى خلال ذلك الصلاة الإقامة ، أتم الصلاة ، فإن كان مقيما ، ودخل في الصلاة ، بنية الإتمام ، بعد ان كان صلّى صلاة على التمام ، ثم نوى السفر قبل فراغه منها ، لم يكن له القصر.

والروايات مختلفة ، فيمن دخل عليه وقت صلاة ، وهو حاضر فسافر ، أو دخل عليه الوقت ، وهو مسافر ، فحضر ، والأظهر بين محصلي أصحابنا ، أنّه يصلّى بحسب حاله وقت الأداء ، فيتم الحاضر ، ويقصّر المسافر ، ما دام في وقت من الصلاة ، وإن كان أخيرا ، فإن خرج الوقت لم يجز إلا قضاؤها بحسب حاله ، عند دخول أول وقتها.

وقال بعض أصحابنا في كتاب له : فإن خرج من منزله ، وقد دخل الوقت ، وجب عليه التمام ، إذا كان قد بقي من الوقت مقدار ما يصلّي فيه على التمام ، فإن تضيّق الوقت ، قصّر ولم يتمّم ، وإن دخل من سفره بعد دخول الوقت ، وكان قد بقي من الوقت ، مقدار ما يتمكن فيه من أداء الصلاة على التمام ، فليصل ، وليتمم ، وإن لم يكن قد بقي مقدار ذلك ، قصّر ، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في نهايته (١) وهذا غير واضح ، ولا مستمر على أصول المذهب ، وانّما هو خبر أورده ، على جهة الإيراد لا الاعتقاد ، على ما اعتذرنا له فيما مضى.

وقد رجع عنه في مسائل خلافه فقال : مسألة : إذا خرج إلى السفر وقد دخل الوقت ، إلا أنّه مضى مقدار ما يصلّي الفرض أربع ركعات ، جاز له التقصير ، ويستحب له الإتمام ، وقال الشافعي : إن سافر بعد دخول الوقت ، فإن كان مضى مقدار ما يمكنه أن يصلّي فيه أربعا ، كان (٢) له التقصير ، قال : وهذا قولنا ، وقول الجماعة ، إلا المزني ، فإنّه قال : عليه الإتمام ، ولا يجوز

__________________

(١) النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة في السفر

(٢) ج : جاز له.

٣٣٢

له التقصير ، دليلنا : قوله تعالى : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) (١) ولم يخص وهذا ضارب ، فيجب أن يجوّز له التقصير ، وأيضا فقد ثبت أنّ الوقت ممتد ، وإذا لم يفت الوقت ، جاز له التقصير.

وروى إسماعيل بن جابر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يدخل عليّ وقت الصلاة ، وأنا في السفر ، فلا أصلّي حتى أدخل أهلي ، قال : صلّ وأتمّ الصلاة ، قلت : يدخل عليّ وقت الصلاة ، وأنا في أهلي أريد السفر ، فلا أصلي حتى أخرج ، قال : صلّ وقصّر ، فان لم تفعل ، فقد والله خالفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

فأمّا الاستحباب الذي قلناه ، فلما رواه بشير النبّال قال : خرجت مع أبي عبد الله عليه‌السلام حتى أتينا الشجرة ، فقال لي أبو عبد الله : يا نبال. قلت : لبيك ، قال : إنّه لم يجب على أحد من أهل هذا العسكر أن يصلّي أربعا غيري وغيرك ، وذلك أنّه دخل وقت الصلاة ، قبل أن نخرج (٣) فلمّا اختلفت الأخبار ، حملنا الأوّل على الاجزاء ، وهذا على الاستحباب (٤) هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله.

قال محمد بن إدريس رحمه‌الله : أمّا ما ذكره في النهاية ، فلا يجوز القول به ، والعمل عليه. لأنّه مخالف لأصول المذهب ، على ما قلناه ، (٥) لأنّ الوقت باق ، وفرض الحاضر غير فرض المسافر ، فكيف يتم المسافر صلاته مع قوله تعالى : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) والإجماع حاصل على وجوب القصر للمسافر ، بغير خلاف ، وأيضا كان يلزم عليه أن يقصر الإنسان في منزله ، إذا دخل من سفره على ما قاله رضي‌الله‌عنه ، وهذا مما لم يذهب إليه أحد ، ولم يقل به فقيه ، ولا مصنّف ذكره في كتابه ، لا منا ،

__________________

(١) النساء : ١٠١

(٢) الوسائل : الباب ٢١ من أبواب صلاة المسافر ، ح ٢.

(٣) الوسائل : الباب ٢١ من أبواب صلاة المسافر ، ح ١٠.

(٤) الخلاف : المسألة ١٤ من كتاب صلاة المسافر

(٥) في ط وج : ولأن.

٣٣٣

ولا من مخالفينا ، وما ذكره في مسائل خلافه أيضا فغير واضح ، لأنّه قال : جاز له التقصير ، ويستحب له الإتمام ، ثم استشهد واستدلّ بما يقضى عليه ، ويبطل ما ذهب إليه ، من الآية والخبر ، وهما يوجبان القصر ، ويحتمانه ، ثم رجع بخبر واحد ، وهو خبر النبّال (١) ، إلى الاستحباب ، وإذا كان مع أحد الخبرين القرآن والإجماع ، فكيف يعمل بالخبر المنفرد عن الأدلة القاهرة ، وأيضا فما عمل بخبر النبال لأنّ خبر النبال لفظ الوجوب ، لأنّه قال عليه‌السلام إنّه لم يجب على أحد من أهل هذا العسكر أن يصلّي أربعا غيري وغيرك ، وانما حداه على ذلك ، والرجوع عن كتاب له الى كتاب آخر ، اختلاف الاخبار ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد ، لا يجوز العمل بها في الشريعة ، والرجوع عن الأدلة القاهرة (٢) إليها وأيضا فقد تعارضت ، ومع تعارضها ، ينبغي أن يعمل بما عضده منها الدليل.

والصحيح ما ذهبنا إليه أوّلا ، واخترناه ، لأنّه موافق للأدلّة ، وأصول المذهب ، وعليه الإجماع ، وهو مذهب السيد المرتضى ، ذكره في مصباحه ، والشيخ المفيد وغيرهما من أصحابنا ، ومذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله في تهذيبه (٣) ، فإنّه حقّق القول في ذلك ، وبالغ فيه ، ورجع عمّا ذكره في نهايته (٤) ، ومسائل خلافه (٥). في تهذيب الأحكام ، في باب أحكام فوائت الصلاة (٦).

فأمّا إذا لم يصل ، لا في منزله ، ولا لمّا خرج إلى السفر ، وفاته أداء الصلاة ، فالواجب عليه قضاؤها ، بحسب حاله ، عند دخول أول وقتها ، على ما قدّمناه ، وهذا مذهب الشيخ أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله في تهذيب الأحكام ، فإنّه حقق

__________________

(١) الوسائل : مضى القول فيه

(٢) ليس في ج : القاهرة.

(٣) لتهذيب : في أحكام فوائت الصلاة ، ذيل ح (٣٥٣) ١٤.

(٤) النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة في السفر.

(٥) الخلاف : مسألة ١٤ من كتاب صلاة المسافر.

(٦) التهذيب : ذيل ح ١٤ من باب ١٠ أحكام فوائت الصلاة.

٣٣٤

ذلك ، وبيّنه ، وفصّله ، وشرحه ، شرحا جليا ، في باب أحكام فوائت الصلاة أيضا على ما قدّمناه ، فليلحظ من هناك ، وشيخنا المفيد ، وابن بابويه ، في رسالته (١) والسيد المرتضى في مصباحه ، وهو الصحيح ، لأنّ العبادات ، تجب بدخول الوقت ، وتستقر بإمكان الأداء ، كما لو زالت الشمس على المرأة الطاهرة ، فأمكنها الصلاة ، فلم تفعل حتى حاضت ، استقر القضاء.

فإن قيل : الأخبار ناطقة ، متظاهرة ، متواترة ، والإجماع حاصل ، منعقد ، على أنّ من فاتته صلاة في الحضر ، فذكرها في السفر ، وجب عليه قضاؤها ، صلاة الحاضر أربعا ، كما فاتته ، ومن فاتته صلاة في السفر ، فذكرها في الحضر ، وجب عليه قضاؤها ، صلاة المسافر (٢) اثنتين كما فاتته ، وهذا بخلاف ما ذهبتم إليه.

قلنا : ما ذهبنا إلى خلاف ما سأل السائل عنه ، بل إلى وفاق ما قاله ، وانّما يقضي ما فاته في حال الحضر ، ولو صلاها في الحضر ، قبل خروجه ، كأن يصلّي الرباعيّة أربع ركعات ، ففاتته صلاة أربع ركعات ، فيجب عليه أن يقضيها ، كما فاتته في حال السفر (٣) ، وكذلك كان يجب عليه أن يصلّي الرباعيّة في حال السفر ركعتين ، فأخلّ بها إلى أن خرج الوقت ، وصار حاضرا ، فيقضي ما فاته كما فاته ، وهي صلاة السفر ركعتان ، فهي الفائتة ، فلو صلاها في سفره لما كان يصلّي إلا ركعتين ، ففاتته صلاة الركعتين ، فيجب عليه أن يقضيها كما فاتته ، فليلحظ ذلك ، فإنّه موافق للأدلّة ، وعليه إجماع أصحابنا ، على ما قدمناه من أقوالهم ، مثل شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله قد ذكره في مبسوطة (٤) ، وابن بابويه قد ذكره في رسالته (٥) ، والمرتضى في مصباحه ، وشيخنا المفيد في بعض أقواله ، اللهم على ما مرّ بي وقد تقدم فيما مضى ذكره (٦) في باب الجماعة حكم

__________________

(١) لم نتحققهما في رسالة ابن بابويه.

(٢) ج : السفر

(٣) ج : ليس فيه

(٤) المبسوط : كتاب الصلاة في حكم قضاء الصلوات.

(٥) لم نتحققهما في رسالة ابن بابويه.

(٦) ج : وقد تقدم ومضى.

٣٣٥

دخول المسافر ، في صلاة المقيم ، والمقيم في صلاة المسافر.

ومن اضطر إلى الصلاة في سفينة ، فأمكنه أن يصلّي قائما ، لم يجزه غير ذلك ، وإن خاف الغرق ، وانقلاب السفينة ، جاز أن يصلّي جالسا ، ويتحرى القبلة ، ليكون توجّهه إليها ، فإن توجه إليها في افتتاح صلاته ، ثم التبست عليه من بعد ، أجزأه التوجّه الأول.

ولا يجوز لأحد أن يصلّي الفريضة راكبا ، إلا من ضرورة شديدة ، وعليه تحري القبلة.

ويجوز أن يصلّي النوافل ، وهو راكب مختارا ، ويصلّي حيث ما توجهت به راحلته ، وإن افتتح الصلاة مستقبلا للقبلة ، كان أولى ، هذا قول السيّد المرتضى ، والصحيح أنّه واجب عليه افتتاح الصلاة مستقبلا للقبلة ، لا يجوز غير ذلك ، وهو قول جماعة أصحابنا ، إلا من شذّ منهم.

ومن صلّى ماشيا لضرورة ، أومأ بصلاته ، فجعل السجود أخفض من الركوع ، والركوع أخفض من الانتصاب.

ولا يجوز التقصير للمكاري ، والملاح ، والراعي ، والبدوي ، إذا طلب القطر والنبت ، فإن أقام في موضع عشرة أيّام ، فهذا يجب عليه التقصير ، إذا سافر عن موضعه سفرا يوجب التقصير ، فقد صار البدوي على ضربين ، أحدهما له دار مقام جرت عادته فيها بالإقامة ، فهذا يجب عليه التقصير إذا سافر عن دار مقامه سفرا يوجب التقصير ، والآخر لا يكون له دار مقام ، وإنّما يتبع مواضع النبت ، ويطلب مواضع القطر ، وطلب المرعى والخصب ، فهذا يجب عليه التمام ، ولا يجوز له التقصير.

ولا يجوز التقصير ، للذي يدور في جبايته ، والذي يدور في أمارته ، ومن يدور في تجارته ، من سوق إلى سوق ، والبريد ، وقال ابن بابويه في رسالته (١) والمكاري ،

__________________

(١) رسالة ابن بابويه : صلاة المسافر.

٣٣٦

والكريّ ، فالكريّ هو المكاري ، فاللفظ مختلف ، وإن كان المعنى واحدا. قال عذافر الكندي :

لو شاء ربي لم أكن كريا

ولم أسق بشعفر المطيا

الشعفر بالشين المعجمة ، والعين غير المعجمة والفاء والراء غير المعجمة ، اسم امرأة من العرب.

بصرية تزوجت بصريا

يطعمها المالح والطريا

تخاله إذا مشى خصيّا

من طول ما قد حالف الكرسيا

والكري من الأضداد ، قد ذكره أبو بكر بن الأنباري ، في كتاب الأضداد يكون بمعنى المكاري ، ويكون بمعنى المكتري.

وقال ابن بابويه أيضا في رسالته : ولا يجوز التقصير للاشتقان ، بالشين المعجمة ، والتاء المنقطة من فوقها بنقطتين ، والقاف ، والنون ، هكذا سماعنا على من لقيناه ، وسمعنا عليه من الرواة ، ولم يبينوا لنا ما معناه (١).

قال محمّد بن إدريس رضي‌الله‌عنه : وجدت في كتاب الحيوان للجاحظ ، ما يدل على أنّ الأشتقان ، الأمين الذي يبعثه السلطان على حفاظ البيادر ، قال الجاحظ : وكان أبو عباد النميري ، أتى باب بعض العمال ، يسأله شيئا من عمل السلطان ، فبعثه أشتقانا فسرقوا (٢) كل شي‌ء في البيدر ، وهو لا يشعر ، فعاتبه في ذلك ، فكتب إليه أبو عباد :

كنت بازا أضرب الكر

كيّ والطير العظاما

فتقنصت بي الصّعو

فأوهنت القدامى

وإذا ما أرسل البازي

على الصعو تعامى (٣)

__________________

(١) رسالة ابن بابويه : صلاة المسافر

(٢) ج : فسرق.

(٣) الحيوان : ج ٥ ، ص ٥٩٩. والتقنص : الصيد ، والصعو : طائر أصغر من العصفور أحمر الرأس ، والقدامى : القوادم وهي ريشات أربع في مقدم الجناح.

٣٣٧

وأظنّها كلمة أعجمية ، غير عربية ، فعلى هذا التحرير ، يجب عليه الإتمام ، لأنّه في عمل السلطان.

ومن كان سفره أكثر من حضره ، والأصل في جميع هؤلاء ، ان سفرهم أكثر من حضرهم ، فقد عاد الأمر إلى أنّ من سفره أكثر من حضره ، يجب عليه التمام ، ولا يجوز له التقصير ، وجميع الأقسام المقدّم ذكرها ، داخلون في ذلك ، والذي يدلك على هذا التحرير ، ما أورده السيد المرتضى في كتاب الانتصار ، فإنه قال : مسألة : ومما انفردت به الإمامية القول بأنّ من سفره أكثر من حضره ، كالملاحين ، والجمّالين ، ومن جرى مجراهم ، لا تقصير عليه (١) فجعل من سفره أكثر من حضره ، أصلا في المسألة ومثّل الملاحين والجمّالين به.

ثمّ قال السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه في استدلاله على المسألة : والحجة على ما ذهبنا إليه ، إجماع الطائفة ، وأيضا فإنّ المشقة التي تلحق المسافر ، هي الموجبة للتقصير ، في الصوم والصلاة ، ومن ذكرنا حاله ، ممن سفره أكثر من حضره لا مشقة عليه في السفر ، بل ربما كانت المشقة عليه في الحضر ، لاختلاف العادة.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله ، في كتاب الجمل والعقود ، في فصل في حكم المسافرين : والسفر الذي يجب فيه الإفطار ، يحتاج إلى ثلاثة شروط ، أن لا يكون معصية ، وتكون المسافة بريدين ، ثمانية فراسخ ، أربعة وعشرون ميلا ولا يكون المسافر سفره أكثر من حضره (٢). فأتى بهذا القسم ، ولم يذكر باقي الأقسام ، لأنّهم داخلون فيه ، وكل هؤلاء ، يجب عليهم التمام في السفر ، فإن كان لهم مقام في بلدهم عشرة أيام ، وجب عليهم إذا خرجوا

__________________

(١) الانتصار : كتاب الصلاة ص ٥٣.

(٢) الجمل والعقود : كتاب الصوم ، فصل في حكم المسافرين.

٣٣٨

إلى السفر التقصير ، فإن عادوا إلى بلدهم من سفرهم بعد تقصيرهم ، ولم يقيموا فيه عشرة أيام ، خرجوا متمين ، وهكذا يعتبرون حالهم ، وليس يصير الإنسان بسفرة واحدة ، إذا ورد إلى منزله ، ولم يقم عشرة أيام ، ممّن سفره أكثر من حضره ، بل بأن يتكرّر هذا منه ، ويستمر دفعات ، على توال ، أدناها ثلاث دفعات ، لأنّ هذا طريقة العرف والعادة ، بأن يقال فلان سفره أكثر من حضره ، لأنّ من أقام في منزله مثلا مائة سنة ، ثم سافر سفرة واحدة ، ثم ورد إلى منزله ، ولم يقم فيه عشرة أيام ، ثم سافر فإنّه يجب عليه في سفره الثاني التقصير ، وإن كان لم يقم عشرة أيام ، لأنّه لا يقال في العرف والعادة ، أن فلانا هذا سفره أكثر من حضره ، بسفرة واحدة ، حتى يتكرّر هذا الفعال منه.

فان قيل : فإن سافر الإنسان أوّل سفرة ، بعد الإقامة في المنزل مائة سنة ، وأقام في السفر مثلا شهرا ، ثم ورد إلى منزله فأقام فيه أقل من عشرة أيام ثم خرج ، فقد صار سفره أكثر من حضره الذي في منزله ، وهو أقل من عشرة أيام ، وكان سفره شهرا.

قلنا : فإن كان أقام في سفره خمسة أيام ، ثم ورد إلى منزله وأقام فيه ثمانية أيام ، فقد صار حضره أكثر من سفر ، (١) والسائل يخرجه عن هذا التقدير متمّما فلم يستقم له سؤاله واعتراضه الأوّل.

وقول بعض المصنّفين ، في كتاب له : ومن كان سفره أكثر من حضره ، وحدّه أن لا يقيم في منزله عشرة أيام ، يريد به أنّ من كان سفره أكثر من حضره ، لا يزال في أسفاره متمما ، ما لم يكن له في بلدته مقام عشرة أيام ، فإذا كان له في بلدته مقام عشرة أيام ، أخرجناه من ذلك الحكم ، لا أنّ المراد بقوله : إن كل من لم يقم في بلدته عشرة أيّام ، يخرج متمما من سائر

__________________

(١) في ط : سفره عند هذا.

٣٣٩

المسافرين ، بل من كان سفره أكثر من حضره ، وعرف بالعادة ذلك من حاله ، وانطلق عليه هذا الاسم ، وتكرّر ، فالهاء في قوله وحدّه يرجع إلى هذا الذي تكرّر منه الفعل ، وانطلق عليه في العرف والعادة ، وصار سفره أكثر من حضره ، فحدّ هذا ، أن لا يرجع إلى التقصير في أسفاره ، إلا بمقام عشرة أيام في منزله ، فإن لم يقم عشرة أيام ، وخرج إلى السفر ، يخرج متمما ، على ما كان حكمه في أسفاره أوّلا ، فليلحظ ذلك ، فإن بعض من لحقناه من أصحابنا رحمهم‌الله ، كان يزل في هذه المسألة ويوجب بسفرة واحدة عليه التمام.

وكلام السيد المرتضى في انتصاره ، في استدلاله الذي قدّمناه عنه ، يشعر بصحة ما قلناه ، لأنّه قال ومن ذكرنا حاله ، ممن سفره أكثر من حضره ، لا مشقة عليه في السفر ، بل ربما كانت المشقة عليه في الحضر ، لاختلاف العادة.

قال محمّد بن إدريس : ومن أقام في منزله مثلا مائة سنة ، وسافر عنه ثلاثة أيام فحسب ، ثم حضر فيه يومين ، ثم سافر عنه ، مشقته في سفره الثاني ، كمشقته في سفره الأول ، وليس هذا ممن لا مشقة عليه في السفر الثاني ، ولا ممن ربما كانت المشقة عليه في الحضر ، لاختلاف العادة ، لأنّه ما تكرّر ذلك منه ، ولا تعوده بدفعة واحدة ، العادة التي ربما كانت المشقة عليه في مقامه ، والراحة له في سفره.

فأما صاحب الصنعة من المكارين ، والملاحين ، ومن يدور في تجارته ، من سوق إلى سوق ، ومن يدور في أمارته ، فلا يجرون مجرى من لا صنعة له ، ممّن سفره أكثر من حضره ، ولا يعتبر فيهم ما اعتبرناه فيه ، من الدفعات ، بل يجب عليهم التمام ، بنفس خروجهم إلى السفر ، لأنّ صنعتهم تقوم مقام تكرّر من لا صنعة له ، ممّن سفره أكثر من حضره ، لأنّ الأخبار (١) وأقوال أصحابنا

__________________

(١) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صلاة المسافر.

٣٤٠