كتاب السرائر - ج ١

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٧٦

ويكره الصلاة عليها في المساجد ، ومتى صلى على جنازة ثم بان أنّها كانت مقلوبة ، أي رجلا الميت إلى يمين المصلّي ، سويت ، وأعيد الصلاة عليها ، ما لم يدفن ، فإذا دفن فقد مضت الصلاة.

والأفضل أن لا يصلّى على الجنازة إلا على ظهر ، فإن فاجأته جنازة ولم يكن على طهارة ، تيمم ، وصلّى عليها ، فإن لم يمكنه ، صلّى عليها بغير طهارة ، وإن صلّى من غير تيمم جاز أيضا ، إذ قد بيّنا فيما سلف ، أنّ الطهارة ليست شرطا في هذه الصلاة.

وإذا كبر الإمام على جنازة تكبيرة ، أو تكبيرتين ، وأحضرت جنازة اخرى كان مخيرا بين أن يتم خمس تكبيرات على الجنازة الأولة ، ثم يستأنف الصلاة بنية على الأخرى ، وبين أن ينوي الصلاة عليهما معا ويكبر الخمس تكبيرات من الموضع الذي انتهى إليه ، وقد أجزأه عن الصلاة عليهما.

ومتى صلّى جماعة عراة على ميت ، فلا يتقدم إمامهم ، بل يقف قائما في الوسط ، فإن كان الميت عريانا ، أنزل (١) في القبر أولا ، وغطيت سوأته ، ثم يصلّى عليه بعد ذلك ، ويدفن.

فإذا فرغ من الصلاة عليه حمل إلى القبر.

تمّ كتاب الصلاة مكمّلا ولله المنة (٢)

__________________

(١) ج : ترك وط : انزل

(٢) ج : ولله المنّة وبه الحول والقوّة.

٣٦١
٣٦٢

كتاب الصّيام

٣٦٣

كتاب الصّيام

باب حقيقة الصوم ومن يجب عليه ذلك ومن لا يجب عليه

الصوم في اللغة : هو الإمساك والكف ، يقال : صام الماء إذا سكن وصام النهار إذا قام في وقت الظهيرة ، قال الشاعر :

خيل صيام وخيل غير صائمة

تحت العجاج واخرى (١) تعلك اللجما

وقال آخر : صام النهار وقالت العفر.

وفي الشرع : هو إمساك خصوص ، على وجه مخصوص ، في زمان مخصوص ، ممن هو على صفة مخصوصة.

ومن شرط انعقاده النية المقارنة فعلا أو حكما ، لأنّه لو لم ينو ، وأمسك عن جميع ذلك ، لم يكن صائما ، وقولنا : إمساك مخصوص ، أردنا الإمساك عن المفطرات التي سنذكرها ، وأردنا على وجه مخصوص ، العمد دون النسيان ، لأنّه لو تناول جميع ذلك ناسيا لم يبطل صومه ، وقولنا : في زمان مخصوص ، أردنا به النهار ، دون الليل ، فإنّ الإمساك عن جميع ذلك ليلا ، لا يسمّى صوما ، وقولنا : ممن هو على صفة مخصوصة ، أردنا به من كان مسلما ، لأنّ الكافر ، لو أمسك عن جميع ذلك ، لم يكن صائما ، وأردنا به أيضا أن لا تكون حائضا ، لأنّها لا يصح منها الصوم ، وكذلك لا يكون مسافرا ، سفرا مخصوصا ، عندنا ، لأنّ المسافر لا ينعقد صومه الفرض ، وقولنا : من شرطه مقارنة النية له ، فعلا أو حكما ، معناه :

__________________

(١) ج : وخيل.

٣٦٤

أن يفعل النية ، في الوقت الذي يجب فعلها فيه ، وحكما : أن يكون ممسكا ، عن جميع ذلك ، وإن لم يفعل النية ، كالنائم طول شهر رمضان ، والمغمى عليه ، فإنّه لا نيّة لهما ، ومع ذلك يصح صومهما ، وكذلك من أمسكه غيره ، عن جميع ما يجب إمساكه ، يكون في حكم الصائم ، إذا نوى ، وإن لم يكن في الحقيقة ممتنعا ، لأنّه لا يتمكن منها ، هذا جميعه ، ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مبسوطة (١) والذي يلوح لي ، ويقوى في نفسي أنّ النائم الذي ذكره ، والمغمى عليه ، غير مكلّفين بالصيام ، ولا هما صائمان صياما شرعيا ، فذكره لهما غير واضح ، وسيأتي الكلام في باب المغمى عليه ، ونذكر ما عندنا في ذلك ، واختلاف أصحابنا فيه.

والنية ، وإن كانت إرادة ، لا تتعلق إلا بالحدوث ، بأن يكون الشي‌ء قائما يتعلّق في الصوم ، باحداث توطين النفس ، وقهرها ، على الامتناع بتجديد الخوف ، من عقاب الله تعالى ، وغير ذلك ، أو بفعل كراهة ، لحدوث هذه الأشياء ، فتكون متعلّقة على هذا الوجه ، فلا ينافي الأصول.

وقال السيد المرتضى رحمه‌الله : الصوم الشرعي : هو توطين النفس ، على الكف عن تناول ما يفسد الصيام ، من أكل ، وشرب ، وجماع ، وما أشبه ذلك.

وقال شيخنا المفيد رحمه‌الله : الصوم في الشرع : هو كف الجوارح ، عما حظر على العبد استعماله منه ، مع حال الصيام ، ومن شرط وجوبه : كمال العقل ، والطاقة ، وليس الإسلام شرطا في الوجوب ، لأنّ الكافر عندنا ، تجب عليه العبادات الشرعية ، وإن لم يكن مسلما ، إلا أنّ الأداء لا يصح منه ، لأنّ النية للقربة من شرطه ، وهذا شي‌ء يرجع إليه ، لأنّ في مقدوره ، أن يسلم ، ويعرف من يتقرب إليه ، فهو كالمحدث ، إذا دخل وقت الصلاة ، فإنّه مكلّف بالصلاة ،

__________________

(١) المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر حقيقة الصوم وشرائط وجوبه.

٣٦٥

ولا يصح منه الأداء ، لأنّ إزالة الحدث في مقدوره ، لا لأمر راجع إلى غيره ، لا يصح منه فعله ، إلا أنّه لا يلزمه القضاء ، متى أسلم ، لأنّ القضاء فرض ثان ، ومن شرطه : الإسلام ، وكمال العقل.

وأمّا المرتد عن الإسلام ، إذا رجع ، فإنّه يلزمه قضاء الصوم ، وجميع ما فاته ، من العبادات في حال ارتداده ، لأنّه كان بحكم الإسلام ، لالتزامه له ، أولا ، فلأجل ذلك ، وجب عليه القضاء ، فأمّا إن ارتد ، ثم عاد إلى الإسلام ، قبل أن يفعل ما يفطره ، فلا يبطل صومه بالارتداد ، لأنّه لا دليل عليه.

فأمّا كمال العقل ، شرط في وجوبه عليه ، لأنّ من ليس كذلك ، لا يكون مكلفا ، من المجانين ، وغيرهم ، ولا فرق بين أن لا يكون كامل العقل في الأصل ، أو يزول عقله فيما بعد ، في أن التكليف يزول عنه ، اللهم إلا ان يزول عقله ، بفعل يفعله ، على وجه يقتضي زواله ، بمجرى العادة ، فإنّه إذا كان كذلك ، لزمه قضاء جميع ما يفوته ، في تلك الأحوال ، وذلك مثل السكران وغيره ، فإنّه يلزمه قضاء ما فاته ، من العبادات كلها ، وإن كان جنى (١) جناية ، زال معها عقله ، على وجه لا يعود ، بأن يصير مجنونا مطبقا ، فإنّه لا يلزمه قضاء ما يفوته ، وأمّا إذا زال عقله بفعل الله ، مثل الإغماء ، والجنون ، وغير ذلك فإنّه لا يلزمه قضاء ما يفوته ، في تلك الأحوال ، فعلى هذا ، إذا دخل عليه شهر رمضان ، وهو مغمى عليه ، أو مجنون ، أو نائم ، وبقي كذلك ، يوما ، أو أياما ، كثيرة ، أفاق في بعضها ، أو لم يفق ، لم يلزمه قضاء شي‌ء ، ممّا مرّ به ، سواء أفطر فيه ، أو طرح في حلقه ، على وجه المداواة له ، فإنّه لا يلزمه القضاء حينئذ.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مبسوطة : لا يلزمه القضاء ، لشي‌ء ممّا مرّ به ، إلا ما أفطر فيه ، أو طرح في حلقه على وجه المداواة له ، فإنه

__________________

(١) ط : حين جنايته.

٣٦٦

يلزمه حينئذ القضاء ، لان ذلك لمصلحته ومنفعته ، وسواء أفاق في بعض النهار ، أو لم يفق ، فانّ الحال لا يختلف فيه (١) وما ذكره رحمه‌الله كلام المخالفين ، فلا يظن ظان أنّه قوله واعتقاده ، لأنّ هذا ينافي أصول المذهب ، لأنّ الخطاب بالعبادات ، لا يتوجه إلا إلى كاملي العقول ، وأيضا القضاء فرض ثان ، يحتاج إلى دليل شرعيّ ، في إثباته ، فإنّ القضاء ، غير تابع للمقضي ، لأنّه يحتاج إلى دليل شرعي.

وأمّا البلوغ ، فهو شرط في وجوب العبادات الشرعية ، وحدّه في الرجل ، إمّا بالاحتلام ، أو بلوغ خمس عشرة سنة ، أو الإنبات ، وهو خشونة العانة ، والمرأة ، تعرف بلوغها ، من خمس طرائق : إمّا الاحتلام ، أو الإنبات ، أو بلوغ تسع سنين ، وذكر شيخنا أبو جعفر رحمه‌الله في مبسوطة في كتاب الصوم : عشر سنين (٢) وفي نهايته : تسع سنين (٣) وهو الصحيح ، الظاهر في المذهب ، لأنّه لا خلاف بينهم ، أنّ حدّ بلوغ المرأة تسع سنين ، فإذا بلغتها ، وكانت رشيدة ، سلّم الوصي إليها مالها ، وهو بلوغها الوقت الذي يصح أن تعقد على نفسها عقدة النكاح ، ويحل للبعل الدخول بها ، بغير خلاف بين الشيعة الاثني عشرية والحيض ، والحمل ، وهكذا يذكر في الكتب ، والمحصّل من هذا ، بلوغ التسع سنين ، لأنّها لا تحيض قبل ذلك ، ولا تحمل قبل ذلك ، فعاد الأمر إلى بلوغ التسع سنين ، وانّما أوردنا ما أورده غيرنا من المصنّفين ، فأما قبل ذلك ، فإنّما يستحب أخذه به ، على وجه التمرين له ، والتعليم.

والصوم على ضربين : مفروض ، ومسنون ، وقال بعض أصحابنا في كتاب له : الصوم على خمسة أضرب ، واجب ومندوب ، وصوم اذن ، وصوم تأديب ، وصوم قبيح ، وهذا ما لا حاجة إليه ، لأنّا نحدّ الصوم الشرعي ، وما هو تكليف لنا ،

__________________

(١) المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر حقيقة الصوم وشرائط وجوبه.

(٢) المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر حقيقة الصوم وشرائط وجوبه.

(٣) النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.

٣٦٧

والصوم القبيح غير شرعي ، ولا هو تكليف لنا ، فأمّا صوم الاذن ، وصوم التأديب ، فداخلان في صوم المسنون ، فعاد الأمر على هذا التحرير ، إلى أنّ الصوم الشرعي ، على ضربين : واجب ، ومندوب ، لا قسم لهما ثالث ، فإذا تقرر ذلك ، فالمفروض على ضربين : ضرب منهما ، واجب من غير سبب ، وهو صوم شهر رمضان ، فحسب ، والضرب الآخر ، واجب عند سبب ، وهذا الضرب ، نحو من خمسة عشر قسما ، وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في جمله وعقوده : أحد عشر قسما (١) ، أوردها فهي معلومة ، فأمّا المزيد عليها ، من الأقسام ، فهو كفارة خلاف النذر ، وكفارة خلاف العهد ، وصوم من أفاض من عرفات ، قبل غروب الشمس متعمدا ، ولم يجد الجزور ، فإنّه يجب عليه أن يصوم بدله ثمانية عشر يوما.

والمفروض على ضربين أيضا بطريقة اخرى : متعين ، وغير متعين ، فالمتعين على ضربين : متعيّن بزمان ، ومتعيّن بصفة ، والمتعين بزمان ، على ضربين ، أحدهما ، لا يمكن أن يقع فيه غير ذلك الصوم ، والشرع على ما هو عليه ، والآخر يمكن ذلك فيه ، أو كان يمكن ، هذا تقسيم شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (٢) ، وتقسيمه في الجمل والعقود ، قال : فإن كان الصوم متعيّنا بزمان مخصوص ، على كل حال ، مثل شهر رمضان ، فيكفي فيه نية القربة ، دون نية التعيين ، وإن لم يكن متعينا ، أو كان يجوز ذلك فيه ، احتاج إلى نية التعيين ، وذلك كل صوم ، عدا شهر رمضان (٣) واحترازه في العبارتين بقوله : والآخر يمكن ذلك فيه ، أو كان يمكن ، وبقوله في جمله وعقوده : وإن لم يكن متعيّنا ، أو كان يجوز ذلك فيه ،

__________________

(١) الجمل والعقود : فصل في ذكر أقسام الصوم ومن يجب عليه.

(٢) المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر النية وبيان أحكامها في الصوم.

(٣) الجمل والعقود : كتاب الصيام ، ومن شرط صحته النية.

٣٦٨

مقصوده ومراده بقوله : وإن لم يكن متعيّنا ، النذر الغير متعين (١) بيوم ، وبقوله : أو كان يجوز ذلك فيه ، النذر المعين بيوم ، يريد به (٢) كان يجوز أن لا ينذره ناذره ، فلا يكون متعينا بيوم أو أيام ، فالأول صوم شهر رمضان ، فإنّه لا يمكن أن يقع فيه غيره ، إذا كان مقيما في بلده ، أو بلد غير بلده ، إذا كان قد نوى مقام عشرة أيّام.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله : وما هذه حاله ، لا يحتاج في انعقاده إلى نية التعيين ، ويكفى فيه نية القربة وقال في مبسوطة : ومعنى نية القربة ، ان ينوي أنّه صائم شهر رمضان (٣) وقال في مسائل الخلاف : ونية القربة يكفي ، أن ينوي أنّه يصوم متقرّبا به إلى الله تعالى ، وان أراد الفضل ، نوى أنّه يصوم غدا ، صوم شهر رمضان ، ونيّة التعيين ، أن ينوي الصوم الذي يريده ، ويعيّنه بالنية (٤) ، والذي ذكره في مسائل خلافه ، هو الصحيح ، إذا زاد فيه واجبا ، مثل أن ينوي أنّه يصوم واجبا متقربا به إلى الله تعالى.

ولا يظن ظان ، أنه إذا نوى واجبا ، فقد عيّن ، لأنّ الواجب يشتمل على ضروب من الصيام الواجب ، وما ذكره في مبسوطة ، من كيفية نية القربة غير واضح ، وهو مذهب الشافعي ، فلا يظن ظان ، أنّه قوله واعتقاده ، لأنّه قد ذكره عنه وحكاه عنه ، في مسائل الخلاف ، لأنّ القول بذلك ، يؤدّي إلى أنّه ، لا فرق بين نية التعيين ، ونية القربة ، لأنّ نية القربة ، لا تعيّن المنوي ، بل يتقرب بالصوم إلى الله سبحانه وتعالى ، لأنّه زمان لا يقع فيه غير الصوم الذي هو واجب فيه ، فعلى ما أورده في مبسوطة ، جمع بين نية القربة ، ونية التعيين ، لأنّه قال : ينوي أنّه صائم شهر رمضان ، وجملة الأمر وعقد الباب أنّ ما عدا شهر رمضان ، عند هذا الفقيه رضي‌الله‌عنه لا بدّ له من نية التعيين ، ونية القربة معا ، ورمضان

__________________

(١) ج : غير المتعين

(٢) ج : النذر المتعيّن بيوم ، ويريد به.

(٣) المبسوط : كتاب الصوم فصل في ذكر النية ـ والعبارة هكذا ـ وفي نية القربة ان ينوي أنه صائم فقط متقربا إلى الله تعالى

(٤) الخلاف : كتاب الصيام ، مسألة ٤.

٣٦٩

يكفي فيه نية القربة فحسب ، دون نية التعيين.

والصحيح ما ذهب سيّدنا المرتضى رضي‌الله‌عنه إليه ، من أنّ كل زمان يتعين فيه الصوم ، كشهر رمضان ، والنذر المعين ، بيوم أو أيام ، لا يجب فيه نية التعيين ، بل نية القربة فيه كافية ، حتى لو نوى صومه ، عن غيره ، لم يقع إلا عنه وانّما يفتقر إلى تعيين النية ، في الزمان الذي لا يتعين فيه الصوم.

وذكر السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه في جواب مسألة من جملة المسائل الطرابلسيات : الثالثة ما قوله ، حرس الله مدته ، فيمن نذر أن يصوم يوما ، يبلغ فيه مرادا ، واتفق ذلك اليوم ، يوم عيد ، أو يوما قد تعيّن صومه عليه ، بنذر آخر ، هل يجزيه صوم اليوم الذي تقدم وجوب صومه عليه بالنذر المتقدّم ، عن يوم يجعله بدلا منه ، إذا اتفق في النذر الثاني ، أم لا؟ وهل يسقط عنه صوم اليوم الثاني (١) الّذي اتفق يوم عيد بغير بدل منه ، أم ببدل؟ فأجاب المرتضى : بأن قال : إذا نذر صوم يوم عليه ببعض الشروط ، واتفق حصول ذلك الشرط ، في يوم قد تعيّن عليه صومه بنذر متقدّم ، لنذره هذا ، فالأولى ، أن لا قضاء عليه ، لأنّ نذره ، تعلّق بما يستحيل ، فلم ينعقد ، وإذا لم ينعقد ، فلا قضاء ، وانّما قلنا انّه مستحيل ، لأنّ صوم ذلك اليوم ، قد تعيّن صومه بنذر سابق ، يستحيل أن يجب بسبب آخر ، فكأنّه نذر ما يستحيل وقوعه ، وجرى مجرى أن يعلّق نذره باجتماع الضدين ، والذي يكشف عن استحالة ما نذره ، أنّه إذا قال : عليّ أن أصوم يوم قدوم فلان ، فكأنّه نذر صيام هذا اليوم ، على وجه يكون صيامه مستحقا بقدوم ذلك القادم ، وهذا اليوم الذي فرضنا ، أنّه متعيّن صومه بسبب متقدّم ، يستحيل فيه أن يستحق صومه بسبب آخر ، من الأسباب وهذا بيّن وهذا آخر كلام المرتضى رحمه‌الله (٢)

__________________

(١) ج : اليوم الذي

(٢) رسائل الشريف المرتضى المجموعة الاولى : ص ٤٤٠.

٣٧٠

والمقصود من هذا ، أنّه جعله كرمضان ، وأنّه يستحيل أن يقع فيه صوم غيره ، وذلك انّما يحتاج إلى النيّة المعينة للصوم ، في الزمان الذي ليس بمعيّن حتى يعيّنه ، وهذا الزمان في نفسه معيّن ، فهو كرمضان سواء ، وقول شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله : أو كان يجوز ذلك فيه ، يريد به أنّ النذر المعيّن كان يجوز أن لا يكون معيّنا ، على ما تقدّمت الإشارة منّا في تفسيره.

فلقائل أن يقول له : وكان يجوز أن لا يكلفنا الله تعالى ، صيام شهر رمضان ، بان لا يوجبه (١) علينا ، فمهما لزمنا في النذر المعيّن من الجواب ، يلزمه مثله ، حذو النعل بالنعل ، فاحترازه ممّا احترز ، غير مجد عليه نفعا.

فرمضان ، عنده يمتاز من سائر ضروب الصيام الواجب بثلاثة أحكام : أحدها ، انّ نيّة القربة ، كافية فيه ، ونية واحدة ، تجزي للشهر جميعه ، ويجوز أن يتقدّمه على بعض الوجوه ، على ما يذهب إليه شيخنا أبو جعفر ورواه من طريق أخبار الآحاد ، بأن يعزم في شعبان ، أنّه إذا حضر رمضان ، صامه ثم حضر رمضان ، وعلمه ، ثم نسي ، وصام ذلك ، أجزأته تلك النية المتقدّمة ، وكان صومه صحيحا ، مجزيا عنه فاما من لم يعلم باستهلال الشهر وأصبح صائما بنية التطوع ، فإنه يجزيه صيامه سواء علم قبل الزوال أو بعد الزوال فاما من أصبح بنية الإفطار ثم قامت عنده البينة بدخول الشهر فان كان ذلك قبل الزوال ولم يتناول ما يفسد الصيام فيجدد النية وقد تم ، صومه ، ولا قضاء عليه ، وإن كان ذلك بعد الزوال ، فيجب عليه الإمساك ، باقي نهاره ، ويجب عليه القضاء ، فإن لم يمسك باقي نهاره ، وأفطر ، فإنّه يجب عليه مع القضاء ، الكفارة ، لأنّه قد أكل في نهار رمضان ، بعد حصول علمه به.

ووقت النية ليلة الصوم ، من أوّلها إلى طلوع الفجر ، فأيّ وقت نوى الصوم ، فقد انعقد صومه ، ومتى لم ينو متعمدا ، مع العلم بأنّه شهر رمضان ، حتى يصبح

__________________

(١) ج : ولا يوجبه.

٣٧١

فقد فسد صومه ، وعليه القضاء ، وإن لم يعلم أنّه من شهر رمضان ، لعدم رؤيته ، أو لشبهة ، ثم علم بعد أن أصبح ، جاز له أن يجدد النيّة ، إلى الزوال ، وصحّ صومه ، ولا اعادة عليه ، وإن فاتت إلى بعد الزوال ، أمسك بقية النهار ، وكان عليه القضاء ، كما قدّمناه.

وجملة الأمر ، وعقد الباب : انّ الصوم المتعيّن ، مع الذكر له ، يجب أن ينوي مكلّفة من الليل ، وجميع الليل ، محل لنيّته ، فإن تركها متعمدا ، فإنّه يجب عليه القضاء ، وإن تركها ساهيا ، أو بأن لا يعلمه ، فله أن ينوي ما بينه وبين زوال الشمس ، فإن زالت فقد فاتته ، ويجب عليه القضاء ، والذي ينبغي تحصيله ، فإنّه يوجد في الكتب ، أنّ رمضان لو صام الإنسان فيه ، بنية النذر ، أو بنية الكفارة ، أو القضاء ، أو الندب ، وقع عن رمضان ، لأنّه زمان لا يصح أن يقع فيه صوم ، سوى صوم رمضان ، والذي يجب أن يقال ، هذا مع عدم علم المكلّف ، بأنّه رمضان ، وصام بنية صيام غيره ، وقع عنه وأجزأ.

فأمّا إذا علمه ، وحقّقه ، فلا يجزيه إلا أن ينويه ، لأنّ النية ، تحتاج إلى أن يطابق المنوي ، لقول الرسول عليه‌السلام : الأعمال بالنيّات ، وانّما لامرئ ما نوى (١) فكيف يجزي صوم النفل ، عن الصوم الواجب ، الذي قد علمه المكلف ، وحقّق زمانه ، وانّما يجزي ذلك للناسي ، وغير العالم ، فإطلاق ما يوجد في كتب أصحابنا ، راجع إلى غير العالم المتحقق لزمان رمضان ، فأمّا العالم ، فلا بدّ له ، مع ذكره ، لنية الوجوب (٢) ، فحسب ، دون نية التعيين ، لأنّ الواجب على ضروب ، فإذا نوى أصوم واجبا ، فلم يعيّن ، فإذا قال : أصوم واجبا رمضان ، فقد عيّن ، فلا يظن ظان ، أن إذا قال : أصوم واجبا ، فقد عيّن.

__________________

(١) الوسائل : الباب ٥ من أبواب مقدمة العبادات ، ح ١٠ ، وفي المصدر ( ولكل امرء )

(٢) ج : لنية القربة من نية الوجوب وفي ط : لنية الوجوب من نية القربة.

٣٧٢

وأمّا الصوم الغير المتعيّن فمحل النية ، طول ليلة نهاره وإلى قبل زوال الشمس من يومه ، سواء تركها عامدا ، أو ناسيا ، فهذا الفرق ، بين ضربي الصوم الواجب.

فأمّا صوم التطوع ، فله أن ينوي ما دام في نهاره ، سواء كان بعد الزوال ، أو قبله ، على الصحيح من الأقوال والأخبار.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مبسوطة : ومتى فاتت ، إلى بعد الزوال ، فقد فات وقتها ، إلا في النوافل خاصّة ، فإنّه روي في بعض الروايات ، جواز تجديدها ، بعد الزوال (١) ، وتحقيقها ، أنّه يجوز تجديدها ، إلى أن يبقى من النهار بمقدار ما يبقى (٢) زمان بعدها يمكن أن يكون صوما ، فأمّا إذا كان انتهاء النيّة ، مع انتهاء النهار ، فلا صوم بعده ، على حال (٣).

وهذا القول منه رحمه‌الله ، يدل على تضعيفه للرواية ، لأنّه قال : فإنّه روي في بعض الروايات ، جعله رواية ، ثم قال في بعض ، زاده ضعفا آخر : والصحيح ما قدّمناه ، واخترناه ، لأنّه إجماع من الفرقة ، على ذلك ، وهو مذهب السيد المرتضى ، يناظر عليه المخالف له في الانتصار (٤).

وإذا جدد نية الإفطار ، في خلال النهار ، وكان قد عقد الصوم في أوّله ، فإنّه لا يصير مفطرا ، حتى يتناول ما يفطر ، وكذلك إن كره الامتناع من الأشياء المخصوصة ، لأنّه لا دليل على ذلك.

وقال السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه ووقت النية في الصيام الواجب ، من قبل طلوع الفجر ، إلى قبل زوال الشمس ، وفي صيام التطوع ، إلى بعد الزوال.

والذي يقع الإمساك عنه ، على ضربين : واجب ومندوب ، فالواجب على ضربين : أحدهما إذا لم يمسك عنه ، لا يجب عليه قضاء ، ولا كفارة ، بل كان

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢ من أبواب وجوب الصوم ونيته ، ح ٨

(٢) ج : من النهار زمان.

(٣) المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر النية وبيان أحكامها في الصوم ، ج ١ ، ص ٢٧٧ ، وفي المصدر : ومتى فاتته

(٤) الانتصار : كتاب الصوم ، المسألة الأولى.

٣٧٣

مأثوما ، وإن لم يبطل ذلك صومه ، وهو المشي إلى المواضع المنهي عنها ، والكذب على غير الله تعالى ، وغير رسوله ، وأئمته عليهم‌السلام ، والغناء ، وقول الفحش ، والنظر إلى ما لا يجوز النظر إليه ، والحسد ، وقال بعض أصحابنا : التحاسد ، الأولى الإمساك عنه ، والصحيح أنّه داخل فيما يجب الإمساك عنه.

والضرب الآخر ، من قسمي الواجب ، ينقسم إلى قسمين : أحدهما يوجب القضاء والكفارة معا ، والآخر يوجب القضاء دون الكفارة.

فما يوجب القضاء والكفارة ، اختلف أصحابنا فيه ، فقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في الجمل والعقود : تسعة أشياء ، الأكل والشرب ، والجماع في الفرج ، وإنزال الماء ـ الذي هو المني ، وشيخنا قيده بالدافق ، ولا حاجة بنا على مذهبنا ، إلى هذا التقييد لأنّا إنما نراعي خروج المني عامدا سواء كان دافقا أو غير دافق في جميع ما نراعي من الاغتسال وغير ذلك ، والكذب على الله تعالى ، وعلى رسوله والأئمة عليهم‌السلام ، متعمّدا ، والارتماس في الماء ، وإيصال الغبار الغليظ إلى الحلق متعمّدا ، مثل غبار الدقيق ، وغبار النفض ، وما جرى مجراه ، والمقام على الجنابة متعمدا ، حتى يطلع الفجر ، ومعاودة النوم بعد انتباهتين ، حتى يطلع الفجر (١).

وما يوجب القضاء دون الكفارة ، فثمانية أشياء : الإقدام على الأكل ، والشرب ، أو الجماع ، قبل أن يرصد الفجر ، مع القدرة على مراعاته ، ويكون طالعا ، وترك القبول عن من قال إنّ الفجر طلع ، والإقدام على تناول ما ذكرناه ، ويكون قد طلع ، وتقليد الغير في أنّ الفجر لم يطلع ، مع قدرته على مراعاته ، ويكون قد طلع ، وتقليد الغير في دخول الليل مع القدرة على مراعاته ، والإقدام على الإفطار ، ولم يدخل ، وكذلك الإقدام على الإفطار ، لعارض يعرض في السماء

__________________

(١) الجمل والعقود : كتاب الصيام ، فصل في ذكر مما يمسك عنه الصائم ، رقم ١ و ٢ و ٣ و ٤ مما لا يوجب القضاء والكفارة.

٣٧٤

من ظلمة ، ثم تبين أنّ الليل لم يدخل ، ومعاودة النوم ، بعد انتباهة واحدة ، قبل أن يغتسل من جنابة ، ولم ينتبه حتى يطلع الفجر ، ودخول الماء إلى الحلق لمن يتبرد ، بتناوله ، دون المضمضة للطهارة ، سواء كانت الطهارة للصلاة ، أو لما يستحب فعلها ، من الكون عليها ، وغير ذلك.

وقال شيخنا : دون المضمضة للصلاة ، ذكره في هذا المختصر أعني جمله وعقوده (١).

وقال في نهايته : ومن تمضمض للتبرد ، دون الطهارة (٢) وهو الصحيح.

والحقنة بالمائعات ، هذه الأحكام في الصوم الذي يتعيّن صومه ، مثل صوم شهر رمضان ، والنذر المعيّن.

وقال السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه ، من تعمد الأكل والشرب ، أو استنزال الماء الدافق ، بجماع أو غيره ، أو غيّب فرجه في فرج حيوان محرّم ، أو محلّل له ، أفطر ، وكان عليه القضاء والكفارة ، قال : وقد ألحق قوم من أصحابنا بما ذكرناه ، في وجوب القضاء والكفارة ، اعتماد الكذب ، على الله تعالى ، وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى الأئمة عليهم‌السلام ، والارتماس في الماء ، والحقنة ، والتعمد للقي‌ء ، والسعوط ، وبلع ما لا يؤكل ، كالحصى وغيره قال : وقال قوم : إنّ ذلك ينقض الصوم ، وإن لم يبطله ، قال : وهو الأشبه وقالوا في تعمد الحقنة ، وما يتيقّن وصوله إلى الجوف ، من السعوط ، وفي اعتماد القي‌ء ، وبلع الحصى ، أنّه يوجب القضاء من غير كفارة ، وقد روي أنّ من أجنب في ليل شهر رمضان وتعمد البقاء إلى الصباح ، من غير اغتسال ، كان عليه القضاء والكفارة (٣) وروي أن عليه القضاء دون الكفارة (٤) ، ولا خلاف أنّه لا شي‌ء

__________________

(١) الجمل والعقود : كتاب الصيام ، فصل في ذكر ما يمسك عنه الصائم ، رقم ٧ مما يوجب القضاء دون الكفارة

(٢) النهاية : كتاب الصوم ، باب ما على الصائم اجتنابه.

(٣) الوسائل : الباب ١٦ من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

(٤) الوسائل : كتاب الصيام الباب ١٥ ، ح ٤ ، وباب ١٦ ، ح ١ ، من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

٣٧٥

عليه ، إذا لم يتعمد ذلك ، وغلبه النوم إلى أن يصبح ، ومن ظن أن الشمس قد غربت ، فأفطر ، وظهر فيما بعد ، طلوعها ، فعليه القضاء خاصّة ، ومن تمضمض للطهارة ، فوصل الماء إلى جوفه ، فلا شي‌ء عليه ، وإن فعل ذلك متبردا ، كان عليه القضاء خاصّة ، هذا آخر قول السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه أوردته على وجهه.

والذي يقوى في نفسي ، وافتي به ، واعتقد صحته ، ما ذهب إليه المرتضى ، إلا ما استثناه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، فمن علق عليها شيئا ، يحتاج إلى دليل شرعي ، وشيخنا أبو جعفر ، رجع عما ذهب إليه في الارتماس ، وقال في الاستبصار ، قال : لأنّه لا يمتنع أن يكون الفعل محظورا ، لا يجوز ارتكابه ، وإن لم يوجب القضاء والكفارة ، ولست أعرف حديثا في إيجاب القضاء والكفارة ، أو إيجاب أحدهما على من ارتمس في الماء (١) هذا قول الشيخ أبي جعفر في الاستبصار ، وقال في مبسوطة ، في وجوب القضاء والكفارة ، والارتماس في الماء على أظهر الروايات (٢) وفي أصحابنا من قال إنّه لا يفطر.

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : ينبغي للعاقل أن يتعجب من اختلاف قوليه ، اللذين ذكرهما في كتابيه ، الاستبصار والمبسوط ، فإنّه قال في استبصاره : ولست أعرف حديثا في إيجاب القضاء ، والكفارة ، أو إيجاب أحدهما ، ثم قال في مبسوطة : يجب القضاء ، والكفارة ، على أظهر الروايات ، فإذا لم يعرف حديثا بهما ، أي روايات تبقى ، حتى تكون ظاهرة ، وهذا فيه مع الفكر ، والإنصاف ، وترك التقليد ، وحسن الرأي بالرجال ، ما فيه ، والله المستعان ، والمعصوم من عصمه الله تعالى ، فإذا لم يجد حديثا ، ولا ورد به خبر ، والإجماع من الفرقة غير حاصل ، بل هي مسألة خلاف بينهم ، فما بقي لوجوب الكفارة

__________________

(١) الإستبصار : باب ٤٢ حكم الارتماس في الماء.

(٢) المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر ما يمسك عنه الصائم.

٣٧٦

والقضاء دليل ، يعتمد عليه ، ولا شي‌ء يستند إليه ، بل بقي الأصل براءة الذمة ، من أن يعلق عليها شي‌ء ، إلا بدليل شرعي ، ولا دليل شرعي على ذلك ، لأنّ ما تعرف به المسألة (١) الشرعية ، أربع طرق ، امّا كتاب الله تعالى ، أو السنّة المتواترة ، أو الإجماع ، أو دليل العقل ، فإذا فقدنا الثلاث ، بقي الرابع ، وهو دليل العقل.

وأمّا الكذب على الله سبحانه ، وعلى رسوله ، والأئمة عليهم‌السلام ، متعمدا ، فقد قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : وفي أصحابنا من قال ، إن ذلك لا يفطر ، وانّما ينقص (٢) وقال في مبسوطة : والارتماس في الماء ، على أظهر الروايات ، وفي أصحابنا من قال انه لا يفطر مع ما قال في استبصاره ، من أنّه ما وجدت به حديثا ، وفي هذا تناقض ظاهر ، وقول غير واضح.

فأمّا غبار النفض ، فالذي يقوى في نفسي ، أنّه يوجب القضاء ، دون الكفارة ، إذا تعمّد الكون ، في تلك البقعة ، من غير ضرورة ، فأمّا إذا كان مضطرا إلى الكون في تلك البقعة ، وتحفظ ، واحتاط في التحفظ ، فلا شي‌ء عليه ، من قضاء وغيره ، لأنّ الأصل براءة الذمة من الكفارة ، وبين أصحابنا في ذلك خلاف ، والقضاء مجمع عليه.

فأمّا المقام على الجنابة متعمدا ، حتى يطلع الفجر ، فالأقوى عندي ، وجوب القضاء والكفارة ، للإجماع على ذلك من الفرقة ، ولا يعتد بالشاذّ الذي يخالف في ذلك.

وكذلك يقوى في نفسي القضاء والكفارة ، على من ازدرد شيئا ، يقصد به إفساد الصوم ، سواء كان مطعوما معتادا ، مثل الخبز واللحم ، أولا يكون معتادا ، مثل التراب ، والحجر والفحم (٣) ، والحصى ، والخرف ، والبرد ، وغير ذلك ، لأنّه إجماع من الفرقة.

ومن ظن أنّ الشمس قد غابت ، لعارض يعرض في السماء ، من ظلمة أو قتام ، ولم يغلب على ظنه ذلك ، ثم تبين الشمس بعد ذلك ، فالواجب عليه القضاء ، دون الكفارة ، فإن كان مع ظنه ، غلبة قوية ، فلا شي‌ء عليه ، من

__________________

(١) في وج : المسائل

(٢) المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر ما يمسك عنه الصائم

(٣) ج : والحجر والحصى.

٣٧٧

قضاء ولا كفارة ، لأنّ ذلك فرضه ، لأنّ الدليل قد فقده ، فصار تكليفه في عبادته غلبة ظنه ، فإن أفطر لا عن امارة ، ولا ظن ، فيجب عليه القضاء والكفارة.

ومن تمضمض للتبرد ، فوصل الماء إلى جوفه ، فعليه القضاء ، دون الكفارة للإجماع على ذلك.

والحقنة بالمائعات ، فقد اختلف في ذلك ، من أصحابنا من يوجب القضاء فحسب ، ومنهم من لا يوجبه ، وهو الذي أراه ، وافتي به ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، والإجماع فغير حاصل عليه ، وكذلك تعمد القي‌ء ، والسعوط ، وتقطير الدهن في الاذن ، ومن طعن بطنه ، فوصل السنان إلى جوفه.

والكفارة اللازمة ، عتق رقبة مؤمنة ، وبعض أصحابنا لا يعتبر الإيمان في الرقبة ، إلا في قتل الخطأ ، فحسب ، والصحيح من المذهب ، اعتبار الإيمان ، في الرقاب في جميع الكفارات.

فإن قيل : فما قيد بالإيمان ، إلّا في كفّارة قتل الخطأ ، قلنا : فقد قال الله سبحانه : ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) (١) والعتق من جملة الإنفاق ، والكافر خبيث بغير خلاف ، فقد نهانا عن إنفاقه الذي هو إعتاقه ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه شرعا ، بغير خلاف بيننا ، وهذا مذهب السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه وغيره من أصحابنا.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله لا يعتبر الإيمان ، إلا في كفارة قتل الخطأ ، وما قدّمناه ، واخترناه أظهر ، وأبرأ للذمم ، وفيه الاحتياط ، لأنّه إذا أعتق مؤمنة ، فبالإجماع قد برئت ذمته مما تعلّق عليها ، ولا إجماع إذا خالف ذلك.

أو إطعام ستين مسكينا ، لكل مسكين مد ، على الصحيح من المذهب ، لأنّ الأصل براءة الذمة مما زاد على المدّ ، وذهب بعض أصحابنا إلى المدين.

ولا يجزي إخراج القيم ، في الكفارات ، ويجوّز إخراج القيم ، في الزكوات عندنا.

__________________

(١) البقرة : ٢٦٧.

٣٧٨

ومستحقها ، هو مستحقّ زكاة الأموال.

أو صيام شهرين متتابعين.

واختلف أصحابنا ، منهم من قال : إنّ هذه الكفارة مرتبة ، ومنهم من قال : إنّها مخيّر فيها ، وهو الأقوى والأظهر.

فمن لم يقدر على أحد ما ذكرناه ، فليصم ثمانية عشر يوما ، وذهب بعض أصحابنا ، وهو السيد المرتضى إلى أنّ الثمانية عشر ، متتابعات.

فإن لم يقدر ، تصدق بما وجد ، أو صام ما استطاع.

وأمّا المندوب مما يقع الإمساك عنه ، فإنشاد الشعر ، وما يجزي مجرى ذلك ، مما نبيّنه في مواضعه ، إن شاء الله تعالى.

وصوم شهر رمضان ، يلزم صيامه ، لسائر المكلفين ، من الرجال ، والنساء ، والعبيد ، والأحرار ، إلا من لم يطقه ، لمرض ، أو عجز من كبر أو غيره ، والحائض ، والنفساء ، والمسافر سفرا مخصوصا عندنا.

والذين يجب عليهم الصيام ، على ضربين ، منهم من إذا لم يصم متعمدا من غير عذر إباحة ذلك ، وجب عليه القضاء والكفارة ، أو القضاء لصاحب العذر ، ومنهم من لا يجب عليه ذلك ، فالذين يجب عليهم ذلك ، كل من كان ظاهره ، ظاهر الإسلام ، والذين لا يجب عليهم ، هم الكفار ، من سائر أصناف من خالف الإسلام.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في نهايته : فإنه وإن كان الصوم واجبا عليهم ، فإنّما يجب بشرط الإسلام (١).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : إن أراد بقوله ، فإنّما يجب بشرط الإسلام ، الصيام ، فغير واضح ، لأنّ عندنا العبادات أجمع ، واجبة على الكفار ، وإن أراد بقوله فإنّما يجب بشرط الإسلام ، القضاء والكفارة ، فصحيح ، لأنّ القضاء فرض

__________________

(١) النهاية : كتاب الصيام ، في القسم الأول وهو صوم شهر رمضان.

٣٧٩

ثان ، والكفارة ، فقول الرسول عليه‌السلام : يسقطها (١) الإسلام يجب ما قبله ، والأصل أيضا براءة الذمة ، وشغلها ، يحتاج إلى دليل ، فأمّا الأداء ، فلا يصح منهم ، لشي‌ء يرجع إليهم ، لأنّه في مقدورهم ، على ما بيّناه فيما أسلفناه.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : إذا أتى بهيمة ، فأمنى ، كان عليه القضاء والكفارة ، فإن أولج ، ولم ينزل ، فليس لأصحابنا فيه نص ، لكن يقتضي المذهب ، أنّ عليه القضاء ، لأنّه لا خلاف فيه ، فأمّا الكفارة ، فلا تلزمه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وليس في وجوبها دلالة (٢).

قال محمد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب رضي‌الله‌عنه ، لمّا وقفت على كلامه ، كثر تعجبي ، والذي دفع به الكفارة ، به يدفع القضاء ، مع قوله لا نصّ لأصحابنا فيه ، وإذا لم يكن نصّ ، مع قولهم عليهم‌السلام : اسكتوا عما سكت الله عنه (٣) فقد كلّفه القضاء بغير دليل ، وأي مذهب لنا يقتضي وجوب القضاء ، بل أصول المذهب ، تقتضي نفيه ، وهي براءة الذمة ، والخبر المجمع عليه.

باب علامة شهر رمضان وكيفية العزم عليه

ووقت فرض الصّوم ووقت الإفطار

علامة الشهور ، رؤية الأهلة ، مع زوال العوارض والموانع ، فمتى رأيت الهلال ، وجب عليك الصوم ، سواء ردّت شهادتك ، أو لم ترد ، شهد معك غيرك ، أو لم يشهد ، فإن خفي عليك ، وشهد عندك ، من قامت الدلالة على صدقه ، وجب أيضا عليك الصوم ، وكذلك إن تواتر الخبر برؤيته ، وشاع ذلك ، وجب أيضا الصوم ، وكذلك إن شهد برؤيته شاهدان عدلان ، وجب

__________________

(١) ج : يسقطهما.

(٢) الخلاف : كتاب الصيام ، مسألة ٤٢

(٣) عوالي اللئالي : ج ٣ ، ص ١٦٦.

٣٨٠