كثرة الاستعمال وابتلاء أهل المحاورة بها في امور الدنيا والدين.
على أنّ ـ الوضع كما تقدّم ـ إنّما يحتاج إليه جنس البشر لأنّه فعل من الأفعال الاختيارية في افق المبيّن لغرض إبراز المقاصد في مقام الإفهام والتفهيم باستخدام الألفاظ للوصول إلى ما يحتاج من المعاني في أسهل طرق البيان ، فكيف يصحّ صدورها في أمثال تلك الموارد التي لا يترتّب عليها أيّ غرض من الأغراض بوجه من الوجوه من الواضع الملتفت الحكيم ، فصار المتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّه لا فرق بين الوضع والاستعمال ، كما لا فرق بين الواضع والمستعمل في صحّة اتّصافهما باسم الواضع وإطلاق الواضع عليهما بعنوان الحقيقة على مسلك المختار ، وأن نعبّر عن كلّ واضع باسم المستعمل وبالعكس بإطلاق اسم الواضع على المستعمل على نحو الحقيقة لا المجاز.
نعم ، بينهما فرق بالتقدّم والتأخّر من ناحية تقدّم زمان الواضع على زمان المستعملين ، نظير ما نراه فيما بأيدينا من القوانين العرفيّة والدينيّة من المقنّين السابقين بالنسبة إلى المستعملين اللاحقين حسب ما فسّرناه من الجعل والاعتبار بالتعهّد والتبنّي في الواضع الحكيم.
وملخّص الكلام أنّ الوضع ـ بالمعنى الذي فسّرناه وبيّناه ـ ينطبق على المعنى اللغوي كما لا يخفى على ذو تأمّل جليّ ، وذلك من جهة أنّ الوضع في اللغة ليس إلّا بمعنى الجعل والإثبات والإقرار ، فتكون بحسب الحقيقة كلمة (وضع) من الفعل الماضي بمثابة كلمة (جعل) و (أقرّ) بمعنى واحد ، فيكون معنى «وضع فلان هذا اللفظ لهذا المعنى» بمعنى : جعله وأقرّه لهذا المعنى المذكور ، ويكون من هذا الباب جعل ووضع القوانين الشرعيّة والعرفيّة ، لأنّه يكون بمعنى التعهّد والالتزام من ناحية الحكومة والعرف لتنفيذها في الامّة ليتمسّكوا بها عند الحاجة والضرورة.