مرة بعد مرة ، تدرك بركته وخيره. وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن ، وأنه من أفضل الأعمال ، وأن القراءة المشتملة على التدبر ، أفضل من سرعة التلاوة ، الّتي لا يحصل بها هذا المقصود. (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : أولو العقول الصحيحة ، يتذكرون بتدبرهم لها كلّ علم ومطلوب. فدلّ هذا على أنه بحسب لب الإنسان وعقله ، يحصل له التذكر والانتفاع ، بهذا الكتاب.
[٣٠] لما أثنى الله تعالى على داود ، وذكر ما جرى له ومنه ، أثنى على ابنه سليمان عليهماالسلام فقال : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) أي : أنعمنا به عليه ، وأقررنا به عينه. (نِعْمَ الْعَبْدُ) سليمان عليهالسلام ، فإنه اتصف بما يوجب المدح ، وهو (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي : رجّاع إلى الله في جميع أحواله ، بالتأله والإنابة ، والمحبة والذكر والدعاء والتضرع ، والاجتهاد في مرضاة الله وتقديمها على كلّ شيء.
[٣١] ولهذا ، لما عرضت الخيل الجياد الصافنات أي : الّتي وصفها الصفون ، وهو رفع إحدى قوائمها عند الوقوف ، وكان لها منظر رائق ، وجمال معجب ، وخصوصا للمحتاج إليها كالملوك. فما زالت تعرض عليه ، حتى غابت الشمس في الحجاب ، فألهته عن صلاة المساء وذكره.
[٣٢] فقال ـ ندما على ما مضى منه ، وتقربا إلى الله بما ألهاه عن ذكره ، وتقديما لحب الله على حب غيره ـ (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) وضمن «أحببت» معنى «آثرت» أي : آثرت حب الخير ، الذي هو المال عموما ، وفي هذا الموضع المراد : الخيل (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) «أي : غابت عن عينيه».
[٣٣] (رُدُّوها عَلَيَ) فردوها (فَطَفِقَ) أي : «شرع» فيها (مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أي جعل يعقرها بسيفه ، في سوقها وأعناقها.
[٣٤] (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) أي : ابتليناه واختبرناه ، بذهاب ملكه وانفصاله عنه ، بسبب خلل اقتضته الطبيعة البشرية (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) أي : شيطانا قضى الله وقدّر أن يجلس على كرسي ملكه ، ويتصرف في الملك في مدة فتنة سليمان (ثُمَّ أَنابَ) سليمان إلى الله تعالى وتاب.
[٣٥ ـ ٣٨] (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٣٥). فاستجاب الله له وغفر له ، ورد عليه ملكه ، وزاده ملكا لم يحصل لأحد من بعده ، وهو تسخير الشياطين له ، يبنون ما يريد ، ويغوصون له في البحر ، يستخرجون الدر والحلي ، ومن عصاه منهم ، قرنه في الأصفاد وأوثقه.
[٣٩] وقلنا له : (هذا عَطاؤُنا) فقرّ به عينا (فَامْنُنْ) على من شئت. (أَوْ أَمْسِكْ) من شئت (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : لا حرج عليك في ذلك ولا حساب ، لعلمه تعالى بكمال عدله ، وحسن أحكامه.
[٤٠] ولا تحسبن هذا لسليمان في الدنيا دون الآخرة ، بل له في الآخرة خير عظيم. ولهذا قال : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٠) أي : هو من المقربين عند الله المكرمين بأنواع الكرامات لله.
فصل : فيما تبين لنا من الفوائد والحكم في قصة داود وسليمان عليهماالسلام
فمنها : أن الله تعالى ، يقص على نبيه محمد صلىاللهعليهوسلم ، أخبار من قبله ، ليثبت فؤاده ، وتطمئن نفسه. ويذكر من عبادتهم وشدة صبرهم ، وإنابتهم ، ما يشوقه إلى منافستهم ، والتقرب إلى الله ، الذي تقربوا له ، والصبر على أذى