وعددهم. فأرسل الله عليهم ، ريحا عظيمة ، وهي ريح الصبا ، فزعزعت مراكزهم ، وقوّضت خيامهم ، وكفأت قدورهم وأزعجتهم ، وضربهم الله بالرعب ، فانصرفوا بغيظهم ، وهذا من نصر الله لعباده المؤمنين. (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية. (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) لا يغالبه أحد ، إلا غلب ، ولا يستنصره أحد ، إلا غلب ، ولا يعجزه أمر أراده ، ولا ينفع أهل القوة والعزة ، قوتهم وعزتهم ، إن لم يعنهم الله بقوته وعزته.
[٢٦] (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) أي : عاونوهم (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي : من اليهود (مِنْ صَياصِيهِمْ) أي : أنزلهم من حصونهم ، نزولا مظفورا بهم ، مجعولين تحت حكم الإسلام. (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) فلم يقووا على القتال ، بل استسلموا وخضعوا وذلوا. (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) وهم الرجال المقاتلون (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) من عداهم من النساء والصبيان.
[٢٧] (وَأَوْرَثَكُمْ) أي : غنّمكم (أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) أي : أرضا كانت من قبل ، من شرفها وعزتها عند أهلها ، لا تتمكنون من وطئها. فمكّنكم الله منها ، ومن أهلها ، وخذلهم ، وغنمتم أموالهم ، وقتلتموهم ، وأسرتموهم. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) لا يعجزه شيء ، ومن قدرته قدّر لكم ما قدّر. وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب ، هم بنو قريظة من اليهود ، في قرية خارج المدينة ، غير بعيدة. وكان النبي صلىاللهعليهوسلم ، حين هاجر إلى المدينة ، وادعهم ، وهادنهم ، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه ، وهم باقون على دينهم ، لم يغير عليهم شيئا. فلما رأوا يوم الخندق ، الأحزاب الّذين تحزبوا على رسول الله وكثرتهم ، وقلة المسلمين ، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين ، وساعد على ذلك ، تدجيل بعض رؤسائهم عليهم ، نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ومالأوا المشركين على قتاله. فلما خذل الله المشركين ، تفرغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم لقتالهم ، فحاصرهم في حصنهم. فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه ، فحكم فيهم ، أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذراريهم ، وتغنم أموالهم. فأتم الله لرسوله والمؤمنين المنة ، وأسبغ عليهم النعمة ، وأقرّ أعينهم ، بخذلان من انخذل من أعدائهم ، وقتل من قتلوا ، وأسر من أسروا ، ولم يزل لطف الله بعباده المؤمنين مستمرا.
[٢٨] لما اجتمع نساء رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الغيرة ، وطلبن منه أمرا لا يقدر عليه في كلّ وقت ، ولم يزلن في طلبهن متفقات ، وفي مرادهن متعنتات شقّ ذلك على الرسول ، حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن شهرا. فأراد الله أن يسهل الأمر على رسوله ، وأن يرفع درجة زوجاته ، ويذهب عنهن كلّ أمر ينقص أجرهن ، فأمر رسوله أن يخيرهن فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) أي : ليس لكن في غيرها مطلب ، وصرتن ترضين لوجودها ، وتغضبن لفقدها ، فليس لي فيكن إرب وحاجة ، وأنتن بهذه الحال. (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ) شيئا مما عندي ، من الدنيا (وَأُسَرِّحْكُنَ) أي : أفارقكن (سَراحاً جَمِيلاً) من دون مغاضبة ولا مشاتمة ، بل بسعة صدر ، وانشراح بال ، قبل أن تبلغ الحال إلى ما لا ينبغي.
[٢٩] (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) أي : هذه الأشياء مرادكن ، وغاية مقصودكن ، وإذا حصل لكنّ الله ورسوله والجنة ، لما تبالين بسعة الدنيا وضيقها ، ويسرها وعسرها ، وقنعتن من رسول الله بما تيسر ، ولم تطلبن منه ما يشق عليه. (فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) رتب الأجر على وصفهن بالإحسان ، لأنه السبب الموجب لذلك ، لا لكونهن زوجات الرسول فإن مجرد ذلك ، لا يكفي بل لا يفيد شيئا مع عدم الإحسان. فخيّرهن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في ذلك ، فاخترن كلهن الله ورسوله ، والدار الآخرة ، لم يتخلف منهن واحدة ، رضي الله عنهن. وفي هذا التخيير فوائد عديدة : منها : الاعتناء برسوله ، والغيرة عليه ، أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية. ومنها : سلامته صلىاللهعليهوسلم ، بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات ، وأنه يبقى في حرية نفسه ، إن شاء