تواصوا وحث بعضهم بعضا على التكذيب.
[٢٥] (وَقالَ) لهم إبراهيم في جملة ما قاله من نصحه : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : غاية ذلك ، مودة في الدنيا ستنقطع وتضمحل. (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي : يتبرأ كل من العابدين والمعبودين ، من الآخر (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) (٦). فكيف تتعلقون بمن يعلم أنه سيتبرأ من عابديه ويلعنهم؟ (وَ) أن (مَأْواكُمُ) جميعا ، العابدين والمعبودين (النَّارُ). وليس أحد ، ينصرهم من عذاب الله ، ولا يدفع عنهم عقابه.
[٢٦] أي : لم يزل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، يدعو قومه ، وهم مستمرون على عنادهم ، إلا أنه آمن له بدعوته لوط ، الذي نبأه الله ، وأرسله إلى قومه كما سيأتي ذكره. (وَقالَ) إبراهيم حين رأى أن دعوة قومه لا تفيد شيئا : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) أي : هاجر أرض السوء ، ومهاجر إلى الأرض المباركة ، وهي الشام. (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) أي : الذي له القوة ، وهو يقدر على هدايتكم. ولكنه (الْحَكِيمُ) ما اقتضت حكمته ذلك. ولما اعتزلهم وفارقهم ، وهم بحالهم ، لم يذكر الله عنهم ، أنه أهلكهم بعذاب. بل ذكر اعتزاله إياهم ، وهجرته من بين أظهرهم. فأما ما يذكر في الإسرائيليات ، أن الله تعالى فتح على قومه باب البعوض ، فشرب دماءهم ، وأكل لحومهم ، وأتلفهم عن آخرهم ، فهذا يتوقف الجزم به ، على الدليل الشرعي ، ولم يوجد. فلو كان الله استأصلهم بالعذاب لذكره ، كما ذكر إهلاك الأمم المكذبة. ولكن هل من أسرار ذلك ، أن الخليل عليهالسلام ، من أرحم الخلق ، وأفضلهم وأحلمهم ، وأجلهم ، فلم يدع على قومه ، كما دعا غيره ، ولم يكن الله ليجري عليهم بسببه ، عذابا عاما؟ ومما يدل على ذلك ، أنه راجع الملائكة في إهلاك قوم لوط ، وجادلهم ، ودافع عنهم ، وهم ليسوا قومه ، والله أعلم بالحال.
[٢٧] (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي : بعد ما هاجر إلى الشام (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ). فلم يأت بعده نبي إلا من ذريته ، ولا نزل كتاب إلا على ذريته ، حتى ختموا بابنه محمد صلىاللهعليهوسلم ، وعليهم أجمعين. وهذا من أعظم المناقب والمفاخر ، أن تكون مواد الهداية والرحمة ، والسعادة ، والفلاح ، والفوز ، في ذريّته ، وعلى أيديهم اهتدى المهتدون ، وآمن المؤمنون ، وصلح الصالحون : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) من الزوجة الجميلة ، فائقة الجمال ، والرزق الواسع ، والأولاد ، الذين بهم قرت عينه ، ومعرفة الله ومحبته ، والإنابة إليه. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) بل وهو ، ومحمد صلىاللهعليهوسلم ، أفضل الصالحين على الإطلاق ، وأعلاهم منزلة ، فجمع الله له بين سعادة الدنيا والآخرة.
[٢٨ ـ ٣١] تقدم أن لوطا عليهالسلام ، آمن لإبراهيم ، وصار من المهتدين به. وقد ذكروا ، أنه ليس من ذرية إبراهيم ، وإنما هو ابن أخي إبراهيم. فقوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) وإن كان عاما ، فلا يناقض كون لوط ، نبيا رسولا وهو ليس من ذريته ، لأن الآية ، جيء بها ، لسياق المدح والثناء ، على الخليل. وقد أخبر أن لوطا ، اهتدى على يديه. ومن اهتدى على يديه أكمل ممن اهتدى من ذريته بالنسبة إلى فضيلة الهادي ، والله أعلم.