فيتركه ، فإن القول اللين ، داع لذلك ، والقول الغليظ ، منفر عن صاحبه ، وقد فسر القول اللين في قوله : (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) (١٩) ، فإن في هذا الكلام ، من لطف القول ، وسهولته ، وعدم بشاعته ، ما لا يخفى على المتأمل ، فإنه أتى ب «هل» الدالة على العرض والمشاورة ، التي لا يشمئز منها أحد ، ودعاه إلى التزكي والتطهر من الأدناس ، التي أصلها ، التطهر من الشرك ، الذي يقبله كل عقل سليم ، ولم يقل «أزكيك» بل قال «تزكى» أنت بنفسك. ثم دعاه إلى سبيل ربه ، الذي رباه ، وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة ، التي ينبغي مقابلتها بشكرها ، وذكرها فقال : (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) (١٩) فلما لم يقبل هذا الكلام اللين ، الذي يأخذ حسنه بالقلوب ، علم أنه لا ينجع فيه تذكير ، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر.
[٤٥] (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أي : يبادرنا بالعقوبة والإيقاع بنا ، قبل أن نبلغه ، رسالاتك ، ونقيم عليه الحجة (أَوْ أَنْ يَطْغى) أي : يتمرد عن الحق ، ويطغى بملكه ، وسلطانه ، وجنده ، وأعوانه.
[٤٦] (قالَ لا تَخافا) أن يفرط عليكما (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) أي : أنتما بحفظي ورعايتي ، أسمع قولكما ، وأرى جميع أحوالكما ، فلا تخافا منه ، فزال الخوف عنهما ، واطمأنت قلوبهما بوعد ربهما.
[٤٧] أي : فأتياه بهذين الأمرين ، دعوته إلى الإسلام ، وتخليص هذا الشعب الشريف ، بني إسرائيل ، من قيده وتعبيده لهم ، ليتحرروا ويملكوا أمرهم ، ويقيم فيهم موسى ، شرع الله ودينه. (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ) تدل على صدقنا (فَأَلْقى) موسى (عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (٣٣) إلى آخر ما ذكر الله عنهما. (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) أي : من اتبع الصراط المستقيم ، واهتدى بالشرع المبين ، حصلت له السلامة في الدنيا والآخرة.
[٤٨] (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا) أي : خبرنا من عند الله ، لا من عند أنفسنا (أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي : كذب بأخبار الله ، وأخبار رسله ، وتولى عن الانقياد لهم ، واتباعهم ، وهذا فيه الترغيب لفرعون بالإيمان والتصديق واتباعهما ، والترهيب من ضد ذلك ، ولكن لم يفد فيه هذا الوعظ والتذكير ، فأنكر ربه ، وكفر ، وجادل في ذلك ، ظلما وعنادا.
[٤٩ ـ ٥٠] أي : قال فرعون لموسى على وجه الإنكار : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) ، فأجاب موسى بجواب شاف كاف واضح فقال : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) أي : ربنا الذي خلق جميع المخلوقات ، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به ، على حسن صنعه من خلقه ، من كبر الجسم وصغره ، وتوسطه ، وجميع صفاته ، (ثُمَّ هَدى) كل مخلوق إلى ما خلقه له ، وهذه الهداية الكاملة المشاهدة في جميع المخلوقات. فكل مخلوق ، تجده يسعى لما خلق له من المنافع ، وفي دفع المضار عنه ، حتى إن الله أعطى الحيوان البهيم ، من العقل ، ما يتمكن به من ذلك. وهذا كقوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ، فالذي خلق المخلوقات ، وأعطاها خلقها الحسن ، الذي لا تقترح العقول فوق حسنه ، وهداها لمصالحها ، هو الرب على الحقيقة ، فإنكاره ، إنكار لأعظم الأشياء وجودا ، وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب ، فلو قدر أن الإنسان ، أنكر من الأمور المعلومة ، ما أنكر ، كان إنكاره لرب العالمين ، أكبر من ذلك.
[٥١] ولهذا لما لم يمكن فرعون ، أن يعاند هذا الدليل القاطع ، عدل إلى المشاغبة ، وحاد عن المقصود فقال لموسى : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) ، أي : ما شأنهم ، وما خبرهم؟ وكيف وصلت بهم الحال ، وقد سبقونا إلى الإنكار والكفر ، والظلم ، والعناد ، ولنا فيهم أسوة؟
[٥٢] فقال موسى : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) أي : قد أحصى أعمالهم من خير وشر ، وكتبه في كتابه ، وهو اللوح المحفوظ ، وأحاط به علما وخبرا فلا يضل عن شيء منها ، ولا ينسى ما علمه منها. ومضمون ذلك ، أنهم قدموا إلى ما قدموه ، ولا قوا أعمالهم ، وسيجازون عليها ، فلا معنى لسؤالك واستفهامك ، يا فرعون ، عنهم ، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ، ولكم ما كسبتم ، فإن كان الدليل الذي أوردناه ، عليك ،