يخسرون في دينهم ودنياهم وأخراهم ، وقد دلت هاتان الآيتان ، على عدة فوائد. منها : الحث على العلم ، وعلى المباحثة فيه ، لكون الله بعثهم لأجل ذلك. ومنها : الأدب فيمن اشتبه عليه العلم ، أن يرده إلى عالمه ، وأن يقف عند حده. ومنها : صحة الوكالة في البيع والشراء ، وصحة الشركة في ذلك. ومنها : جواز أكل الطيبات ، والمطاعم اللذيذة ، إذا لم تخرج إلى حد الإسراف المنهي عنه لقوله : (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ). وخصوصا إذا كان الإنسان لا يلائمه إلا ذلك. ولعل هذا عمدة كثير من المفسرين ، القائلين بأن هؤلاء ، أولاد ملوك لكونهم أمروه بأزكى الأطعمة ، التي جرت عادة الأغنياء الكبار بتناولها. ومنها : الحث على التحرز ، والاستخفاء ، والبعد عن مواقع الفتن في الدين ، واستعمال الكتمان في ذلك على الإنسان وعلى إخوانه في الدين. ومنها : شدة رغبة هؤلاء الفتية في الدين ، وفرارهم من كل فتنة ، في دينهم ، وتركهم أوطانهم في الله. ومنها : ذكر ما اشتمل عليه الشر ، من المضار والمفاسد ، الداعية لبغضه ، وتركه. وأن هذه الطريقة ، هي طريقة المؤمنين المتقدمين ، والمتأخرين لقولهم : (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً).
[٢١] يخبر الله تعالى ، أنه اطلع الناس على حال أهل الكهف ، وذلك ـ والله أعلم ـ بعد ما استيقظوا ، وبعثوا أحدهم ، يشتري لهم طعاما ، وأمروه بالاستخفاء والإخفاء ، فأراد الله أمرا ، فيه صلاح للناس ، وزيادة أجر لهم ، وهو أن الناس رأوا منهم آية من آيات الله ، المشاهدة بالعيان ، على أن وعد الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا بعد ، بعد ما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم ، فمن مثبت للوعد والجزاء ، ومن ناف لذلك ، فجعل قصتهم ، زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين ، وحجة على الجاحدين ، وصار لهم أجر هذه القضية. وشهر الله أمرهم ، ورفع قدرهم حتى عظمهم الّذين اطلعوا عليهم. (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) الله أعلم بحالهم ومآلهم. وقال من غلب على أمرهم ـ وهم الّذين لهم الأمر : (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) أي : نعبد الله تعالى فيه ، ونتذكر به أحوالهم ، وما جرى لهم. وهذه الحالة محظورة ، نهى عنها النبي صلىاللهعليهوسلم ، وذم فاعليها ولا يدل ذكرها هنا ، على عدم ذمها ، فإن السياق في شأن أهل الكهف والثناء عليهم ، وأن هؤلاء وصل بهم الحال إلى أن قالوا : ابنوا عليهم مسجدا بعد خوف أهل الكهف الشديد من قومهم ، وحذرهم من الاطلاع عليهم ، فوصلت الحال إلى ما ترى. وفي هذه القصة ، دليل على أن من فرّ بدينه من الفتن ، سلمه الله منها. وأن من حرص على العافية. عافاه الله ، ومن أوى إلى الله ، آواه الله ، وجعله هداية لغيره. ومن تحمل الذل في سبيله ، وابتغاء مرضاته ، كان آخر أمره وعاقبته ، العز العظيم ، من حيث لا يحتسب (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ).
[٢٢] يخبر تعالى ، عن اختلاف أهل الكتاب ، في عدة أصحاب الكهف ، اختلافا ، صادرا عن رجمهم بالغيب ، وتقوّلهم بما لا يعلمون ، وأنهم فيهم على ثلاثة أقوال : منهم : من يقول : ثلاثة ، رابعهم كلبهم ، ومنهم من يقول : خمسة ، سادسهم كلبهم. وهذان القولان ، ذكر الله بعدهما ، أن هذا رجم منهم بالغيب ، فدل على بطلانهما. ومنهم من يقول : سبعة ، وثامنهم كلبهم ، وهذا ـ والله أعلم ـ هو الصواب ، لأن الله أبطل الأولين ، ولم يبطله ، فدل على صحته. وهذا من الاختلاف ، الذي لا فائدة تحته ، ولا يحصل بمعرفة عددهم ، مصلحة للناس ، دينية ، ولا دنيوية ، ولهذا قال تعالى : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) وهم الّذين ، أصابوا الصواب وعلموا إصابتهم. (فَلا تُمارِ) تجال وتحاج (فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي : مبنيا على العلم واليقين ، ويكون أيضا فيه فائدة ، وأما المماراة المبنية على الجهل والرجم بالغيب ، أو التي لا فائدة فيها. إما أن يكون الخصم معاندا ، أو تكون المسألة لا أهمية فيها ، ولا تحصل فائدة دينية بمعرفتها ، كعدد أصحاب الكهف ونحو ذلك ، فإن في كثرة المناقشات فيها ، والبحوث المتسلسلة ، تضييعا للزمان ، وتأثيرا في مودة القلوب بغير فائدة. (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ) أي : في شأن أهل الكهف (مِنْهُمْ) أي : من أهل الكتاب (أَحَداً) وذلك لأن مبنى كلامهم فيهم على الرجم بالغيب والظن ، الذي لا يغني من الحق