ومن الدواعي للزهد ، أن يقابل العبد لذات الدنيا وشهواتها بخيرات الآخرة. فإنه يجد من الفرق والتفاوت ، ما يدعوه إلى إيثار أعلى الأمرين. وليس الزهد الممدوح ، هو الانقطاع للعبادات القاصرة ، كالصلاة ، والصيام ، والذكر ونحوها. بل لا يكون العبد زاهدا ، زهدا صحيحا ، حتى يقوم بما يقدر عليه ، من الأوامر الشرعية ، الظاهرة والباطنة ومن الدعوة إلى الله وإلى دينه بالقول والفعل. فالزهد الحقيقي ، هو : الزهد فيما لا ينفع في الدين والدنيا ، والرغبة والسعي في كل ما ينفع. (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) على طاعة الله ، وعن معصيته ، وفطموا أنفسهم عن الشهوات الدنيوية ، المضرة بدينهم (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
[٩٧] ولهذا ذكر جزاء العاملين في الدنيا والآخرة ، فقال : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فإن الإيمان شرط في صحة الأعمال الصالحة وقبولها ، بل لا تسمى أعمالا صالحة ، إلا بالإيمان ، والإيمان مقتض لها ، فإنه : التصديق الجازم ، المثمر لأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات. فمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) وذلك بطمأنينة قلبه ، وسكون نفسه ، وعدم التفاته لما يشوش عليه قلبه ، ويرزقه الله رزقا حلالا طيبا ، من حيث لا يحتسب. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) في الآخرة ، (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من أصناف اللذات ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. فيؤتيه الله في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة.
[٩٨] أي : فإذا أردت القراءة لكتاب الله ، الذي هو أشرف الكتب وأجلها ، وفيه صلاح القلوب ، والعلوم الكثيرة ، فإن الشيطان أحرص ما يكون على العبد ، عند شروعه في الأمور الفاضلة ، فيسعى في صرفه عن مقاصدها ومعانيها. فالطريق إلى السلامة من شره الالتجاء إلى الله ، والاستعاذة من شره ، فيقول القارئ : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» متدبرا لمعناها ، معتمدا بقلبه على الله ، في صرفه عنه ، مجتهدا في دفع وسواسه وأفكاره الرديئة ، مجتهدا على السبب الأقوى في دفعه ، وهو : التّحلّي بحلية الإيمان والتوكل.
[٩٩] فإن الشيطان (لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) أي : تسلط (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ) وحده لا شريك له (يَتَوَكَّلُونَ) ، فيدفع الله عن المؤمنين المتوكلين عليه ، شر الشيطان ، ولا يبقى له عليهم سبيل.
[١٠٠] (إِنَّما سُلْطانُهُ) أي تسلطه (عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) أي : يجعلونه لهم وليا. وذلك بتخليهم عن ولاية الله ، ودخولهم في طاعة الشيطان ، وانضمامهم لحزبه. فهم الذين جعلوا له ولاية على أنفسهم ، فأزّهم إلى المعاصي أزّا ، وقادهم إلى النار قودا.
[١٠١] يذكر تعالى أن المكذبين بهذا القرآن ، يتتبعون ما يرونه حجة لهم ، وهو أن الله تعالى هو الحاكم الحكيم ، الذي يشرع الأحكام ، ويبدل حكما مكان آخر ، لحكمته ورحمته ، فإذا رأوه كذلك ، قدحوا في الرسول ، وبما جاء به ، و (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ). قال الله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فهم جهال ، لا علم لهم بربهم ولا