يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) فيجازي كل عامل بعمله ، على حسب نيته ومقصده.
[٩٢] (وَلا تَكُونُوا) في نقضكم للعهود بأسوإ الأمثال وأقبحها وأدلها على صفة متعاطيها. وذلك (كَالَّتِي) تغزل غزلا قويا ، فإذا استحكم ، وتم ما أريد منه (نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) فجعلته (أَنْكاثاً) فتعبت على الغزل ، ثم على النقض ، ولم تستفد سوى الخيبة والعناء ، وسفاهة العقل ، ونقص الرأي ، فكذلك من نقض ما عاهد عليه ، فهو ظالم جاهل سفيه ، ناقص الدين والمروءة. وقوله : (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) ، أي : لا تنبغي هذه الحالة منكم ، تعقدون الأيمان المؤكدة ، وتنتظرون فيها الفرص ، فإذا كان العاقد لها ضعيفا ، غير قادر على الآخر ، أتمها ، لا لتعظيم العقد واليمين ، بل لعجزه. وإن كان قويا ، يرى مصلحته الدنيوية في نقضها ، نقضها غير مبال بعهد الله ويمينه. كل ذلك دورانا مع أهوية النفوس ، وتقديما لها على مراد الله منكم ، وعلى المروءة الإنسانية ، والأخلاق المرضية لأجل أن تكون أمة أكثر عددا وقوة من الأخرى. وهذا (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) امتحانا حيث قيض لعباده من أسباب المحن ما يمتحن به الصادق الوفي ، من الفاجر الشقي. (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فيجازي كلا بعمله ، ويخزي الغادر.
[٩٣] أي : (لَوْ شاءَ اللهُ) لجمع الناس على الهدى ، و (لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً). ولكنه تعالى المنفرد بالهداية والإضلال ، وهدايته وإضلاله ، من أفعاله التابعة لعلمه وحكمته. يعطي الهداية من يستحقها فضلا ، ويمنعها من لا يستحقها ، عدلا. (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير وشر ، فيجازيكم عليها ، أتم الجزاء ، وأعدله.
[٩٤] أي : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ) وعهودكم ومواثيقكم (دَخَلاً بَيْنَكُمْ) أي : تبعا لأهوائكم ، متى شئتم وفيتم بها ، ومتى شئتم نقضتموها. فإنكم إذا فعلتم ذلك ، تزل أقدامكم بعد ثبوتها على الصراط المستقيم. (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) أي : العذاب الذي يسوؤكم ويحزنكم (بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) حيث ضللتم ، وأضللتم غيركم (وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) مضاعف.
[٩٥] يحذر تعالى عباده ، من نقض العهود ، والأيمان لأجل متاع الدنيا وحطامها فقال : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) تنالونه بالنقض وعدم الوفاء. (إِنَّما عِنْدَ اللهِ) من الثواب العاجل والآجل ، لمن آثر رضاه ، وأوفى بما عاهد عليه الله (هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) من حطام الدنيا الزائلة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
[٩٦] فآثروا ما يبقى على ما يفنى ، فإن (ما عِنْدَكُمْ) ولو كثر جدا ، لا بد أن (يَنْفَدُ) ويفنى. (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) ببقائه ، لا يفنى ولا يزول. فليس بعاقل ، من آثر الفاني الخسيس ، على الباقي النفيس ، وهذا كقوله تعالى : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١٧) (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) ، وفي هذا ، الحث والترغيب على الزهد في الدنيا. خصوصا ، الزهد المتعين ، وهو الزهد فيما يكون ضررا على العبد ، ويوجب له الاشتغال عما أوجب الله عليه ، وتقديمه على حق الله ، فإن هذا الزهد واجب.