الله المؤلمة ، بعدم تسخطها. لكن بشرط أن يكون ذلك الصبر (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة ، فإن هذا هو الصبر النافع ، الذي يحبس به العبد نفسه ، طلبا لمرضاة ربه ، ورجاء للقرب منه. والحظوة بثوابه ، هو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان ، وأما الصبر المشترك ، الذي غايته التجلد ، ومنتهاه الفخر ، فهذا يصدر من البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، فليس هو الممدوح ، على الحقيقة. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) بأركانها ، وشروطها ، ومكملاتها ، ظاهرا وباطنا ، (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) دخل في ذلك ، النفقات الواجبة ، كالزكوات ، والكفارات ، والنفقات المستحبة ، وأنهم ينفقون ، حيث دعت الحاجة إلى النفقة ، سرا وعلانية ، (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي : من أساء إليهم ، بقول أو فعل ، لم يقابلوه بفعله ، بل قابلوه بالإحسان إليه. فيعطون من حرمهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويصلون من قطعهم ، ويحسنون إلى من أساء إليهم ، وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان ، فما ظنك بغير المسيء؟ (أُولئِكَ) الّذين وصفت صفاتهم الجليلة ، ومناقبهم الجميلة (لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) ، فسرها بقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي : إقامة ، لا يزولون منها ، ولا يبغون عنها حولا ، لأنهم لا يرون فوقها غاية ، لما اشتملت عليه من النعيم ، والسرور ، الذي تنتهي إليه المطالب والغايات. ومن تمام نعيمهم وقرة أعينهم ، أنهم (يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) من الذكور والإناث وكذلك النظراء والأشباه ، والأصحاب ، والأحباب ، فإنهم من قبيل أزواجهم وذرياتهم ، (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) يهنئونهم بالسلامة ، وكرامة الله لهم ويقولون : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي : حلّت عليكم السلامة ، والتحية من الله حصلت لكم ، وذلك متضمن لزوال كل مكروه ، ومستلزم لحصول كل محبوب. (بِما صَبَرْتُمْ) أي : بسبب صبركم ، وهو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية ، والجنان الغالية ، (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ). فحقيق بمن نصح نفسه ، وكان لها عنده قيمة ، أن يجاهدها ، لعلها تأخذ من أوصاف أولي الألباب بنصيب ، ولعلها تحظى بهذه الدار ، التي هي منية النفوس ، وسرور الأرواح ، الجامعة لجميع اللذات والأفراح ، فلمثلها فليعمل العاملون وفيها فليتنافس المتنافسون.
[٢٥] لما ذكر حال أهل الجنة ، ذكر أن أهل النار ، بعكس ما وصفهم به فقال عنهم : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) أي : من بعد ما أكده عليهم على أيدي رسله ، وغلظ عليهم ، فلم يقابلوه بالانقياد والتسليم ، بل قابلوه بالإعراض والنقض ، (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) فلم يصلوا ما بينهم وبين ربهم بالإيمان والعمل الصالح ، ولا وصلوا الأرحام ولا أدوا الحقوق ، بل أفسدوا في الأرض ، بالكفر والمعاصي ، والصد عن سبيل الله ، وابتغائها عوجا ، (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي : البعد والذم ، من الله وملائكته ، وعباده المؤمنين ، (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) وهي : الجحيم ، بما فيها من العذاب الأليم.
[٢٦] أي : هو وحده يوسع الرزق ويبسطه على من يشاء ، ويقدره ويضيقه على من يشاء (وَفَرِحُوا) أي : الكفار (بِالْحَياةِ الدُّنْيا) فرحا ، أوجب لهم أن يطمئنوا بها ، ويغفلوا عن الآخرة ، وذلك لنقصان عقولهم ، (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) أي : شيء حقير ، يتمتع به قليلا ، ويفارق أهله وأصحابه ، ويعقبهم ويلا طويلا.
[٢٧] يخبر تعالى ، أن الّذين كفروا بآيات الله ، يتعنتون على رسول الله ، ويقترحون ويقولون : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وبزعمهم أنها لو جاءت لآمنوا ، فأجابهم الله بقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أي : طلب رضوانه ، فليست الهداية والضلالة بأيديهم ، حتى يجعلوا ذلك متوقفا على الآيات ، ومع ذلك فهم كاذبون ، فلو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى ، وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ، ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ، ولكن أكثرهم يجهلون. ولا يلزم أن يأتي الرسول بالآية ، التي يعينونها ، ويقترحونها ، بل إذا جاءهم بآية ، وتبين ما جاء به من الحقّ ، كفى ذلك ، وحصل المقصود ، وكان أنفع لهم من طلبهم الآيات التي يعينونها ، فإنها لو جاءتهم طبق ما اقترحوا ، فلم يؤمنوا بها ، لعاجلهم العذاب.