(وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي : وتسجد له ظلال المخلوقات ، أول النهار وآخره ، وسجود كل شيء ، بحسب حاله كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).
[١٦] فإذا كانت المخلوقات كلها تسجد لربها طوعا وكرها ، كان هو الإله حقا ، المعبود المحمود حقا ، والإلهية غيره باطلة ، ولهذا ذكر بطلانها وبرهن عليه بقوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ) إلى (الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ، أي : قل لهؤلاء المشركين به ، أوثانا وأندادا ، يحبونها كما يحبون الله ، ويبذلون لها أنواع التقربات والعبادات : أفتاهت عقولكم ، حتى اتخذتم من دونه أولياء ، تتولونهم بالعبادة ، وليسوا بأهل لذلك؟ فإنهم (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) ، وتتركون ولاية من هو كامل الأسماء والصفات ، المالك للأحياء والأموات ، الذي بيده الخلق والتدبير ، والنفع والضر؟ فما تستوي عبادة الله وحده ، وعبادة المشركين به ، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ)؟ فإن كان عندهم شك واشتباه ، وجعلوا له شركاء ، زعموا أنهم خلقوا كخلقه ، وفعلوا كفعله ، فأزل عنهم هذا الاشتباه واللبس ، بالبرهان الدال على تفرد الإله بالوحدانية ، فقل لهم : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فإنه من المحال أن يخلق شيء من الأشياء نفسه. ومن المحال أيضا ، أن يوجد من دون خالق ، فتعين أن لها إلها خالقا ، لا شريك له في خلقه ، لأنه الواحد القهر ، فإنه لا توجد الوحدة والقهر ، إلا لله وحده ، فالمخلوقات وكل مخلوق ، فوقه مخلوق يقهره ثمّ فوق ذلك القاهر ، قاهر أعلى منه ، حتى ينتهي القهر للواحد القهار. فالقهر والتوحيد ، متلازمان ، متعينان لله وحده ، فتبين بالدليل العقلي القاهر ، أن ما يدعى من دون الله ، ليس له شيء من خلق المخلوقات ، وبذلك كانت عبادته باطلة.
[١٧] شبه تعالى الهدى ، الذي أنزل على رسوله لحياة القلوب والأرواح ، بالماء الذي أنزله لحياة الأشياء. وشبه ما في الهدى من النفع العام الكثير ، الذي يضطر إليه العباد ، بما في المطر من النفع العام الضروري ، وشبه القلوب الحاملة للهدى وتفاوتها ، بالأودية التي تسيل فيها السيول ، فواد كبير ، يسع ماء كثيرا ، كقلب كبير ، يسع علما كثيرا ، وواد صغير ، يأخذ ماء قليلا ، كقلب صغير ، يسع علما قليلا ، وهكذا. وشبه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات ، عند وصول الحقّ إليها ، بالزبد الذي يعلو الماء ، ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية التي يراد تخليصها وسبكها ، وأنها لا تزال فوق الماء طافية مكدرة له ، حتى تذهب وتضمحل ، ويبقى ما ينفع الناس من الماء الصافي ، والحلية الخالصة. كذلك الشبهات والشهوات ، لا يزال القلب يكرهها ، ويجاهدها بالبراهين الصادقة ، والإرادات الجازمة ، حتى تذهب وتضمحل ، ويبقى القلب خالصا صافيا ، ليس فيه إلا ما ينفع الناس من العلم بالحق ، وإيثاره ، والرغبة فيه ، فالباطل يذهب ويمحقه الحقّ (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) ، وقال هنا : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) ليتضح الحقّ من الباطل والهدى من الضلال.
[١٨] لما بيّن تعالى ، الحقّ من الباطل ، ذكر أن الناس على قسمين : مستجيب لربه ، فذكر ثوابه ، وغير مستجيب ، فذكر عقابه فقال : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ) أي : انقادت قلوبهم للعلم والإيمان ، وجوارحهم للأمر