بغضه ، وعداوته ، ما هو أعظم من الجبال الرواسي ، وهم أهل القدرة والسطوة ، وهو يقول لهم : اجتمعوا ، أنتم وشركاؤكم ، ومن استطعتم ، وأبدوا كل ما تقدرون عليه من الكيد ، فأوقعوا بي ، إن قدرتم على ذلك ، فلم يقدروا على شيء من ذلك. فعلم أنه الصادق حقا ، وهم الكاذبون فيما يوعدون ، ولهذا قال : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن ما دعوتكم إليه ، فلا موجب لتوليكم ، لأنه تبين أنكم ، لا تولون عن باطل إلى حق ، وإنّما تولون عن حق قامت الأدلة على صحته إلى باطل قامت الأدلة على فساده. ومع هذا (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) على دعوتي ، وعلى إجابتكم فتقولوا : هذا جاءنا ، ليأخذ أموالنا ، فتمتنعون لأجل ذلك. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي : لا أريد الثواب والجزاء ، إلا منه. (وَ) أيضا فإني ما أمرتكم بأمر وأخالفكم إلى ضده ، بل (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فأنا أول داخل ، وأول فاعل ، لما أمرتكم به.
[٧٣] (فَكَذَّبُوهُ) بعد ما دعاهم ليلا ونهارا ، سرا وجهارا ، فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا ، (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) الذي أمرناه أن يصنعه بأعيننا ، وقلنا له إذا فار التنور : (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ) ففعل ذلك. فأمر الله السماء أن تمطر بماء منهمر وفجر الأرض عيونا ، فالتقى الماء على أمر قد قدر : (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) (١٣) تجري بأعيننا ، (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) في الأرض ، بعد إهلاك المكذبين. ثمّ بارك الله في ذريته ، وجعل ذريته هم الباقين ، ونشرهم في أقطار الأرض ، (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بعد ذلك البيان ، وإقامة البرهان. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) وهو : الهلاك المخزي ، واللعنة المتتابعة عليهم في كل قرن يأتي بعدهم ، لا تسمع فيهم إلا لوما ، ولا ترى إلا قدحا وذما. فليحذر هؤلاء المكذبون ، أن يحل بهم ما حل بأولئك الأقوام المكذبين ، من الهلاك ، والخزي والنكال.
[٧٤] أي : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد نوح عليهالسلام (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) المكذبين ، يدعونهم إلى الهدى ، ويحذرونهم من أسباب الردى. (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي : كل نبي أيّد دعوته ، بالآيات الدالة على صحة ما جاء به. (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) يعني : أن الله تعالى عاقبهم ، حيث جاءهم الرسول ، فبادروا بتكذيبه ، فطبع الله على قلوبهم ، وحال بينهم وبين الإيمان بعد أن كانوا متمكنين منه ، كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ). ولهذا قال هنا : (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أي : نختم عليها ، فلا يدخلها خير. وما ظلمهم الله ، ولكنهم ظلموا أنفسهم ، بردهم الحقّ ، لما جاءهم ، وتكذيبهم الأول.
[٧٥] أي : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : من بعد هؤلاء الرسل الّذين أرسلهم الله إلى القوم المكذبين المهلكين. (مُوسى) ابن عمران ، كليم الرحمن ، أحد أولي العزم من المرسلين ، وأحد الكبار المقتدى بهم ، المنزل عليهم الشرائع المعظمة الواسعة. (وَ) وجعلنا معه أخاه (هارُونَ) وزيرا وبعثناهما (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي : كبار دولته ورؤسائهم ، لأن عامتهم ، تبع للرؤساء. (بِآياتِنا) الدالة على صدق ما جاءا به من توحيد الله ، والنهي عن عبادة ما سوى الله تعالى ، (فَاسْتَكْبَرُوا) عنها ، ظلما وعلوا ، بعد ما استيقنوها. (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي : وصفهم الإجرام