الحقّ ، الذي لا حق فوقه ، أنهم لم يحيطوا به علما.
[٣٩] فلو أحاطوا به علما ، وفهموه حق فهمه ، لأذعنوا بالتصديق به. وكذلك إلى الآن لم يأتهم تأويله الذي وعدهم أن ينزل بهم العذاب ويحل بهم النكال ، وهذا التكذيب الصادر منهم من جنس تكذيب من قبلهم ، ولهذا قال : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) وهو الهلاك الذي لم يبق منهم أحدا. فليحذر هؤلاء أن يستمروا على تكذيبهم ، فيحل بهم ما أحل بالأمم المكذبين ، والقرون المهلكين. وفي هذا دليل على وجوب التثبت في الأمور ، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يبادر بقبول شيء أو رده ، قبل أن يحيط به علما.
[٤٠ ـ ٤١] (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي : بالقرآن وما جاء به ، (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) وهم الّذين لا يؤمنون به على وجه الظلم ، والعناد ، والفساد ، فسيجازيهم على فسادهم بأشد العذاب. (وَإِنْ كَذَّبُوكَ) فاستمر على دعوتك ، وليس عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء ، لكل عمله. (فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، كما قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها).
[٤٢] يخبر تعالى عن بعض المكذبين للرسول ولما جاء به ، (وَ) أن (مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ) إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وقت قراءته للوحي ، لا على وجه الاسترشاد ، بل على وجه التفرج والتكذيب ، وتطلّب العثرات ، وهذا استماع ، غير نافع ، ولا مجد على أهله خيرا. لا جرم ، انسد عليهم باب التوفيق ، وحرموا من فائدة الاستماع ، ولهذا قال : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ). وهذا الاستفهام بمعنى النفي المتقرر ، أي : لا تسمع الصم ، الّذين لا يستمعون القول ، ولو جهرت به ، وخصوصا إذا كان عقلهم معدوما. فإذا كان من المحال إسماع الأصم الذي لا يعقل للكلام ، فهؤلاء المكذبون ، كذلك ممتنع إسماعك إياهم إسماعا ينتفعون به. وأما سماع الحجة ، فقد سمعوا ما تقوم عليهم به حجة الله البالغة ، فهذا طريق عظيم ، من طرق العلم ، قد انسد عليهم ، وهو طريق المسموعات المتعلقة بالخبر.
[٤٣] ثم ذكر انسداد الطريق الثاني ، وهو : طريق النظر فقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) فلا يفيدهم نظرهم إليك ، ولا استراحوا لك شيئا ، فكما أنك لا تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ، فكذلك لا تهدي هؤلاء. فإذا فسدت عقولهم ، وأسماعهم ، وأبصارهم ، التي هي الطرق الموصلة إلى العلم ومعرفة الحقائق ، فأين الطريق الموصل لهم إلى الحقّ؟ ودل قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) الآية ، أن النظر إلى حالة النبي صلىاللهعليهوسلم وهديه ، وأخلاقه ، وأعماله ، وما يدعو إليه من أعظم الأدلة على صدقه ، وصحة ما جاء به ، وأنه يكفي البصير عن غيره من الأدلة.
[٤٤] وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) فلا يزيد في سيئاتهم ، ولا ينقص من حسناتهم. (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يجيئهم الحقّ ، فلا يقبلونه ، فيعاقبهم الله بعد ذلك بالطبع على قلوبهم ، والختم على أسماعهم وأبصارهم.