عالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير وشر. ففي هذا التهديد والوعيد الشديد على من
استمر على باطله وطغيانه ، وغيه وعصيانه. ويحتمل أن المعنى : أنكم مهما عملتم من
خير وشر ، فإن الله مطلع عليكم ، وسيطلع رسوله وعباده المؤمنين ، على أعمالكم ،
ولو كانت باطنة.
[١٠٦] أي : (وَآخَرُونَ) من المخلفين (مُرْجَوْنَ) أي : مؤخرون (لِأَمْرِ اللهِ
إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) ففي هذا ، التخويف الشديد للمتخلفين ، والحث لهم على
التوبة والندم. (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها ، فإن اقتضت
حكمته ، أن يخذلهم ولا يوفقهم للتوبة ، فعل ذلك.
[١٠٧] كان أناس
من المنافقين من أهل قباء ، اتخذوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء ، يريدون به المضارة
والمشاقة ، بين المؤمنين ، ويعدونه لمن يرجونه ، من المحاربين لله ورسوله ، يكون
لهم حصنا عند الاحتياج إليه ، فبين تعالى خزيهم ، وأظهر سرهم فقال : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً
ضِراراً) أي : مضارة للمؤمنين ولمسجدهم ، الذي يجتمعون فيه (وَكُفْراً) أي : مقصدهم فيه الكفر ، إذا قصد غيرهم الإيمان. (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : ليتشعبوا ويتفرقوا ويختلفوا ، (وَإِرْصاداً) أي : إعدادا (لِمَنْ حارَبَ اللهَ
وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) أي : إعانة للمحاربين لله ورسوله ، الذين تقدم حرابهم ،
واشتدت عداوتهم ، وذلك كأبي عامر الراهب ، الذي كان من أهل المدينة ، فلما قدم
النبي صلىاللهعليهوسلم وهاجر إلى المدينة ، كفر به ، وكان متعبدا في الجاهلية
، فذهب إلى المشركين ، يستعين بهم على حرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فلما لم يدرك مطلوبه عندهم ذهب إلى قيصر ، بزعمه أنه
ينصره ، فهلك اللعين في الطريق ، وكان على وعد وممالئة ، هو والمنافقون. فكان مما
أعدوا له مسجد الضرار ، فنزل الوحي بذلك ، فبعث إليه النبي صلىاللهعليهوسلم من يهدمه ، ويحرقه ، فهدم وحرق ، وصار بعد ذلك مزبلة.
قال تعالى بعد ما بين مقاصدهم الفاسدة في ذلك المسجد (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ
أَرَدْنا) في بنائنا إياه (إِلَّا الْحُسْنى) أي : الإحسان إلى الضعيف ، والعاجز والضرير. (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فشهادة الله عليهم أصدق من حلفهم.
[١٠٨] (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) أي : لا تصل في ذلك المسجد ، الذي بني ضرارا أبدا ،
فالله يغنيك عنه ، ولست بمضطر إليه. (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ
عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) ظهر فيه الإسلام في «قباء» ، وهو مسجد «قباء» ، أسس على
إخلاص الدين لله ، وإقامة ذكره وشعائر دينه ، وكان قديما في هذا ، عريقا فيه. فهذا
المسجد الفاضل (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ
فِيهِ) وتتعبد ، وتذكر الله تعالى فهو فاضل ، وأهله فضلاء ،
ولهذا مدحهم الله بقوله : (فِيهِ رِجالٌ
يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) من الذنوب ، ويتطهروا من الأوساخ ، والنجاسات ،
والأحداث. ومن المعلوم أن من أحب شيئا ، لا بد أن يسعى له ، ويجتهد فيما يجب ، فلا
بد أنهم كانوا حريصين على التطهر من الذنوب والأوساخ ، والأحداث. ولهذا كانوا ممن
سبق إسلامه ، وكانوا مقيمين للصلاة ، محافظين على الجهاد مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وإقامة شرائع الدين ، وممن كانوا يتحرزون من مخالفة
الله ورسوله. وسألهم النبي صلىاللهعليهوسلم بعد ما نزلت هذه الآية في مدحهم عن طهارتهم ، فأخبروه
أنهم يتبعون الحجارة الماء ، فحمدهم على صنيعهم. (وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُطَّهِّرِينَ) الطهارة المعنوية ، كالتنزه من الشرك ، والأخلاق
الرذيلة ، والطهارة الحسية ، كإزالة الأنجاس ، ورفع الأحداث.
[١٠٩] ثمّ فاضل
بين المساجد ، بحسب مقاصد أهلها وموافقتها لرضاه فقال : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى
تَقْوى مِنَ اللهِ) أي : على نية صالحة ، وإخلاص (وَرِضْوانٍ) بأن كان موافقا لأمره ، فجمع في عمله بين الإخلاص
والمتابعة ، (خَيْرٌ أَمْ مَنْ
أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا) أي : على طرف (جُرُفٍ هارٍ) أي : بال ، قد تداعى للانهدام ، (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ
وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لما فيه مصالح دينهم ودنياهم.
[١١٠] (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا
رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي : شكا ، وريبا ماكثا في قلوبهم. (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) بأن يندموا غاية الندم ، ويتوبوا إلى ربهم ، ويخافوه
غاية الخوف ، فبذلك يعفو الله عنهم ، وإلا فبنيانهم لا يزيدهم إلا