اعتذروا للمؤمنين ، وزعموا أن لهم أعذارا في تخلفهم ، فإن المنافقين يريدون بذلك ، أن تعرضوا عنهم ، وترضوا وتقبلوا عذرهم ، فأما قبول العذر منهم ، والرضا عنهم ، فلا حبا ، ولا كرامة لهم. وأما الإعراض عنهم ، فيعرض المؤمنون عنهم ، إعراضهم عن الأمور الردية والرجس. وفي هذه الآيات ، إثبات الكلام [لله تعالى في قوله : (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ). وإثبات الأفعال الاختيارية لله ، الواقعة بمشيئته تعالى وقدرته ، في هذا ، وفي قوله : (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أخبر أنه سيراه بعد وقوعه. وفيها إثبات الرضا لله عن المحسنين ، والغضب والسخط ، على الفاسقين.
[٩٧] يقول تعالى : (الْأَعْرابُ) وهم سكان البادية والبراري (أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) من الحاضرة ، الّذين فيهم كفر ونفاق ، وذلك لأسباب كثيرة. منها : أنهم يعيدون عن معرفة الشرائع الدينية ، والأعمال والأحكام. فهم أحرى : (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) من أصول الإيمان ، وأحكام الأوامر والنواهي. بخلاف الحاضرة ، فإنهم أقرب ، لأن يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، فيحدث لهم ـ بسبب هذا العلم ـ تصورات حسنة ، وإرادات للخير ، الذي يعلمون منه ما لا يكون في البادية. وفيهم من لطافة الطبع ، والانقياد للداعي ، ما ليس في البادية. ويجالسون أهل الإيمان ، ويخالطونهم أكثر من أهل البادية. فلذلك كانوا أحرى للخير من أهل البادية ، وإن كان في البادية والحاضرة ، كفار ومنافقون ، ففي البادية أشد وأغلظ ، مما في الحاضرة. ومن ذلك ، أن الأعراب أحرص على الأموال ، وأشح فيها.
[٩٨] فمنهم : (مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ) من الزكاة والنفقة في سبيل الله وغير ذلك. (مَغْرَماً) أي : يراها خسارة ونقصا ، لا يحتسب فيها ، ولا يريد بها وجه الله ولا يكاد يؤديها إلا كرها] (١). (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي : من عداوتهم للمؤمنين وبغضهم لهم ، أنهم يودون وينتظرون فيهم ، دوائر الدهر ، وفجائع الزمان ، وهذا سينعكس عليهم فتكون (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ). وأما المؤمنون ، فلهم الدائرة الحسنة على أعدائهم ، ولهم العقبى الحسنة ، (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يعلم نيات العباد ، وما صدرت عنه الأعمال ، من إخلاص وغيره.
[٩٩] وليس الأعراب كلهم مذمومين ، بل منهم (مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فيسلم بذلك من الكفر والنفاق ويعمل بمقتضى الإيمان. (وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ) أي : يحتسب نفقته ، ويقصد بها وجه الله تعالى ، والقرب منه (وَ) يجعلها وسيلة إلى (صَلَواتِ الرَّسُولِ) أي : دعائه لهم ، وتبريكه عليهم ، قال تعالى مبينا لنفع صلوات الرسول : (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) تقربهم إلى الله ، وتنمي أموالهم ، وتحل فيها البركة. (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) في جملة عباده الصالحين (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، فيغفر السيئات العظيمة لمن تاب إليه ، ويعم عباده برحمته ، التي وسعت كل شيء ، ويخص عباده المؤمنين ، برحمة يوفقهم فيها إلى الخيرات ، ويحميهم فيها من المخالفات ، ويجزل لهم فيها أنواع المثوبات. وفي هذه الآية ، دليل على أن الأعراب ، كأهل الحاضرة ، منهم الممدوح ومنهم المذموم ، فلم يذمهم الله على مجرد تعربهم وباديتهم ، إنّما ذمهم على ترك أوامر الله ، وأنهم في مظنة ذلك. ومنها : أن الكفر والنفاق يزيد وينقص ، ويغلظ ويخف ، بحسب الأحوال. ومنها : فضيلة العلم ، وأن فاقده أقرب إلى الشر ممن يعرفه ، لأن الله ذم الأعراب ، وأخبر أنهم أشد كفرا ونفاقا ، وذكر السبب الموجب لذلك ، وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله. ومنها : أن العلم النافع ، الذي هو أنفع العلوم ، معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله ، من أصول الدين وفروعه ، كمعرفة حدود الإيمان ، والإسلام ، والإحسان ، والتقوى ، والفلاح ، والطاعة ، والبر ، والصلة ، والإحسان ، والكفر ، والنفاق ، والفسوق ، والعصيان ، والزنا ، والخمر ، والربا ، ونحو ذلك. فإن في
__________________
(١) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا ، وهو موافق للسياق.