لهم معتذرا : (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) فإنهم عاجزون ، باذلون لأنفسهم ، وقد صدر منهم من الحزن والمشقة ، ما ذكره الله عنهم. فهؤلاء لا حرج عليهم ، وإذا سقط الحرج عنهم ، عاد الأمر إلى أصله ، وهو أن من نوى الخير ، واقترن بنيته الجازمة ، سعي فيما يقدر عليه ، ثمّ لم يقدر ، فإنه ينزل منزلة الفاعل التام.
[٩٣] (إِنَّمَا السَّبِيلُ) يتوجه واللوم يتأكد (عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) قادرون على الخروج ، ولا عذر لهم ، فهؤلاء (رَضُوا) لأنفسهم ومن دينهم (بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) كالنساء والأطفال ونحوهم. (وَ) إنّما رضوا بهذه الحال لأن الله طبع (عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : ختم عليها ، فلا يدخلها خير ، ولا يحسون بمصالحهم الدينية والدنيوية ، (فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) عقوبة لهم ، على ما اقترفوا.
[٩٤ ـ ٩٥] لما ذكر تخلّف المنافقين الأغنياء ، وأنهم لا عذر لهم ، أخبر أنهم سوف (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) من غزواتكم. (قُلْ) لهم (لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أي : لن نصدقكم في اعتذاركم الكاذب. (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) وهو الصادق في قيله ، فلم يبق للاعتذار فائدة ، لأنهم يعتذرون بخلاف ما أخبر الله عنهم ، ومحال أن يكونوا صادقين فيما يخالف خبر الله الذي هو أعلى مراتب الصدق. (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) في الدنيا ، لأن العمل هو ميزان الصدق من الكذب. وأما مجرد الأقوال ، فلا دلالة فيها على شيء من ذلك. (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) الذي لا تخفى عليه خافية ، (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير وشر ، ويجازيكم بعد له أو بفضله ، من غير أن يظلمكم مثقال ذرّة. واعلم أن المسيء المذنب له ثلاث حالات : إما أن يقبل قوله وعذره ، ظاهرا وباطنا ، ويعفى عنه ، بحيث يبقى كأنه لم يذنب ، وإما أن يعاقبوا بالعقوبة والتعزير الفعلي على ذنبهم ، وإما أن يعرض عنهم ، ولا يقابلوا بما فعلوا بالعقوبة الفعلية. وهذه الحال الثالثة هي التي أمر الله بها في حق المنافقين ، ولهذا قال : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي : لا توبخوهم ، ولا تجلدوهم أو تقتلوهم. (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) أي : إنهم قذر خبثاء ، ليسوا بأهل لأن يبالى بهم ، وليس التوبيخ والعقوبة مفيدا فيهم ، (وَ) يكفيهم أن (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).
[٩٦] وقوله : (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) أي : ولهم أيضا هذا المقصد الآخر منكم ، غير مجرد الإعراض ، بل يحبون أن ترضوا عنهم ، كأنهم ما فعلوا شيئا. (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي : فلا ينبغي لكم ـ أيها المؤمنون ـ أن ترضوا عن من لم يرض الله عنه ، بل عليكم أن توافقوا ربكم ، في رضاه وغضبه. وتأمل كيف قال : (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ولم يقل : «فإن الله لا يرضى عنهم» ليدل ذلك على أن باب التوبة مفتوح ، وأنهم مهما تابوا هم أو غيرهم ، فإن الله يتوب عليهم ، ويرضى عنهم. وأما ما داموا فاسقين ، فإن الله لا يرضى عليهم ، لوجود المانع من رضاه ، وهو : خروجهم عن ما رضيه الله لهم ، من الإيمان والطاعة ، إلى ما يغضبه من الشرك والنفاق والمعاصي. وحاصل ما ذكره الله ، أن المنافقين المتخلفين عن الجهاد ، من غير عذر ، إذا