القول ـ : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا). فإنه على تقدير صدق هذا القائل في قصده ، فإن في التخلف مفسدة كبرى ، وفتنة عظمى ، محققة ، وهي : معصية الله ومعصية رسوله ، والتجري على الإثم الكبير ، والوزر العظيم. وأما الخروج ، فمفسدة قليلة بالنسبة للتخلف ، وهي متوهمة. مع أن هذا القائل قصده التخلف لا غير ، ولهذا توعدهم الله بقوله : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ليس لهم عنها مفر ولا مناص ، ولا فكاك ، ولا خلاص.
[٥٠] يقول تعالى ـ مبينا أن المنافقين ، هم الأعداء حقا ، المبغضون للدين صرفا : (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) كإدالة العدو عليك (يَقُولُوا) متبجحين بسلامتهم من الحضور معك. (قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) أي : قد حذرنا وعملنا ، بما ينجينا من الوقوع في مثل هذه المصيبة. (وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) بمصيبتك ، وبعدم مشاركتهم إياك فيها.
[٥١] قال تعالى ـ رادّا عليهم في ذلك ـ : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) أي : ما قدره وأجراه في اللوح المحفوظ. (هُوَ مَوْلانا) أي : متولي أمورنا الدينية والدنيوية ، فعلينا الرضا بأقداره ، وليس في أيدينا من الأمر شيء. (وَعَلَى اللهِ) وحده (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي : ليعتمدوا عليه ، في جلب مصالحهم ، ودفع المضار عنهم ، وليثقوا به في تحصيل مطلوبهم ، فلا خاب من توكل عليه. وأما من توكل على غيره ، فإنه مخذول ، غير مدرك لما أمل.
[٥٢] أي : قل للمنافقين ، الّذين يتربصون بكم الدوائر : أي شيء تربصون بنا؟ فإنكم لا تربصون بنا ، إلا أمرا ، فيه غاية نفعنا ، وهو إحدى الحسنيين. إما الظفر بالأعداء ، والنصر عليهم ، ونيل الثواب الأخروي والدنيوي. وإما الشهادة التي هي من أعلى درجات الخلق ، وأرفع المنازل عند الله. وأما تربصنا بكم ـ يا معشر المنافقين ـ فنحن نتربص بكم ، أن يصيبكم الله بعذاب من عنده ، لا سبب لنا فيه ، أو بأيدينا ، بأن يسلطنا عليكم فنقتلكم. (فَتَرَبَّصُوا) بنا الخير (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) بكم الشر.
[٥٣] يقول تعالى ـ مبينا بطلان نفقات المنافقين ، وذاكرا السبب في ذلك ـ : (قُلْ) لهم (أَنْفِقُوا طَوْعاً) من أنفسكم (أَوْ كَرْهاً) على ذلك ، بغير اختياركم. (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) شيء من أعمالكم (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) خارجين عن طاعة الله.
[٥٤] ثمّ بين صفة فسقهم وأعمالهم بقوله : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) والأعمال كلها ، شرط قبولها ، الإيمان ، فهؤلاء ، لا إيمان لهم ، ولا عمل صالح. حتى إن الصلاة ، التي هي أفضل أعمال البدن ، إذا قاموا إليها ، قاموا كسالى ، وقد بين الله ذلك فقال : (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) أي : متثاقلون ، لا يكادون يفعلونها ، من ثقلها عليهم. (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) من غير انشراح الصدر ، وثبات نفس. ففي هذا ، غاية الذم ، لمن فعل مثل فعلهم. وأنه ينبغي للعبد ، أن لا يأتي الصلاة ، إلا وهو نشيط البدن ، والقلب إليها. ولا ينفق ، إلا وهو منشرح الصدر ، ثابت القلب ، يرجو ذخرها وثوابها من الله وحده ،