من الرغبة في الخير والإيمان ، يحملهم على الجهاد من غير أن يحثهم عليه حاث ، فضلا عن كونهم يستأذنون في تركه من غير عذر. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) ، أنه أخبر ، أن من علاماتهم أنهم لا يستأذنون في ترك الجهاد.
[٤٥] (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) أي : ليس لهم إيمان تام ، ولا يقين صادق ، فلذلك قلّت رغبتهم في الخير ، وجبنوا عن القتال ، واحتاجوا أن يستأذنوا في ترك القتال. (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) أي : لا يزالون في الشك والحيرة.
[٤٦] يقول تعالى مبينا أن المتخلفين من المنافقين قد ظهر منهم من القرائن ما يبين أنهم ما قصدوا الخروج بالكلية ، وأن أعذارهم التي اعتذروها باطلة ، فإن العذر هو المانع الذي يمنع ، إذا بذل العبد وسعه ، وسعى في أسباب الخروج ، ثمّ منعه مانع شراعي ، فهذا الذي يعذر. (وَ) أما هؤلاء المنافقون (لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) أي : لاستعدوا وعملوا ما يمكنهم من الأسباب ، ولكن لما لم يعدوا له عدة ، علم أنهم ما أرادوا الخروج. (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) معكم في الخروج للغزو (فَثَبَّطَهُمْ) قدرا وقضاء ، وإن كان قد أمرهم ، وحثهم على الخروج ، وجعلهم مقتدرين عليه ، ولكن بحكمته ما أراد إعانتهم ، بل خذلهم وثبطهم (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) من النساء والمعذورين.
[٤٧] ثمّ ذكر الحكمة في ذلك فقال : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) أي : نقصا. (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) أي : ولسعوا في الفتنة والشر بينكم ، وفرقوا جماعتكم المجتمعين. (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) أي : هم حريصون على فتنتكم ، وإلقاء العداوة بينكم. (وَفِيكُمْ) أناس ضعفاء العقول (سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي : مستجيبون لدعوتهم ، يغترون بهم. فإذا كانوا حريصين على خذلانهم ، وإلقاء الشر بينكم ، وتثبيطكم عن أعدائكم ، وفيكم من يقبل منهم ، ويستنصحهم. فما ظنك بالشر الحاصل من خروجهم مع المؤمنين ، والنقص الكثير منهم؟ فلله ما أتم الحكمة حيث ثبطهم ، ومنعهم من الخروج مع عباده المؤمنين رحمة بهم ، ولطفا من أن يداخلهم ، ما لا ينفعهم ، بل يضرهم. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فيعلم عباده كيف يحذرونهم ، ويبين لهم من المفاسد الناشئة من مخالطتهم.
[٤٨] ثمّ ذكر أنه قد سبق لهم سوابق في الشر فقال : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) أي : حين هاجرتم إلى المدينة ، فبذلوا الجهد. (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) أي : أداروا الأفكار ، وأعملوا الحيل ، في إبطال دعوتكم ، وخذلان دينكم ، ولم يقصروا في ذلك. (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) فبطل كيدهم واضمحل باطلهم. فحقيق بمثل هؤلاء ، أن يحذر الله عباده المؤمنين منهم ، وأن لا يبالي المؤمنون ، بتخلفهم عنهم.
[٤٩] أي : ومن هؤلاء المنافقين ، من يستأذن في التخلف ، ويعتذر بعذر آخر عجيب. فيقول : (ائْذَنْ لِي) في التخلف (وَلا تَفْتِنِّي) في الخروج. فإني إذا خرجت ، فرأيت نساء من بني الأصفر ، لا أصبر عنهن ، كما قال ذلك «الجد بن قيس». ومقصوده في قلبه ـ قبح الله ـ الرياء والنفاق ويعبر بلسانه بأن مقصودي مقصود حسن ، فإن في خروجي فتنة وتعرضا للشر ، وفي عدم خروجي ، عافية ، وكفا عن الشر. قال الله تعالى ـ مبينا كذب هذا