اليقين ، من المبادرة لأمر الله ، والمسارعة إلى رضاه ، وجهاد أعدائه لدينكم. ف (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) أي : تكاسلتم ، وملتم إلى الأرض ، والدعة ، والكون فيها. (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) أي : ما حالكم ، إلا حال من رضي بالدنيا ، وسعى لها ، ولم يبال بالآخرة ، فكأنه ما آمن بها. (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) التي مالت بكم ، وقدمتموها على الآخرة (إِلَّا قَلِيلٌ) ، أفليس قد جعل الله لكم عقولا ، تزنون بها الأمور ، وأيها أحق بالإيثار؟ أفليست الدنيا ـ من أولها إلى آخرها ـ لا نسبة لها في الآخرة. فما مقدار عمر الإنسان القصير جدا من الدنيا ، حتى يجعله الغاية ، التي لا غاية وراءها ، فيجعل سعيه ، وكده ، وهمه ، وإرادته ، لا يتعدى الحياة الدنيا القصيرة المملوءة بالأكدار ، المشحونة بالأخطار. فبأي رأي رأيتم إيثارها على الدار الآخرة ، الجامعة لكل نعيم ، التي فيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وأنتم فيها خالدون. فو الله ما آثر الدنيا على الآخرة ، من وقر الإيمان في قلبه ، ولا من جزل رأيه ، ولا من عدّ من أولي الألباب ،
[٣٩] ثمّ توعدهم على عدم النفير فقال : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) في الدنيا والآخرة ، فإن عدم النفير في حال الاستنفار ، من كبائر الذنوب الموجبة لأشد العقاب ، لما فيه من المضار الشديدة. فإن المتخلف ، قد عصى الله تعالى ، وارتكب لنهيه ، ولم يساعد على نصر دين الله ، ولا ذب عن كتاب الله وشرعه ، ولا أعان إخوانه المسلمين على عدوهم ، الذي يريد أن يستأصلهم ، ويمحق دينهم ، وربما اقتدى به غيره من ضعفاء الإيمان ، بل ربما فتّ في أعضاد من قاموا بجهاد أعداء الله ، فحقيق بمن هذا حاله ، أن يتوعده الله بالوعيد الشديد ، فقال : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) ، فإنه تعالى متكفل بنصرة دينه وإعلاء كلمته ، فسواء امتثلتم لأمر الله ، أو ألقيتموه وراءكم ظهريا. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه شيء أراده ، ولا يغالبه أحد.
[٤٠] أي : إلا تنصروا رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم ، فالله غني عنكم ، لا تضرونه شيئا ، فقد نصره في أقل ما يكون (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من مكة ، لما هموا بقتله ، وسعوا في ذلك ، وحرصوا أشد الحرص ، فألجأوه إلى أن يخرج. (ثانِيَ اثْنَيْنِ) أي : هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه (إِذْ هُما فِي الْغارِ) أي : لما هربا من مكة ، لجآ إلى غار ثور ، في أسفل مكة ، فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب. فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة ، حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما فأنزل الله عليهما من نصره ما لا يخطر على البال. (إِذْ يَقُولُ) النبي صلىاللهعليهوسلم (لِصاحِبِهِ) أبي بكر لما حزن واشتد قلقه ، (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) بعونه ونصره وتأييده. (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) أي : الثبات والطمأنينة ، والسكون المثبتة للفؤاد ، ولهذا لما قلق صاحبه سكنه وقال (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) ... (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) وهي الملائكة الكرام ، الّذين جعلهم الله حرسا له ، (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) أي : الساقطة المخذولة ، فإن الّذين كفروا ، كانوا على حرد قادرين ، في ظنهم أنهم يقدرون على قتل الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وأخذه ، حنقين عليه ، فعملوا غاية مجهودهم في ذلك ، فخذلهم الله ، ولم يتم لهم مقصودهم ، بل ولا أدركوا شيئا منه. ونصر الله رسوله ، بدفعه عنه ، وهذا هو النصر المذكور في هذا الموضع. فإن النصر على قسمين : نصر المسلمين إذا طمعوا في عدوهم ، بأن يتم الله لهم ما طلبوا ، وقصدوا ، ويستولوا على عدوهم ، ويظهروا عليهم. والثاني : نصر المستضعف ، الذي طمع فيه عدوه القادر ، فنصر الله إياه ، أن يرد عنه عدوه ، ويدافع عنه ، ولعل هذا النصر أنفع النصرين ، ونصر الله رسوله إذ أخرجه الّذين كفروا ثاني اثنين من هذا النوع. وقوله : (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) أي كلماته القدرية ، وكلماته الدينية ، هي العالية على كلمة غيره ، التي من جملتها قوله : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ، (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٥١) ، (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١٧٣) ، فدين الله هو الظاهر العالي ، على سائر الأديان ، بالحجج الواضحة ،