على منّته بها ، وتقييضها لصالح العباد ، فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها. ويحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحرم ، وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها ، خصوصا مع النهي عن الظلم كل وقت ، لزيادة تحريمها ، وكون الظلم فيها أشد منه في غيرها. ومن ذلك ، النهي عن القتال فيها ، على قول من قال : إن القتال في الأشهر الحرم لم ينسخ تحريمه عملا بالنصوص العامة في تحريم القتال فيها. ومنهم من قال : إن تحريم القتال فيها منسوخ ، أخذا بعموم نحو قوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) أي : قاتلوا جميع أنواع المشركين ، والكافرين برب العالمين. ولا تخصوا أحدا منهم بالقتال دون أحد ، بل اجعلوهم كلهم لكم أعداء كما كانوا هم معكم كذلك ، قد اتخذوا أهل الإيمان أعداء لهم ، لا يألونهم من الشر شيئا. ويحتمل أن (كَافَّةً) حال من الواو فيكون معنى هذا : وقاتلوا جميعكم المشركين ، فيكون فيها وجوب النفير ، على جميع المؤمنين. وقد نسخت على هذا الاحتمال بقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) الآية. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بعونه ، ونصره ، وتأييده. فلتحرصوا على استعمال تقوى الله ، في سركم ، وعلنكم ، والقيام بطاعته ، خصوصا عند قتال الكفار ، فإنه في هذه الحال ، ربما ترك المؤمن العمل بالتقوى في معاملة الكفار الأعداء المحاربين.
[٣٧] النسيء هو : ما كان أهل الجاهلية يستعملونه في الأشهر الحرم ، وكان من جملة بدعهم الباطلة ، أنهم لما رأوا احتياجهم للقتال ، في بعض أوقات الأشهر الحرم ، رأوا ـ بآرائهم الفاسدة ـ أن يحافظوا على عدة الأشهر الحرم ، التي حرم الله القتال فيها ، وأن يؤخروا بعض الأشهر الحرم ، أو يقدموه ، ويجعلوا مكانه من أشهر الحل ما أرادوا. فإذا جعلوه مكانه ، أحلوا القتال فيه ، وجعلوا الشهر الحلال حراما ، فهذا ـ كما أخبر الله عنهم ـ أنه زيادة في كفرهم وضلالهم ، لما فيه من المحاذير. منها : أنهم ابتدعوه من تلقاء أنفسهم ، وجعلوه بمنزلة شرع الله ودينه ، والله ورسوله بريئان منه. ومنها : أنهم قلبوا الدين ، فجعلوا الحلال حراما ، والحرام حلالا. ومنها : أنهم موّهوا على الله بزعمهم ، وعلى عباده ، ولبسوا عليهم دينهم ، واستعملوا الخداع والحيلة في دين الله. ومنها : أن العوائد المخالفة للشرع ، مع الاستمرار عليها ، يزول قبحها عن النفوس ، وربما ظن أنها عوائد حسنة ، فحصل من الغلط والضلال ما حصل. ولهذا قال : (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) أي : ليوافقوها في العدد ، فيحلوا ما حرّم الله. (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) أي : زينت لهم الشياطين الأعمال السيئة ، فرأوها حسنة ، بسبب العقيدة المزينة في قلوبهم. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي : الّذين انصبغ الكفر والتكذيب في قلوبهم ، فلو جاءتهم كل آية ، لم يؤمنوا.
[٣٨] اعلم أن كثيرا من هذه السورة الكريمة ، نزلت في غزوة تبوك ، إذ ندب النبي صلىاللهعليهوسلم المسلمين إلى غزو الروم ، وكان الوقت حارا ، والزاد قليلا ، والمعيشة عسرة ، فحصل من بعض المسلمين من التثاقل ، ما أوجب أن يعاتبهم الله تعالى عليه ويستنهضهم ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ألا تعملون بمقتضى الإيمان ، ودواعي